مع حسن عصام: تركت لبنان لأسباب سياسية
شربل داغر من أهم الأصوات الشعرية العربية التي تصدح بصوتها بعيداً عن رقعة الوطن العربي، كما انه يحتل مكانة هامة في خريطة الشعر العربي. وحوارنا هذا معه نريده أن يكون في الشعر وللشعر فقط.
* في البداية لا بد من طرح السؤال القديم الجديد من أين (أولاً)؟ وكيف (ثانياً) جاء الشاعر داغر إلى الشعر؟ وبصيغة أخرى: ما هي السياقات الذاتية والموضوعية والمعرفية والتاريخية التي واكبت شخصية شربل داغر؟
- تصعب على الإجابة عن هذا السؤال، ذلك أن الشعر يختلف عن الأجناس الابداعية والتعبيرية الأخرى كالرسم على سبيل المثال. الشعر لا يملك تلك البديهية التي يمكن برهنتها بصورة ملموسة. ففيه شيء من الانبهار، ولعل في الأمر ما يجعلنا غير قادرين على التوصل إلى فهم نوازع هذا الانجذاب, ذلك أن الشعر هو الذي يكتبنا، ولسنا نحن الذين نكتبه. وهو الذي يعيننا ولكن بعد وقت. فكيف والحالة هذه أن نتبين سبيل الوصول إليه؟! إلا أنني إذا سعيت في محاولة لتلمس إجابات ولو مختصرة ومقتضبة أو جزئية عن سؤالك هذا... لو قمت بهذا المسعى لوجدت ربما في انعزالي منذ الصغر واحداً من الأسباب التي دعتني لاحقاً إلى كتابة الشعر. فأنا سعيت منذ عمري المبكر – أي السابعة من عمري – إلى العيش ولو للحظات فوق غمامة، أو في غرفة بلورية خاصة بي. كان يحدث هذا وأنا جالس في سهرة عائلية، أو حين كنت أطلب الخروج من البيت للجلوس فوق صخرة في قريتي، أو للاستلقاء تحت شجرة قرب النهر. وطلبُ العزلة هذا يمكن تسميته بل يمكن أن أسميه بـ"طلب الحرية"، وهو طلب تقوده أجنحة المخيلة، طلب الابتعاد، طلب السفر، طلب العيش في مكان أنت تحلم به أو ترغب فيه. ولعلي كنت أجد فيها ما كان يحدث لي أيضاً في الطفولة، أي أن أتكلم وحدي... ولقد احتفظت بعادة التكلم ماشياً وجالساً ومهرولاً حتى أيامي هذه. إلا أنني أذكر أنني في محاولتي الأولى لكتابة الشعر، أي في فترة المراهقة، كانت تستبد بي حالة لا أفهم سرها. حالة انفعالية قوية تؤدي بي إلى الشعور برغبة القول. كان يحدث لي أن أترك البيت، وأمضي إلى أن أجد نفسي متلبساً بحركة المشي ضارباً على الأرض بحذائي موقعاً إيقاعات مختلفة، ومتهدجاً بعدد من العبارات التي لا تلبث أن تتشكل وتؤلف مقاطع أو أبيات وقصائد أحياناً.
* الشاعر شربل داغر في الغربة، أين أنت من لبنان؟ ماذا أعطتك الغربة؟ وما هي السياقات الذاتية والموضوعية التي أدت بك إلى استيطان الغربة بدلاً عن المنبت الأصلي؟
- أنا اسمي نفسي مهجَّراً من لبنان. وكما تعلم، مع اندلاع الحرب في لبنان في 1975، شاهدنا في لبنان تهجيراً من مناطق إلى أخرى بفعل العنف الإكراهي. أنا أعتبر نفسي واحداً من هؤلاء اللبنانيين المهجرين – المطرودين كرهاً – من لبنان، رغم أن تهجيري وطردي من لبنان اقتضى مني الإقامة خارج وطني، وهو أمر لم ينعم به الكثيرون من أهلي وشعبي. ذلك أنني في بداية الحرب بلبنان ما كان بإمكاني العيش في المنطقة التي يوجد بها بيتي – بيت أهلي تحديداً – نظراً لخلافي السياسي والفكري مع الجماعات السياسية التي هيمنت وعملت على الهيمنة، وأكدت سيطرتها على تلك المنطقة. كما وجدت نفسي في الفترة الزمنية نفسها غريباً أيضاً عن المنطقة الأخرى... إذ جرى اعتقالي مرتين فيها.
إذن أنا مهجَّر من لبنان أولاً، والأمر الثاني هو أن الحرب اللبنانية كسرتني مثل زجاجة بلورية تكسرت وأدمت أصابع من كان ينبهر بالنظر إليها. ولقد بقيت لعدة سنوات بعد إقامتي في باريس منذ 1976 ممتنعاً عن كتابة الشعر، لأنه كانت قد أصابتني حالات نفسية من الخيبة، من كل شيء بما فيها الشعر أيضاً.
* ألم تكن مرحلة إن لم نقل محطة لترتيب الأشياء وإعادة النظر في أدواتك التعبيرية للانطلاق من جديد؟
- هذا ما انتهيت إليه، حيث تبينت لاحقاً أنني عبرت صحرائي، وتوصلت إلى تضميد جراحي وتبين مصاعب الشعر نفسه في صورة أقل مثالية مما كانت عليه صورة الشعر عندي. ذلك أنني كنت من جماعة أو من بين شعراء أخلصوا إلى صورة تكاد تكون إيمانية بالشعر، وهي صورة مثالية تخلص إلى معنى الكلام. وأنا من هذا الجيل الذي تبين أن هذا الكلام كان أشبه بالفقاعات، وأنه لن يمنعنا أبداً من الدخول والانغماس في حرب أهلية دامية، حيث يبدو -مع الدم الأهلي المنشطر على نفسه- أن كل شيء عديم الجدوى والنفع، ويبدو الكلام أجرد عارياً لا يستطيع أن يقينا ويحمينا أمام هذه الفواجع التي تفض مضاجع سكان لبنان في الليل والنهار، وتزرع في قلوبهم الخوف حتى من أنفسهم، وتقتل الثقة فيهم، بل بين أفراد الأسرة والعائلة الواحدة.
حدث لي في تلك السنوات أن تبينت حجم المشاكل الكبرى التي تشغل الإنسان، ومنها قضية الموت، قضية العبث، قضية الشقاق والفرقة الغبية والدامية بين أفراد متشابهين، إلا أنهم يفتعلون في غالب الأحيان درجات وسمات في الاختلاف فيما بينهم. في تلك السنوات عبرت صحراء غربتي، إلا أني كنت في الوقت نفسه على تماس مع شعبي وأرضي. هذا ما تبينته قبل ثلاثة شهور حين عدت إلى لبنان بعد غيابي عنه عشر سنوات، حرت في أمري حينما وجدتني أتأمل في أي جدار واقع على الأرض يسمح لي بالاتكاء عليه، وفي أي شجرة مقصوفة اتجه للجلوس تحت ظلالها المحترقة. حرت في أمري، وفي أمر هذا الألم الذي أصابني أمام أشياء، أمام موجودات عادية حتى لا أقول تافهة، وإذا بي أتبين حينها أن ذلك الجدار الذي وقع وهوى تحت قصف الطوائف المتناحرة، هو الجدار الذي يلهمني، وأنه ما كان له أن يلهمني ألا لأنه كان واقفاً وقائماً في قلبي، وإن هدموه في الواقع، وأن تلك الشجرة المقصوفة ما كان لها أن تلهمني إلا لأنني في سنوات الغربة جعلتها تنزرع في قلبي ووجداني وتصمد في خيالي، ولولا أنني كنت أرويها يومياً بماء الحنين.
* بما أن الشعر معاناة وألم وتعبير عنهما. ما هي أهم المنطلقات التي انطلق منها شعرك؟ وما هي أهم الأسئلة التي كان يسعى للاجابة عنها؟
- عديدة، وأهمها إيماني بأن الشعر من أهم الأجناس التعبيرية وأكثرها قدرة على الغوص في أدغال النفس الإنسانية وسبر أغوارها. ولهذا فإن الحالات المعاشة وتقلبات الزمن وتعدد الأحداث وما تتطلبه من مواقف هي التي توجه بوصلة الشعر نحو الوجهة التي يريدها لنفسه عبر ذات الشاعر.
أولاً، هناك عدة قصائد في شعري تعود إلى فترة ما قبل الحرب، وهي قصائد تنضح بأجواء الغنائية التفاؤلية التي تحملنا وننهض بها في آن معاً قبل الحرب في لبنان. الا أن شعري اللاحق اختلف عن هذه المرحلة الأولى: فمن جهة هناك قصائد عديدة دارت حول خيبتي من الشعر، وهي قصائد تكاد تكون عراكاً مع اللغة، لتبين لا جدوى اللغة ولا جدوى الشعر أيضاً، حيث أقول في أحد الأبيات، وهو البيت الذي يختتم قصيدتي الطويلة "فتاب البياض:
"لماذا أعاجل أعالج تلك الحروف ولا أتمتم غير تلك الحروف؟!"
إلا أنني في مرحلة ثالثة وهي المرحلة التي أعيشها حتى الآن، رغم تنويعاتها الداخلية، تكاد تكون مرحلة اسمها بالمرحلة التعبيرية، وهي مرحلة تحكي وجعي وغربتي، وأتبين فيها مواضع الوجع ومواطن الغربة في داخلي. وهي قصائد لا يمكن وصفها لا بالوطنية ولا بالإيديولوجية رغم أنها وطنية وإيديولوجية إلا أنها تبتعد عن الخطاب السياسي وعن الغنائية العالية، وهي قصائد حميمة تحكي النفس في الغرف الباردة. وهي قصائد حزينة، وقصائد عابثة، وقصائد متفتحة على حركة الحياة أساساً، لا قصائد الموقف المسبق والمعلن مثل شعار في تظاهرة. قصائدي تتكشف معناها – مجالها، أي أنها لا تقدم للمتلقي رؤيا جاهزة، مكتملة. وهي قصائد مختلفة: فيها قصيدة التقاط العابر، وكشف الغامض، وملاعبة تتخذ شكل الغرابة السوريالية أو غيرها، أو شكل السخرية الانتقادية (...).
قصيدة متفتحة على أنواع الكلام، من دون أن تحتذي أو تطبق نموذجاً بعينه. لأنك تجد في شعري قدراً من الغناء يمتزج بقدر من العبث المجاني، كما تجد فيه جملاً سردية طويلة، نثرية السياق، تمتزج بجمل قصيرة مشعة ومركزة. طبقات من الأقوال في بنية واحدة، غير مغلقة. كما تحاول قصائدي أن تتكثف أكثر، وأن تطيل الوقفات بين المعنى والمعنى، بين نهاية الجملة الشعرية والصمت اللاحق عليها، وأن تبلبل العلاقة اللازمة بين المشبه والمشبه به، وبين الصورة والشيء. كما إنها قصائد لا تسعى إلى رصد المعنى أو تعقبه أو تثبيته أو ضبطه، بل تسعى للتعرف عليه فيما تكتشفه في العابر والمؤقت والاعتباطي، في أوجه الشبه المختلفة أو في الاستعارية الفائقة والصورية الكثيفة، أو في الغاء المعنى أصلاً وتغييبه، حيث العلاقة بين المفردات كألفاظ سابقةٌ في الأهمية عليها كمعان.
وباختصار، كتابتي الشعرية تختلف منطلقاتها ومرجعياتها، وهي كتابة مفتوحة على مناخات التجريب، وعلى الاختبارية في صيغ الكلام، ومنها صيغ النثر.
(...). من هنا جاء إيماني بأن الشاعر هو الذي يعرِّض نفسه لأكثر من ريح واحدة، بل أُعرض نفسي كمن ينصب مكمناً لآخر، إلا أن هذا الآخر هو نفسه أنا، وهو آخر في آن معاً. ذلك أننا نتصور أحياناً كما لو أن نفس الشاعر واحدة تفرغ المعنى إفراغاً معيناً، أو كما لو أنها تدون الشيء تدويناً معيناً فيما نحن خشبة لمسرح تتبادل فيه الشخوص أدواراً متباينة ومفاجئة في آن معاً. لا أريد من ذلك القول بوجود نفوس كثيرة في النفس الواحدة. ليس هذا مرادي، ما أريد قوله هو أن الإنسان الشاعر قيمته أنه يعبر عن ذلك، لأن الإنسان هو كتلة من الماضي ومن التكوينات السابقة، من الإرث ومن الرغبة والتطوع والعمل والحقد والكراهية، وهو طلب الشيء ونقيضه. هو هذه الجبلة من الأشياء فيما هو عليه، فيما يتمنى أن يصير عليه، فيما يرفض أن يكون عليه. هو مجموع هذه الحالات التي هي حالات مطلوبة أو مكروهة. الإنسان هو هذا المجموع، وقوة الشاعر هو أن يمكن ويعرض بيته وجسده لغير ريح واحدة بحيث يمكن هذا المخبوء من أن يخرج إلى الوجود، وهو مخبوء متلون ومتعدد الملامح، ولا يمكن وصفه في مقولات اختزالية (...).
* يلاحظ أنك لا تنحصر في شكل شعري خاص. هل يعني هذا أنك ترفض الانتماء إلى أي شكل شعري؟ أم هو نزوع شعري نحو تدمير الأشكال والنزوع نحو الكتابة-اللاشكل؟
- أنا لست عضواً في أي ميليشية شعرية. أنا مخلص للشعر لا لتحزبات الشعراء في الشعر. ماذا أريد أن أقول من خلال هذا؟ أريد القول بأنني انتهيت إلى كتابة أشكال مختلفة في شعري، وقلت انتهيت إلى كتابة أشكال شعرية ولم أقل أنني اعتمدت هذا الشكل أو ذاك.
طبعاً بدايتي الشعرية الاحترافية انطلقت مع بداية موجة قصيدة النثر في بداية السبعينات، ذلك أنني، بين هلالين، كتبت شيئاً من الشعر العمودي في سنوات المراهقة، ثم ما لبثت أن تخليت عنه وانقطعت عن الكتابة في هذا الاتجاه. إذن مجمل قصائدي يندرج في إطار ما سمي بـ"قصيدة النثر"، ألا أنني ضمن هذا النوع الشعري انتهيت في إطار التجريب الشعري للوصول إلى أشكال شعرية مختلفة. فمن يراجع شعري الأخير يلاحظ قدراً أوسع من الإيقاعات المنتظمة. وهي إيقاعات تصل أحياناً حد اعتماد البحور العروضية. ذلك أنني أطمح إلى كتابة قصيدة هي أقرب ما تكون إلى كتابة المحسوس والمعاش. وهو أن حالة الكتابة نفسها وحالة القصيدة المطلوب كتابتها نفسها تنبني أو تؤدي إلى انبناء معين،. فحين يقرب الكلام من الغناء، أو من درجات معينة من الغنائية، فهذا يعني بالضرورة أنه يقترب من إيقاعية ما. وحين يطلب الكلام شيئاً من السرد في الكتابة الشعرية، فهذا يعني أيضاً أن شكل الكتابة يبتعد بالضرورة عن الشكل الإيقاعي الذي يضبط الكلام وفق قواعد معينة. إذن حالة القصيدة نفسها تتطلب وتشترط في تبلورها، وفي تبويب معانيها ومجالاتها الداخلية، تتطلب أنواعاً وأنسقة مختلفة من الكلام والتركيب الشعريين. وهي أنسقة تنتهي إليها القصيدة، وليست أنسقة مطلوبة لذاتها قبل كتابة القصيدة. بهذا المعنى أقول بأن قصيدتي أو بأن كل قصيدة من شعري في المرحلة الأخيرة لها شكلها الذي لم أستهدفه إلا بدرجة معينة، ذلك أنه انبنى بنفسه أثناء كتابة القصيدة.
* ألا ترى أنك بهذه الأشكال التي توصلت إليها تريد من ورائها أن تصبح نمطاً شعرياً لأجيال شعرية قادمة؟
- لا، أنا لا أطمح لذلك. أنا أعتبر أولاً أن الأسلوب سواء أكان ذلك في الشعر أو في أنواع تعبيرية أخرى يصل أحياناً إلى حد الفريضة، ويؤدي في العمل الإبداعي إلى شيء من القسرية أرفضه ولا أستصيغه في الأعمال الإبداعية. ذلك أن الأسلوب هنا بمعنى النوع الشعري، هذا النوع الشعري قالب سابق على الكتابة بالضرورة، وهو بهذا المعنى إطار يشترط ويتطلب ويتحكم بمؤدى عملية إبداعية هي قيد التكون (...).
الشاعر المبدع الحديث يعايش صلة سأسميها "حميمة" مع الكلام، فيما يبدو لي الشاعر القديم أحياناً شاعر "البروتوكول" والمراسيم، الذي يعنى بصيانة عدد من الأعراف والأسس والتقاليد. الشاعر الحديث ينهج إلى صلة أكثر قرباً والتصاقاً بالمعنى وبالحالات الإنسانية، فهو يريد أن يلتقط المعنى في لحظة تشكله، في لحظة تبلوره، في لحظة انبنائه. ذلك أنه يعي أكثر فأكثر أنه ذلك القادر الخالق الذي يرسم الطريق بقدر ما يكتشفها، يتبين المعنى ويستهدفه بقدر ما يكتشفه، يشير إلى الشيء إلا أنه يتعرف عليه كما لو أنه مجهول تماماً عنده، ذلك أن معنى الشعر لاحق وليس مسبقاً. الشعر لا يؤدي معنى، بل يستهدف المعنى. وحتى في هذا الإطار هناك شعراء لا يستهدفون المعنى بالضرورة، وإنما يكتبون مناخات ما، مثل الرسام الذي يكتفي ببسط بعض الحركات اللونية وعلى مساحة ما، ولا يبني معماراً أو نظاماً ما ليكون أو بالأحرى أن يصبح نمطاً.
بهذا المعنى يمكن أن نفهم أن حالة الشعر كذلك هي مثل حالة الرسم. حالة الشعر هي حالة شبيهة بما يعرفه المبدعون الآخرون مثل الرسامين وغيرهم، إلا أن هذه الحالة تبدو أدق وأعمق في الشعر مما هي عليه في باقي الأجناس الابداعية الأخرى، ومن هنا يجب أن نعرف أننا نحن الشعراء لا نكتب ألا بقدر ما ننسى، نحن لا نستكشف أو نصل إلى المعنى إلا بمقدار ما ننسى طريق أو طرق الوصول التقليدية إليه.
(...).
("بيان اليوم الثقافي"، الرباط، 4 أيار-مايو 1992).