* شربل داغر لماذا تكتب الشعر؟
- لأنتظم في عالم أشعر أنّه يفلت منّي كلّما حاولت السكن في مداه.
* يعني أنّك تبحث عن الاطمئنان؟
- لا، عندئذ تصبح الكتابة عملاً متقاعداً بينما أكتب لأعطي مجالي العبثي صورة على شاكلتي.
* كيف؟
- أبني مساحة العيش على صورة مساحات وتصوّرات، قصيدتي رحيل جسدي على البياض لا ينتهي. كما البحر، كما البيدر.
* سأسأل مجدّداً: كيف؟
- من يكتب قصّة أو رواية قد لا يحتاج إلى حالة جسدية معيّنة. فيما تسبق كتابة الشعر وترافقها حالات جسدية هي المعادلة الحيّة لإيقاعات القصيدة. ماذا إذا قلت لك قماش قصيدتي عصب جسدي؟ كما أعرف الطرب عند النهاية ومع استرخاء آخر العبارات. فالجسد في القصيدة نبر صوتي قد يتّخذ شكل التهدّجات إلى أن يسلس أو يتقطّع في إيقاع خاص.
* ألذلك علاقة بطرق شربل داغر في كتابة قصيدته؟
- كنت في مرحلة سابقة أتهدّج بالقصيدة، أو الأحرى بأسطرها، بحيث يتوالى تأليفها مراراً وتكراراً إلى أن أنقلها إلى ورقة بيضاء.
إلاّ أنّني منذ سنوات صرت أفضّل استحضار القصيدة فوق الورق مباشرة. الورقة البيضاء تصير مساحة مساحات، لقياسات، أبعاداً أصداء، تصير خشبة مسرحية فوقها أخيلة وأشباح سوداء وأصوات مختلطة. أختار في غالب الأحيان ورقاً خشناً للكتابة. بحيث تواجه يدي صعوبة فلا تنزلق مستسلمة بدون ارتعاشات جسدية. وأختار أقلام ذات ألوان واضحة بارزة بحيث اتحقّق دوماً من أنّ الألفاظ تحفر مجالها وبنائها المعماري الخاص.
* أهناك فضاء خاص بشربل داغر؟
- تجربتي قصيرة ومتقلّبة ولا تساعدني على الجواب. ولكن أهناك كتابة مهما كانت لا تخطّ بذاتها وفي ذاتها فضاءها الخاص؟
* ألهذا أطلقت على مجموعتك الشعرية الأولى عنوان "فتات البياض"؟
- لا أرى في قصائدي سوى ذاتي مجرّحة بزجاج الأوهام المتكسّرة، ومفتوحة على الاسئلة بعد أن أصابتها الحكمة مبكرة. أنا جيل هرم ضجرت وقرفت ويئست من المعاني والموضوعات والقضايا "الكبرى" بحيث جعلت من اللغة حلبة الحوار الوحيدة مع العالم الخارجي، أي عزلة واختناق وفتات بياض.
* تتكلّم على شربل داغر الشاعر ولكنّك تقول في إهداء "فتات البياض": "إلى شربل: حتى لا يصير شاعراً..."
- لأنّني أخاف من الشعر فهو لا يقوم إلاّ بالتورّط.
* أيّ ورطة أنزلك "فتات البياض"؟
- ورطة اللغة. اللغة هي موضوعة نصّ "فتات البياض"، حيث يواجه الشاعر محن الكتابة، ويقفل النصّ على لا جدوى الكتابة، أو مأزقيتها. هل اللغة توصل نبر الجسد؟ أهي تبثّ ارتعاشاته؟ أم أنّها توضبها وتضبطها وتنظّمها بحيث تفتقد بعضاً من شحنتها الأصلية؟ أي هوس، أي غواية تجعلنا نتورّط في كتابة الشعر؟
* ألهذا نحلم بصمت أرثور رامبو؟
- اللغة موضوع التساؤل، بحروفها وباعتباطية إشاراتها، وبقدر ما تؤدّي إلى لا جدوى المحاولة الكتابية، إلى عبثيتها، إلى مجانيتها، وإلى العيش في دائرة المحير. أضع غالبية نصوص "فتات البياض" تحت دائرة السؤال، السؤال التشاؤمي، حتى أنّ عدداً من هذه النصوص ينتهي بأسئلة. نصوص بدون حكمة مغلقة، بدون نهايات احتفالية –انتصارية، بدون موضوع شعري مكتمل ومستنفد. أي انّها نصوص تعاكس المعنى الذي يتطوّر، يتصاعد، وينتهي. نصوص السؤال الوجودي المحيّر، التي تشي بانحدار الكلمات والتعابير صوب قرار الصمت.
* ألدى مؤلّف "فتات البياض" ما يشبه المشروع الشعري؟
- أهناك كتابة بدون مشروع يرافقها أو يساندها؟ غير أنّني أفضّل الكلام على طموحي الشكلي في هذا الكتاب. كثيرون من الشعراء، منذ السبعينات تحديداً، قالوا بضرورة إمحاء الحدود الفاصلة للأنواع الأدبية المختلفة، من دون أن يحقّق ذلك أحد منهم.
* إذن... فطموحاتك الوصول إلى أدب بدون...
- ... إنّ حالات الكتابة متخالفة متقلّبة متناقضة بحيث يأتي أيّ تعبير عنها وفي نوع أدبي واحد ناقصاً أو قامعاً لتشكلاتها الممكنة. أطمح إلى "كتابة متعدّدة" يحضر النصّ فيها كمساحة للتأليف، للتأليف بين مراجع متعدّدة ومتراكبة من تاريخية وذاتية وشعرية في نسق كتابي متحوّل أبداً. هكذا تستفيد نصوص "فتات البياض" من أساليب عدّة تحضر فيها، منها: اللقطة، الحكاية، الحوار... وأنا لا أقصد تنويع الكتابة أو تفتيتها، فالكتابة تأتيني في تقلّبات وهزّات تستلزم صعوداً أو نزولاً، خفوتاً أو صراخاً، محاورة أو نشيّداً، التقاطاً أو تفجيراً. وبذلك ندخل مساحات الضمير المنتمي إلى عصر ليس أبداً كبقية العصور.
* أهو شكل ممكنن؟ أهناك صدى للآلة في صياغات "فتاتك"؟
- أفي الإمكان أن لا نقرّ بـ"عالمية" هذا العالم؟ بأنّنا مأسورون ومتعالقون فيه؟ بأنّ إيقاعات الجاز تتمدّد في أداء الدبكة؟ وبأنّ المزارع في بيئتنا يتفاعل بالضرورة مع التقنيات الجديدة أكثر ممّا تتفاعل القصيدة المعاصرة معها؟ فشكل النصوص التي أكتبها "ممكنن" في معنى أنّه يعايش إيقاعات العصر. هو شكل "مشغول" أيضاً في معنى أنّه يخضع قبل أن يستقرّ في صورة نهائية لعمليات عدّة. وشكل "متعدّد"، انتقالاته سريعة ومداخله عديدة، ما يؤدّي بنا إلى مناقشة مسألة الإيقاع في النصّ.
* أين الإيقاع في "فتات البياض"؟
- نصوصه تنتسب إلى أنماط إيقاعية مختلفة، بعضها غائب وبعضها موجود. حين يحضر الإيقاع يتّخذ مبدأ التكرار أو الترداد عبر استعادة مطالع الجمل أو مداراتها. كما يتّخذ الإيقاع أحياناً أخرى سمة البحث أو التأليف بين متشابهات صوتية معنوية. إلاّ أنّ الإيقاع يبقى غائباً عن مواقع أخرى من "فتات البياض".
* أين يدور الشعر عندئذٍ؟ أتظنّ أنّ هناك معنى أساسياً للإيقاع في حضور الشعر؟
- لا وجود للإيقاع في عديد من قصائد النثر العربي، ولا للداخلي منه، وليس في ذلك أيّ حرج. فالبعض من منظري الإيقاع الداخلي ما زالوا مصابين بعقدة الوزن، بعقدة الرهبة، أمام ما يتلقّونه حول ضرورة وجود التلازم بين الوزن والشعر، فيغطّون كلّ قصائد النثر العربي بغطاء الإيقاع الداخلي.
* أحب الحصول على جواب أكثر ارتباطاً بتجربتك الشخصية.
- الإيقاع غناء الكلام وتعبه أيضاً. هكذا الإيقاع في نصوصي. فأنا لا أطيق الغناء الأوبرالي، وأفضّل تأتأة الصوت، تلعثمه، ارتباكه، خربشته أو طنينه فوق مدار الأذن على أن يظلّ متتالياً وخالصاً ورتيباً واصطناعياً.
* ماذا عن العين الشعرية؟
- طربها بصري، ولذا علاقتها بالشعر مبنية على قماشة القصيدة، على صياغة جسم القصيدة تشكيلياً، على انتماء الشاعر إلى مساحة ورقته، كأنّ انتماء الشاعر هو يحدّد انتماء القارئ، بل لماذا لا نقبل بأنّ الشاعر يبتدع قارئه مع تصوّر تكاوين كتابته؟
* فأيّ مساحة مساحة قصيدتك؟
- انتقال الشعر من البلاطات والساحات العامة إلى الغرف المغلقة وطاولات القراءة رافقه الانتقال من نمط إنتاجي إلى نمط إنتاجي آخر. فلنقل إنّه انتقل من الحرفي واليدوي والزراعي والتجاري المغلق والمكتفي إلى الصناعي والاستهلاكي والموحّد للعالم كلّه. ورافق هذا التحوّل انتباه الشاعر لـ "بصرية" القصيدة، أي توزّعها فوق مساحة ما. صار الشاعر يكتشف عملياً جمالية تشكيل القصيدة طباعياً حتى أنّه وقع لغياب الوعي النظري والبصري أسير الزخرفية والتزويقية مذكراً بألاعيب شعراء الانحطاط.
* أيكفي استعمال المساحة "حديثاً" لكي تكون القصيدة حديثة؟
- بعض الشعراء الحديثين يتحدّثون عن وحدة الآداب والفنون دون أن يقرأوا لوحة حديثة واحدة، دون أن يواكبوا مسيرة فنوننا التشكيلية. وحين يكتبون قصائدهم لا يفكّرون مطلقاً في مسألة أنّها لن تصدر إلاّ فوق ورق المطابع وبالحبر الصناعي. يكتبون كأنّهم يخطبون أو يرتجلون وبعقلية النمط الحرفي. وهم يتعاملون كذلك مع المساحة البيضاء، أي من زاوية كون المساحة البيضاء باتت لازمة مثلما كانت لازمة في الشعر العمودي. فالبياض الطباعي الذي كأنّه الذاكرة البصرية للبياض الكتابي الحرفي هو السمة الخارجية لغالبية شعرنا الحديث. أضف حضور الفنون البصرية بيننا وتاثيرها المباشر في ثقافتنا. حضارتنا ما عادت قولية بل كتابية ولم تبق استبطاناً تأملياً للعالم بل رؤية بصرية له.
* تهمّنا معرفة معنى المساحة البيضاء في "فتات البياض".
- التشكيل عندي توليد الحساسية الضوئية في الشعر. أنا شاعر "رؤية" ولست شاعر "رؤيا". ألهذا أحب شاعراً كابن الرومي؟ فالشاعر العربي يجانب عادة العالم الخارجي، فلا يتعرف مواده وأحجامه وأشكاله. ألهذا أحبّ شعر عباس بيضون؟ إنّني أعمل لامحاء هذه العلامات بحيث تولد كلّ قصيدة شكلها الخاص. فالبياض الطباعي القديم أو الحديث هو بياض زخرفي ووظائفي، وأمّا البياض الذي أبحث عنه فهو بياض يسرب ما لا تقوله العبارات، أو ما لا تريد قوله. هو بياض حرية التأليف وحرية قراءة القارئ للنصّ.
* إذن "فتات البياض" تعني فتات الحريات؟
- ألا تظنّ مثلي أنّ الفعل الكتابي هو تحديداً إعلان الحرية على المجتمع. أنت تكتب إذن فأنت تعطي البياض صورة كمن يتغلّب على الفراغ بدلالات الضمير. إنّني في هذا العالم أعايش عصري أتّصل وأطلع على إبداعاته المختلفة. وأنّني بقدر ما أحضر في هذا العالم، لا بالانكفاء عنه، أثبت وأختبر فرادتي وتميّزي.
* ولكنّك شاعر بين شعراء، لبناني بين لبنانيين، عربي بين عرب؟
- قد تتجاوب نصوصي مع تجارب شعرية أخرى في لبنان كما في تونس والعراق والمغرب، إلاّ أنّ هذا التجاوب لا يعدو كونه اشتراكاً في التململ والتخلّص من قصيدة "الرواد" واشتراكاً في الكتابة تحت راية التجريب. كما انّ العالم بات موحّداً حتى الاختناق ومتبسراً حتى حدود المعرفة القصوى، بحيث يبدو غير دقيق الكلام قصيدة مستغربة وأخرى مستعربة. وهو على كلّ حال كلام إيديولوجي اتّهامي، أي لا يتّسم بأيّ معرفة كانت. فالذين يهاجمون قصيدة النثر أو غيرها من تجارب الكتابة العربية الحديثة لا يتضايقون مطلقاً من أنّهم يستوردون حتى الأقلام والأوراق التي يصوغون بها وعليها حتى هذه الاتهامات. فنحن من هذا العالم وفيه والتحصّن خلف مواقف اتّهامية لا يصدر إلاّ عن مواقع.
(جريدة "النهار"، بيروت، 18 تشرين الأول-أكتوبر 1981).