مع أحمد جاريد: علاقة العربي بالوجود لغوية، لا حسية


* كلما دققنا النظر في التشكيلة الإبداعية العربية باختلاف أجناسها، وجدناها متشظية: فمن جهة، هناك لامبالاة أغلب التشكيليين بالثقافة والفكر إلى حدود غير مسموحة بها أحيانا، ومن جهة ثانية ضعف تعاطي غالبية الأدباء مع الصورة إلى حدود العماء أحيانا أخرى، باستثناء البعض، وهو الأمر الذي لا تشهده التجارب الأوروبية المعاصرة. مثل هذه القطائع تلقي بظلالها على صعوبة تبلور اتجاهات فنية وأدبية ناضجة ومتكاملة تنهض على خلفية نظرية أو على الأقل فكرية على طول خريطة مشهدنا الثقافي والفني العربي، وهي في اعتقادي مرد عقم تلاقح الخيالات والمشاريع الإبداعية.
- هذا صحيح. ويحضرني في هذه المناسبة ما حكاه أبو نواس في إحدى قصائده، وهو أنه كان يشم الروائح في المطاعم، وهو يتمشى في بغداد، ويتردد في ما يختار من أطعمة وفي ما يفضل من مطاعم... تخيل كيف كانت حاسة الشم عنده عالية ومتأهبة لمثل هذا التذوق. ويمكنك القول في أدبائنا وشعرائنا أن علاقة أعداد منهم بالشعر علاقة لغوية خطابية، لا تتفاعل مع الفنون الأخرى، بحيث لا يزورون معرضاً أو يذهبون إلى أمسية موسيقية... ومن جهة ثانية إن كتابة الشعر لا تتعايش كما لها أن تتعايش مع بقية الفنون: تقرأ القصيدة عند شعراء كثيرين فتشعر كأنها صنعة لغوية، أو أنها لا تتنفس ولا تكتسب مكتسبات فنية وجمالية متحصلة في الرسم أو في العزف. فيما الحضارات والتجارب الثقافية الأساسية تقوم على درجات من التعايش والتفاعل مع أنواع الفنون الأخرى. وهذا ما كان يصح في العهد الإسلامي القديم، وهو ما لا يصح كفاية في أيامنا هذه.
* اتصالا بهذه الوضعية، يمكن بالتالي ملاحظة حالة الشلل التي تنتاب النقد الفني ليس في المغرب فقط بل في العالم العربي عامة. وهو راجع فعلا، في وجه من الوجوه، إلى نزعة الكلام واللغة في الثقافة العربية حتى الراهنة منها، إذ لا يمكن ألا يسترعي انتباهنا وفرة النقد في الحقل الأدبي، لدرجة أن نصوص النقد تفوق نصوص الإبداع، في حين أن انتظارات التشكيليين أكبر مما هو متوفر من نقد فني، وأن إيقاع الإنتاج الفني يسير بسرعة تفوق وتيرة الكتابة النقدية. إنها وضعية استثنائية غير مفهومة... ودعني أقول إن على عاتق نقاد الفن ديناًٍ لم يسددوه حتى اليوم.
* أُرجع هذا إلى النشأة المتأخرة للفنون البصرية، وباقي فنون المشهد، وإلى النشأة المتأخرة للنقد الفني أو التشكيلي. وإن شئنا يمكن أن نذهب بالوصف أبعد: فلو درسنا تاريخ الفن العربي وفلسفة الفن العربي سنلاحظ أن الآية مقلوبة، إذ نجد أعدادا من النقاد مقابل قلة قليلة ممن يعمل حقا في تاريخ الفن أو فلسفة الفن. طبعا هناك في ما قلتَ وجه آخر أعقد وأصعب وهو التالي: هل كانت ثقافتنا السابقة القديمة بصرية أم لا؟ ويكون السؤال كذلك: هل يشكل عدم وجود مثل هذه الثقافة عائقاً بالتالي يحول دون تبلور النقد وغيره بالتالي؟
- في جوابك قدر من الصحة، بمعنى أن الفنون القديمة لم تكن محل نظر من طرف الدارسين؛ وهذا ما تناولته في أكثر من كتاب لي. بمعنى أن عالم الصناع – لأنه لنا هكذا أن نصنف الفنانين القدامى – كانوا يعملون في أوراش وأطر وأمكنة عمل، ضمن حلقات مغلقة في كثير من الأحيان، فيما كان عالم الدارسين والمؤرخين والعلماء والفلاسفة بعيداً عنهم. سبق لي أن توقفت في أحد كتبي عند مخطوط وضعه علم فلكي عباسي شهير إسمه محمد أبو الوفاء البوزجاني المهندس، وهو بعنوان "ما يحتاج إليه الصناع من أعمال الهندسة"، ويشرح فيه للصناع الطريقة الصحيحة – أي الهندسية - التي تمكنهم من رسم دائرة، أو من رسم مربع، أو من رسم دائرة في مربع أو أربعة مربعات في دائرة، أي ما يسمى الإستخراجات الهندسية في الزخرفة الإسلامية القديمة. ويعلمهم كيف يعملون وفق المسطرة والبيركار وغيرهما من الأدوات وغيرها من المسائل المتصلة بأعمال الهندسة. حين تقرأ جيدا هذا المخطوط ستجد أن هناك مسافة كانت قائمة بين هذا العالم الدارس وعالم الصناع. وهذا ما نعرفه عن بلادكم في المغرب أيضا؛ فعالم المهن في المغرب هو، من دون شك، من الأجهزة الإجتماعية والحرفية والفنية الأنشط في العالم العربي؛ وقد كانت لي بعض المساعي والمحاولات لمعرفتهم ومعرفة أعمالهم، فتحققت حينها من صعوبة التوصل إلى معلومات تقنية حول ما كانوا يحسنون عمله في زخارفهم وأشغالهم. وهذا ما لم يكن غريبا عن عوالم الصناع في حضارات أخرى، فقد عرفت، من خلال دراساتي المطولة لعالم نقابات الصناع القدامى في القرون الوسطى، وفي فرنسا على سبيل المثال، أنهم كانوا يتبادلون الأسرار بالمعنى المهني فيما بينهم، بل ضمن العائلة الواحدة، بين الوالد وأبيه في الغالب. ثم ما لبثنا، في عهد لاحق في أوروبا، أن بدأ إصدار الكتب "العملية" المفيدة: لإي عمل الحداد، على سبيل المثال، أو الخزاف، أو المصور الزيتي وغيرهم. وهو ما نجده في ثقافات وكتابات أخرى، فيما لا نجده في لغتنا وثقافتنا حتى مطالع "عصر النهضة"، حيث بدأ بعض المترجمين العرب بترجمة مثل هذه الكتب إلى العربية، ولا سيما في الطب والجراحة والزراعة وصب الحديد وغيرها...
نحن لا نملك – وللأسف - دلائل حول كيف كان يعمل صناعنا في العهد قديم. هذا عائق عندنا، وهناك عائق آخر وأبعد وأعقد ويتناول المعنى المعرفي والحسي والفني للصورة: لما دخل الفن الأوروبي الحديث إلى بلادنا وثقافتنا وخطابنا لم تكن له لغة جاهزة لتستقبله، ولم يكن له نقاد لكي يستقبلوه. نحن شعب أقرب إلى الكلام واللغة، وإلى تصديق ما لا نراه وما لا نحسه أحياناً. بل أقول أكثر من ذلك: الرؤية البصرية ليست من العدة الأساسية لهذه الذائقة وخاصة أنه في الثقافة القديمة كانت الرؤية البصرية تقع في أدنى درجات المعرفة كما عند الغزالي على سبيل المثال. سنجد كتابات قديمة كثيرة تتحدث عن "أضاليل البصر"، لان البصر يغش في الرؤية ويوهم بالتالي. ففي العهد الإسلامي القديم كانت المعرفة تنبني على حسابات وسلَّم معرفي آخر، ويقع فيه الحس والرؤية البصرية في الرتبة الأدنى والأضعف. فيما نحن نعرف، في الثقافة الأوروبية، أـن ما يندرج في المساعي "الأبيريقية" (أو الاختبارية) يمهد للمعرفة، ومنها ما تفعله في الشئ وتجربه وتحسه، ما يؤدي إلى بناء شئ في العلم وفي الفن. هذا يعني أن هناك مساراً مختلفاً للصورة في الثقافة الأوروبية، وأنها كانت محل محل قيمة، فضلاً عن حسابات أخرى اجتماعية خصوصاً. وهكذا دخلت قيمة الصورة في مسار حضاري متقدم، أي جاءت قيمة الصورة في سياق البحث عن قيمة معرفية. وبهذا المعنى فإن للصورة في الثقافة الأوروبية نقاط ارتكاز في السوق والمدرسة والمجتمع كما في الفكر واللغة. وهو ما نراه في هذا الفكر الأوروبي المتوقد، منذ أربعة قرون على الأقل، حول الصورة والتبحر فيها وتجديد وسائل النظر إليها والتفكير فيها.
* هذا الاقتراب من الصورة نجده لدى المبدعين الذين يعتمدون الشعر كوسيلة للتعبير. فهم أقلام أقرب للصورة وهم أقرب "قبيلة ثقافية" للتشكيليين، بل وحتى على مستوى العلاقات الشخصية هناك أواصر وصداقات تجمع بين الشعراء والفنانين أكثر مما نصادفه بين هؤلاء وبين غيرهم ممن يتعاطون أنماطاً أدبية أخرى. إذ للشعراء – ليس كلهم طبعا - حساسية خاصة تجاه الصورة، بل هناك شعراء لهم محاولات في قراءة الصورة والنقد الفني، وأسماؤهم موجودة داخل هذه الدائرة الفنية عبر أدلة المعارض والكتابات وغيرها. أي فرضية نستند إليها؟ أهي تلك المتعلقة بطبيعة العلاقات الشخصية بين التشكيليين والشعراء؟ أم لأن في الشعر مقومات الصورة واللون والبنية؟
- هذا أُدرجه ضمن سياقين تفسيريين. السياق الأول ثقافي وتاريخي متأخر يعود إلى نشأة روابط بين التشكيليين والشعراء في هذا البلد أو ذاك، ولها تجليات وحكايات مختلفة. ولو أردت أن أؤِرخ لذلك سنجد أن مجموعات مثل مجموعة السرياليين في مصر بعد الحرب العالمية الثانية (جماعة "الفن والحرية")، أو "جماعة بغداد للفن الحديث"، أو جماعة 65 في المغرب وغيرها من التجارب العربية تندرج في ما يمكن أن نسميه بتلاقي مبدعين مختلفين ضمن هاجس الحداثة التعبيرية الجديدة. فقد كان هناك نوع من الاهتمام الحداثي يجمعهم، وكان له طابع إيديولوجي.
أما السياق الثاني - وهو الأهم، وعليه الاعتماد - فهو سياق جمالي على ما أعتقد؛ وهو أن بناء العمل الفني وبناء القصيدة يلتقيان - على اختلاف في مستويات التعبير - في كل من التجربتين، بخلاف ما هي عليه العلاقة بين التشكيل والمسرح والرواية وغيرها. فالقصيدة، في بنائها وفي ما ترسمه من فضاء حولها، تندرج في إطار جمالي وتعبيري على غرار العمل التشكيلي. ويمكن أن نذهب أبعد في هذا السياق: لو نتابع، على سبيل المثال، موجات الفنون التشكيلية بعد الحرب العامية الثانية، والتي عرفت صعود التجريدية بشكل قوي على الصعيد العالمي، سنجد أن هذه النزعة تبطل الموضوع التصويري بمعنى ما، وتجعل من أدوات الفن نفسها موضوعا للفن. فاللوحة في الفن الكلاسيكي هي موضوع قبل كل شئ، والشكل هو إطار الموضوع، وهو إطار الوجه أو إطار الجسم أو إطار الطاولة. أما في التصوير التجريدي، وفي تجارب أخرى كذلك، أصبح الشكل هو الموضوع. وبالتالي لو نقارن ذلك بتجارب الشعر الحديث ليس في بلادنا فقط بل في بلاد العالم، سنجد أيضاً أن العناية باتت تترطز في اللغة الشعرية وليس في الموضوع الشعري، وأصبحت هذه العناية هي "ماركة" الشاعر، أي ما يتميز به ويختلف به عن غيره.
ذات مرة قرأت في جريدة "ليبيراسيون" الفرنسية قولاً للروائية الفرنسية ناتالي ساروت أحب أن أستعيده: سألها الصحفي عن بعض مميزات "الرواية الجديدة" le nouveau roman ، التي تكتبها، مثل إلغاء الشخصيات، على سبيل المثال؛ فكان أن قالت له – بدل أن تتحدث عن تاريخ الرواية الحافل في أوروبا منذ سرفنتس على الأقل وحتى تجربتها: أما ذهبت إلى المعارض الفنية؟ أما رأيت أنه لم يعد هناك "موضوع"، بل بات اللون على سبيل المثال هو موضوع التصوير؟
ما يمكن أن أستخلصه هنا هو أن من يشتغل بالمعنى الجمالي والمعنى البنائي للقصيدة له أن يشتغل بالبناء الجمالي في اللوحة، لأن هذا يندرج في أساسيات هذه المقاربات. ومن يعود إلى كتابات الفلاسفة من هيغل إلى هايدغر وغيرهما، سيجد بأن هذه الشواغل كانت أساسية لأن الموضوع لا علاقة له بالرفقة أو الألفة، بل إن هذه التواشجات بين الشعر والتشكيل قائمة في طبيعة العمل، في كل منهما. للأسف في بلادنا - وبما أن فلسفة الفن وجماليته ليستا نشطتين إلى درجة كافية – لا يتم درس ولا ملاحظة هذه العلاقات بين التشكيل والشعر.
* أريد أن أتوقف عند مسألة التجريد وما قلته فيهعا، والتي سيكرس لها المعرض الوطني الكبير للفنون التشكيلية في المغرب دورته الثالثة تحت عنوان: "العودة إلى التشخيصية". وملاحظتي مفادها أن التأثير الذي خلفته مدارس الواقعية الاشتراكية في أوروبا الشرقية دفع بمسألة التشخيص إلى حدود البورباكاندا (أو الدعاية) السياسية، وإلى الوظيفة الإيديولوجية للفن، فأصبحت قضية المعنى متصلة بما يعرف بـ"الرسالة"، رسالة الفنان أو رسالة الفن. فترتب عن هذا الوضع رد فعل أدى إلى قطيعة أولها هروب عدد من الفنانين السوفييت إلى أوروبا، وثانيها ظهور اتجاه يناهض فكرة المعنى، ويناهض التعبير التشخيصي المكرس للدفاع عن السياسة السائدة حتى وإن كانت بروليتارية بالمعنى الستاليني، مقابل ظهور نزعة تجريدية لتدمير المعنى، وهي مناهضة مقاربة معينة للفن وللحياة. ويبدو لي أن هذا يظهر أيضا بكيفية مختلفة في الشعر من خلال تجارب تعمل على تدمير الموضوع من أجل اللاموضوع، وأصبحت بالتالي وسائط العمل هي الموضوع، ويمكن أن تكون اللغة، أو اللغة البصرية (التكوين، المادة، البناء...). هكذا أصبح تدمير المعنى، اليوم، هو معنى جديد للعمل الفني، وأصبحت مناهضة الموضوع موضوعاً جديداً للفن. لهذا تتعقد المسألة في أعين النقد الفني السطحي التبسيطي أو الإعلامي، ويستعصي عليه قراءة أو ولوج عمل فني تجريدي لا يحكي حكاية. ماذا تقول؟
- ثقافة الترويج الماركسية ليست سوى عامل واحد من بين عوامل التفسير. ذلك أن إلغاء الموضوع في التصوير وبروز التجريدية يعودان إلى ما قبل ذلك بكثير، في سياق تشكيلي أسميه أو أجده في طلبِ المباينة والاختلاف أساساً فنياً وجمالياً لقيام العمل الفني. هذا ما ننتبه إليه، على سبيل المثال، في التعبيرية الألمانية، في لوحة مونخ الشهيرة "الصرخة"، حيث أن لون الوجه فارق في هذه اللوحة لونه الطبيعي، بل أصبح لونا أخضر. في هذا حصلت لحظة افتراق فظيع في تاريخ الفن: اللون لم يعد صفة الشئ بل أصبح هو الشئ نفسه.
هذا يدعونا للرجوع إلى التجربة السريالية، وإلى رؤيتها بطريقة مختلفة عنما روجه السرياليون أنفسهم عنها، إذ أن لوحتهم قامت واقعاً على تفكيك الموضوع؛ ولم يعد المشهد أو الوضعية الإنسانية التي يصورونها، تناسب واقعاً نحن نعرفه. هناك إذن سياق تاريخي وتشكيلي واسع مثل التيار الجارف هو الذي يفسر انبثاق التجريدية وغيرها.
أما في ما يخص المغرب فقد تناولته في كتابي الأخير: "العين واللوحة"، الصادر عن "المركز الثقافي العربي"، وأفسر فيه ظاهرة بروز التجريدية في المغرب، وأنسبها إلى عناصر تفسير متعددة، منها: تأثر فنانين مغاربة وتنبههم إلى تغير المشهد التشكيلي في أروبا وأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. أقول إن هؤلاء الفنانين المغاربة أدركوا أن الفن يتغير... فيما كان فنانون وطلاب عرب آخرون، في سنوات سابقة أو مزامنة، حين درسوا في أوروبا، كانوا ينتسبون إلى مواقع ومنظورات كلاسيكية في التصوير، وكانوا يتقيدون بما كانوا يتعلمونه من أصول أكاديمية محافظة في مدارسهم. فيما الفنانون المغاربة انتبهوا أكثر إلى ما يجري في المحترف وقبل الأكاديمية، وهذه شهادة فيهم.
أما السبب الثاني فهو وجود مناعة متأصلة في المغرب ضد الفن التشبيهي؛ مناعة لا تزال قوية في المخزون المغربي المالكي تجاه مسألة الصورة. وأضيف إلى ذلك ملاحظة أخرى شدت انتباهي في المغرب قبل سنوات وتتصل بالمشهد الطبيعي: لا أريد أن أميز بلدكم وبلدي، لبنان، عن عن بقية البلدان العربية، ولكن للواقع أن المغرب ولبنان يمتازان بطبيعة جميلة ومتنوعة من أعالي الجبال الثلجية إلى الشواطئ الزرقاء. في لبنان مدرسة تشكيلية نطلق عليها تسمية "مدرسة المنظر"، أو "فن المنظر" (l’école du paysage ). أساتذة ورواد التصوير في لبنان هم قبل كل شئ أساتذة المنظر، فيما نحن لا نعرف في التصوير المغربي الحديث أساتذة منظر؛ ما نعرفه هو بعض الصور عند أحمد بنيسف وحسن الكلاوي والتي تنتسب خصوصاً إلى الأسلوب الإستشراقي الممغرب. وهناك فن منظر متخيل عند بعض الفنانين الفطريين، أما غالب الفنانين المغاربة فلم يقتربوا من فن المنظر. هذا من باب الكلام حول كيف أن الفن يعيش في بلد وفي ثقافة وفق مخزون وأساليب تاريخية هي التي تحدد بالتالي خيارات فنانيه ووجهات عملهم وأساليبهم.
وهذا ما يمكن قوله في صعوبة ميلاد النحت في المغرب كذلك.
* هذا تحليل ينبني على مقاربة تاريخية في تفسير العزوف عن التشخيصية أو التشبيهية، لكن كيف لنا أن نفهم هذا النوع من العودة إلى التشخيصية سواء بطريقة كلية او بطريقة جزئية. نحن هنا لا نقَيّم التشخيصية أو التجريدية في ذاتهما، ولا نصدر أحكام قيمة جاهزة، لأن تقييمهما راجع لمدى الجودة والإبداع في كلا النمطين من التعبير. نحن لا نعرف هل الرجوع إلى التشخيصية يعود إلى اعتبارات السوق الفنية أم هو تأثير صرعة وتقليعة فنية، أم أملته منهجيات ومسار البحث لدى الفنانين؟ إنها ظاهرة ناقصة التحليل.
- ذكرني رأيك بدراسة كتبتها قبل سنوات عن الفنان الراحل محمد القاسمي حيث أرّخْتُ تحول عمله السابق إلى عمل يتوسل الجسد صورة في أعماله. وقتها كانت الدراسة تشير إليه وإلى فنانين عرب آخرين خارج المغرب انتقلوا بدورهم إلى الضفة الأخرى. هذا الإنتقال يتزايد، وأنا ليس لي أن أحكم أو أن أفضل هذا الإتجاه أوذاك. أنا أدرس وحسب؛ ولو سألتني عن خياراتي إن أردت أن أقتني عماً فنياً فذلك أمر آخر. أما في الدرس فأنا أتعامل مع ما هو قائم. وعليه أعتقد أن الفنون التشكيلية منذ عقود قليلة انتقلت من حيث تدري أو لا تدري إلى لحظة أخرى لم تعد فيها العلاقة بين الفن والمعنى إلزامية. نحن عشنا مائة سنة وأكثر حول أن العمل الفني يتغير في أسلوب جديد ومدرسة جديدة بناء لخيارات نظرية وفلسفية، مثل "موت الفن" وغيرها من النزعات. لكن هناك قسم من التجارب أريد أن أدلل عليه، بعد أن أصبح يتعامل وفق منطق السوق. وهذا ليس من قبيل الوصف التقبيحي، إذ لا أقصد فقط بالسوق المقتني أو الشاري، بل من لهم قرارات مثل القيمين على المعارض الدولية والبيينالات والمتاحف، وكل من لهم تأثير في الأحداث التشكيلية الأساسية ومن لهم تأثير بالتالي في رواج الأعمال بالسوق الفنية وأروقتها. في هذا السياق حين نتحدث عن السوق، فنحن نتحدث عن سوق واحدة في العالم. هذا ما يمكن أن نلاحظه من خلال مشاركات فنانين عرب في هذه البيينالي أو في هذه المسابقة الدولية أو غيرها. هناك حركة متزايدة للفنانين وتتفاعل وفق تطلبات السوق، وأصبح الفنان يطلب أن يندرج فيها. لكي يكون حاضرا لا يمكنه أن يندرج في تعارض مع السوق. سبق لي أن ترأست لجان تحكيم في بعض البيينالات فلاحظت في السنوات الأخيرة انتقال فنانين عرب إلى تجارب التعبيرات الفنية الجديدة من نوع التنصيبات والبيرفورمانس وغيرها، لأن هذا هو المطلوب في "الدوكيمانتا" في ألمانيا وغي بينالي البندقية بإيطاليا وفي بينالي الشارقة والقاهرة وفي عدد آخر من دورات التداول الأساسية في العالم. وهي الدورات التي تعطي للسوق القيمة والرواج. وبالتالي ثمة أعداد من الفنانين العرب يغيرون مواقعهم وأساليبهم تبعا لهذه التغيرات التي تجري في السوق.
كل هذا له مشاكل أخرى ربما لا ننتبه إليها كفاية، ولا ندرسها كفاية. ففي بلد مثل إيطاليا - ولها مخزون كبير من أنواع فنون التصوير والتصميم - يمكن أن تعرض أعمال جديدة، وهناك أروقة تعمل على عرض أنماط جديدة في التشكيل\، أما في بلادنا فسأسمح لنفسي أن أعبر عن فنانين عرب كثيرين يقولون لي: أين نعرض أعمالا جديدة؟ في أي مسابقة دولية لنا الحق أن نشارك فيها؟ عدد كبير من الفنانين العرب لا يتمكنون من المشاركة في مسابقة تشكيلية دولية واحدة، اليوم، لأن مقاييس المشاركة تمنع كل الممارسات التشكيلية "الكلاسيكية".
* بل حتى الفنانون الذين يتعاطون لممارسات تشكيلية غير "كلاسيكية" يتعرضون لنفس الإقصاء من طرف مفوضي هذه المنتديات. وإذا ما كان لهذه الملتقيات الفنية الدولية الحق في تقديم النوع الفني الذي تفضل، فإن علينا أن نبحث عن موقع ومكان داخل هذه الشبكة الدولية، إذ ليس ثمة من سبيل آخر يمكننا من تقديم صورتنا الحقيقية عن أنفسنا بأنفسنا. فيوما عن يوم نجد صورتنا داخل قنوات العولمة على شكل كائنات تقع خارج التاريخ يرسمون بطريقة فطرية وكأن الحداثة حكر على الغرب وأمريكا. هذا المشكل يقع في غالب الأحيان على كاهل الفنان، وكل فنان يحله بطرقته الخاصة، وأحيانا على حساب كرامتنا جميعا. لكن هناك بعد سياسي لهذا المشكل، أليس كذلك؟
- طبعاً. ما تقول يحيل إلى مشاكل عديدة. أذكر بعضا منها على عجل: إن جانباً كبيراً من هذه الأعمال لا تقوم له قائمة إن لم تدعمه حكومة أو بلدية أو جهة معينة، وهي تبطل بالتالي أحد الأوجه الأساسية لنجاح اللوحة، وهي أن المقتني يقبل عليها وأن الفنان لم يعد عاملاً أو صانعاً عند الحاكم أو الأمير أو الكنيسة، وهذا مكسب أساسي للفن وللفنانين ليس بالمعنى الاقتصادي فحسب بل بالمعنى الفني أيضاً، أي حرية الفنان، حيث أصبح يملك قراره الفني. أما المسألة الثانية فهي أن ملكية العمل الفني غدت عنصراً أساسياً في رفع قيمته، وإلا كيف نفسر مصير لوحات فان كوخ الذي لم ينجح في حياته في بيع لوحة واحدة. إذن هناك أشياء تقع في التداول هي التي أعطت الفن هذه القيمة بكل معانيها المالية والرمزية والثقافية. أين ستتحول هذه القيمة إن لم تكن هذه الأعمال معروضة للبيع؟ فالرأسمال يبحث دوماً – وعلى ما نعرف - عن مجالات استثمار، ومنها اللوحة وغيرها، فإن لم يجده هنا هل سيجدها في سلع ومقتنيات أخرى؟
المشكلة في بلادنا أن الفن الحديث له حضور، وله فنانون قديرون، وله من يهتم به رغم عمره القصير؛ فهو يحتل مكاناً مقبولاً لكنه لم يستقر بعد بالمعنى الفني والجمالي. ما يحدث اليوم بسبب عوامل اقتصادية وسياسية عالمية عديدة يجعل الحركة تتركز في عدد من المدن في العالم، في عدد من صالات العرض والمباريات الدولية، وبالتالي فإن الحركة متجهة أكثر إلى هذه المواقع في العالم. وحيث لا تتوفر في بلادنا بعد لا متاحف ولا صالات عرض ولا مقتنون بالعدد الكافي، ستصبح حركة الهجرة باتجاه هذه المواقع أقوى. وما لاحظته في دراساتي ذات مرة هو كيف كان حلم عدد من الفنانين العرب الأوائل الذين تخرجوا من روما ومدريد أو باريس أو براغ وغيرها، يتمثل في العودة إلى بلدانهم: هذا يصح في الشرقاوي وجواد سليم وصليبا الدويهي ومحمود مختار وغيرهم؛ عادوا إلي بلدانهم فنانين ومدرسين ونقاداً وأحدثوا ما أحدثوه. إلا أن الأمور تحولت في العقود الأخيرة: نجد أن طلاباً كثيرين في الفن بقوا حيث درسوا، ويعملون الآن في دنيا الله الواسعة. وهذا ما يصح في فنانين عرب عادوا إلى بلدانهم ثم تركوها ثانية، وعادوا إلى حيث كانوا يدرسون ويعملون. هذا يعني أن الفن الحديث لم يتوطن بالشكل الكافي والمقنع في بلادنا.
وفي ذات الوقت أقول أيضا إن هذه التموجات القوية في سوق الفن، توحد العالم، أي تركزه في عدد معين من المواقع والمنتديات، بحيث تصبح هي المبتغى وهي ترسم وجهة الفنانين. وهو أمر علينا نحن أن نحسن الإجابة عليه، بمعنى أن ثقافة الصورة لم تتوطن في بلادنا. والسؤال اليوم هو كيف لنا أن نوطن الصورة من خلال كل مؤسسات الفن ومن خلال كل ما يؤطر الذائقة الفنية ببلادنا.
(مجلة "زنار" الفصلية، عدد 2، الدار البيضاء، 2007)