مع حسونة المصباحي : الشعر ليس بندقية ولا مساعداً اجتماعياً

 

شربل داغر من هذا الجيل من الشعراء الذي لا يريد أن يخوض النقاش في طريقة كتابة القصيدة، بل يريد أن يكتب، وهو في انفعال يومي مع الحياة والأحداث، ومع نفسه.
إنّه من جيل الفعل، ولا جيل الكلام والثرثرة والمزايدات. جيل المغامرة، ولا جيل الخوف والتردّد والهروب.
هذا الجيل الذي بدأ مع السياب وراح ينمو في وطننا العربي قاسياً ووحشياً، وهو في إنطلاقته نحو عالم أكثر رحابة يريد أن يضع قدر أمّته بعيداً عن أولئك الذين وضعوا في فمها الحنظل، وعلّقوا في رقبتها الحبل، وقادوها فوق الشوك والجمر.
إنّ شربل داغر فتى شرس، أصيل من جبال لبنان، وهو يعيش الآن في باريس ويخوض مغامرة الكتابة عنيفاً متمرّداًً على هذه الرداءة التي تملأ حياتنا.
صدر له ديوان عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" بعنوان "فتات البياض" خلال الأشهر الأخيرة.
التقيناه أخيراً وكان لنا معه الحوار التالي:
* يقال إنّ جنون الشعر يبدأ مع الطفولة. أهذا مناسب لك؟
- قد لا أجد، فيما لو أردت أو سعيت، أصلاً أو مرجعاً في طفولتي، أو بعدها مباشرة، يفسّر أو يبرّر ارتباطي بالشعر. إنّ كتابتي للشعر، أو لغيره من الممارسات الإبداعية راهناً، لا تأتي تتمّة أو نتيجة لوضع أوّلي ألتقي فيه ببدايات هوسي الشعري. كما إنّني لن أحاول أن أعيد صياغة حياتي تبعاً ووفقاً لما صرته الآن، لا حبّاً بالأمانة وحسب بل لخوفي العميق بأنّني قد أكون – وأنا كذلك – مرشحاً لتبدّلات وتغيّرات قد تعيد قلب أو تعديل تلك الصياغة.
إلاّ أنّني قد أجد صوراً قديمة بعيدة، مشوّشة غير ملوّنة أحياناً، تعود بي إلى حالات–أوضاع قد تجد في نسق أقدّمه وأوفره أنا الآن لها، ما قد يضبط حركتها، ويفسر بالتالي صلتي التي انعقدت بأنواع الإبداع المتخلّفة، على تنقّلاتي فيها واستقراري "المؤقّت" (؟) أو الملتبس في دائرة الشعر راهناً.
فأنا صاحب الرقم 10 في عائلة كبيرة عانيت، كما تتبدّى لي وتتجهّز بالدلالات بعض مشاهد من طفولتي غير مكتملة في ذاكرتي، صمتاً في البيت، بما يفترضه ذلك من إهمال وبما يستثيره من وحدة تفرخ وتلتقي في الأحلام والرؤى والأخيلة. صمت في البيت (إهمال وأحلام...) وتوق للحوار كنت أنشده مع رفاق قريتي حينما كنت أجتمع بهم فوق صخرة في كرم العنب، راوياً للحكايات والقصص الشعبية، أو لقصص الأفلام التي كنت أشاهدها في الشتاء ببيروت، بعد استقرار عائلتي في العاصمة.
قد أجد في هذه الطفولة الصامتة–الحالمة، في نقص الحوار والشغف برواية القصص (بما يستلزمه طبعاً، حتى في سنّ مبكرة، من "تفنّن" و"تشويق" في السرد، عندما كان يقع "البطل" في الأسر، وقد كان يقع في كلّ القصص) الصلات الأولى بالأدب.
منذ الثالثة عشرة من عمري أستطيع أن أجد الأدب والفنون، بتوزّع والتباس ما عثرت على تفسير مقنع لهما، عنصراً ثابتاً ومرافقاً، وموجّهاً أحياناً لأحداث حياتي. فمنذ الثالثة عشرة بتّ مولعاً باللغات: الفرنسية، الإنكليزية، اللاتينية، والسريانية والعربية طبعاً، وهي اللغات التي كان على الطالب، الذي يستعدّ للدخول إلى سلك الرهبنة، تعلّمها... وهي كانت حالتي حتى سنّ السادسة عشرة. إلى ولعي باللغات، والقراءة طبعاً (قراءة القصص والروايات وخلافها، ولا سيما جبران)، بتّ أتمرّس بكتابة النصوص المسرحية، ذات الموضوع الديني التوارتي (وبتمثيلها أحياناً)، وعرف عنّي حسن قراءتي للشعر (حيث حصلت على حوائز إلقاء الشعر). في ذات الوقت تعلّمت أصول الموسيقى (ترتيلاً وعزفاً على البيانو) والإنشاد (الصلوات والأناشيد الكنسية الطقوسية) بالإضافة إلى ممارستي لفني الرسم والتصوير الزيتي.
إذا ما كانت إقامتي المؤقتة في الدير وفرت لي جوّاً استثار في اهتمامات متعدّدة، فنية وأدبية، فإنّ عدداً من هذه الاهتمامات سيلازمني، إثر خروجي من الدير، كهمّ وذوق دون أن أتمكّن، لمصاعب مادية، من مزاولتها وممارستي. فما كان ممكناً الاستمرار في الرسم والموسيقى... إنّ هذا العامل قد يفسّر، بالإضافة إلى عوامل أخرى، التحاقي التدريجي والتصاعدي بالشعر وبالمسرح. وفي صيف 1971 نشرت في "الملحق" الأدبي لجريدة "النهار" اللبنانية أولى قصائدي (وقد كانت قصيدة نثرية) وبعدها في مجلة "مواقف" إلى أن نشرت ديواني "فتات البياض".
إنّ هذه المسيرة المتعرّجة لا تعكس فقط تعلّقاً بممارسات أدبية وفنية متخالفة، بل تفسّر أيضاً قسماً من كتابتي التي تتأرجح أصلاً بين الأنواع الأدبية، مستفيدة في ذات الوقت من إمكانات التشكيل البصري (...).
إنّ حاجتي للحوار هي التي قد تفسّر بدايات هوسي بالشعر وغيره، كما إن تنقّلاتي بين الأنواع تجعلني أتّجه لبلورة وممارسة كتابة تختلط وتلتبس فيها حدود الأنواع والأغراض.
* كيف تحدّد القصيدة التي تكتبها في خارطة الشعر العربي الحديث؟
- إجابتي على هذا السؤال ستكون سلبية، أي أنّ الإيجابي فيها قائم في ما تنفيه. فأنا لن أحدّد كتابتي الشعرية إلاّ عبر نقدي لمظاهر وأعراض القصيدة العربية الحديثة. وبين "القصائد–الضحايا" (ضحايا نقدي طبعاً) قد يتراءى دمي، دمي النافر والموار.
القصيدة العربية تتّجه في مسارها الخاص إلى ما يمكن أن أسمّيه بـ "القصيدة–الرؤيا". فبعد أنماط مختلفة من الوحدة في القصيدة الكلاسيكية (وحدة البيت، القصيدة الموحّدة لآداء غرض: المدح، الهجاء..) توصّلت قصيدتنا إلى بناء "وحدة الموضوع"، أي إلى ما سمّاه نقدنا نقلاً عن الناقد الإنكليزي كولريدج بـ "الوحدة العضوية" للقصيدة.
إنّ مفهوم الوحدة قائم عميقاً على علاقة بين نصّ وبين أصل، هو الواقع. أي أنّ طموح النصّ هو "محاكاة" الواقع أو الإفشاء بمدلولاته، محدودة أو كثيرة. ضدّ مفهوم الوحدة هذه أبحث عن نصّ يتكاثر على أن تتعدّد مداخله وأصواته، وأن تغيب فيه مراجعه الأصلية.
أي بدل أن تبحث القصيدة عن موضوعها عبر التقاط دلالاته وكتابتها، أبحث عن نصّ "يكتشف" معناه في احتمالات الكلمات، في علاقة غير محسوبة سلفاً تلعب المصادفة (وهي الاسم الآخر لللاوعي بمحموله الفردي والاجتماعي) فيها دورها جنباً إلى جنب مع مدلولات النص التاريخية.
أنا لا أكتب قصيدة، طالما أنّ القصيدة تفترض نوعاً من النظم الإيقاعي المتّصل أو المتقطّع، وهذا ما لا يتوفّر في شعري ولا أبحث عنه. أكتب بالأحرى نصوصاً يتدخّل فيها السردي (بعد أن أهمل وطرد من خانة الشعر عندنا)، أي نصوصاً تنفتح على نثرية وسردية التاريخ.
النص الكتابي عندي ليس نشيداً غنائياً بعواطف مضخّمة. فقد قرفت حقاً من "تدفّق" العواطف والأحاسيس في شعرنا؛ أبحث عن نصوص فردية، ولكن غير شخصية، ناشفة، باردة، باحثة عن معان–أشكال فيما يتخطّى "التأطير" السياسي أو الإيديولوجي (بالمعنى المذهبي) لها، أي بحثاً عن عمقية وتاريخية المعنى.
هرباً من القصيدة الكلية (التي لا تنتج إلاّ قصائد ذات موضوعات "عامة": كالانبعاث القومي مثلاً) أبحث عن نصوص ترصد التفاصيل دون أن تشدّها إلى التعبير عن موضوعات عامة، بل عن تفصيليتها الغنية والعميقة.
* ألا ترى أنّ الشعر في وطننا العربي أصبح ذيلاً للسياسة.، أي أنّه يتابع الأحداث اليومية وينقد بشكل سطحي السياسات القائمة دون الاهتمام بالتاريخ بمفهومه الشامل وبالرواية الحضارية التي نحن في أمسّ الحاجة إليها؟
- الشعر ليس بندقية لمعركة ولا "مساعداً" اجتماعياً على "هضم" الأزمات. إنّه ذلك "الشيء" الملازم للإنسان فيما يتعدّى صمته وموته. ليس هذا بأيّ حال تعريفاً للشعر، بل محاولة للتخلّص من الإجابة عن ماهية الشعر.
إلاّ أنّ السياسة لا تختصر الشعر، وليست مخزن موضوعاته الوحيد. حلِمنا بدور "فعّال" و"مؤثّر" للشعر في أيام من "الصعود القومي" راجت فيها أدبيات "إيديولوجية المعركة". انتهت المعركة وما وجد الشعر الذي هلّل وأنشد للمعركة إلاّ الخسارة والهزائم، من جهة، وضعف بنائه الشعري، من جهة ثانية.
لا نستطيع الإفلات من السياسي لا لأنّه خيط (بين جملة خيوط) في النسيج الشعري، بل لأنّنا نعيش في مجتمعات تابعة محكومة بإنتاج تحرّرها المزدوج: تحرّرها السياسي، والاقتصادي وتحرّرها أيضاً في صياغة تملكها لتاريخها الخاص والمميّز لذاتها الحضارية. ولكن بين أن يكون "السياسي" في القصيدة حبلاً يأسر جميع احتمالات القصيدة فيحدّها ويحدّد ظرفيتها الزمنية والحديثة، وبين أن يكون مناخاً عاماً نتنفّسه في القصيدة (أي أن لا يكون شعارات)، بين الحالتين المذكورتين مسافة هي مسافة ما أبحث عنه في الكتابة، أنا وغيري بالطبع.
(مجلة "الدستور"، لندن، 1982).