"ترانزيت" كتاب جديد للشاعر والمفكر والكاتب شربل داغر صدر عن "دار النهضة العربية"، وسيقام حفل توقيع له ضمن نشاطات معرض الكتاب الدولي الحالي في بيروت. التعريف بالكتاب يقول إنه شعر. العنوان قد لا يدل على ذلك، ولكن ما تطالعنا به الصفحات حوار جميل بين أصوات عديدة محتجزة في صالة ترانزيت في المطار بسبب عطل طارئ. النص قد يكون مسرحية. أو ربما هو شعر بأدوات مسرحية.
وبغض النظر عن هويته، فإن الكتاب سيسرق القارئ بالتأكيد من وقته وزمنه، وسيضعه ضمن هذه الصالة المسماة بترانزيت، فيصبح واحداً من هذه الأصوات القلقة المليئة بالشك والخوف.
كتاب يأخذ زائره إلى واحات تفكير عميقة، قد يتوه فيها قبل أن يعثر على حبل نجاة، وحيث "القصيدة تحمل أمتعتها الخفيفة وترحل".
حول كتابه "ترانزيت"، كان هذا اللقاء مع الشاعر شربل داغر:
• كتابك "ترانزيت" قدم على أساس أنه شعر، ألا تعتقد أنه أقرب إلى أن يكون نصا مسرحياً؟
- أنا لا أسميه نصاً مسرحياً. لا شك أنه يعتمد بطبيعة الحال على بعض أدوات المسرح في التعبير عما يود قوله.
هذا المنحى اتخذته منذ مجموعتي الشعرية السابقة "لا تبحث عن منحى لعله يلقاك". ففيه نصان طويلان في بداية المجموعة ونهايتها، ينتميان الى الفضاء النصي والخيالي نفسه. أريد مما أكتب أن أستعمل أدوات أخرى غير المسرح. ففي النصين السابقين اعتمدت على الهاتف النقال مثلا. هنا في "ترانزيت أعتمد على الحاسوب والمرئي. أريد من ذلك أن أوظف أدوات أخرى، أدوات من داخل الكتابة ومن خارجها لمصلحة النص. أعتبر أنني في هذا المنحى أضلل القارئ عمداً. لا أريد للقارئ أن يدخل الكتاب مثلما يدخل إلى حديقة، بل أريد له أن يدخل إلى غابة، إذا جاز التعبير، لأن هناك مسارات غير مرسومة للكتابة.
الكتاب طبعاً ينطلق من واقعة معينة، هي توقف مجموعة من المسافرين في صالة "ترانزيت" أو احتجازهم. لكنك لاحظت، ولا شك، أن الأمر في نهاية الكتاب يبدو كأنه لم يحصل. كما لو أن كل ما جرى لم يكن سوى لحظة، أو لم يحصل أساساً. بهذا المعنى، هناك استعارة كبيرة يحملها الكتاب برمته، ويستحسن في رأيي أن ننظر إلى مجمل هذه الأدوات من داخل اللحظة نفسها، وهي لحظة شعرية بامتياز.
• ليست الشخصيات مسماة في النص، كأنها حالة فصام، أو كأن هذه الشخصيات هي في الأساس شخص واحد قد يكون شربل داغر. ما تقول؟
- ربما نعم، وربما لا. هناك شخصية واحدة في النص لها هوية معلنة هي "الفلسطيني"، وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الفلسطيني يحتاج اليوم إلى من يثبت أنه موجود وأن له هوية. أما سائر من يتكلمون في النص، وأسميهم المتكلمين، فهم مجموعة أصوات إذا جاز القول.
إنها أصوات لا تمتلك، الا في سياق اللحظة التي تتكلم فيها، تعبيراً أو حركة. ليس لها استمرار، إن جاز القول، وفي هذا المعنى تستطيع القول إن مجموع من يتكلم في هذا النص قد يكون الكاتب شربل داغر، وأريد من ذلك الإشارة إلى شيء يزعجني في الشعر العربي الحديث.
أرى أن الشعر الحديث كلام فردي بامتياز، أما الشاعر في القصيدة العربية الحديثة عموماً فله حظوة أو سطوة في الكلام تتعدى الفرد، كأنه خطيب أو يتكلم بلسان غيره، لا بلسانه هو. في هذا المعنى، ربما تكون التقنية التي أعتمدها في هذا الكتاب وغيره، محاولة لنقد الشاعر الذي يحتكر القصيدة ولا يفصل بينه وبينها. من هنا، أسمح للقصيدة بقدر من التنفس والتخاطب بين أصوات ومتكلمين. هذا يتيح للشاعر ألا يكون متعيناً ومحدداً في قول بذاته، بل في أقوال تتناقض حيناً وتتلون في ما بينها أحياناً. أعتقد أن هذه هي الطبيعة الإنسانية كما أراها. الشعر عندي ليس أداة نفوذ، إنه أداة أُسر بها لغيري أن ما أقوله هو ترددي في القول، لا قناعتي بأنه ثابت وخالد.
أسعى إلى تقليب الكلام والمعنى، وإلى تجريب احتمالات له. وهذا الأمر ليس تجريبياً بالمعنى التقني فقط، وإنما إنساني بطبيعته. فنحن نعيش في فضاء إنساني وفي سياق تاريخي، المعاني فيهما مترددة ومتقلبة مهما حاول البعض من مفكرين أو شعراء أو قادة رأي أن يؤكدوا لنا أنها الحقيقة الثابتة والأكيدة.
• هل تخشى على القصيدة الحديثة أن تحمل حقائبها الخفيفة وترحل؟
- عدتَ إلى أحد الاقوال في النص، وكما أذكر في بداية الكتاب.
هذا الانطلاق صوب الاستعارة الطائرة، أشبه بالاستعارة نفسها. لاحظت أن هناك تعبيراً يتردد في النص "التشبيه قطار والطير استعارة"، والطير قريب من الطائرة. هذا الإقبال على الاستعارة، أعني الاستعارة على أنها مجال للتخيل وبناء معنى مختلف، هو بناء معنى متخيل بطبيعة الحال، ولكنه بما أنه كتب في كلام فقد أصبح حقيقة، حقيقة نصية على الأقل. أنت حين تقرأ تتأثر، بمعزل عن أن الكلام حصل أو لم يحصل أو أنه قابل للحصول. إنها لحظة تأثرية، وهذا ما يوفره الشعر. إنه استثارة هذا الانفعال الجمالي لدى القارئ بعيداً من لغة المنطق والعقل. هذا هو التحليق والسفر والبحث الذي يسمح الشعر لنفسه بأن يقوم به، فيما تمتنع الخطابات الأدبية الأخرى عن سلوكه. هناك نوع من الروايات تسمى خيالاً علمياً وتحمل في تصنيفها كلمة خيال، لكنها ليست خيالية بالمرة. فمبدأ هذه الروايات عقلي له منطق، إنه منطق البشر كيف يعيشون ويتصارعون، ولكنه يجري في أمكنة أخرى غير الكرة الأرضية، وبالتالي فهو خيال محدود لا يملك قدرة الشعر على التحليق والذهاب.
• يؤخذ على القصيدة الحديثة أن الغموض يكتنفها وأنها لا تجذب القارئ. وأنت هنا تقول أنك تعمد إلى تضليل القارئ.
- قد اكون أقربه أيضاً حين أضع بناء القصيدة في سياق يقترب من المسرح ويستعمل تقنيات أخرى قريبة مما يعيشه ويختبره كل يوم. ما يؤسف له في العالم العربي أننا شديدو التقليدية في ما نظنه أنه الشعر وأنه القصيدة وأنه القارئ. نحن نقبل على الكتاب بعقلية ما تعلمناه، في حين أن أنواع الكتب تغيرت اليوم. فهناك كتب ليست ورقية بل مرئية، وهناك كتب على اسطوانات مدمجة. أي أن هناك متغيرات كثيرة تصيب الكتاب والكتابة وتستدعي من القارئ اعتيادات جديدة أو إقبالاً مختلفاً. دائما نذهب إلى الكتاب بعقلية فيها شيء كبير من التقليدية والاعتيادات المتكررة.
أقر معك بأن هناك غموضاً، رغم أني لا أحب أن أستعمل هذا اللفظ. ما أريد قوله هو أن قراءة الشعر اليوم تحتاج إلى ثقافة شعرية. لا يمكن اليوم أن ندخل إلى كتاب الشعر من دون ثقافة شعرية، وهذا يصح أيضاً في أنواع أخرى من الأدب والفنون.
• هل بات الشعر لنخبة معينة؟
- ليس لنخبة بالضرورة، ولكن لأناس يتابعون الشعر وإنتاجه في طرق جديدة. لو عرضت لوحة لبيكاسو، فنان القرن العشرين، على متذوق فني في القرن التاسع عشر، لكان قال بأن الرسام أبله أو أحمق لا يحسن التصوير. اليوم بيكاسو أعلى قيمة فنية في القرن. وربما يكون بعد ليوناردو دا فنشي أهم الرسامين في تاريخ البشرية. الشعر الحديث في بلادنا لو طرح على شعراء عرب في القرن الثامن العشر لعدوه نافراً. هذه وقائع ومعطيات في السياق الشعري، أتعامل معها كما هي، وأدرسها وألاحظها. لكنني أقول في الوقت نفسه إن الشعراء على أختلاف أساليبهم، يجددون ويبدلون ويقدمون اقتراحات شعرية وجمالية، فيما جمهور الشعر لا يتبعهم أو يعتبر أنه يمكن أن يدخل كتاب الشعر من دون ثقافة شعرية.
• سأعود الى النص، لماذا كل هذا الصمت والعتمة؟
- هذا الكتاب كتب في صيف العام 2007. في ربيع العام 2008 وبسبب أحداث أمنية في أيار-مايو تعطل مطار بيروت واحتجزت فرقة فيروز في المطار. رغم الأحداث الأليمة ضحكت في وقتها، لأن كتاب "ترانزيت" يحكي القصة نفسها عن حدوث عطل في المطار ووجود ممثلين ضمن المسافرين المحتجزين. طبعاً لم أتنبأ بأي شيء، ولكن هذا العطل الذي يحدث يشير إلى شيء من العطل اللبناني أو العربي. فهذه الصعوبة التي نعيشها في أوضاعنا الداخلية، بسبب ظروف خارجية ضاغطة علينا وظروف داخلية لا نقوى على حلها، تؤدي إلى أن أحد المتكلمين في كتابي يرفض الخروج من صالة احتجازه القسري.
في هذا المعنى، يشير النص إلى لحظة تعطل في الحياة الطبيعية، ولحظة خوف من الخروج إلى الواقع. إنها لحظة أسميها عربية أو لبنانية، ولكني أيضاً أسميها لحظة تأتي في سياق العالم كما نعيشه اليوم. كانوا يعتبرون في بداية التسعينات أننا وصلنا إلى اليوم الموعود، إلى الديموقراطية وسيطرة الإنسان التامة على التاريخ. خبرنا في هذه الفترة مقادير كبيرة من المآسي والتفجيرات ولحظات الرعب التي عاشها الناس هنا وهناك، لم يعرفها العالم عندما كان منقسماً بين قوتين.
• هل تطيل النظر إلى نافذة مفتوحة أو إلى منديل بقي وحده فوق أريكة؟
- طبعاً. حين نتحدث عن تعطل الحياة، فهذا يأتي أحياناً من باب التحسر، من باب الشعور بالفقدان، من باب أن ما يبقى هو أشبه بآثار محدودة في زمن مضى.
أنا من جيل ينظر بعين باتت أبعد من النقمة على واقعنا. إنه نوع من التحقق المأسوي. نحن لم نعش في البلد الذي حلمنا به عندما كنا مراهقين ومناضلين.
في هذا المعنى، قد لا تَعد الالتفاتة عبر النافذة بالضرورة بأيام جديدة وشموس منيرة، وإنما تصبح النافذة أشبه بلوحة جامدة لا تنذر بما لها أن تنذر به، أي مجيء الحب والمواعيد المفاجئة بالمعنى الجميل للكلمة.
من المؤكد على الأقل في العامين الأخيرين في لبنان وغير لبنان، أننا لم نعد نلتفت إلى النافذة لرؤية ما هو موجود خارجها لانه مؤلم. هناك دماء في الساحات العربية. يختار الواحد أحيانا ألاّ يرى. ثمة في النص عبارة "أريد أن أرى ما لا أرى أو ما يتاح لي أن أرى"، وفي هذا المعنى يصبح النص نوعاً من التعويض، نوعاً من الحياة وإن المفترضة أو المتخيلة بدلا من الحياة المتاحة.
• هل تمثل الكتابة حبل النجاة بالنسبة إليك؟
- لعلها أصبحت كذلك نوعاً من إعطاء معنى لشيء أو لواقع أو لأحداث تفتقد معناها الإيجابي. لذلك تصبح نوعاً من النجاة والتمسك بحقيقة وهمية، ولكنها حقيقة جمالية. من هنا تصبح الكتابة حبل نجاة، أو ملجأ، أو مكاناً حميمياً أو مثل لحظة بين حبيبين. إنها اللحظة التي يعيشها المتكلمون في "ترانزيت" حيث نجد بينهم حوارات وأفعالاً بعضها سعيد وبعضها الآخر ينم عن لهو بالحياة أو نوع من عيش مختلف.
("الرأي"، الكويت، 7-12- 2008).