على غرار شعراء كثر يقف الشاعر اللبناني شربل داغر ليصرخ في المجاملين من الشعراء وأصحاب كذبة الأهمية بقوله: لا تنسبوا الإبداع إلى الأفعال الجليلة، لأنّ ما يخفى أو لا نتنبّه إليه هو أنّ المبدع يتسلّى فيما هو يعمل، ويلهو فيما هو يكدّ، ويعبث بالموجودات فيما هو يفكّر فيها. ومع هذا الرأي الحاذق ينسّق داغر ما طرح بصورة مغايرة عن الالتزام وألعاب التمثيل التي يمارسها بعض الشعراء لإثبات جدّيتهم والتلطّي أو التخفّي تحت عناوين مستبعدة ومتخاصمة.
ويرى صاحب مجموعة "فتات البياض" أنّ أدوات الشاعر باتت في عهدته، وهو يذهب بها مذاهب شتّى، حتى أنّه قد يناقضها في القصيدة نفسها. ذلك أنّ الإبداع نوع من اللعب الأكيد الذي يضعنا أمام احتمالات مفاجئة مسلّية ولاهية وغير مكلفة. (...),
وحول تجربته الإبداعية ورؤاه النقدية كان لـ"الغدّ" معه هذا الحوار.
* بداية دعنا نسأل عن اصداراتك الجديدة ؟
- جديدي هو نص"ترانزيت" وقد يبدو للبعض نصا غريبا سواء في شعري أو في شعر غيري إلا أنني اعتبره تولدا في سياق تجربتي فهذا الكتاب الذي يتألف من نص واحد طويل وفق مبنى حواري يجد أسلافا له وعلامات سابقة منذ مجموعتي الأولى "فتات البياض". كما نجده بالطبع وبالأخص في مجموعتي السابقة "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك".
وقد تنبهت في الفترة الأخيرة إلى ورود عبارة على صدر الغلاف الأخير لـ"فتات البياض" تتحدث عن الخروج من قصيدة النثر صوب الكتابة المتجددة وأنا في الواقع في "ترانزيت" أجرب فتح هذه القصيدة نحو فضاء جديد ونحو توظيفات مختلفة لأنماط الجمل وهذا يقود القصيدة إلى طلب الشعرية في المقام الأول والتخلص أو التبرم أو التحايل على أنواع كتابة الشعر فلا تكون هي مجددة القصيدة.
"ترانزيت" تستند إلى واقعة وهي توقف مجموعة من المسافرين في مطار وما يحدث لهم من كلام وحركات وأفعال في ما بينهم ومع الفضاء والمساحة وينتبه القارئ مع الوصول الى نهاية الكتاب الى انه مبني على لحظة شعرية على حالة شعرية على تخيل ما ويكون الكتاب بذلك أشبه باستعارة وهو ما أتحدث عنه في الكتاب عن الاستعارة الحيوية.
* هل هذه الكتابة الكامنة في الاستعارة الحيوية تنتقد نوعا ما كتابة القصيدة الحديثة أم أنه مجرد تطور شعري؟
- لو كان لي أن أكتب ما يكتبه غيري أو مثله لكنت توقفت عن الكتابة من دون وخز ضمير أو تبكيت.
ما يعنيني في الشعر هو الشعر لا المهنة ولا المكانة فأنا صدرت مجموعتي الشعرية الأولى بعبارة إلى: "شربل لئلا يصير" وهذا ما شدني إلى كتابة القصيدة بالنثر كما اقترح تسميتها لأنها فضاء للتجديد في المقام الأول وهذا ما يحركني ويدفعني إلى الكتابة فيها كتابا تلو كتاب ويؤسفني القول أنني أجد هذه القصيدة في العقدين الأخيرين تميل في عدد من كتبها وتجاربها إلى شيء من الاستقرار البليد ومن التكرار الممل وأصبحت مثل سابقاتها تستقر على أنماط مستحسنة وطرق كتابية مستهلة بينما تقوم هذه القصيدة في مبناها أساسا على نزاع بنائي على قلق إذا جاز التعبير يقع بين عدة متناقضات بين الشدة والتراخي بين الايجاز والترسل بين اللمعة والسرد وغيرها من العوامل التي تجعل من هذه القصيدة نوعا من التحدي الدائم . ما استوقفني كثيرا في متابعاتي للشعر العربي هو أن هذه القصيدة استقرت وباتت معتمدة في المشهد الشعري على الرغم من مكابرة وتسفيه البعض لها إلا أن هذا التأكد الذي تفوز به ينحو إلى التنميط والتكرار والاستسهال في بعض التجارب والكتب . بل Vإن هذه القصيدة لا تستثمر كفاية عبثها في الشعر وفي النثر معا أي أنها لا تنفتح على طرق تعبير متعددة يمكن لها أن
ستوعبها وتوظفها في شعريتها الخاصة فالقصيدة بالنثر تبدو في بعضها الوجه الآخر ولكن النثري لقصيدة التفعيلة في عدد كبير من مكوناتها ولا سيما في الغنائية المفرطة أو في تحكم أنا المتكلم بالقصيدة.
* قصيدة النثر حديث مشاغبٍ، معارك تدور، إقصاء وتكفير، كيف تنظر الآن إلى هذه القصيدة؟
- مرة أخرى يعنيني، أن أصحّح خطأ لغوياً ونقدياً شائعاً، كنت من جملة مرتكبيه. فقد بتّ أمتنع عن تسمية هذه القصيدة بقصيدة النثر، كما في الكلام الساري، بعد أن تنبّهت إلى أنّ هذا اللفظ التركيبي مستقى من الفرنسية أساساً، ومن دون أن يوافق ما يقوله الكلام الفرنسي في هذا الشعر. فلو شئت ترجمة دقيقة له، أقول هو: القصيدة نثراً أو القصيدة بالنثر. وهو اختلاف يتعدّى الترجمة والنقل، ليبلغ المضمون نفسه. ففي القول الفرنسي تشديد على أنّ ما يقوم به الشاعر هو بناء القصيدة ولا يعني الذهاب إلى النثر لبناء قصيدته، إلى حيث للقصيدة أن تكون، أن تنبني. ولو تتبّعنا المشهد الشعري حالياً، لتبيّنا أنّ التجارب، التي تنضوي Aتحت هذا النوع، تحتوي الكثير من هذه المعضلات والمشاكل. إلاّ أنّها، في مجموعها، وقبل تقييم هذه التجربة أو تلك أو الحملات الصحافية التي تشبه حفلات الهجاء السياسي، لا تغيب الحاصل الإجمالي التالي: القصيدة نثراً تستغلّ وتوفّر، حالياً، بتجاربها وموضوعاتها وأشكالها وبالمقترحات الفنية والجمالية التي تعرضها، الفضاء الحيوي الأرحب في الشعر العربي.
وما يعنيني قوله أيضاً، في صورة إجمالية، هو أنّ القصيدة نثراً هي التي عنت أكثر من غيرها، في التجربة الشعرية العربية، الفردية في التعبير. ففي هذه القصيدة نقع على فردانية مبرمة في التعبير. فهي قصيدة لا تقال في تظاهرة، ولا في حاكم، ولا في المدح، بل في تجارب حميمة وخصوصية في المقام الأول. وأعتقد أيضاً أنّ للقصيدة نثراً تاريخاً، في تجريبنا، وفي توليدها لأشكال مبتكرة في البناء والتركيب وصيغ في التأليف، لم يستفد منها الشعر فقط، وإنّما النثر أيضاً.
هذا لا يعفيني من ملاحظة أنّ بعض القصائد تكاد تكون من الهذر الكلامي فقط، ومن الاستعمالية اللغوية التي تفتقر إلى أيّ تجديد. ذلك أنّ بعض تجارب القصائد نثراًَ تنسى أو لا تعرف تماماً أنّ الشعر يبقى، بين الممارسات اللغوية المختلفة، الممارسة الأعلى اشتغالاً وتطلباً من اللغة، أيّ استعمالها بغرض تجديدها، أيّ الانطلاق من معان ومن تراكيب والوصول بها إلى غيرها. الشعر هو إزاحة المعنى عن جاره، وهو تبلور شكل أثناء الكتابة، لا وفق صورة مسبقة للبناء. هذا البناء الحرّ والمفتوح قد يتحوّل عند بعضهم إلى استعمال للغة في أفقر استعمالاتها ومدلولاتها، وإلى تكرار نمطية في البناء جافة ومعهودة.
* كأنك تقول إن تجريبك في نثر القصيدة يجب أن يظل مطروحا !!
- إذا أردت أن اختار وجها بعينه أو عاملا محددا أميز به تجديدي أو اختلافي أو مقترحي الجمالي فسأختار الكلام عن خروجي على قصيدة المتكلم.
مجموعة "ترانزيت" مثل نصين سابقين في مجموعتي السابقة لا يصدران عن متكلم بعينه ولا عن الشاعر وإنما يتوزع الكلام على متكلمين أي على ملكات في القول ولا تملك بالتالي القصيدة منظورا يبنيها ويوحدها ويجعلها نظرة الشاعر أو نظرة المتكلم فيها وبالتالي أصبحت أنا الشاعر كملكات كتابية موظفة بمعنى ما ومستثمرة بمعنى ما لما يتطلب في الكلام وهذا يعني حتما خروجي على القصيدة ليس في تجارب عربية فقط وإنما أجنبية ولهذا عواقب عديدة ونتائج مختلفة .
نص "ترانزيت" لا يمكن أن يقرأ في أمسية لا كله ولا أي جزء منه سماعه مستحيل. وقراءته الصامتة هي الممكنة لعيشه الجمالي مع القارئ ولو طلب الحديث عن وجه آخر في التجريب لتحدثت عن الجانب البصري في قصيدتي حيث ان القصيدة لا تنبني وفق منطق وجداني ولا عبر سبيل غنائي وإنما يعنيها أن ترى كي تكتب وما تكتبه ليس غرضه الانتشار ولا التغني ولا الرد ولا التعليق وإنما هو يأمل في التأمل وخصوصا في استحداث حياة في القصيدة هي غير الحياة المعطوبة في حياتنا لهذا أجدني قريبا من شاعر مثل ابن الرومي اكثر مما اقترب من شعراء حديثين ومن أقراني.
* ولكن ..ماذا عن استثمارك للنزعة التأملية وماذا تقول فيه؟
- الشعر الحديث وجد صيغة جديدة لعلاقته مع الماضي الشعري العربي وهي الغنائية على ما أقول وأدافع وهي نقلة مهمة في تاريخ شعرنا خرج فيها الشعر من دولة البلاط ومن دورة المتأديين الفصحاء واضعي قواعد الجمالي الشعرية وهذا الخروج يندرج في خروج أوسع منه حصل في القرن التاسع عشر إذ خرجت أنواع الأدب إلى الالتقاء بشخص قيد النشوء هو القارئ ولقد كانت الصحافة هي البوابة بالمعنى التاريخي والتكويني والتراسلي بين هذين الطرفين في عقدهما الجديد وهما الكاتب والقارئ ومن يعود الى بدايات التجديد الشعري منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو ما اعكف على دراسته وكتابته في كتاب سيصدر في العام المقبل سيجد بأن الشاعر بات يتدبر دورا ووظيفة له ولقصيدته لم يعد البلاط أفقها وإن كان يتوجه ببعض قصائده إلى السلطان أو الوزير أو صاحب الشأن فقد اصبح الشاعر يروي إلى شخص ليس أمامه بل في حجرته، ولا يتبع المجال هنا للحديث المتوسع عن هذا الدور الجديد ولكنني سأدلل على بعض العلاقات في هذا وهو ان الشاعر بات يتدبر دورا قريبا من الموجه السياسي أو الوطني او الداعية بمعنى ما والغنائية هي إحدى التجليات الأخيرة لدور الشاعر ولوظيفته القصيدة حيث اصبح الانتشار او الدوزنة على موضوع ما غرضا مطلوبا من الشاعر لكي يستثير به ذائقة القارئ كما يضاف الى ذلك بعض الحضور المنبر الذي لا تزال تحتفظ به القصيدة الحديثة وبعض القصائد بالنثر. قصيدتي تبتعد عن هذا ولا تجد غرضا للغناء خاصة وان ما يحدد حالتنا مدعاة عندي الى التفكر او الى الصحوة اليائسة .
وفي حياتنا بواعث دائمة للألم المتجدد، يحتاج مثلما قال عباس بيضون إلى نقد له فنحن في الغالب نشكو أو نبكي كما لو أننا محكومون من أجهزة ليست من شعبنا ومظلمون . كما لو اننا قاصرون وغافلون وعاجزون عما يمكن أن نقوم به ونقاوم به وهذا ما يحركني كانسان قبل أن أكون شاعرا وهو ما يجعلني أتحمل مسؤوليتي كما أراها وهي مسؤولية الإصلاح بالمعنى أي التنبه له والشعور المشترك بأن لنا حياة ومصيرا قد نكون فيه مغلوبين ولكن في عراك نشارك فيه قد نكون سجناء لكننا نحتفظ بحرية القول في صدورنا نقية مثل شهوة. اقول هذا لأننا نتحمل نحن كمواطنين وشعراء مسؤولية في الخراب الحالي.
* صدرت لك ايضا قبل هذه المجموعة رواية بعنوان "وصية هابيل" هل بامكان الشاعر ان يكون روائيا؟
- هذا السؤال حيوي لأنه يطرح معضلة حقيقية وهي ان كان الشاعر فعلا بمقدوره ان يتكلم عن غيره وعن اشياء لا تخصه بالضرورة وان يبسط الجملة لا أن يمسك فيها مثل سهم ومن يعود إلى روايتي ينتبه إلى أنني تملصت من هذه المعضلة اذ أنها هي بدورها لا يتكفل بها راو معلن أو مضمر بل تنبني وفق منطق حواري حتى ان شربل داغر فيها هو اكثر من شربل راغر إذ أن هناك اثنين على الأقل يحملان الاسم عينه وبالتالي يجد المقترب الجمالي في القصيدة صيغة له أيضا في الرواية ولو أردت أن اذهب أبعد في الجواب لقلت بأن ما يعيني ليس شخصي ولا سيرتي ولا ما حدث لي او ما يمكن ان اتخيل حدوثه لي وانما المهم هو الانطلاق من هذا كله ومن غيره ايضا لتوليد المعنى . ففي هذه الرواية استعيد وقائع من سيرة الطفولة كما اختلق وقائع اخرى فأنا لا أعني ولا أفضل هذه الواقعة على تلك وإنما أتعامل مع النوعين مثل لونين بتصرف الفنان أمام لوحته وما يعنيني هو ما يعني هذا الفنان وهو أن ينتج لوحة تروق لناظرها أما من يريد التفتيش في الرواية بوصفها شهادة ذاتية قد يتعب وقد يهد وقد يقع على أشياء ثبوتية إلا أنني لن أعاونه في هذا المسعى أبدا . إن طلب مني ذلك فعلاقتي بالرواية هي علاقتي بالقصيدة وهي السعي إلى بناء فضاء على ان يتكفل هذا الفضاء بنفسه امام القارئ لا أن يكون مرآة ناقلة أو ظلا باهتا لمشهد يقع خارجه فالقصيدة والرواية مرجعهما الأكيد هو فيها.
(جريدة "الغد"، عمان، 4-9-2009).