مع جهاد هديب : اللوحة علمتني بناء القصيدة

 

لم يزل شربل داغر الشاعر والمترجم والناقد الحائز على شهادتي دكتوراه في الآداب العربية والجماليات غير معروف سوى من النخبة التي تعاملت معه من حيث هو شاعر يعيد تفكيك العمل الفني.
ما من أحد بمقدوره أن يفضح شربل داغر مثلما تفعل كتاباته. فثمّة جهد معرفي في إنتاج الأفكار وتوليدها بدلالة الإبداع أي أن استيلاد الفكرة يأتي من رحم الصورة أو المشهد.
شربل داغر كاتب في يومية "الحياة" ومنها يلحظ المرء سعيه الدائم إلى ان يتكوّن ثقافياً ومعرفياً كما لو أنّه ما زال يتعلّم ويناقش ويحلّل ويعيد ترتيب اساس بيته المعرفي.
شربل داغر كان في عمان مدعوّاً من الجمعية الملكية للفنون الجميلة حيث أقيمت ندوة في المتحف الوطني للفنون الجميلة بمناسبة تقديم كتابه الأخير "مذاهب الحسن: قراءة معجمية –تاريخية للفنون في العربية". وما يلي ليس حواراً بل هو التحادث فما من سؤال أو جواب ثمّة فكرة تقارع سواها أو تخلص إليها أو تنبني منها.
* من قبل أنت الشاعر أولاً ثم الناقد هذا الإحساس جاء من كونك تكتب في نقد اللوحة إنطلاقاً ممّا يترك العمل التشكيلي على إحساسك ومخيلتك.
- لكي أجيب عن هذا السؤال قد أحتاج إلى عرض شيء من السيرة إذ انّني أجمع في ممارستي الكتابية بين ميادين مختلفة لنقل إنها باختصار الأدب والفنون البصرية وهو جمع انتهيت إلى تكريسه حتى في دراستي الجامعية العليا، إذ أنّني حصلت على شهادتي دكتوراه واحدة في الآداب العربية الحديثة والثانية في الجماليات.
وما لم أذكره في إجابتي هذه هو الشعر وهو أساس ما انتهت إلى جمعه علاقتي بالشعر وكتابتي له شكّلت مدخلي الأول إلى الآخرين وإلى نفسي وهو ما حملت بعض آثاره مجموعتي الشعرية (فتات البياض). لكنّنب قبل نشر هذه المجموعة تردّدت طويلاً في النشر وانقطعت بعد نشرها عن الشعر ومبعث الانقطاع هو مبعث الرغبة وبينهما حصلت الحرب في لبنان التي ابتعدت عنها إلى باريس منذ سنتها الأولى. كانت الصدمة قوية وخيّل لي وقتها أنّ عليّ أن أفهم لا أن أعبّر، وقد كان هذا الشعور نوعاً من الاعتراف بذنب ما بمشاركة ما باتت آثمة في نظري وإن انقطعت عن لبنان بعد شهور وحسب من اندلاع الحرب فيها.
انقطعت عن الشعر لكنني عدت إليه وأثناء فترة الانقطاع كتبت أنواعاً عديدة منها: الرحلات ومنها كتاباتي التشكيلية الأولى وكنت من حيث أدري ولا أدري أتورّط في غفلة عني في لعبة الشعر الخافية إذ إنني في كتابة الرحلة كنت أعرّض نفسي لهواء الزمن وتنبّه جسدي مشاهد وانفعالات عابرة في ترحالي وهي صورة الشاعر المشاء كما أعتقد. وكذلك كان الامر في وقوفي امام العمل البصري إذ أنني كنت أعرّض عيني لمجهول كان لي أن أتحسّسه وأن أستظهره مثلما يجلو الشاعر قصيدته من بياض.
هكذا كنت أرتكب الشعر في صورة ضمنية أو مستترة إلاّ أنّني تورّطت بدراسة النقد تورّطاً أكاديمياً وبحثياً كافياً إذ انصرفت إلى دراسته دراسة رصينة وهو ما أحاوله في عدد من كتاباتي.
* كما لو كانت "متعة" تفكيك العمل الفني إلى عناصره الأولى استعاضة ما عن "ألم" بناء القصيدة.
- علاقة التشكيل أتت تعويضاً في البداية، وكان يظهر فيها الشعر أشبه بالمكبوت أو بالمهمش إلاّ أن علاقتي به ما لبثت أن تغيّرت وأصبحت معنياً بالتشكيل في ذاته وفيما يجب أن يعود له لا لغيره. وفي هذا المجال يمكنني القول إنني دخلت إلى عالم تآلفت معه بعد حين بل وجدت فيه مكاناً عامراً بالتجدّد أكثر ممّا يوفّره بيت الشعر لساكنيه الكثر في العالم العربي. المصور ينطلق من مواد هي الأصباغ وينفذ بأدوات على أنّ علاقته تكاد تكون بريئة أو مجهولة بين هذه المواد والأدوات وحاصل اللوحة الأخير، فيما الشاعر يحتاج إلى غسيل اللغة لفظاً بعد لفظ، وقد يقوى على ذلك وقد لا يقوى. فدون الشاعر وقصيدته ممنوعات هي الإرث الذي يسكنه في مخزونه في لغته فيما الفنان يقبل بتلقائية أكثر على القماشة أو أن حواسه قابلة للبروز، للتشكل في صورة أكثر عفوية. أنا لا أقول إن الفنانين هم أقدر من الشعراء على التعبير الحر، لكنّني أرى أن الشاعر العربي الحديث يحتاج إلى معايشة ما يكابده الفنان لكي يتعرّف في صورة أكثر حرية على التجدّد. يخيّل لي أن القصيدة العربية الحديثة في عددٍ كبيرٍ من نماذجها ما تزال مشدودة إلى ماضيها ولا تبني ما نسميه اليوم "النص"، أي هذا التوليد المبتكر الذي يتعيّن مرة واحدة كما هو عليه فوق الورقة البيضاء فلا يحيل ولا يذكّر بشيء خارجه. وهذا ما يتوصّل إليه الفنان الحديث في عددٍ كبيرٍ من نماذجه، أي أن تكون اللوحة قوّامة على نفسها على طبيعتها فيما يؤسّسها هو فيها، وهو ضرورتها الداخلية كما يسميها كاندنسكي.
* ربّما لأن اللوحة لا مرجعية للون فيها خارج المشهد البصري إجمالاً فيما اللغة في القصيدة مثقلة بتاريخها.
- أعتقد أنّ على شعرائنا أن يقتربوا أكثر من عالم التشكيل بل من عالم الفنانين البصريين ببساطة. فالشعر عندنا في بعضه امتحان لغوي بل مدح للغة وإنشاء لها يكاد يكون خفيف الصلة بالحواس. قليلون من شعرائنا يجدون صلة بابن الرومي أو أبي نؤاس على سبيل المثال. والحواس من البصر إلى اللمس وسواها تكاد لا تكون عتبة الشعر أو باب تناوله. وهذا في نظري يقرّب الشعر من تحدّيه العربي وهو الإعجاز اللغوي ويخفّف من علاقاته بالمعيش الإنساني والتاريخي.
ولعلّنا نجد في تمرّسنا المتأخر لأدوات التشكيل حريةً ما أتيحت للشاعر الذي يرزح تحت تاريخٍ طويلٍ من الانبهار باللغة والتباهي بها.
لا يعني قولي هذا تبخيساً للشعر بل هو الإلحاح على بعض منافذه القصيّة أو غير المطروقة كفاية. فملاحظاتي لا تغيب عن بالي خلوص عددٍ من الشعراء العرب إلى قصائد تنهل من اليومي، من الحسيّ، من التفصيلي وإلى أنّ بعضها لا سيما في قصيدة النثر ينبني كما قلت وفق ضرورته الداخلية.
* ثمّة جدل عندك بين اللوحة والقصيدة، كأنّك تتعرّف إلى الأخيرة بدلالة الأولى.
- ما توصّلت إليه من قناعات إلى نتيجة تجريب وتفكير وكتابة، وأقول إن صلتي بالتشكيل هي التي مكّنتني من وعي أقوى للحداثة عموماً وللنص بشكل خاص إذ أنّني وجدت في اللوحة حاصلاً ينبىء عن واقع ولكن بعد وقت، وهو ما صورته في إحدى قصائدي، على أنّ المولود الجديد هو الذي يعلم والده وليس العكس كما في العلاقة الطبيعية.
فاللوحة ولا سيما التجريدية منها تتيح هذا الإقبال المبهم على مجهول لا يلبث أن يكون مرآتنا، وهي مرآتنا التي لا تعكس وجوهنا في صورة ثابتة بل في صورة متحوّلة هي لحظات تغيّر ملامحنا في الزمن.
تعرّفي إذن على عالم اللوحة ساعدني أكثر في فهم قصائد حديثة فرنسية على سبيل المثال وتنبّهت إلى أنّ القصائد هذه لا تبتعد بل تقترب كثيراً من عالم اللوحة.
* في ذلك يكابد الشاعر عزلته مؤثثة بالألم والحزن والخوف والوحشة والقلق وسواها.
- قلت في مقدمة أحد كتبي إنّ الشاعر حزين دائماً بالضرورة، إذ إنّه يتحقّق دوماً من الفارق بين الأطياف والأشباح. فالأشباح هي صور الماضي العائشة بيننا، بل هي ملامحنا إذ نبدو حاملين لهيئاتنا النهائية بمجرد أو نولد في بيت، في عائلة، في تراث... فيما الأطياف هي الصور الصعبة النادرة التي تظهر في الضباب خفية أو مثل برق عابر في سماء معتمة. هذه الأطياف هي صورتنا لو أوقفنا وجوهنا المنفعلة في تتابع صور بطيئة وجعلنا من كلّ صورة منها صورتنا. أطيافنا هي هذه الصور الزمنية العابرة والتي للشعر أحياناً أن يخرجها ولو في ومضات قليلة فوق ورقة بيضاء.
* لكن شكاً قد تسرب إلى اليقين ولا يسع المرء أن يثق باتجاه ما.. الشاعر قد أعلى من شأن الظنّ ومن شأن ارتحاله من جهة إلى أخرى.
- تتحدّث الأقاصيص الفرنسية عن "بوسيه الصغير"، وهي قصة فتى خشي الضياع في الطرق وعدم الوصول الأكيد إلى بيته فقام بجمع حصى في جيبه وراح ينثرها خلف خطواته... الشاعر هو غير "بوسيه الصغير" إذ أنّ إقامته هي في الترحال، وأمنه في الشرود، ووصوله في المتاهة. فالشاعر هو من يتقدّم صوب ما يخيفه، ففي مثل هذه المخاوف يمتحن قدرته على تشكيل إنسانيته من جديد.
* أن يعيد الشاعر تشكيل إنسانيته من جديد يعني ذلك رغبته في استعادة إنسانيته غير أنّه يعجز عن الدفاع عن بنائه القصيدة. في جهة أخرى كما لو أنّ القصيدة امتحان للضياع الذي تحدثت عنه في السطور السابقة.
- القصيدة في حاصلها بناء قد يكون مرصوصاً باقتصاد وإشعاع، وقد يكون لين التكاوين، فيه وفقات وتكرارات وانبثاقات مفاجئة، إلاّ أنّ القصيدة تقيم في تبلورها في الترحال في احتمالات تندثر بمجرد أن تظهر وقد تتأكّد وتترسّخ وتحتلّ فضاء ما كان لها في المنطلق. فالشاعر قد ينطلق من صورة، من انفعال، من لقطة إلاّ أنّه يكتب شيئاً مخالفاً بالضرورة عمّا انطلق منه وإن تعمّد أو سعى للوصول إليه. الشعر تخويض في المعاني والتراكيب وضربة نرد لا تتوانى عن الدوران. القصيدة الجميلة في نظري هي التي تكتشف ما انتهت إليه وتبني فضاءً عامراً بالحياة السرية التي إذ ندخل إليها نكون كمن يدخل في غابة مكتظّة بالأغصان والروائح وأنفاس العابرين، بل نحني الرأس أحياناً خشية أن نصطدم بأحد الأغصان.
* قد يحدث ذلك، أو أنّه يحدث دائماً، غير أنّ من الصعب الإقرار بنموذج سابق تنبني القصيدة على محوه. كلّ قصيدة تجترح نموذجها الخاص بها أو تكاد.
- لا أقرّ نظرياً بوجود نماذح ثابتة لا للشعر ولا للنشكيل، ولا أعمل في الكتابة على استحداث هذه النماذج. فالكتابة سفر، شهوة، ذات مسارات، فيها مقادير من الارتجال والوقوع في نقاط معتادة أو مطلوبة. ذلك أنّ القصيدة زخم ما، تنطلق وتنتهي إلى التعبير عن دينامية ما، وهو ما يظهر حسياً في تدافعها، أي في أشكال تركيب الكلام. فمن الكلام ما يضغط ويزدحم على المعنى مثل موكب حاشد ومنه ما يترقرق مثل عين ومنه ما يتهادى مثل مركب. ويمكنني أن أعدّد أحوالاً أخرى طالما أن القصيدة عندي تلبس حالتها، أي هيكلها الإيقاعي. هذا ما تتيحه قصيدة النثر في عدد من تجاربها، وهو ما لا يقوى على اكتناهه ولا على تذوقه من اعتاد الشعر في صيغ اللازمات الموسيقية. وقصيدة النثر تبتعد عن الغناء بصيغه التقليدية مبنى ومعنى، لكنّها تصيخ السمع أكثر للهسهسات وللتوافقات، وهو ما لا يضمنه الشعر العمودي في كلّ الأحوال.
* رغم ما تتعرّض له قصيدة النثر من نقد وانتقاد غير انّها تتّسع أكثر فأكثر وليست مغامرة القول بأنّها تحتلّ مساحة شاسعة من القول الشعري في حين من الصعب أن يكون ذلك انتصاراً في ظلّ تراجع القراءة الذي طاول القصيدة بأكملها عموداً وتفعيلاً ونثراً.
- قصيدة النثر أشدّ تنوّعاً وتعدّداً ممّا يظهر في أقلام منتقديها وبعض مدافعيها، وهو ما نتحقّق منه لو عدنا وأحسنّا قراءة تجاربها المتتالية منذ نصف قرن في العربية وعلى اختلاف البيئات الشعرية. وهذه القصيدة الملعونة باتت رغم عناد المكابرين الشكل النافذ في التجارب الشعرية العربية، وهي قصيدة تبتعد عن الغناء في بعضها وتواكبه في بعضها الآخر وهي تبحر في السرد والتفصيل في بعضها وتصفو وترقّ وتتجرّد في غيرها، وهي ملتمّة ممسوكة أشبه ببلورة في بعض القصائد وهي متشظّية، متداعية في عدد غيرها، وهي قصيدة للقراءة ولإعادة القراءة في الوحشة الدافئة وهي أيضاً تطلب شيئاً من الحوارية مع متلق أو ربّما مع جمهور ولكن على أنه أفراد لا جمع، وتتوجّه إليهم القصيدة فرداً فرداً وتقول لكلّ واحد منهم شيئاً يخصّه هو بالذات. لهذا ارى أن قصيدة النثر مقبلة على تجريبات عديدة وعلى كسب فضاءات في التعبير، لكن بشرط تنامي شراكة القارئ في الإبداع وهو ما نفتقده اليوم في حاضر الشعر والثقافة وهذا يصيب الشعر الموزون وقصيدة النثر في آن. إذ أنّ الحداثة تعايش عهداً من النكوص، من التراجع، عمّا كانت في العقود السابقة، والشعر هو الضحية الأولى في عملية تبخيس الثقافة الجارية، وهو ما نتحقّق منه في قلّة الإقبال على الشعر رغم جودة الشعر في عدد كبير من التجارب.
* وتلك غربة اللوحة في راهننا العربي.
- لا اقول جديداً إذ أؤكد أنّنا لا نعدّ أطفالنا لأن يكونوا متلقّين حديثين. فلو اطلعنا على تعليم الأطفال في بلد مثل فرنسا الذي عشت فيه لسنوات طويلة لوجدنا أنّه يتمّ إعداد عين الطالب وتربيتها ذوقياً فتحسن التعامل على سبيل المثال مع الشكل المشوّه لوجه المرأة في لوحة لبيكاسو، أو أنّهم يجعلون الطالب يتمرّس في مرحلته الثانوية وما قبلها على استيعاب كيفية بناء قصيدة رامبو على سبيل المثال. فيما لا يتاح للطالب في بلادنا مثل هذا الإعداد، وكثيرون من شعرائنا ومن متلقّي شعرنا هم أقرب إلى العصاميين الذين بنوا أنفسهم بأنفسهم ذوقياً. فالناظر إلى اللوحة الحديثة يجب أن يتمتّع بعين مثقفة مدرّبة قادرة على التقاط التركيب التاريخي البصري الذي تستند إليه اللوحة منذ النظرة الاولى، فيما يقف المتلقي في بلادنا أمام اللوحة قائلاً: ما هذا؟ ماذا تريد أن تقول؟ كما لو أنّ اللوحة في حسابه منظر طبيعي كغروب الشمس له أن يتلقّاه ويتفاعل معه من دون إعداد. لهذا ستبقى الهوة موجودة بين قصيدة أو لوحة منتسبتين إلى عهد الحداثة وبين متلقين تقليديين ما جرى إعدادهم للتجاوب والتفاعل مع مثل هذه الإبداعات.
(جريدة "الدستور"، عَمان، 26 أيار-مايو 1999).