يعاين الناقد والشاعر اللبناني شربل داغر، في مقابلته هذه، مستقبل اللوحة المسندية، وواقع التجريب في الفن. كما يقدم قراءة نقدية معمقة في أزمة النقد الفني في اللحظة الراهنة، معتبراً إياها حالة انتقالية يمكن لها أن تجدد "حياة" الخطاب عن الفن.
يرصد صاحب كتاب "الفن والشرق" واقع التشكيل العربي، معتقداً أن "ثقافة الصورة"، بإنتاجاتها المختلفة، مقبولة من أفراد دون غيرهم، إلا أنها تواجه مصاعب في قبولها من قبل المجتمعات العربية.

- في مقال لك، بعنوان "هل انتهت اللوحة الزيتية؟"، تحدثت عن سيادة "التجريبيين" على البينالات الدولية، ما هي الأسباب الرئيسية وراء ذلك؟
= هذا ما انتبهت إليه في متابعاتي، هنا وهناك، للمشهد التشكيلي. وهو ما تأكدت منه من خلال معرفتي ببينالي القاهرة والشارقة، اللتين أتابعهما عن كثب. بل انتهيت إلى التأكد مما أقول في بينالي الشارقة في العام 2003، لما ترأست لجنة التحكيم الدولية فيها، ولاحظت أن إجمالي العرض فيها يقوم – في ما عدا لوحات زيتية معدودة للغاية – على غلبة الأعمال التجريبية. وهو ما قامت عليه أساساً سياسات المنظمين لهذه البينالي، حيث يوجهون الدعوة لمن يوافقون هذا المسعى الجديد في التشكيل والعرض.
وقد يكون دافع المنظمين يتأتى من رغبتهم في مواكبة ما يجري في بينالات دولية أخرى، مثل بينالي البندقية الأشهر في العالم، وبينالي "الدوكيمنتا" الألمانية التي لا تقل شهرة عن الأولى، والتي ترسم مجالات عرض وتشكيل مؤثرة في العالم الفني كله.
وما يستوقفني في سياسات العرض هذه تأثيرها البالغ في إجمالي المشهد التشكيلي في العالم، والذي يشدد عليه أكثر من صاحب صالة عرض في العالم. وهو ما ترسمه حركة "البلبلة" العاصفة، التي لا يتورع بموجبها أكثر من فنان عن التخلي عما كان يقوم به، والتوافق مع ما يُطلب اليوم. وهي حركة سبقتْها، على ما أرى، حركة العروض في المتاحف وصالات العرض الكبرى في العالم، التي اختارت بدورها عرض أعمال تجريبية، ما كان له تأثير مضاعف على إجمالي المشهد أكثر من حركة البينالات المذكورة. ذلك أن المتحف يمحض القيمة، "القيمة الخلودية"، لعمل الفنان، فكيف إذا كان بعض المتاحف يعرض لفنانين ما عرفوا صالات العرض الفردية، أو عرفوها في نطاقات ضيقة ومحدودة!
ما هو مدعاة للسؤال، بل لأكثر من ذلك، هو أنه كان للمتحف، على ما عرفنا ذلك منذ بدايات دوره المتسع والعالمي في بدايات القرن التاسع عشر، دور أخير، "ختامي"، بعد دور المقتنين وأصحاب المجموعات وصالات العرض، ما يعد تكريساًً نهائياً للفنان. أما اليوم فلم تعد هذه القاعدة متبعة في عدد من المتاحف، حيث بات بعضها يقوم بأدوار صالات العرض، "التجريبية" تحديداً، التي تراهن على جدة تجربة هذا الفنان أو ذاك فتعرضها...
إن هذا الوضع يبلبل مقاييس السوق، بل مقاييس الفن كلها. فبعض هذا المتاحف بات "يصنع" الفن، أي يفرضه ويوجه سياسات السوق والاقتناء. وذلك يعود إلى تطلع مسؤولي العرض في هذه المتاحف إلى منافسة دور الفيلسوف والناقد وصاحب صالة العرض الفردية، ويعود أيضاً إلى سياسات العرض نفسها، حيث تغير دور بعض هذه المتاحف، التي باتت تبحث عن حلول مستجدة و"مثيرة" لجذب الجمهور أمام كثرة العروض وكثرة المتاحف بدورها.
- إلا أنك تقول في الدراسة عينها إن الضمانة المالية هي التي تمنع موت اللوحة كمرجعية في التشكيل؟
= قلت هذا الكلام، بل توقعت مثل هذا التوقع، بعد أن درست في كتابي "الفن والشرق" تشكل اللوحة كإنتاج فني مخصوص، من جهة، وكقيمة مالية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، من جهة ثانية. كما لاحظت، في هذا الدرس التاريخي، توافر مجموعة من الشروط هي التي جعلت التركز الرمزي والتشكيلي والمالي والقيمي متعيناً في إطار اللوحة الزيتية. ومن هذه الشروط أن اللوحة قابلة للنقل، للحمل، للإخفاء، في أيام الحرب والشدة، وأنها قابلة للعرض والتباهي بها فوق جدران البيت أو المعرض، في أيام السلم.
لهذا وجدت من المناسب التساؤل عند الحديث عن "موت" اللوحة الزيتية ما إذا كان هذا الموت ممكناً: مالياً على الأقل. وهو ما أطرحه على ممكنات الأعمال التشكيلية التجريبية: هل في مقدور هذه الأعمال، أو بعضها على الأقل، من أن يفوز بما كانت عليه اللوحة من عوامل الندرة والاستثمار؟ ويزيد من حراجة هذا السؤال كون العديد من الأعمال "التجريبية" لا يقوم على الندرة، بل يبطلها تماماً، كما أن بعض هذه الأعمال ليس قابلاً للنقل، ولا للعرض البيتي وغيرها من الشروط التي تصعب حتى لا أقول تعدم إمكان "موت" اللوحة الزيتية.
إلى هذا يمكن الحديث عن أسباب قلق بادية، أو ناتجة في نظري، من بعض هذه الأعمال "التجريبية"، وهي أن بعضها يبتعد عن منطق "الصالونية"، والملكية "البورجوازية"، إلا أنه يقع في أسوأ منها، وهو العودة إلى عصر الحكام المطلقين، وهو الدولة في أيامنا الحديثة، ممثلة بالوزارة أو البلدية وغيرها من المؤسسات. فكم من الأعمال "التجريبية" لم تقم لها قائمة لولا اتكالها المادي والعرْضي على الدولة...
ما يمكنني قوله هو أننا نعيش فترة انتقالية، يصعب معها التكهن بمقبل الأيام التشكيلية.
- أشرت إلى تعرض النقد للوحة التشكيلية في محاولة للتخفف من سطوة حضورها؛ ولكن في الوقت نفسه لم يستطع النقد أن يدفع المجربين إلى ما وصله أصحاب اللوحة المسندية من اعتراف وتكريس ورسوخ في تاريخ الفن. هل يمكن القول إن نقد الفن يعاني من أزمة أيضاً؟
= يعاني نقد الفن من أزمة، وتتأتى خصوصاً من تغير قواعد إنتاج الفن نفسها. سأعطي مثالاً على ما أقول: يجد بعض المؤرخين في أعمال الفنان مارسيل دوشان "أصلاً تاسيسيا"ً لهذه الأعمال التجريبية. وهو قول يقترب من التوصيف الصحيح لو أدرجناه في سياقات أوسع، في ما عرفته "خلخلة" الشعر مع رامبو ولوتريامون، وفي ما قامت عليه أعمال "المستقبليين" الروس، أو بدايات تجارب تشكيلية مختلفة (تعبيرية، مستقبلية، انطباعية وغيرها)... ذلك أن هذه التجارب المختلفة أبطلت أو أضعفت "المرجع" أساساً لبناء العمل الفني، ما يمكن قوله - ولو بشيء من التعسف عن هذه اللحظة التاريخية -، هو أن "مرجع" الفن بات فيه، فوق حامله المادي.
المهم أن دوشان أفاد من هذه الخلخلة بأن أقام "الفن الجاهز"، وهو عبارة عن أعمال مصنوعة (مثل دراجة أو مبولة أو غيرها) نقلها الفنان للعرض في المتحف، في الصالة. بل قام بأكثر من ذلك هو أنه أبطل العمل الفني وأحل مكانه "المرجع" نغسه، بل أبطل ما يقوم عليه العمل الفني من صنع مادي.
قد ينسب البعض أعمال دوشان إلى طرافته، إلى غرابته، إلى مزحات وطرائف دادائية لم يكن بعيداً عنها، إلا أنها في جميع الأحوال تنتسب إلى تاريخ الفن، الذي بات يتكل على "المعنى" (على الخطاب) ليبني البناء الفني، لا على إجادة الصنع، مثلما كان عليه إنتاج الفن منذ الكلاسيكية الأوروبية.
فأعمال دوشان، و"التجريبيين" من بعده، قامت على خلخلة معايير بناء الفن، وبالتالي تمت بالعملية نفسها بلبلة ما يمكن أن يكون عليه نقد الفن.
- بالرجوع إلى النقد التشكيلي، بخاصة في نهايات القرن العشرين، نرى أن خطابه يستند إلى استعارات أدبية وسياسية وإلى المتغيرات الاجتماعية مع تراجع للنقد وفق أسس ومعايير في بناء اللوحة الفني أو في تذوقها الجمالي. كيف تعاين النقد التشكيلي؟
= يعاني النقد التشكيلي أزمة متأتية منه ومن خارجه. فما بدأ به ديدرو، ثم بودلير، من مساع في بناء خطاب نقدي للتشكيل وغيره من الفنون، قام على مجهودات فردية استثنائية، لجهة تمتع هذين الكاتبين الاستثنائيين بكفاءات عالية في الحكم، وفي أكثر من فن. أما ما قام به فلاسفة الفن ودارسو الأعمال الفنية بعدهما فتعثر بدوره مع الاهتزازت الهائلة التي أصابت الخطاب أساساً في العلوم الإنسانية، ما أصاب الخطاب عن الفن بدوره.
إلا أن أزمة النقد الأفدح تتأتى من أزمة الفن نفسها، حيث اهتزت في العقود الأخيرة مقاييس الفن، وبالتالي معايير الجمالية.
إلا أن هذا التبلبل لا يغيب بالمقابل وجود خطاب عن الفن له عدة عمل في الخطاب الغربي، وله أبنية مفهومية، ويعمل وينشط، في البحث والكتاب والتفكير. ولا تعدو الأزمة الحالية أن تكون لحظة انتقالية، ويمكن لها أن تجدد "حياة" هذا الخطاب، لا أن "تميته" أبداً.
- في نظرة إلى واقع اللوحة المسندية في الوطن العربي، نرى أن عمرها يزيد عن القرن قليلاً، على خلاف ما نراه في التشكيل الغربي. هل ترى أن أزمة التشكيل العربي اكثر تعقيداً، إذ أن الانتقال من اللوحة المسندية إلى التجريب جاء مبكراً، ما فرض فجوة كبيرة بين التشكيل وتلقيه، وبين التشكيل ونقده وحتى بين التشكيل واقتنائه؟
= الأكيد هو أننا نعيش تاريخاً لا نتحكم به، ولا نقوى أحياناً على أن نكون فيه منتجين، لا متلقين. وهو ما يمكن معاينته في المشهد التشكيلي العربي. فما يستوقف المتابع والدارس هو هذا التقلب والاهتزاز والبلبلة، التي تشير بمجموع أفعالها وحدوثاتها، إلى أن التشكيل في بلادنا لا يبني تراكماً أكيداً له، يصونه في ديمومته ويمهد لتغيراته. فلا يكفي القول بمئة سنة من التشكيل – وهو عمر ليس بالهين في الإنتاج الثقافي والفني -، بل الضروري القول، بل التساؤل: ما كانت عليه حصيلة هذا الجهد؟ هل أدى إلى استقرار، بل إلى قبول هذه الفنون "الوافدة" في الثقافة، وفي المجتمع، العربيين؟ والجواب ليس أكيداً، ولا إيجابياً عن هذا السؤال، إذا انتبهنا إلى أن "ثقافة الصورة" لا تزال غير مقبولة كفاية في عدد من مجتمعاتنا؛ وإن قبلت فبشروط صعبة أو محورة لطاقاتها. وإذا أردت وصفاً منصفاً لحقيقة المشهد، لقلت بأن "ثقافة الصورة"، بإنتاجاتها المختلفة، مقبولة من جهة الأفراد، أي من أفراد من دون غيرهم، إلا أنها تواجه مصاعب في قبولها من قبل المجتمعات، من ناحية بعض إنتاجاتها – المحظورة في عدد من البلدان -، أو المراقَبة، وغيرها من مصاعب الحضور.
(مجلة "دوموس"، دبي، العدد 6، 2009).