مع أنطوان أبو زيد :
الخطاب الجمالي القديم خطاب في ذات الله وصفاته
كتبَ شربل داغر في الفن الإسلامي دراسات في التكوين النظري والمهني واللغوي لهذا الفن. هنا نعثر على تتبع للكتابات والآثار معاً، كما نعثر على مفهمة للفن الإسلامي، وبحث عن التوسطات والصلات بين المقدس واليومي، بين الديني والمهني. دراسات شربل داغر هي أيضاً قراءة معاصرة وخاصة، وداخلية للفنون الإسلامية.
* كيف تفسر اهتمامك المتزايد بالفن، سواء القديم أو الحديث، وقد بدأت شاعراً ودارساً للشعر؟
- الجواب مفاجىء، لو عدت إلى تقصي الحوافز الأولى، إذ أنني أنطلقت صوب اللوحة الزيتية، التجريدية تحديداً، وانشغلت بدراستها بعد إقامتي في باريس منذ العام 1976، تبعاً لدواع شعرية خالصة. فقد راعني في اللوحة هذه كونها تنبني وفق قوام خاص، يتحدد فيها، فوق مساحتها الخاصة، غير آبهة بخارجها. وهو ما كنت أجربه في كتابة القصيدة من دون أن أستوعب مقتضياته كفاية، في تلك السنوات اللبنانية السابقة على انفجار العنف، التي حملتنا وجعلتنا نسبح في مائها ظانين حينها أننا نقودها وفق وجهات مدروسة ومحكمة فيما كنا طلقتها الأولى التي تطايرت شظايا...
إلا أن الواعز الأول هذا - الذي ترافق مع إعدادي للدكتوراه الأولى عن الشعر العربي الحديث في السوربون - اشتمل كذلك على متابعات مهنية، قوامها الكتابة التشكيلية في الدوريات العربية، وبلغ في طور لاحق التخصص الأكاديمي الخالص، إذ جعلت من الجمالية في التجربة العربية-الإسلامية القديمة موضوعاً للدكتوراه الثانية.
لا يسعني طبعاً، وأنا أستعيد باختصار هذا المسار، أن أقصره على تفسير واحد، إذ أنني تقلبت فيه بين وجهات مختلفة، لم يكن أقلها الخروج من قراءة العمل الفني في حدوده الداخلية، البنيوية كما يقال، إلى قراءة ترى إلى الصنيع الفني على أنه أثر تداولي، لفظي أو مادي، يقع عليه التنافس والتثمين بين الأفراد والجماعات.
* ألم تكن معنياً بالتالي باستخراج معالم جمالية عربية قديمة؟
- حركت بحوثي وكتبي في الجمالية شواغل منهجية وثقافية: كيف لنا أن ندرس الماضي؟ هل نقر ونعتمد المتن الدراسي الأوروبي الخاص بالثقافة العربية-الإسلامية القديمة؟ هل نرى إلى الخطاب الفلسفي، ومنه الخطاب الجمالي، في مبناه المخصوص والمغلق أم إليه بوصفه مدونة في متن أوسع، هي التآليف التي تستجمع أساليب الذوق ومعايير الاستحسان والاستقباح في عهد ما؟ هل نكتفي بالنظر إلى النص (وقد يكون قصيدة، أو حلية، أو ثوباً...) في علاقاته البنائية ونتغاضى عن كونه يصدر ويقع في دورة تداول تتعداه وتحدده في آن، عدا أن واضع النص يطلب تعييناً لنفسه ولصنيعه في الدورة هذه؟
وفق هذا المنظور لا يعود الخطاب الفلسفي المعني بالجمال المدونة الوحيدة لدراسة الصنيع الفني ومعايير الجمال، وإنما تتعدد المدونات لتشمل تآليف أخرى، تؤلف بمجموعها المتن. وهي تآليف نجدها في مدونات مفاجئة أو غير متوقعة، مثل المعجم على سبيل المثال: فلقد سعيت في كتابي «مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية» («المركز الثقافي العربي») إلى تتبع مسميات الحسن ومعاييره في تبادلات الأفراد والجماعات وسلوكاتهم وأقوالهم وعباراتهم، كما ثبتها المعجم عنهم، في «كتاب العين» للخليل بن أحمد في مثالي هذا.
وفق هذا التوجه أبتعد عن منظورين ورثناهما عن الكتابات الأوروبية: تأويلي وآثاري. يقضي الأول بإجراء تفسير - مسبوق بالمواقف الجاهزة غالباً - لآيات قرانية وأحاديث نبوية على أننا نجد فيها التفسير الروحاني والحضاري وغيره لهذه الفنون، ويقضي الثاني بإجراء تفسير يقوم على تدبير تاريخية مادية، وقائعية إذا جاز القول، للقى أثرية يحكمها التقطع والتشظي والغياب.
* أنت تنتقد بالتالي وتعيد النظر في الطريقة التي تم فيها، غربياً خصوصاً، تصنيف الفنون والثقافات القديمة.
- علينا أن نقف وقفات متأنية لدراسة الخطاب الفلسفي القديم، إذ أن مدوناته المختلفة يقع فيها التباين والتفاوت وعدم الانسجام التأليفي والمعرفي في أحوال عديدة. فهذا الخطاب، ولا سيما في مدوناته الأولى ابتداء من الكندي، يبدو خطاباً مبتدعاً، إذا جاز القول، أي لا أصل له في ثقافته بل في غيرها، في الثقافة الإغريقية. وهو في ذلك، إذ يتحدث عن قضايا ومسائل، يتقيد ويحتذي علم «الأوائل»، فلا ينشىء بالتالي خطاباً له درجات من المعاينة والتتبع والفحص لما قد ينطلق منه في بيئته ويندرج فيه. لكننا لا نستطيع أن نقول الشيء عينه على كل الفلاسفة القدماء، ولا على مجمل تآليفهم: إن فيلسوفاً مثل الفارابي لا يصنف العلوم في «إحصاء العلوم» وفق تصنيف الإغريق وحسب، وإنما يضيف إليها علوماً هي من نتاج ثقافته ودراسته، مثل علم الحروف على سبيل المثال.
- أيعني هذا أننا نجد في القسم المبتكر أو التاريخي، إذا جاز القول، في المدونة الفلسفية مادة تعيننا في فهم الجمالية القديمة؟
- علينا، واقعاً، أن نفصل بين ثقافتنا وثقافتهم، بين منظوراتنا ومنظوراتهم، فلا يحدث التداخل والبلبلة وتنعدم الرؤية أو يقع فيها التشويش. هذا ما درسته في عدد من كتبي، سواء في «مذاهب الحسن...»، أو في «الفن الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال»، في معالجتي لتصنيف العلوم والصناعات، حيث أبنت أنه تصنيف مختلف عن جدولة علومنا وصناعاتنا حالياً. ولا يجوز بالتالي أن ننزل ما قالوه، على سبيل المثال، في الموسيقى في فني الغناء والموسيقى، كما ندرسه اليوم. وعلينا أن نبتعد عن عادة سارية، أوروبية أساساً، وباتت رائجة في كتاباتنا، وهي تصيد مواد ونبذات ونتف من التراث القديم وإنزالها، من دون قراءة تاريخية مناسبة، بما يوافق منظوراتنا الثقافية والفنية والجمالية، اليوم.
* في «صناعة الزينة والجمال» أفردت بحثاً حول الهندسة كما رآها العرب والمسلمون، فكيف تقوم نظرتهم الخاصة والفريدة إلي عمل الهندسة الراقي؟
- هذا ما يجد تطبيقه فعلاً في تباين نظرتهم ونظرتنا إلى الهندسة: فلم يكن المهندس عالم بناء فقط، وإنما عالماً دارساً لحركة الكواكب والأفلاك. بل يمكننا القول إن انشغالهم هذا استأثر بمجوداتهم التأليفية والعملية، بدليل أنه بلغنا منهم مدونات عديدة عن علم الفلك، فيما لم نعثر إلا على أخبار وطرائف عن العمائر الإسلامية.
وهذا ما نتحقق منه في الكلام عن الحسن عموماً، إذ أن الكلام الجمالي القديم كلام في ذات الله وصفاته، لا في المصنوعات وصفاتها. وهذا ما يربك في القراءة. وهذا ما يدعونا إلى الحذر والتحوط في قراءة المدونات القديمة.
لا يعني هذا عدم وجود تعالقات بين كلامهم عن العلوي وبين معاينتهم ومعرفتهم بالمصنوعات اليدوية، الواقعة تحت أنظارهم، في زمنهم. ولعل «كتاب الموسيقى الكبير» للفارابي خير دليل عما أقول، إذ أن هذا الكتاب يستجمع في مادته أصولاً متأتية من مصادر مختلفة، بعضها يقوم على تتبع الخطاب الإغريقي وتمثله والتفكر به والوضع انطلاقاً منه، وبعضها الآخر يقوم على معايشة الفارابي وتتبعه ومعرفته بفنون العزف على العود على سبيل المثال.
* ولكن ألم يكن لانصراف الفنانين الغربيين في القرن التاسع عشر إلي الاستشراق، سواء في اقتباس موضوعات لوحاتهم، أو في دراسة العلماء منهم للفن الإسلامي، دور في الكشف عن الجمالية العربية بقوامها الكامل؟
- يروق لي الجمع في سؤالك بين دراسة الأوروبيين للفن الإسلامي، من جهة، وبين انصرافهم إلى الأسلوب الاستشراقي في التصوير، من جهة ثانية. إذ أن الجمع بينهما واقع، على ما أظن، في عملية تملكية مادية ورمزية في آن. وهو تملك يؤكد مركزية الذات بقدر ما يلحق بها غيرها ويستدخله ويدرجه في نسقه الحضاري ذي التلاوين والسبل المختلفة والمتجددة في آن: فدرس مواد الفن الإسلامي سبقه وتبعه امتلاك فعلي لمواد وفيرة من هذه الصناعات الفنية، وهو امتلاك مثبَّت ومصان ببطاقات تعرف به وتوثقه، وبتواريخ إجمالية وعينية تمحضه قوة التاريخ الأكيد والثمين بالتالي. وأدى درس هذا الفن إلى إنزاله في سياق الحضارات الإنسانية الكبرى، وفقاً لتقاليد ثقافية وتاريخية تعينها العين الكاتبة والمحللة والمصنفة تبعاً لمركزيتها.
* بالمقابل بأي قدر وسع الخطاب النقدي والجمالي، القديم والمعاصر، أن يكشف عن خصوصية الجمالية العربية برأيك؟
- إذا كان الخطاب الجمالي، اليوم، يمدنا بمواد تفيدنا في قراءة معالم السجال الراهن حول نظام الحسن (أو الجمال) ومعاييره في التداول الاجتماعي، كما يتمثله ويصوغه فلاسفة جمال وفنون في النطاق الفلسفي، فان هذه المدونات الفلسفية عصية في العهد القديم، إذ ينشغل بعضها بما لا يعنينا اليوم، عدا أن فهم هذه المدونات يتطلب نسيان ثقافتنا وتذوقنا الحالي، أو التغاضي عنها. ولهذه الأسباب وغيرها يكون لازماً علينا الانصراف إلى مدونات أخرى في العهد القديم يمكن لها أن تمدنا بما ينير سبل الذوق والاستحسان فيما مضى: هكذا توقفت في أحد كتبي عند جماعات «الظرفاء» في العهد العباسي، التي قامت على استحسان مشارب وملابس وسلوكات بعينها، كما قامت على امتلاك خصال وشمائل يمكن حسبانها في معايير الحسن الخلقي تحديداً. وهو ما يرسم دورة الحسن في تبادلاتها المختلفة في عهد بعينه.
* ما الذي تقصده بنقدك لـ«النسق الآثاري» الذي قام عليه درس الغرب للفن الإسلامي؟
- تحكمت بالدراسات الأوروبية، ثم الأميركية، للفن الإسلامي مقتضيات النسق الآثاري، وهو ما أقر به كبير دارسي الفن الإسلامي من الغربيين، أولغ غرابر، إذ أفاد في مطالعة ختامية عن الفن الإسلامي في أحد كتبه الأخيرة، أن هذا الفن لا يعدو كونه المبنى المعماري في المقام الأول. والتشديد على المعمار الإسلامي لا يعني الإشادة بعظمة هذا الفن في العمائر الدينية والمدنية وحسب، وإنما يعني أيضاً تقيد هذه الدراسات بكل ما هو موجود ومتوافر، على أنه العينة الأكيدة والراسخة عن هذا الفن. وهو منظور يستجمع سلسلة من المواقف التشكيكية بهذا الفن، وفق حجج مختلفة: فلو اتبعنا سبل دراسة الفن الإسلامي في الكتابات الأوروبية، منذ القرن السادس عشر (وهو ما يشكل مادة كتابي القادم)، لوجدنا أنها شككت، بداية، في وجود هذا الفن، ما يعكس تعرفها المتقطع والتدريجي بمواد هذا الفن وأساليبه وأنواعه؛ ثم ما لبثت أن شككت بـ«قدرة العربي على الإبداع» الفني، كما يقول أحد النقاد الفرنسيين في حينه، إلى غير ذلك من الحجج التي جعلت ميدان الفن الإسلامي موضوع معاينة وتحقق وتثبت وتدقيق إلى أن استقر متنه في العقدين الأولين من القرن العشرين، كما استقرت تسميته في صيغتها الحالية، السارية حتى في الكتابات العربية والإسلامية، وهي: «الفن الإسلامي».
والغريب في الأمر هو أن الدارسين الأوروبيين تعاملوا مع مواد هذا الفن على أنها من اللقى الأثرية، كما يقال، أو من الأوابد، فيما كانت إنتاجات هذا الفن ماثلة للعيان ويقع فيها التجديد والابتكار، في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، أي في العهود التي تعرف فيها الرحالة والدارسون الأوروبيون على مواد الفن الإسلامي في نواحي السلطنة العثمانية المختلفة.
أفادنا هذا النسق الآثاري في جوانبه التوثيقية إذ وفر لمواد الفن الإسلامي بطاقات تعريفية، دقيقة وموثقة، وهو ما نستفيد منه كفاية، اليوم، في دراساتنا وتنقيباتنا، بعد أن استفاد منه وطلبه أصحاب المجموعات الفنية الإسلامية والتجار والسماسرة والقيمين على المتاحف من الأوروبيين في عميات ضبط التواريخ، وهي كذلك عمليات ضبط القيمة المادية والتداولية لهذه الإنتاجات. غير أن هذا النسق لا يغيب عنا عواقبه التحليلية، وهي أنه لا يسلم بالفن إلا عند توافر مواده، فكيف إذا ترافق هذا التحقق مع مواقف تشكيكية!
* مع ذلك تجد للمستشرق ماسينيون، على سبيل المثال، إسهاماً كبيراً في الكشف عن أنماط عمرانية في المدن العربية قديماً كالخطط والأسواق والحسبة وغيرها. فماذا تقول؟
- كان لدراسات ماسينيون وغيره عن «الصناعات» دورها الأكيد في الوقوف على عمل هذه الفئات الاجتماعية، وعلى طرقها في الصنع، وعلى شمائلها وخصالها، وعلى أسرارها المهنية. وهي دراسات منقوصة حتى أيامنا هذه، طالما أن المواد المتوافرة عنها قليلة إذا ما قيست بما خلفته لنا التآليف القديمة عن الشعر أو الخط أو الموسيقى وغيرها. يضاف إلى هذا أن الشقة كانت قائمة بين بيئات العلماء ومدونات العلوم وبين بيئات الصناع وخبرات الصناعات وطرقها، ما دعاني إلى العمل على دراسة هذه الشقة، وعلى التحقق منها، سواء بين العلماء والصناع، من جهة، أو بين المدونات الكلامية والفلسفية وبين واقع المصنوعات نفسه، من جهة ثانية. هكذا استوقفني في أحد كتبي مخطوط محمد أبي الوفاء البوزجاني المهندس، «ما يحتاج إليه الصناع من أعمال الهندسة» في القرن الرابع الهجري، ودرسته وتوقفت عند معالم هذا الاتصال بين عالم وصناع، بل بين طرق «برهانية»، كما يسميها، وأخرى تقوم «على العين»، أي على خبرة الصانع اليدوية.
* أتعتقد أن أبحاثك في الجمالية العربية هي من قبيل إعادة الاعتبار إلي الإرث الفني العربي باعتباره صنيعاً حضارياً؟
- أنطلق في عملي هذا من حسابات بحثية، لا تبجيلية في هذه الجهة، ولا تبخيسية في تلك الجهة، وإن أدى هذا العمل، واقعاً، إلى إعادة اعتبار حضاري، أو ما شئت من الصفات والنعوت. ولهذا لا تتحكم بعملي نزعة ماضوية، بل وضعت في تقديم كتابي «مذاهب الحسن...» هذا القول لنيتشه: «بأقوى ما في الحاضر من قوة علينا أن نفسر الماضي». وما أطلبه من هذه العودة إلى مواد الماضي يتعين في نقدي المستمر، في أوجه مختلفة، لثقافة عصر النهضة المستمرة في حاضرنا الكتابي والقيمي. ولذلك يمكن إدراج عملي هذا، مع أعمال أخرى لي عن اللغة العربية في البيئات اللبنانية أو عن الشعر العربي الحديث أو عن الحروفية العربية ضمن إطار ما يمكن أن نسميه بنقد المثاقفة. والثقافة التي أنتقدها - ثقافتنا الحالية - استدخلت في مبناها وقيمها وجداولها وتصنيفاتها المتن الأوروبي الخاص بدراسة حضارتنا وثقافتنا، ما غيبنا، من جهة، عن ماضينا وعن صلتنا به، وما جعلنا، من جهة ثانية، نقع في الاحتذاء والتشبه والتقليد. لهذا أحدد غرضي بأنه النقد من أجل الإسهام المتجدد في الابتكار، لا النقد من أجل عودة روحنا الحالية إلى ماضيها الأثير.
* إن نظرة الغرب في هذا المضمار آثارية، كما قلت، فماذا تنفع النظرة الأناسية (أو الأنتروبولوجية) بالمقابل؟
- هناك من أطلق على مسعاي هذا تسمية المسعى الحضاري في فهم الفن الإسلامي، إذ أعدت الصنيع الفني إلى بيئته بمعناها العام. وهناك من وجد فيه مسعى أناسياً، إذ أعدت النظر في الفن وجعلته قرين العمل الإنساني، أياً كان، ونظرت كذلك إلى الصانع نظرتي إلى أي فنان... وعلى الرغم من قربي من المسعى هذا، فإنني أجد في كلامي عن النسق التداولي، أو الدورة التداولية، مبتغاي، وإن كانت هذه التسمية تشكو من ضبابية وقلة تحديد.
يعنيني في التداول أن النص (أو اللوحة، أو الحلية، أو الزي، أو القصيدة) وغيرها من الصناعات، أياً كانت قيمتها أو طبيعتها، تصدر في أسباب نشأتها وصنعها عن مقاصد فردية، مادية ورمزية، ذات هيئات وأعراض اجتماعية في التحاور والتأثير والفعل. كما يعنيني كذلك أن مواد التداول هذا يقع عليها التنافس في الحيازة، وفي التثمين بين استحسان واستقباح، من الكلام الاعتيادي بين البشر إلى خطابات الفلاسفة. ما يعني أن علينا دراسة النص في حدود بنائه المخصوص، وفي حدود تناصيته مع غيره (بما فيها من أساليب وأنماط ذوق وتفاعل وتأثر مع أشكال وطرق صنع سابقة أو مزامنة)، وفي كون النص أثراً تبادلياً يقع في أوجه الاستعمال بين البشر.
من هنا وجب علي التوقف لا عند المدونات وحسب، ولا مقارنتها ولحظ آثار التفاعل فيما بينها وحسب، وإنما التوقف أيضاً عند مجلس الخليفة أو الأمير، ومجالس العلماء ومسامرات الأدباء والظرفاء وغيرها، بوصفها دورات تبادل دالة بدورها.
* وكيف تبين لك أن ثمة مجالاً للجمالية العربية بعد؟
- لا يعنيني إلصاق صفة ما بالجمالية، أياً كانت، عدا كوني أعمل على نقد المتن الجمالي نفسه. فالمتن الجمالي تاريخي وثقافي في آن، وتبعاً لكل ثقافة: فما يعتبره اليابانيون جديراً بالتثمين وبتصدر الفنون عموماً، مثل تنسيق الأزهار أو حفل الشاي، لا يعد حتى في باب الفنون اليدوية أو الدنيا في أوروبا. إلى هذا فان جداول الفنون أو ترتيبها خضعت لتغيرات لافتة قلبته رأساً على عقب في أوروبا في القرون الخمسة الأخيرة، بين فنون «يدوية» و«عقلية» و«عظمى» و«دنيا» و«جميلة» و«تشكيلية»، عدا أنه جرى في عهد لاحق إلحاق فنون بها مثل التصوير الفوتوغرافي والسينما.
الخطاب الجمالي مقيد بظروفه بالتالي، ولا يغيب عنا أن الخطاب الجمالي الغربي الذي يقدم نفسه على أنه العالمي والأكثر تقدماً، لا يعدو كونه فناً محلياً وإن بلغ حدود انتشار دولي كبيرة، وبات محل جاذبية واقتداء من شعوب وثقافات عديدة.
* أليس للاكتشافات الأثرية المعاصرة دور في إضاءة بعض الجوانب في هذه الجمالية العربية؟
- طبعاًَ لها تأثير كبير، إذ أنها لا تعمق معرفتنا بأمور فقط، بل تصححها كذلك. هذا ما يمكن قوله عن عدد من الكشوفات الأثرية التي يعمل عليها دارسون أميركيون، ولا سيما في الأردن، وعن عدد غيرها في الجزيرة العربية مما يعمل عليها دارسون محليون. فالكشوفات الأخيرة عن القطع النقدية في الجزيرة العربية كشفت لنا أموراً غير معروفة عن أساليب الخط العربي في عهده الإسلامي الأول، علي سبيل المثال.
* ما الصلة برأيك بين الدراسات الجمالية الكبرى في الغرب (هيغل، شلنغ، إيكو وغيرهم) وبين أبحاثك في الجمالية؟
- أنفصلُ أكثر مما اتصل بما ذكرتَ من دراسات أوروبية، ذلك أنني أنحو نحواً مختلفاً، إذ أميل إلى مقاربة غير فلسفية، وإن لا أعدمها تماماً، للصنيع الفني: أستحسن الكلام وأوسعه ليشمل الذوق وأساليب العيش في الوقت الذي يقصر فيه غيري حديثه على الفن والجمال. وإذا كانت توافرت للخطاب الجمالي الأوروبي الحديث والمعاصر أسباب أقامته على أسس ومعايير وتاريخ في التفكر، فان الخطاب الجمالي القديم لم ينعم بها على هذه الحال لكي نسعى، مثلما سعى أومبرتو إيكو في كتابه عن جمالية القرون الوسطى، ولا سيما في كتابات القديس أوغسطينوس، إلى الإقرار بوجود خطاب جمالي متمايز وحاصل فعلاً. ففي الكثير من كلام القدامى عن «الجميل» أو «الحسن» كلام عن الخليق بالحسن واقعاً، أي الجدير به، وهو ما وجدناه في كلام المعتزلة كذلك. وفي هذا السياق علينا أن نقر بإن «الجميل» القديم، إذا جار القول، ينحصر في ميدان «عالم المثل» أو «الواحد» أو «الله»، ولا يمكن إطلاقه على مصنوعات بشرية حادثة، مثل مصنوعات الفنون، إلا من باب التشبه، أو أنها مصنوعات «متدهورة» عن عالم المثل، أو أنها وُجدت بفعل خالق «مكَّن» الصانع من فعلها، حسب عبارة التوحيدي.
* أتكون وجدت نقاط تشابه بين فئات الصناع العرب وفرق المهندسين في الغرب إبان القرون الوسطى (كما في رواية »بندول فوكو« لأمبرتو إيكو)؟
- أذكر أنني، عند زيارتي لمتحف فرق الصناع في مدينة تور الفرنسية في نهاية السبعينات، توقفت عند العبارة اليونانية التي تتصدر بهو المتحف: «من لا يد له، لا عقل له». ووجدت في المصنوعات الحاذقة التي يعرضها المتحف من صنع حرفيين فرنسيين قدامى، في القرون السابقة، ما كان بإمكاني نسبته إلى هذا الشعب أو ذاك، طالما أن اليد الصانعة تجتهد في عملها على توليد أساليب في الصنع تخفى على غيرها وتتفوق عليها كذلك، وتحدث الدهشة.
انها أسرار المهنة، كما يقولون. وهي العبارة عينها التي استعدتها، في زياراتي الأولى للمغرب، في السنوات عينها، حين رحت أتحقق من الألفاظ المستعملة في أوساط الصناع القدامى، في فاس أو غيرها، إذ هي ألفاظ عامية لم تفحصها ولم تغربلها دراسات اللغويين، ولا المفكرين أو علماء الجمال. وهذا ما خبرته في مصر حين حدثني أحدهم في «خان الخليلي» عن «تعشيق» الخشب في «المشربيات»، أو عن «عين الإمام» للفتحات الضيقة في الخشب. وهي وقائع متعددة لفعل واحد، وهو أن الصناع، ولا سيما في العهود القديمة، كانوا يتوارثون المهن، وبالتالي أسرارها، عدا أن عدداً من البيئات ما كانت تجيز تغيير المهن، بل توارثها ضمن العائلة الواحدة: هكذا بقيت »أسرارها« ظاهرة للعيان، من دون أن نفكها أو أن ندخلها في باب تحليلي صريح.
* أشرت في مقدمة كتابك «صناعة الزينة والجمال» إلي المتن الكبير الذي يشكل الحامل الأول للتراث الجمالي في العربية، فماذا تعني به؟
- أطلقت على خاتمة كتابي «صناعة الزينة والجمال» التسمية التالية: «خاتمة بمثابة مقدمة»، إذ طلبت فيها كلاماً يفيد إعادة إطلاق مشروعي البحثي باتجاه مجالات جديدة. وهو ما قلته فيها في كلامي عن »الميدان المفتوح« للفن الإسلامي، إذ أن عملي في هذا الميدان يقوم على إعادة النظر، من جهة، وعلى توسعة النظر، من جهة ثانية. فما عاد يكفيني الوقوف عند الزخرفة بل بات يعنيني لحظ التشابه البنائي بينها وبين »المقامات« وأساليب التزويق النثري، كما نلقاها عند االجاحظ، على سبيل المثال، وكما درستها في كتابي هذا.
هكذا أقول إن المدونات متعددة، وبأن المتن مفتوح وقابل لزيادات تبعاً لتوافر نصوص غير محققة أو آثار غير مكتشفة بعد، أو لتدبير قراءات تحسن وصل هذه النصوص ببيئتها، وتحسن رصد شبكاتها التناصية.
* ألا ترى حاجة إلي التعمق في كل مظهر من مظاهر الحضارة العربية: الهندسة، الزخرفة، التصوير، الصناعة؟
- ويعني هذا طبعاً إمكان التعمق في كل ميدان، على الرغم من معرفتنا بأن التفاوت في التوثيق والتأريخ صفة لازمة لهذه الميادين. فالكتب القديمة أعلت من علوم وصناعات وصرفت لها مجهودات عديدة في التصنيف والدرس، وحطت من غيرها فلم تخصها بالجهد اللازم. فديوان الشعر العربي القديم لا يضاهيه أي متن، من دون أن يعني هذا أن انشغالات المؤلفين طابقت أو ساوت انشغالات فئات واسعة من المجتمع. فالغنى الهائل في أشكال التمدن الإسلامي، الذي بلغتنا أخباره، وبقيت لنا بعض مواده، لم يحفظ لنا في كتب مصنفة عديدة. لهذا سعيت في كتابي «مذاهب الحسن...» إلى تدبر سبل جسورة في التتبع والمعاينة، تقوم على فحص اللغة بديلاً عن فحص الموجودات أحياناً وعلامة عنها.
* ما الذي ثبت لك من مقاربة مجالي الهندسة والصناع؟ وفي الهندسة النظرية والعملية؟ أيكون الفارق بينهما راسخاً برسوخ التحضر؟
- لعلنا نجد في كتابات «إخوان الصفاء» - وهو ما خصصت له الدراسة الأبرز في كتابي «صناعة الزينة والجمال...»- التعبير الأجلى عن العلاقات المعقدة بين الهندسة النظرية والهندسة العملية، ما يعين في مفاهيم اليوم شأنين مختلفين. فلقد طلب إخوان الصفاء، مثل عدد غيرهم وقبلهم من المؤلفين القدامى، علاقات مقايسة وتناسب بين العلوي والأرضي، بين الهندسي الكوني وبين الهندسي الأرضي، بين جغرافية الكواكب والأفلاك وبين هيئة الموجودات وأشكالها. وهي علاقات طلبها الفكر القديم، قبل العهد الإسلامي، في المزدكية وغيرها، وسأل فيها عن مصدر الموجودات وصورِها في عالم علوي يحركها ويصنعها على صورته ومثاله. واللافت في هذا الفكر القديم كونه يتحدث عن عالم علوي غير خاضع للمراقبة والمعاينة، فينسب إليه أصول الأشكال والصور، فيما كان يعاين ويراقب عالماً أرضياً يصنعه ويتحقق من موجوداته غير واجد فيه سوى صور متدهورة (وربما مثالية، ولكن لا يعترف بها على هذه الشاكلة) عن العالم التام والحسن.
* الهندسة فن التنزيه بدلاً من فنون التشبيه؟ أهذه صلة أكيدة توثقت بفعل تأثر الهندسة بالفقه الإسلامي القائم على عدم مقاربة الشكل الإلهي في أمور الفن؟
- لا يمكننا نسبة الهندسة إلى التنزيه، إذ أن أشكالها سابقة على العهد الإسلامي، ونلقاها في غير تراث فني من الحضارات التي غلبها الإسلام أو أخذ منها، عدا أن تزايد الطلب على الهندسة يجد أسبابه في سياسات «الفتح»، وما لحقها من أسباب تمدن، معزز بالغنى المادي الذي يجد صوره في الزخرفة المزيدة للعمائر الإسلامية، على اختلافها. ولقد أبانت لنا عمائر إسلامية عديدة، سواء في بادية الشام في العهد الأموي، أو في قصور سامراء في العهد العباسي، اشتمالها على صور آدمية، مصورة أو منحوتة، وفي وضعيات لاهية وراقصة وغيرها، ما يشير في هذه العمائر على الأقل إلى تقيد الفنون بحاجات وطلبات وأساليب، تجد أسبابها في الغنى المادي الفاحش الذي عرفته العهود الإسلامية، وفي تأثر أساليب الذوق عند الخلفاء والأمراء العرب بتقاليد سلطانية سابقة عليهم وراقت لهم، بعد إجراء بعض التحويرات أو التحسينات عليها.
* أيسعنا القول بوجود انفصال بين المديني والفني، باعتباره مبتذلاً، وبين المقدس في الصناعات، مثل الهندسة؟
- لا يمكننا الفصل الحاد بين جانب من الصناعات، على أنه مديني وقد يكون مبتذلاً أو مدنساً، وبين جانب آخر مما يقع في الديني والمقدس، ذلك لأن أساليب الزخرفة، على سبيل المثال، نجدها هي ذاتها في هذه أو تلك من الصناعات. يدعونا هذا إلى الوقوف عند وظائف الصناعات بوصفها الدليل على صفتها ومعناها. فقد نجد كتابات كوفية على لباس، وعلى حائط مسجد، وعلى آنية، ما يقيم الفصل بين الشكل والوظيفة في العمل الفني، وما يجعل الفن بالتالي يتعين في وظيفته، لا في شكله. وهو فصل خفف من تمايزه الفن الحديث في عدد من تجاربه.
* وماذا عن «الظرفاء» الذين تتحدث عنهم نقلاً عن الكاتب الوشاء؟ أيشبهون الـ(dandy )؟
- استوقفني في كتاب الوشاء وقوفه عند «الظرفاء» في العصر العباسي، وهي فئة تميزت بخصال وسلوكات جعلت منها، في حسابي، الفئة التي أعلت بل وضعت أسساً للتمايز تقوم على الجوانب الجمالية المتنوعة تحديداً: فـ«الظريف» هو من يأكل كذا، ويلبس كذا، ويقول الشعر كذا، ومن يمتلك الأواني أو المجالس الفلانية، المصنوعة في هذه المدينة أو تلك، ما يشير - لأول مرة بهذا الوضوح الناجز في التاريخ العربي القديم - إلى بلورة أسس للجمال تتعدى الشأن الإلهي والديني، ولا تنحصر كذلك بالأغنياء وحدهم، إد لا تقتصر هذه الأسس على الملكية بل على الأخلاق كذلك.
* لفتني أمر الظرف والظرفاء في كتبك: أتكون هذه الظاعرة دالة علي مقدار تحضر العرب الجمالي؟
- الكلمة سارية في غير بيئة عربية، ولكن بعد أن تدهور معناها من دون شك، وفقد بريقه الأخلاقي الناجز، إذ تحول »الفتوة« إلى محتال في أحوال، أو متسلط على حي أو محلة في أحوال. ولعلنا نجد في صيغ »الفتوة« القديمة تبلوراً لنزعات فردية ما كان يتيحها النظام القبلي والأبوي في أشكال اعتيادية، وهو تبلور يقوم على التمايز عن النظام القائم، سواء في إنتاجه لقوته العنفية أو في تعيينه للقيم والسلوكات.
* أتنتمي الجمالية العربية، في مظاهرها المختلفة، إلي التمدن العربي أم إلي الإرث الجمالي القديم؟
- لعل الظُّرف هو أعلى ذروة بلغها الحسن العربي القديم، بل الحديث كذلك، إذ أننا لا نجد في بلداننا علاقة نوعية ومتمايزة للحسن تنفصل عن الحسن الطبيعي والمادي: فالغني في بلادنا هو من تظهر علاماته النافرة عليه، لا الخفية أبداً، بما هي مقتنيات وعلامات بارزة للعيان...
إذا كان الأخلاقي عامة، أي الإلهي والديني والشرعي، يحدد أسس الجمال القديم، فإننا نجد في تجربة المتصوفة تعييناً جديداً له، يحيد به عن المعنى المقر، ويجعل التجربة التصوفية، تجربة الفناء في ذات الله وقول المخاطبات والشعر وغيرها، فعلاً جمالياً: بحدوثها نفسه بما تثيره في نفس المتصوف من انفعالات، وبشمولها على دلالات تعدد وتكثر من المعنى الجمالي، وتبلغه إلى متلقين آخرين، مشمولين بالانفعالات بدورهم.
أما اليوم، فإننا نستطيع أن نقلب الآية تماماً، إذ أن الانفصال عن الخلقي بمعناه أعلاه، بل العمل ضده وإنتاج جمالية معادية له، بات قانون الجميل المعاصر: فبعد طول إعلاء للفن وإبعاد عن الأرضي والإنساني، بات الحسي والعيني والبصري والبشع والكريه والوسخ والبذيء العلامات التي تنهل منها جمالية الفنون في أيامنا هذه.
(جريدة "السفير"، "السفير الثقافي"، بيروت، الجمعة 8 أيلول-سبتمير 2000).