مع اسكندر حبش: أنا الحالم الدائم بالعودة إلى بيروت

بعد غربة امتدّت طوال سنوات الحرب، عاد الشاعر اللبناني شربل داغر، في زيارة لبيروت للمشاركة في ندوة أحيتها الجامعة الأميركية حول "النهضة العربية".
حول الإقامة والغربة والمنفى والكتابة، وقبل عودته إلى باريس بيوم، كان هذا الحوار:
* لنبدأ من الشعر، حيث أنّ كتابك الأول، كان مجموعة شعرية بعنوان "فتات البياض"، ومن ثم انقطعت عنه، ربّما عن النشر فقط، لماذا هذا الصمت الشعري؟
- في الواقع، انقطعت تماماً عن كتابة الشعر ما ينيف عن السنوات الخمس بعد نشري ديواني الأول، وذلك أنّ نشره أتى بمثابة تأكيد علني لقصائد كانت معروفة ومنشورة لي قبل الحرب في لبنان. يعود انقطاعي إلى ما أحدثته شهور الحرب الأولى -وقد عشتها في لبنان- من هزّة كيانية دفعتني إلى التفهّم بدل التعبير، لدرجة أنّني ذنبت أو تعاملت مع الشعر بوصفه اقترافاً لمعصية غير بعيدة عن المعاصي التي نتحمّل أوزارها في انطلاقة هذه الحرب. إنّ تتفهم يعني أن تنقطع عن لعبة التوهّم، ولعبة استثمار المعنى، التي تنهض عليها أيّ عملية شعرية. هذا ما يفسّر من ناحية أخرى ركوني إلى ترجمة رسائل رامبو، وإلى تبيّن ما مثّلته له مسألة التمييز بين الذهب الحقيقي والذهب البرّاق والمضلّل. إلاّ أنّني ما لبثت في السنوات الأخيرة أن عدت إلى كتابة الشعر من دون أن أقدم على جمعها، ولا على نشرها في كتاب مستقلّ.
* قلت أنّ الحرب أحدثت هزّة عنيفة، في حين أنّ ماضيك "السياسي" و"الطلابي"، كان يؤكّد اتّجاهك نحو الحرب. أليس هناك ثمّة تناقض فيما تقول؟
- شكّلت الحرب قطيعة في حياتي، ما زلت حتى الآن أتبيّن شروخها مثل عواقبها، ولا سيما على الصعيد الشخصي. فعلاً، كنت أتطلّع إلى الثورة منذ نهاية الستينات، إلى تغيير بنية تقليدية تحدّ الإنسان في أصله، لا في ما يمكن أن يسمو ويطمح إليه، وهي البنية الطائفية السياسية للبنان. بهذا المعنى، لم نكن، أنا مثل غيري، نطمح إلى الحرب، إلاّ أنّنا طمعنا بها واستبدّ بنا، لعدّة شهور على الأقلّ، وهم إمكان للتغيير من خلال الحرب. وإذا بي أجد أنّ مسلّحين يعودون بنا إلى ما هو غريزي واستبدادي في ما تمثّله السياسة من سيطرة وسطوة. وجدتني خلال شهور معدودة، أكتشف أنّ سرقة أحد البنوك اللبنانية أو الأجنبية، باتت فعلاً ثورياً، والتعرّض لحرمات الناس فعلاً تحرّرياً… لم يكن سهلاً عليّ، بعد خروجي من بيروت، أن أتحقّق ممّا فعلته هذه الشهور المعدودة في حياتي، وحياة غيري من اللبنانيين، حين أدخلتنا في نفق بات الاتجار بالموت، بأرواحنا، ليس وسيلة السيطرة وحسب، بل وسيلة للإتجار المادي أيضاً. بهذا المعنى، مارست عن بعد قطيعتي مع هذا الإرث، وهي عملية لم تكن بالهيّنة، إذ كان عليّ أن أحاكم في قدرتي ما هو جميل وفاتن في توق المراهقين وأن أحتفظ في العملية نفسها بما يحافظ على نواة التجديد والتوق إلى التغيير الفعلي في نفسي.
* تقصد أنّ مشروعك "النضالي" صار إلى هزيمة، إلى إحباط، إلى اكتشاف لا معنى الأحلام، التي كنت تركض وراءها؟
- أنّا تحقّقت من هزيمتي في بيروت قبل أن أخرج منها، غير انّني تبيّنت معاني الهزيمة في باريس. إذ كان عليّ أن أتبيّن هشاشة الدعاوى التغييرية، وهي دعاوى الحداثة في مجتمع تقليدي كالمجتمع اللبناني. كان عليّ أن أستعين بالأنترولوجيا لكي أفهم مسألة التشابه والتحالف في المجموعات اللبنانية المسلحة، أي كيف أنّ جماعات مسلحة كانت تتصارع ضدّ بعضها البعض، أي تتحالف في ما هي متشابهة على مستوى المحدّدات والمكوّنات لبنيتها التسلطية. كان عليّ أن أتبيّن أنّ جماعة مسلحة كانت تناهض جماعة مسلحة في المعسكر المقابل مثل بعبهع للتخويف فحسب، على أنّ غرضها الأساسي هو إخضاع جماعة مسلحة قريبة منها وفي المعسكر نفسه. كان عليّ أن أتبيّن هذا كله، وأن أصل إلى قناعة مفادها أنّ التغيير لازم في لبنان ولكن بوسائل أخرى ومن خلال نظرة تتمكّن من تبيّن مواضع العطب والانغلاق في هذه البنى. ذلك لأنّني لا زلت مقتنعاً بأنّ علينا في لبنان ألاّ نتعايش وحسب من خلال علاقات أخوية وإنسانية، وهو ما يسميه البعض أحياناً بالاعتراف المتبادل بين الجماعات المتناحرة، بل أن نصل إلى ما يجدّد قيم أسمى من المحدّدات الطائفية التي ننطلق منها.
* بما أنّك اكتشفت الهزيمة في باريس، لماذا بقيت هناك، لماذا لم تعد نهائياً إلى بيروت؟
- قبل أن أغادر بيروت إلى باريس ما كنت أتصوّر بقائي طويلاً عنها. ذلك أنّني مرتبط بهذا البلد عبر محطات حياتي ارتباطاً جعلني -بخلاف العديد من زملائي في تلك السنوات- أقترب من معايشة أوضاع الفلاحين في عكار ومزارعي التبغ في النبطية أو أزمة الخريجين في الجامعة اللبنانية. بالإضافة إلى التقائي الحر والحار مع: محمد عبد الله وحمزة عبود وعباس بيضون وحسن عبد الله وبول شاوول وحسن داوود وشوقي بزيع وغيرهم، حول هواجس وتطلعات كانت تحملنا أكثر مما كنا ندفعها. فكيف لي مع هذه الأواصر كلها أن أكون غير المهجَّر والمهاجر الذي كنته عند مغادرتي بيروت في 1976، وأن لا أكون الحالم الدائم بالعودة إليها عند تمام الوقت. قضيت سنواتي العديدة في باريس مثل راكب في مطار شاخص أبداً إلى لوحة مواعيد الطيارات من دون أن يتبين موعد الطائرة المتجهة إلى سلم لبنان. إلا أن العودة إلى لبنان قريبة إلى حال الطائرة التي تحط في مدرج بيروت حيث تضطر الطائرة في اللحظات الأخيرة وقبل أن تحط على الأرض، أن تشد كثيراً على فراملها نظراً لقصر المدرج. لست طائرة كبيرة ولا مدرج لبنان قصيراً… ذلك أنني لم أنقطع عن ثقافة هذا البلد، ولا عن مثقفيه، معتبراً دائماً أن معنى الأشياء عندي على الأقل موجود في بيروت.
* هل تابعت بانتظام ما كتب في بيروت، خلال كل تلك السنين المنصرمة؟ كيف تنتظر إلى ما كتب؟
- لم أنقطع على قدر استطاعتي عن متابعة أحوال الكتابة في بيروت ونتاجاتها. وما شد انتباهي فيها هو أنها كانت مجال فرز في سنوات الحرب. فالجيل الذي أنتمي إليه تفرق وتطاير في اتجاهات مختلفة حتى باتت الشقة فيه واسعة. ما تنبهت إليه في المقام الأول هو أن عدداً من الكتاب لا سيما الشعراء من جيلي أو من الأصوات اللاحقة عليه، استمروا وجددوا فيما أسميه المساهمة اللبنانية في الأدب العربي الحديث، والتي أعينها على أنها مساهمة خففت من حمولات البلاغة العربية بأن جعلتها لغة مدنية الطابع وموصولة بعلائق دقيقة وخفية بالمحكي اليومي. فما يسترعي انتباهي على سبيل المثال هو عودة نبرة فيها شيء من الرومانسية الحيية إلى جانب نبرة أخرى، تجعل من ذات الشاعر موضوع نقد وانبناء، لا خطاباً نبوياً أو إعلانياً عن الذات. وهي تجارب أجدها في مجملها تنقطع عن إرث ناشىء للحداثة العربية وتتجه صوب الأعمق والأصفى في الحداثة وهو "إنسانيتها".
* وهل تابعت الجيل اللاحق لجيلك؟
- اطلعت على بعض الدواوين، ما يمنعني من إطلاق تقويم عام حولها مكتفياً بهذه الملاحظة وهي أن هذه التجارب رغم واقعيتها "الفجة" -والفجة هنا لا تعني صفة سلبية في خطابي– كانت تحكي الشرط الإنساني الصعب في الحرب اللبنانية، وتستعيد الصلة على مستوى الخطاب بالحيوي في تجارب قصيدة النثر، أي تنكبها عن فصاحة الحداثة التي تحولت في تجربة عدد من الشعراء العرب اليوم إلى نوع من البلاغة الجديدة.
* صحيح أنّك واصلت الترجمة... لكن سؤالي يتمحور عن سب اختيارك "رامبو" (الشاعر الفرنسي) وتشيكايا أوتامسي (الشاعر الكونغولي).
- أجبت سابقاً عما دفعني إلى ترجمة رسائل رامبو، أما ما جعلني أترجم مختارات من شعر الشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي، فهو أنه شاعر صديق، هزتني ميتته مثلما كانت تهزني قصائده. وهو عندي من الشعراء الكبار (...).
تثيرني الترجمة لا في ذاتها فقط، بل في ما تؤديه. إذ أنني أتبين وهم القول بأن الخطاب يصدر عن ذات أو يعبر عن وعي ما. تقودني الترجمة إلى تبين ما في المعنى من لعب دائم. واللعب، هنا، لا يعني المجانية الصرفة، بل المراودة وطلب استثمار المعنى. الترجمة بهذا المعنى خيانة وتجديد لحب في آن معاً.
* وما الذي قادك إلى النقد التشكيلي. فأنت أصدرت كتاب "الحروفية العربية فن وهوية" وتستعد لإصدار غيره؟
- صلتي بميدان التشكيل قديمة. وهي بدأت مثلما الترجمة، أي علاقة خيانة، أي بمثابة محرض يباغت الكتابة والمعاني، حيث لا تتوقعها ولا تنتظرها. إلا أنني انتهيت شيئاً فشيئاً إلى تتبعها ودراستها في صورة تكاد تكون أكاديمية، وانتهى بي الأمر إلى دراسة "الجمالية الإسلامية". وهو درس أخذ قسماً بالغاً من وقتي في السنوات الأخيرة، إذ عدت إلى آلاف الصفحات التي دبجها مستشرقون وأوروبيون منذ الربع الأول للقرن السابع عشر، حتى مطالع القرن العشرين، حول ما انتهوا إلى تسميته بـ"الفن الإسلامي".
راعني في هذا الدرس الأمر التالي، وهو أن متن الدراسات الفنية العربية الراهن لا يعدو كونه ترجمة مختصرة لما انتهى إلى صياغته المستشرقون الأوروبيون، وهي عملية الصياغة الاستشراقية لهذا الفن.
* سؤال أخير، متى الرجوع النهائي إلى بيروت؟
- إن النهاية لم تكتب بعد ...
إلا أن قلبي لا زال يقفز مثل طابة "نطت" من ساحة كلية التربية باتجاه بحر بيروت من دون أن تستقر بعد.
(جريدة "السفير"، بيروت، 2 حزيران-يونيو 1993).