مع أنطوان أبو زيد: الاستشراق الأبقى مادي، لا وهمي

 

سلك الأكاديمي والشاعر والناقد الأدبي والفني شربل داغر سبلاً متشعبة: تتلاقى جميعها في ما يشبه الموشور الذي يشكل شخصيته المبدعة والمثقفة على حد سواء. وبعد أن كان الناقد شربل داغر قد استهل جهده في الجماليات بكتاب حول «الحروفية العربية»، وأردفه بكتاب «اللوحة العربية بين سياق وأفق». ها هو يبلغ مدى هاماً في هذا الشأن بإصداره دراسته الضخمة، «الفن والشرق» (ما يقارب التسعمئة صفحة في مجلدين) التي تناول فيها إشكالية قلما عني بها النقاد الجماليون العرب على أهيمتها وخطورتها. عنيت بها ملكية الفنون الشرقية عبر القرون الخمسة الأخيرة، وذلك من خلال الوثائق والدراسات والفهارس الغربية (الفرنسية تحديداً) التي كانت في متناوله. ويمكن القول إن الدراسة المذكورة أرست دعائم راسخة لجمالية الأثر والعل الفنيين العربيين (أو الشرقيين) والإسلاميين، إذ لم يكتف الناقد برسم الأطر التاريخية التي احاطت بالأعمال الفنية العربية والإسلامية، وإنما مضى إلى حد استنطاق المعايير النقدية الجمالية وخلفياتها الفلسفلية والعلمية التي طالما حكمت النظرة الغربية إلى الفنون الشرقية.
* إلى ماذا تعزو التخبط أو الالتباس في مصادر الفن الإسلامي؟ أإلى النظرات الغربية إليه أم إلى طبيعته نفسها؟
- في الإمكان طبعاً أن نطلق صفة التخبط أو الالتباس أو غيرها على المصادر هذه، إلا أنني أستحسن التمييز، بداية، بين مصادر مادية ومصادر خطابية للفن الإسلامي. وهي مصادر تشمل هذا الفن من ناحية وجوده المادي، وتشمله كذلك من ناحية الخطابات التي عالجته بالدرس. وتتعين صفات التخبط والالتباس وغيرها ابتداء من العلاقات التي نشأت، سواء عند الغربيين أنفسهم أو عند العرب والمسلمين، مع هذه المصادر بنوعيها.
وهو ما استوقفني أثناء دراستي في باريس، في نهاية السبعينات، إذ تعلمت عن آثار فينيقيا، وتعرفت على العدد الأوسع من بقاياها، في متحف اللوفر وليس في المتحف الوطني اللبناني، الذي زرته في رحلة مدرسية قبل الحرب. وهو ما يمكن قوله في غير فن شرقي قديم، مثل آثار سومر وبابل والفراعنة، وفي الفن الإسلامي طبعاً. وأكتفي بذكر عدد من الأرقام للتدليل على ما أقول: تملك فرنسا، على سبيل المثال، في متاحفها وحسب، ما يزيد على خمسين ألف مادة من الفن الإسلامي، فيما لا تزيد مواد «متحف الفن الإسلامي» في القاهرة - وهو أكبر المتاحف العربية في نوعه - على ألف مادة. وهذا ما يصح أيضاً في نقاد هذا الفن. ان عودة إلى فهرس كراسويل الشهير عن الفن الإسلامي، على سبيل المثال، تظهر بما لا يقبل أية مناقشة أن العدد الواسع من نقاد هذا الفن غربيون (ما يزيد على 45 ألف كاتب في الفهرس)، لا مسلمون بأية حال (بضع مئات وحسب). كيف حدث هذا؟ متى حدث هذا؟ ما صلة الدرس والنقد والتاريخ الفني بملكية المواد في المتاحف الغربية المختلفة؟
وهي أسئلة وغيرها يمكن الجواب عنها ابتداء من لزوم التمييز بين وجود الفن في ذاته، إذا جاز القول، وبين وجوده المتحفي. وهما وجودان مختلفان، على ما درست، ولا ترقى العناية ببناء الوجود الثاني منهما إلا لمبادرات وسلوكات أوروبية، بدأت في الحفظ في «خزانة»، في بيت، لدى الملك والقاضي والارستقراطي وغيرهم، وانتهت إلى المتحف الجامع لمجموع تمثيلي عن الفنون. ولا يسع الدارس سوى التحقق من أن نوعي المصادر هذه يتعينان في أوروبا، في الغرب عموماً، لا في بيئات الفن الإسلامي أساساً، بأثر من عملية تاريخية جارية ومتمادية منذ خمسة قرون على الأقل، فيما لا ترقى عناية العرب والمسلمين بهذا الوجود الثاني إلا إلى العقود الأخيرة. وهو تباين تاريخي واجتماعي في أساسه لم يتعين في إقبال أوروبي ثم غربي، سلمي وشرعي، على فنون الغير وإنما في مجرى عمليات تاريخية لم تسلم من الغصب العنيف والاحتيالي.
* ما علاقة الاستشراق بمسألة تخزين (أو تجميع) الفن الإسلامي ومحضه قيماً متفاوتة من قبل الغربيين؟
- أنطلق في كتابي مما أسميه «الاستشراق الأبقى»، أي مما طلبته سياسات أوروبية في ملكية الغير، ولبناء ثقافة مادية، بين عهد وآخر، ابتداء من القرن الخامس عشر، الذي أجد فيه بداية صلة منتظمة، متسقة، وإن متغيرة، بين أوروبا، ولاحقاً الولايات المتحدة الأميركية، وبين هذه البيئات المعنية. فما استوقفني في الاستشراق يتعدى الصور المضللة أو الزائفة عن الشرق، التي اكتفى بها إدوار سعيد، ويشمل التملك الفعلي لمواد واسعة من فنون الغير، مما جرى اقتلاعه أو انتزاعه من سياقاته المادية والوظائفية لبناء متاحف وثروات. إن زيارة لمتحف اللوفر، أو لفهرس كراسويل عن الفن الإسلامي، كما قلت، يظهران، بما لا يقبل أي جدل، بناء متن غربي عن هذه الفنون. وهو متن مادي يستند مثل توأم إلى متن تفسيري، ويضاهيان بل يفوقان أي متن له في بقية العالم بما فيه الشرق.
هذا ما بدأ في لحظة أوروبية أطلقُ عليها لحظة «الخروج إلى العالم»، وتعني الفضول والتعرف والسيطرة، والتي اتخذت شكل الطلب على «النادر»: هذا ما يجتمع في أسنان سمكة غريبة في تونس، أو أكواز شجر أرز في جبل لبنان، أو مومياء فرعونية وغيرها مما كان يطلبه صاحب «الخزانة». وهو ما بلغ، في عهد ثانٍ، لحظةَ الحملة على الشرق، أي استهداف مواد الشرق في صورة مستحكمة، ولا سيما مواد آثاره العريقة. وبلغ هذا الطلب في عهد ثالث مواد الفن الإسلامي تحديداً في نطاق اهتمام ناشىء بالفنون التشكيلية أو ذات الأساس البصري واقعاً. ويتوقف بحثي في الحرب العالمية الأولى، بعد أن تحققت من بلوغ هذه السياسات الأوروبية حدودها القصوى، حدود نجاحاتها الأكيدة، وهي انتقال هذه السياسات وثبوتها في بناء مؤسسات مناسبة لها في البيئات الشرقية المعنية بها.
وما أرسمه في الكتاب، في مجلديه، مشهد فرنسي وأوروبي أساساً قبل أن يكون مشهد سياساتهم في الشرق. وأتحقق في هذا المشهد من الصراعات حول الفن، حول الملكية، حول المعنى، بين دول وجهات وأفراد، وفق سياسات ومعالجات ومقاصد، وتبعاً لحركة السوق المتنامية. وهي حركة تبدأ في المضاربات المالية حول مواد الفن وتنتقل وتكتمل وتتجدد فوق صفحات الكتب والجرائد. وفي ذلك لا تتبدل أسعار السوق وحسب، بل معايير الحكم والنظر إلى الفن، بين تعريفات وتعريفات. هذا ما يفسر وجود ثلاثة عهود، تستند إلى ترتيب مختلف، في كل عهد، لقسمة الفنون أو نظامها: فما جمع مفهوم الفن في العهد الأول، عهد النادر، يتعين في امتلاك الشيء المختلف الذي لا يملكه الغير. وما يجمعه في العهد الثاني، عهد العريق، فهو تملكُ مواد لها تمثيل حضاري للماضي. وما يجمعه في العهد الثالث، وهو عهد الرسم، يقوم على إيلاء الشكل أهمية أولى في تعيين الفن وتمييزه. هكذا جرى امتلاك وتفسير المومياء الفرعونية أو مزوقة الواسطي، على سبيل المثال، في العهود الثلاثة، إلا أن ترتيب كل واحدة منها اختلف بين عهد وآخر. وما أرسمه في الكتاب هو الجواب عن السؤال: كيف امتلكت السياسات الأوروبية، تبعاً لعهودها هذه، ولتعريفاتها للفن، مواد الفنون الشرقية؟ وكيف أعادت إنتاجها بالتالي، بكل معاني الكلمة؟
* ما الذي لفتك في الخطابات الغربية عن الفن الشرقي بعهوده المختلفة التي ذكرتها؟
- يشير كتابي إلى إعادة تموقع، إن جاز التعبير، في النظر إلى مسألتي الفن والشرق. وهي غير ممكنة من دون إظهار المسافة التي تصل مشروعي وتفصله عما قام به إدوار سعيد، ولا سيما في كتابه «الاستشراق»: اختلفتُ معه في تعيين الحدود الزمنية للاستشراق، إذ طلبها بين حملة بونابرت والحرب العالمية الثانية، فيما تحققت من أن الاستشراق بدأ قبل ذلك بثلاثة قرون على الأقل. واختلفت مع كتاب سعيد في تحديد متن الاستشراق إذ أسقط منه المدرسة الإلمانية وغيرها، وهو إسقاط يطيح بالحاصل الإيجابي للمدرسة الاستشراقية، الألمانية وغيرها، وإلا فكيف لنا أن نجيب عن السؤال التالي: كيف يحدث أننا ننتقد الاستشراق ونستند إليه في كتبنا ومنظوراتنا؟ وهو سؤال أتبعه بغيره: لما لم يَعد سعيد إلى كاتب شرقي، أو إلى مقاربة شرقية (لو جازت مثل هذه الصفة)، ولا حتى إلى ابن خلدون، بل إلى ميشيل فوكو وغيره في درس الخطاب الاستشراقي؟! أما الخلاف الأساسي فيقع في اختلاف المقاربة بيننا، إذ تقوم مقاربته على إسقاط التاريخ لصالح النص، وعلى التعامل مع النصوص المختلفة من دون انتباه إلى طبيعتها وإلى استهدافاتها. فهو يخلط بين سرد روائي وخطبة سياسية، ويجعل لهما الفعالية نفسها. كما يقيم تقابلاً وجاهياً بين النحن والآخرين، بين الشرق والاستشراق، فيما يحتاج الأمر إلى معاينة ذات طبيعة مختلفة: معاينة لا تسقط المعرفة، من جهة، ولا تقيمنا في مواجهة ثنائية حول الهوية، من جهة ثانية.
* هل للتعريفات الفلسفية للفن دور في تصنيف العمل الفني؟
- طبعاًَ، وابتداء من خطاب عمانوئيل كنط على الأقل في الخطاب الأوروبي. ففلاسفة عديدون انصرفوا إلى درس الفن، بوصفه ما يثير الانفعال الجمالي على أنه دالٌ على الوجود وعلى الماوراء. هذا ما بلغ حدوداً تمييزية شديدة في القرن التاسع عشر، مع أرنست رينان وهيبوليت تاين وجوزف أرتور غوبينو، الذين جعلوا العرق أساساً لمعاينة الفنون ودرسها، وللتمييز بينها واقعاً. كما بلغ الدرس الفلسفي للفن حدوداً بالغة منذ نيتشه وهايدغر وصولاً إلى ديريدا إذ قطع فيها مع الوجود، ومع الماوراء أحياناً، لينصرف واقعاً إلى علاقة وجاهية بين الدارس والعمل الفني، أي إلى علاقة باتت تختصر بنفسها ما يمكن أن يكون عليه الفن في ماهيته، وبات فيها أصل الفن، كما يقول هايدغر، فيه، لا في أية ماهية أخرى.
وما استوقفني في هذه المراجعة هو أن فلسفة الفن باتت تنصرف في صورة مزيدة إلى نظرية مجردة، خالصة، تتوهم حصول قيمة الفن فيه، فوق صفحته، إذا جاز القول، لا في التداول الذي ينعم به، أو لا ينعم به، خارجه. أليس جديراً بالانتباه والدرس كيف أن الفيلسوف ينصرف إلى درس فنان معروف، وأحذية شهيرة مثل أحذية فان كوخ، أي إلى فن مقر به خارج التناول الفلسفي له، وقبله، فيما يسعى هذا الجهد الفلسفي إلى إقناعنا بأن علينا أن نبحث عن موجبات الإقرار بفنيته في العمل الفني، في عملياته السرية والباطنية، التي تبدو أقرب إلى منطق العجائب منها إلى منطق العمليات الاجتماعية، بما فيها عمليات الفن والفلسفة أيضاً.
ما أريد قوله هو أن الفلسفة وأجناس الخطاب المختلفة تساهم في التشريع، في محض القيمة للفن، فيما تقوم بفحصه ودرسه. وهي في ذلك تبعِّد وتقرِّب بين الفنون المختلفة، وضمن الفن الواحد، وتعلي وتسقط. أي أنها تساهم في التداول بدورها، بل تتبع حركة الاقتناء نفسها أحياناً وتتقيد بها: أليس لافتاً أن عدداً كبيراً من الفلاسفة ما عادوا يعتنون بالشعر مصدراً للتأمل والتفكر، لصالح الفن التشكيلي تحديداً، من هايدغر وسارتر ومرلو-بونتي إلى جاك ديريدا؟ أليس في هذا دلالة على بلوغ العمل التشكيلي، منذ نهايات القرن التاسع عشر، هذه القيمة المتفاقمة في التداول؟
* ثمة علاقة أكيدة بين الملكية الفنية التي تقصيتها وبين صورة الغرب المالك عن الآخر المختلف: ما هي أهم ملامحها برأيك؟
- هذا ما تناولتُه في خمسة قرون، في ثلاثة عهود فنية، تبدأ بخروج أوروبا إلى العالم. وهو الذي عنى اكتشاف الأرض في جغرافيتها المتنوعة والمترامية، وفي كنوزها المختلفة، وفي موادها وكائناتها ومصنوعاتها المتباينة. واجتمع هذا العهد تحت باب »النادر«، وهو يعين حسب تعبير شهير للكاتب لابرويير: «ما أملكه ولا يملكه غيري». ويشتمل على مواد وكائنات مختلفة من أعشاب وحيوانات ومصنوعات مختلفة. وهو ما تعين خصوصاً في «الخزانة»، التي كانت أشبه بمتحف مصغر في الدار الفردية. وهو ما كان يتم التعرف عليه في الزيارات أو في الكتب التي وضعت عن هذه المجموعات النادرة.
أما العهد الثاني، فهو عهد الحملة على الشرق، التي بدأت مع حملة بونابرت الشهيرة على مصر، واجتمعت تحت باب «العريق». واشتمل هذا العهد على مواد الماضي، سواء أكانت من المبني أو المصنوع، مع عناية خاصة بالجانب الشكلي والمادي والبصري فيها. هذا ما تعين خصوصاً في دور المتحف، الذي كان صالةَ عرض كبيرة لمنتخبات مختارة من فنون العالم، ومنها الشرقية.
أما العهد الثالث فهو عهد الرسم، وجرى فيه الطلب على مواد الفن الإسلامي تحديداً. واشتمل هذا العهد على مواد مصنوعة من دون غيرها، وهي التي تتوافر فيها عنايةٌ بالشكل وتخاطب البصر تحديداً. وهو ما تعين في صالة العرض العمومية، والتي رافقتها صالونات بيتية في القرن التاسع عشر، وشملت معروضاتها خصوصاً فنون الرسم من دون غيرها، مثل اللوحة والمنحوتة والشكل المعماري تحديداً.
يمكن القول إن حاصل العملية التاريخية هو أكثر من عملية جلب، وأقرب إلى إعادة إنتاج للفنون المعنية. فلقد تبدل الطلب على الفنون الشرقية بين عهد وآخر، وتبعاً لتغيرات واقعة في الملكية كما في تعريفات الفن عند المالكين والنقاد والفلاسفة وغيرهم. وهو تبدلٌ خضع، إذن، لحسابات واقعة في المشهد الغربي تحديداً، قبل المشهد الشرقي. العملية لم تكن سهلة، إذن، ولم تسلم الفنون الشرقية منها، لا في ملكيتها ولا في معناها.
* ألا تزال هذه الصورة تنطوي على قدر من التبعية أو الصراع؟ وما يترتب عمله في استرداد المقتنيات، اليوم؟
- لم يكن الغرض من كتابي الدرس التاريخي المناسب لجلب الفنون الشرقية، القديمة كما الإسلامية، إلى خارج سياقاتها وحسب، وإنما أيضاً فتحُ هذا الملف، أي فتح النقاش العمومي كما العلني حوله. ذلك أن في هذا التاريخ ما يحتاج إلى معالجة، إلى »تصفية حساب« كما يقال، بعد أن تبينت في هذا التاريخ صفحات دامية، وعمليات سرقة وغصب واحتيال، قبل أن تكون عمليات انتقال سلمية وشرعية.
فلقد شابت عمليات الجلب سرقات واحتيالات ووضع يد وغيرها، فهل يمكن إصلاح ما جرى؟ يتحقق المراقب من صعوبة إعادة المقتنيات الفنية إلى بلادها الأصلية، على الرغم من توارد أخبار بين الفينة والأخرى، تتحدث عن إعادة بعض الأعمال الفنية إلى بيئاتها الأصلية. إلا أنها أمثلة قليلة، ويكون فيها الجرم مشهوداً، كما يقال في لغة القضاء. وماذا عن الأعمال الفنية الأخرى، التي لا تملك متاحف غربية عديدة عنها سوى معلومات تواريخ وصولها إلى المتحف، لا عن سلامة شروط شرائها أو وصولها؟
يتم الحديث في العالم، اليوم، عن مصالحات ملحة وضرورية، عن عمليات غفران لازمة، وعن النسيان المطلوب للماضي الاستعماري الكريه. من دون شك، ولكن بعد كتابة هذا التاريخ، على ما أقترح. أسوق مثالاً على ما أريد، مستقى من أبشع العمليات الاستعمارية، وهي تجربة جنوب إفريقيا الاستعمارية المتأخرة: قامت المحاكم فيها، بعد إزالة الحكم العنصري، باستنطاق الوقائع، وصدرت الأحكام، على أن المحاكمة اقتصرت فيها على قول الوقائع والتدقيق فيها ليس إلا: قولُ الظلم والإفصاح عنه كافٍ لحصول الغفران. المشابهة جريئة ومتطرفة من دون شك. لعلي أحلم بإجراء مثل هذه المحاكم، بفتح هذه الملفات التي تحول دونها موانع القوة، لا العدل ولا الصلح من دون شك.
ما أقترحه في هذا المجال هو عقدُ محاكمات رمزية وحسب، على أن أفعال المحاكمة تقوم على الاعتراف وحسب: الغفران، ونسيان الماضي ولكن بعد التعرف على أخطائه.
* النادر والعربق، على ما تصنف بعض هذه الفنون، هما تقييمان يختصان بالغرب وحده: هل لهذين التقويمين حضور مماثل لدى العرب في ثقافتهم القديمة؟
- لا يسعنا نقل التصنيفات من ثقافة إلى أخرى، ولا التثبت من وجودها الدائم في هذه الثقافة أو تلك، ذلك أن تقويمات الفن، تقويمات الذوق، متحولة في الغالب، ومتغيرة أحياناً. فما توقفت عنده في سلوكات المقتنين والدارسين الأوروبيين قادني إلى ملاحظة عنايات خاصة تمثلت في النادر، في العريق، وفي الرسم. ولا يمكن الدارس القول بوجود تطابق أو تماثل بين هذه ومثيلات لها في الثقافة العربية والإسلامية، ولا سيما من جهة العريق. فهذا الشاغل ناشىء في أوروبا نفسها، على الرغم من عنايات إغريقية معروفة، ولم تعرفه الثقافة العربية والإسلامية من جهة موادها القديمة والمتبقية، وإنما من جهة التعرف أحياناً على جوانب من الآداب والثقافات والتواريخ عند الشعوب الأخرى. ويمكن القول إن العناية بالنادر عرفته بعض السلوكات العربية والإسلامية قديماً، وتمثل خصوصاً في الطلب على مواد ثمينة، من جواهر ومخطوطات وغيرها.
* اعتبرت «التداول» الأساس الذي شيدت عليه منهجك في مقاربتك الفنون الشرقية: هل بلغَ بك ما أردت؟
- استند عملي إلى مقاربة أقمتها حول اللفظ الاصطلاحي: »التداول«. وهي مقاربة انطلقت من منهج «التداول» المعروف، إلا أنني وسعته وأخذت به صوب وجهات جديدة، غير المعروفة. قام هذا المنهج عند مؤسسيه على منظور لساني، فيما اتجهت به صوب مقاربات أناسية واقتصادية وغيرها. أي أنني أقمت التداول في المباني الاجتماعية، بما تقوم عليه من تعاملات، على أنها هي التي تمحض الأشياء والاعتقاد بها القيمة بمعانيها كلها.
ولقد قام كتابي مثل باب له مصراعان، متصل ومتباين في آن، بين الملكية والمعنى. فدرسُ الفن، حالياً بشكل خاص، أَسقطَ مسألة الملكية من حساباته، فيما يتعين الفن - على ما درست - في اكتسابه مثل هذه الصفة (أي الفن أو الفن المتميز أو غيرها من الصفات)، في عمليات تداوله المختلفة. وهو ما جعلته في نسق دائري، فلا نتبين أوله من آخره، مثل الحية التي تمسك بذيلها دائماً. أُعيد بذلك الفنَ إلى حيث هو، إلى عمليات تناقله في الملكية المادية، قبل أن يصبح معطى أنطولوجياً أو فلسفياً فوق مكاتب التحليل والنظر، بما يبدل طبيعته الجارية بين أيدي البشر قبل التجاذبات المجردة والمثالية عن الوجود والماوراء.
هكذا جعلت الفن يتعين في سيرورة للملكية تبدأ، في ما يتعلق بموضوعي، في عمليات إعادة إنتاجه (إذ ينتقل من وجود مادي إلى معالحة إنتاجية جديدة له في بيئته الجديدة)، وتنتقل إلى عمليات تناقله وتملكه بين الأفراد وفي المجموعات، في عمليات العرض ومضاربات السوق، وتصل إلى حفظه الختامي في المتحف، في ممتلكات الدولة على أنها في مصاف الخلود. كما جعلتُ الفن يتعين في سيرورة ثانية، ملازمة للأولى، هي سيرورة للمعنى، وتقوم في محطة أولى على وضع المعنى أي على اقتراح تفسيرات وتقويمات هي أقرب إلى أن تكون إعادة تأليف لمعناه ومن خارج الثقافة التي تكفلت به. وتقوم في محطة ثانية على اجتماعية المعنى، أي على قيام مؤسسات وأفراد بتكليف منها على تدبير معنى للفن في سياقات اجتماعية تطلبه وتذيعه وتروجه. وتقوم في محطة ثالثة على عائد المعنى، ذلك أنه يجلب نفعاً أكيداً بدوره، بين النفع الثقافي القومي والنفع المادي الصرف العمومي كما الفردي.
* ما هي برأيك أهم العوامل التي أدت إلى تسريع دورة تداول الفنون الشرقية، أي من الشرق إلى الغرب؟
- هذا ما يمكن طرحه في جملة أسئلة: ما الذي حرك فرنسا وغيرها من البيئات الغربية لجلب مواد من فنون الشرق؟ وما الداعي إلى صياغة تفسيرات، نقدية أو تاريخية أو فلسفية، لهذه الفنون؟ ما الذي جعل مواد مأخوذة من فنون الشرق تكتسب قيمة، مالية واعتبارية وغيرها، لدى الفرنسي أو البريطاني؟ وهل القيمة هذه هي عينها التي للمواد الشرقية في بيئاتها الأصلية؟ ما أثر عمليات الجلب على الفن؟
وهو ما يمكن تتبعه بأسئلة أخرى مثل هذه: ماذا عن وجود الفنون الشرقية في بيئاتها المنتجة لها، في محلات وجودها الأول، وفي وظائفها النفعية، وفي تعبيراتها الجمالية وغيرها؟ ماذا عن وجود هذه الفنون، بعد نقلها إلى بيئات جديدة، إلى أمكنة عرض أخرى؟ وماذا عن اندراجها في ملكيات، في عمليات شراء وبيع وتناقل جديدة لها؟ وما هو أثر هذه العملية المركبة، عملية الجلب والاستقبال الغربية، على واقع هذه الفنون الشرقية؟ هل بقيت الفنون محافظة على وجودها الأول؟ هل تبدلت؟ أية تبديلات؟ أهو نقل وحسب لها أم إعادة إنتاج لها؟ أهو تأكيد تفسير سابق لهذه الفنون أم إعادة صياغة له؟
وهو ما اجتمع في عوامل مختلفة تعينت في الاقتناء، في البروز، في حفظ الأثر، قبل أن يصبح العامل المالي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عاملاً مهيمناً في سياسات الإقبال على مواد هذا الفن.
* ألا تعتبر سبقَ الغرب إلى تصنيف الفنون الشرقية بين نادر وعريق ورسم شأناً مرتبطاً بتنامي المجتمع المدني الغربي؟
- أفضل التمييز بين سلوكات مدنية ومجتمع مدني عند درس هذا السؤال. فالعناية بالفن، باقتناء مواده، وحفظها وعرضها في البيت، سواء أكان قصراً أم بيتاً أم صالة عرض، يرقى في التجربة الأوروبية، على ما درست، إلى انتقال جرى بين الكنيسة والبيت الاجتماعي. وهو اقتصر، بداية، على بيوت بعضهم، ولا سيما الملوك والأمراء، وتعين في احتياج اجتماعي، ومدني بالتالي، لا ديني بأية حال.
وهو ما بلغ لحظة ثانية هي بناء المتحف نفسه، حيث أن بناءه لبى في التجربة الفرنسية خصوصاص احتياجات مجتمع مدني ناشىء، طلب القيمون عليه جعل الفن في خدمة التربية الجمهورية وتنشئة المواطن.
* تتحدث عن سياسات الإتجار وآليات تملك الغربيين للتحف الشرقية، فما هو الطابع المهيمن عليها؟
- تبين لي في البحث أن العناية المالية بالفن لم تشكل شاغلاً استثمارياً قبل الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهو الطابع المهيمن على سياسات الإتجار بالفن منذ ذلك الوقت، بل بلغ حدوداً متفاقمة جعلت لبعض الأعمال الفنية، النادرة في سياق التنافس، قيمة مالية عالية قريبة إلى أسهم الشركات في البورصة.
ولقد بلغ الفن هذه التعاملات، أو بات مادة فيها، بعد أن جرى تناقل مواد الفن في سوق، لا بين أفراد وجهات محدودة العدد والنطاق، وعبر جهات وسيطة عديدة، تبلغ أحياناً المزاد العلني. اتسع نطاق التعامل بمواد الفن، وما عاد يقتصر على أوساط البلاط، ولا على نطاق الأديرة والكنائس. كما عرف الفن خصوصاً طابعاً عمومياً، أي يخص عموم الناس. أي لم يعد المالك مقتنياً للوحة، وإنما لحامل أو وسيط ثقافي وجمالي يخص غيره أيضاً. وهو ما كتبه فيكتور هيغو إذ قال في أحد كتبه إنه لا يحق للمالك الفعلي التصرف بما يملك إذ أن قيمة العمل تتخطاه وتشمل المواطن عموماً.
ويمكن التحقق من العمومية التي بلغها الفن في وجه آخر، وهو أن المالك بات ينظم مجموعته الفنية ويعرضها في بيته، مثل متحف مبكر، أو آخر، غير المتحف الرسمي، وينظم مواعيد لزيارتها لمن يشاء. لم تعد مجموعة الفن في عداد خزانته، ومن ممتلكاته الخاصة، بل يتوجب عليه عرضها ويدع غيره يمتلكها بعين المشاهدة والمعالجة البحثية، فضلاً عن أنه كان يشهرها مثل ميدالية لمكانته الاجتماعية. ولقد بلغت هذه العمومية حداً أقوى في القرن العشرين، تعين في ما أطلق عليه أندريه مالرو تسمية «المتحف الخيالي»، أي قدرة أي إنسان، عبر تقنيات الاستنساخ، على تخزين ما يشاء من مواد الفن غير المملوكة منه.
* لقد أدى الرحالة الغربيون إلى الشرق دوراً حاسماً في تكوين صورة الآخر المختلف: إلى أي حد كانت هذه الصورة حاسمة في المجال الفني؟ وهل كان الاستشراق سابقاً وحتمياً على استعمار الغرب للشرق؟ وإلى أي حد؟
- لا يمكن القول بأن الاستشراق سبق وأوجب استعمار الغرب للشرق، إذ أن سياسات الاستهداف تعدت هذا الخطاب، وإن استعملته. كما وجب التمييز بين عهود وعهود في الاستشراق، حيث تغيرت الاحتياجات فيها: بين حاجات التعرف الفضولي إليه، وحاجات النهل من ثقافته وعلومه وسبل عيشه أحياناً، وحاجات التعرف إليه بهدف تكوين ثقافة عنه، بما فيها الثقافة المادية... ولا يعدو أن يكون الاستعمار اللحظة الأخيرة في هذا المسار، ولا يختصر بحركته بالتالي مجموع السياسات والاستهدافات السابقة، وإن استوعبها وأفاد منها. ولقد أنهيت كتابي مع الحرب العالمية الأولى، حيث بلغت السياسات الاستعمارية حدود نجاحات أكيدة، وهي قبول نخب عربية بها، ولا سيما قبول خطاب الغير عن ثقافتها.
* هل تعتبر أن لنشوء المتاحف في فرنسا صلة بالتحول العلماني في تبادل التحف الشرقية؟
- تكلم أندريه مالرو منذ أربعينات القرن الماضي عن «المتحف الخيالي»، وطلب منه الحديث عن ملكية الفرد الخيالية لمواد مختلفة من الفن الحديث أو القديم. وهي ملكية احتمالية، رمزية، أراد منها مالرو الكلام واقعاً عن أثر آلة النسخ، والصورة الفوتوغرافية، على الفن المحفوظ، إذ تُمَكِّن هذه الآلات أي فرد من امتلاك صورة عن الأصل المحفوظ في المتاحف في الغالب، بما يؤلف متحفه الخاص. غير أنني أريد من فكرة مالرو أن أوجهها صوب وجهة أخرى، وهي السؤال عن الملكية الفعلية، لا المتخيلة وحسب، للفنون. ذلك أنني أرى - في نوع من التشبيه المبسَّط ولكن الدال - أن علاقة المتحف الخيالي بالمتحف الفعلي تشبه علاقة الورقة المالية بـ»البنك المركزي« في بلد ما. فالذي يكفل قيمة العملة ليس ما فيها، بل وجود ودائع مصرفية وغيرها في البنك المركزي. وهو ما يمكن قوله في قيمة الصورة المستنسخة أو المصورة للوحة أو المنحوتة إذ لا تتوافر لها من دون أصلها، من دون القناعة بوجودها في مكان محتجب ولكن موجود، وهو المتحف الذي يضمن حفظ القيمة الختامية للعمل الفني.
* كيف تُفسر إنكار الغربيين صفة «الفن» على الأعمال الفنية العربية لدى بعض الكتاب وفي بعض الخطابات؟
- درست في الكتاب مشهد الفن في أوروبا، وتالياً في الولايات المتحدة الأميركية، بوصفه المشهد الذي تحكم بإعادة إنتاج مشهد الفن الشرقي، بمواده وعهوده وأساليبه وتعريفاته المختلفة. وهو مشهد أوروبي تعين في احتياجات من الثقافات المادية للغير، وحددته أو أوجبته سجالات ونقاشات فلسفية واجتماعية حول الفن نفسه، وحول تراتبية صناعاته المختلفة. ولقد أصاب الفن الإسلامي النقاش الأقوى والنصيب الأوفر طالما أنه تعين في عهد لم يعد فيه المقتنى الفني مادة في خزانة مقفلة وإنما شيئاً معروضاً للعين العمومية. أي في عهد بات فيه العمل الفني مادة مبسوطة لعين الدارس فوق مكتبه، مثل أية مادة في المختبر. هذا ما اعتنى به الفيلسوف مثل المؤرخ والدارس وغيرهم من أصحاب مقاربات العلوم الناشئة، وباتت للفن فيه »لغة« جديرة بالبحث مثل غيرها من لغات المجتمع التعبيرية والرمزية والتاريخية.
هكذا كان لمواد الفن الآخر، المختلف، الشرقي مثل غيره من فنون الشعوب الأخرى، أن تندرج في سياقات استقبال غربية، في الاقتناء كما في الدرس، ووفق احتياجات وممكنات الجمع والتحليل والتصنيف والتقويم. في هذه السياقات ظهرت المزوقة، أي الصورة الكتابية الإسلامية، دونية على اللوحة الزيتية، والتصميم المعماري لقصر أو مسجد دون ما بلغته قواعد البناء القوطي، على سبيل المثال. ولقد كان لسياسات التقويم والتمييز هذه أن تتفاقم إذ ظهر الكثير منها في عهد استعمار بلدان أوروبية عديدة لمجتمعات شرقية: كيف يمكن الفكر الغالب، الفكر الباحث عن لزوم استعماره لغيره، أن يقر بأن فنون المغلوبين جديرة أو مساوية، أو ربما شديدة التميز والتوفق، بالمقارنة مع فنون الغالب!
* أين يقع كتابك هذا في سياق ما كتبت قبله؟
- هذا الكتاب يصل متأخراً، في حسابي. كان لي أن أصدره، أن أنهي كتابته قبل غيره من كتبي الأخرى في الفن. إلا أن الخطة التي وضعتها للكتاب كانت طموحة للغاية، بدأت بها في باريس وأنهيتها في لبنان، بعد عودتي إليه.
كان لي أن أبدأ بهذا الكتاب، بعد أن توصلت أثناء دراستي في باريس إلى خلاصة مفادها أن أي عربي لا يقوى، واقعاً، إن طلب الدرس الجدي لثقافته، إلا على الابتداء من أوروبا، من خطابها الذي وضعته عن هذه الثقافة. هذا الخطاب لازمٌ، وهو جذاب وفعال فضلاً عن ذلك، وإن كانت لي فيه آراء نقدية تطاوله في مبناه كما في توصلاته. العودة لازمة إلى هذا الخطاب الأوروبي في درس الماضي والحاضر العربيين، في درس الأدب كما في درس الفن وغيرها من إنتاجات هذه الثقافة. البوابة لازمة، وإن نبذها البعض، الذين لا يتوانون عن نقدها أو تبعيدها، فيما هم لا يتوقفون عن النظر إليها، كما في المواقف الأصولية أو التأصيلية تحديداً من هذا الخطاب الأوروبي والغربي.
* يشتمل كتابك على نقد صريح للاستشراق، بما فيه نقد إدوار سعيد لهذا الخطاب، كما تقترح الخروج منه. كيف ذلك؟
- ينتهي كتابي إلى اقتراح طريقة في التعامل مع الخطاب الاستشراقي، وإلى طرح السؤال التالي: كيف يحدث أننا ننتقد هذا الخطاب ونستند إليه؟ وهو سؤال مربك، بطبيعة الحال، ويقيمنا واقعاً في الخسارة الدائمة، في الاستتباع الحضاري والمنهجي، إذا جاز القول، طالما أنه يقيمنا في مواجهة مختلة سلفاً. هناك مسافة قائمة من دون شك بين الشرق وبين الخطاب الاستشراقي عنه. وهي مسافة تقوم على تشويه واختلاق وتزوير وغيرها، إلا أنها تقوم أيضاً على توفير معطيات أخرى تقع في أساس ثقافتنا الحالية. لنفتحْ أي كتاب مدرسي، أي قاموس، أي كتاب جدي في ثقافتنا، سنجد أنه مبني على أساس العديد من التوصلات في الخطاب الاستشراقي. كيف ذلك؟
هذا يصح في درس الفن الإسلامي كما في درس الأدب العربي. وفي غيرهما أيضاً. ذلك أننا تغافلنا عن كون الخطاب ينبني وفق مستويات، وفق »إبلاغات« كما أسميها في كتابي. وهي إبلاغات ثلاثة في النص عن الفن: إخباري، وصفي وتقويمي. ذلك أن هذا النص تتخلله وتبنيه وتخترقه معطيات من الإبلاغات هذه، مما يصح فيه النظر والحكم: ففي الإبلاغ الإخباري يمكن التحقق من الصحة والخطأ، فإن قال الخطاب الاستشراقي أن الواسطي رسم مزوقته هذه بين العام كذا والعام كذا، فنحن قادرون ربما على تصحيح هذه المعلومة أو على القبول بها. وهذا ما يصح جزئياً في الإبلاغ الوصفي، إذ يقوم في بعضه على وصف قابل للتخطئة أو للقبول، فيما يصعب الأمر في جزئه الآخر. أما في الإبلاغ التقويمي، فهناك الخلاف الأشد والأصعب، إذ ينبني هذا الإبلاغ على أحكام قيمة، وعلى منظورات تستند إلى اعتقادات ومعايير متباينة، ولا سيما بين ثقافة المنشأ من جهة، والغربية من جهة ثانية. ان الكثير من عمليات سوء الفهم والنقد الشديد للخطاب الاستشراقي تقع في هذا الإبلاغ تحديداً، على ما تحققت ورأيت.
يبقى أن أشير إلى نقطة أخيرة، وهي أنني أفضل الحديث عن المثاقفة بالمقلوب، بدل الحديث عن الاستشراق، وأقصد من هذا المفهوم الحديثَ عن خطاب طلب منه صاحبُه، أي الأوروبي، درسَ ثقافة الغير، وانتهى إلى أن طلب واقعاً الأستذة هلى أهلها وأصحابها. لهذا أختم قولي كما يلي: الاستشراق مشروع غلبة مفتوح ومتجدد، ومشروع مستحيل في آن، طالما أنه لا ينشىء أصلاً بديلاً عن الشرق، بل يحتاج إليه دوماً. بهذا المعنى يمكن القول بأن الاستعمار وصل متأخراً إلى الشرق، فيما وصل مبكراً إلى أميركا، علي سبيل المثال، فأطاح بثقافاتها المحلية، واقتصر العمل الاستشراقي واقعاً - عدا عمليات النهب - على مساع في التأثير، في النفوذ، في جلب منافع. لهذا يمكن القول بأن الخطاب الاستشراقي خطاب ملازم لثقافتنا، وقد يكون مفيداً ومحرضاً لنا، لو أحسنا القراءة والتعامل معه.
* كيف ترسم خطاً مستقبلياً لتطور النقد الفني والجمالي الخاص بالفنون الشرقية في بلادنا؟
- السؤال كبير بحجم مهمة جسيمة، وتتعداني بطبيعة الحال. أعتقد بأن هذا النقد لا يزال في بداياته، على الرغم من مجهودات قيمة وبدايات واعدة في القرن العشرين لأحمد تيمور وبشر فارس وحبيب زيات وغيرهم. طبعاً ازدادت وتنامت الدراسات النقدية والتاريخية المتصلة بالفن العربي الحديث، إلا أنها لا تزال بعيدة خصوصاً عن المقاربات التاريخية والاجتماعية اللازمة لهذا الفن. فهي تقوم غالباً على تناولات تأريخية الطابع، أي وقائعية، تؤرخ للفن بأن تجعله تاريخ سِيَر الفنانين المعروفين فيه. كما تفتقر هذه الدراسات إلى إسهامات الشاغلين في شؤون الفكر والفلسفة خصوصاً. ويستوقفني كثيراً في ما أقرأ وأتابع أن عدداً كبيراً من الباحثين العرب يتصدون لدرس التراث، كما يسمونه، ويبنون بل يستخرجون منه، حسب زعمهم، تكوينات معرفية له وعنه، فيما لا يجد الذوق ولا الفن ولا القيمة موضعاً في هذه الأبنية المعرفية. هذا مدعاة للشك في مجمل ما يقومون به، وفي صحة بنيانه، قبل أن يكون نقصاً أو محلاً شاغراً وحسب في هذه المباني.
(جريدة "السفير"، "السفير الثقافي"، بيروت، الجمعة 8 تموز-يوليو 2005).