مع سامر أبو هواش: القصيدة بالنثر قصيدة وغيرها في آن
صدرت مجموعة شعرية جديدة للشاعر والناقد شربل داغر بعنوان "حاطب ليل"، هي الرابعة له منذ العام 1981. يشتغل داغر على مفهوم القصيدة وبنيتها وتركيبها الداخلي مسائلاً الشعارات التي ترفعها وتتبناها بعض الأصوات الحداثية العربية.
* أول مجموعة شعرية صدرت لك في 1981، أي في وقت مبكر نسبياً، وانقطعت فترة طويلة لتعود، ماذا عن الانقطاع، ثم العودة؟
- لا أحسن الجواب في صورة أكيدة عن هذا السؤال. فأنا انقطعت عن الشعر من دون أن أنقطع، طالما أن قسماً من قصائد مجموعتي السابقة، »تخت شرقي«، يرقى إلى العامين 1982 و1983. عدا أنني دخلت إلى الشعر في صورة غير عمدية في الكتابين الأولين: فالأول، »فتات البياض«، دفعني إلى نشره الشاعر الصديق محمود درويش، إذ بادرني بالقول ذات يوم: كيف يرد خبر عنك شاعراً، وأنت لم تنشر مجموعة واحدة بعد! حرت جواباً يومها... واستعاد محاولته مرة ثانية، فكان أن وضعت بين يديه بعد وقت المجموعة، وكتبت في مطلعها هذا الإهداء: «إلى شربل: لئلا يصير شاعراً»، بنوع من المداعبة ضد الصديق درويش نفسه. أما الكتاب، «رشم»، فتعود فكرته إلى صديق آخر، الفنان التشكيلي البحريني جمال عبد الرحيم، الذي طلب مني وضع محفورات فنية انطلاقاً من قصيدة طويلة لي غير منشورة. وهكذا كان...
* وماذا عن الكتابين الأخيرين؟
- لم أرتكبهما عفواً، أو بالصدفة. فضلاً عن أنني أتحمل مسؤولية نشرهما وحدي (ضاحكاً). إلا أن ما يشغلني فيهما يتعدى شخصي القانوني، أنا الواضع اسمه على صدر الغلاف. ففيهما ما عاشرته زمناً، وما وقعت عليه صدفة وغيرها من الأحوال النصية التي تلتم على بعضها البعض التماماً محيراً للشاعر نفسه، لي على أي حال. ففي القصيدة أصوات تتعداني، ولست سوى حامل لها، وفيها ما يأتيني من غيري وأتبناه، وفيها ما يصدر عني وأراه في مرآة تقع فيها وجوه غيري كذلك.
* القارىء في «حاطب ليل» يلاحظ اتساع العبارة إلى ما هو خارج السرد (الأنا)، إلى الأشياء والعناصر وإلى بشر آخرين، أي بدلاً من سرد الذات هناك سرد العالم، سرد الذات في العالم...
- لا تصدر المجموعة عن ذات أكيدة في إعلاناتها وتوكيداتها، عن نفسها وعن غيرها، مثلما يجري عادة في شعرنا حيث المجموعة مدونة لإبراز المتكلم، ولإظهار دعاويه عبر الكلام. أنتسب وأسعى في الوقت عينه إلى طريقة أخرى لا يكون فيها المعنى سابقاً على تحققه في القصيدة، إذ أنه يكون في ذلك تعبيراً مسقطاً فوق الورق، تعبيراً منزلاً، أي جاهزاً بكيفية ما وعاكساً للمعاني المتداولة. وهي طريقة في كتابة الشعر لا يكون المعنى فيها تالياً على الكتابة نفسها، أي التجلي الربوبي عبر الكلمات، مثل من يرمي نرده ويتحقق بعد وقت مما أصاب أو مما لم يصب في لعبة التعبير التي قد تقع في نوع من الهباء الجمالي، وربما في خلاء المعنى كذلك، أو في الإنشائية المفتونة برنين كلماتها.
فالمعنى عندي إنتاج للمعنى، مكابدة في التعبير لا تختلف عن المكابدة في الوجود نفسه. والكتابة تجربة في هذه الحال، يتحرك فيها الشاعر بين الظن والهجس والتحسس. والقصيدة عندي ليست امتحاناً للغة، ولا تجريباً لتحققاتها الممكنة، وإلا وقعنا في لفظانية نرجسية تحيل صور العالم المختلفة إلى مرآة فردية ثابتة، وتجعل الحبيبة وجهاً آخر للأنا، والثورة تفشياً ذيوعياً للفحولة...
* فيكون المعنى قيد التجريب والبناء، والأنا قيد النقد.
- أجل. فالمعنى ليس ما أتلفظ به، ولا ما أسبغه على الموجودات، بل هو واقع بيني وبينها، في مدى القصيدة، في عمقها المتولد، في شبكتها الحوارية التي تقيمني فيها محاوراً لا محاضراً، والتي تبادلني الكلام في الوقت الذي أجلس قبالتها. هذا يشبه اشتغال التشكيلي على لوحته في أحوال متقطعة ومتمادية، والذي لا يلبث أن يزورها بعد أن أقام فيها، فتكون «أليفة مجهولة»، مثلما قلت في قصيدة في «تخت شرقي». وهو ما أقوله في صور وأشكال عديدة في المجموعة الجديدة، إذ تبدو فيها الأنا تتنصت لغيرها بقدر ما تخبرها أو تبلغها، وتعاين الصور واللقطات بقدر ما تلونها. أنا تستهدي إلى الكلام عندما تتحسسه، وتتلقفه وتستعيده قبل أن تعيده من جديد إلى دورته الخارجية، خارج الشاعر، بين أيدي القراء أنفسهم.
هذا يعني التخفيف من غلواء الذات، من انتشارها الحلولي في الكائنات والعناصر، طمعاً بقول السرد في العالم وسرد الذات في العالم، كما قلت في سؤالك. فأنا لا أسوس الكلمات، ولا أتبرج بها، وإنما أفتحها مثل رسالة مختومة من دون توقيع على أنني استعيدها وأوجهها بدوري إلي قراء محتملين.
تجتمع لغة الشعر بالتالي تحت لفظ اللسان: ما أذوقه ويتكلمني، ما أمتلكه ويعود لغيري.
* هناك صلة عضوية وبنيوية بين القصائد وعناوينها، هل حدثتنا عن ذلك، وعطفاً عليه على التجريب في القصيدة، بمعنى التفكير في بناء كل قصيدة على حدة؟
- الملاحظة سليمة، وتشير إلى حل طباعي لما هو بنائي في القصيدة. فالعنوان هو الجملة، بل السطر الأول في غير قصيدة، وهو مندمج بتوالي أسطر القصيدة فلا يحتل وسط الصفحة العالي، وهو مختلف عن باقي السطور في أنه يبرز بحجم طباعي مختلف وأكبر. ولقد توصلت إلى الحل الطباعي هذا، لا طمعاً بالتجريب الشكلاني، وإنما لأنني وجدت فيه ما يدل على وجود دورات مختلفة للمعنى في القصيدة الواحدة. فقصائد المجموعة طويلة في غالبها، وتجتمع في وحدات منفصلة ومتواصلة في آن. هكذا ميزت كل وحدة عن غيرها من دون أن أقطعها عنها في صورة تامة، ومن دون أن أجعل من توالي الوحدات تتابعياً في صورة تلقائية أو رقمية. فتوالي الوحدات في القصيدة الواحدة لا يعدم الانفصال التام بينها، ولا التكوكب الجامع لكل وحدة في مبناها الخاص. وهو ما يمكن قوله بالعكس أيضاً: ان انفصال الوحدات في القصيدة الواحدة لا يعدم الاتصال بينها...
* أهي طريقة مختلفة في بناء القصيدة الطويلة المعروفة والمعتمدة كثيراً في الشعر العربي الحديث؟
- لست في موقع يتيح لي الفصل بين تجربتي وغيرها. ما أريد قوله هو أنني أجد بعض القصائد الطويلة في الشعر العربي الحديث يفتقر إلى بناء نصي مخصوص، ويقوم على شيء واقع خارج القصيدة نفسها، في ذات الشاعر، في انتشار أناه، في ذيوعها، في طلبها استجماع الغير في تمام صورتها عن نفسها. ولو شئت المداعبة لقلت ان الشاعر في هذه الحال هو أقرب إلى من يقف على سحابة سماوية، يرى إلى الأشياء من عليائه، مجموعة في تفرقها في قبضة خالق، بل تحت سلطان التسمية والتعيين الذي له. وتكون في ذلك غير مجموعة في ما يمكن عليه البشري، أي أن تكون العناصر والكائنات، أعلى منه مثل جبل، أو أدنى منه مثل حصاة، أو يتناولها بعين الفاحص مثل صدفة بحرية...
وهناك من القصائد الطويلة ما لا يلتم في مبنى حين تتعدد فيه الوحدات والمقاطع، بل تبدو القصيدة الواحدة استعادة أو تكراراً أو استمداداً أو تطويراً لما سبقها في مقاطع. هذا يقيم القصيدة وفق بناء قديم، معروف في البيئات التقليدية، وهو الغناء تبعاً لمطالع ولازمات موسيقية. وهذا يقيم القصيدة أيضاً وفق أنواع من الاجتراح اللغوي، المتكرر، الذي يعمل على استنفاد طاقة الإبلاغ في الكتابة، لا طاقة المعنى. فالشاعر لا يستنفد معناه، ولا يتفقده ولا يفرغ منه، بل يبادله التناولات الخفيفة، العجولة والمتكررة. هكذا تتوقف القصيدة من دون أن تتوقف، وتنتهي من دون أن تنتهي. وهي في ذلك بدء مستعاد، وشعر مرجأ.
* وماذا عن بناء كل قصيدة على حدة في «حاطب ليل»؟
- حلا لي في إحدى دراساتي تشبيه قصيدة النثر بـ«النص المُفَرْدَن»، أي الذي يقوم وفق تدبيرات فردية خالصة. أي أن للقصيدة شكل تحقق، شكل بناء، مخصوصاً في كل مرة. فقد تتدرج هذه القصيدة في تتابع ما، وقد تغور أو تخوض في معناها، وقد تكتشف رسالة مودعة لها في ما يعرض لها، فلا تراها إلا بعد انبجاسها أمامها...
إلا أن الشاعر في ذلك كله متعدد وواحد في آن، يتحكم بالقصيدة ويجعل من صوته محلاً لهبوب الأصوات. ولو استعدت عنواناً شهيراً لأدونيس لقلبته وقلت: الشاعر ليس «مفرداً في صيفة جمع» بل «في صيغة مفردين». بل هو خشبة المسرح والممثلون والحوار والملقن في بعض الأحيان. ولهذا أقول إن القارىء هو القارىء الأول واقعاً، لا الثاني بعد الشاعر.
هذا يعني في حسابي أن قصيدة النثر جديدة دوماً، وغير مسبوقة في شكلها، حيث يقوى الشاعر بين اللفظين، كما في السطر الواحد، من أن يتدبر أمره، من أن يجعل هذه المواد نعمة ذات قابلية للتثمير والاستمداد والتكثير. ذلك أنني أخال الشاعر العمودي لا يعبأ في الغالب بألفاظ القصيدة، لفظاً لفظاً، وتركيباً تركيباً، وشكلاً شكلاً، في السطر الواحد وفي تتابعها - إلا إذا كان سعيد عقل - طالما أنها تؤدي المعنى في مطلوبه، وتناسب التركيب الوزني، فيما لا يقوى على ذلك شاعر قصيدة النثر، بل نراه يولي اللفظ، واندراجه فوق الورق الطباعي، وشكل تتابع الأسطر، عناية لازمة بل فائقة، تتيح له التفعيل المشدد لطاقاتها المتعددة. هكذا تنشأ في قصيدة النثر شبكات، وتتجه في غير وجهة، عدا أنها تحتمل في مبناها وجود مبان متلابسة وشفافة في آن.
* كيف تكون قصيدة النثر، وبموازاة القصيدة العمودية، قصيدة بالتالي؟
- قصيدة النثر قصيدة وغير ذلك في آن. فأنا أجد أن منتقديها اكتفوا بملاحظة القصيدة العمودية ووضعوا حدودها على القصيدة »الملعونة«. وكانوا في ذلك أقرب إلى »لجنة قبول« منهم إلى لجنة قراءة فعلية لها على أية حال. وهذا يصح أحياناً في عدد من المدافعين عنها، إذ تحدثوا عن قصيدة النثر تبعاً لضرورة السجال مع العموديين، فعرَّفوها بما يناسب الرد على خصومها، وغفلوا في الغالب عن درسها الخصوصي.
أعتقد أن قصيدة النثر أغنت تاريخ الأشكال الفنية في عالم العربية غنى مثيراً ووفيراً. وهي أشكال تأخذ من الشعر، ومن النثر، ومن غيرهما أيضاً كالسينما على سبيل المثال، أسبابها وطرق بنائها، وفق اجتهادات متحققة في التشكيل، أي في بناء الشكل، وهي اجتهادات تالية وغير مسبوقة وغير مكرورة بالضرورة. ففي قصيدة النثر استعارية وتخيلية هي من معين الشعر، وفيها ترسل وإبانة وتفصيل هي من معين النثر، وفيها من السرد خصوصاً. وفيها إيقاعية لا تبلغ الوزن، إلا أنها ماثلة في النص، من دون أن تكون متوقعة أو منتظمة أو محسوبة. وهذا يعني أنها موقعة وغير موقعة.
* ولكن ماذا عن بناء قصيدتك المخصوص الذي توليه عناية فائقة، على ما يبدو؟
- أبني قصيدتي فتشملني إذ أتقدم منها. وهي ليست تعبيراً عن انتشاري، عن ذيوعي الحلولي في الموجودات وبين البشر. فأنا لا أصدح بما أنا عليه، بل يتأتى كلامي من معايشة، من مكابدة، من محاسسة، تجعلني في ذاتي محتدماً في غيري، مسبوقاً إليه...
هكذا أتحرى في القصيدة وعنها، أتفقدها واستنفدها، وفق حركة تتقدمني وأسعى إلى الإحاطة بها، أصل إلى ختامها فأجدني خارجها، غريباً عنها، بل زائراً لها.
* تقول في النص السردي، في نهاية «حاطب ليل»، عن علاقتك بالحاسوب: «أخشى الشعر كفاية فلا أصبه في دعوة، في ادعاء معنى أكيد بل تراني أتسرى بحثاً عن الهارب، مما يغوي عيوننا ويفلت منا: لحظة مشرقة من الأبدية». يبدو كأن هذا هو الشعر بالنسبة إليك؟ كيف؟
- يعين كلامي هذا مصدر الشعر وطموحه الأبعد، كما يعين خصوصاً هذه العلاقة التي تقوم على المفاعلة: هذا يجعل القصيدة تجربة، فيها ابتداء واستعادة وتفعيل، وهي في ذلك «بدء ملحوق»، كما قلت في مقدمة مجموعة «تخت شرقي»، أي تسعى إلى استدراكه. هذه المفاعلة مشددة، تنطلق من لحظة، من لقطة، من تركيب، من دون أن يكون بداية تدشينية، بل ابتداء للكلام على أن يفيد معنى مخصوصاً.
سبق لبودلير في نص شهير عن أحد الفنانين الفرنسيين أن عين الفنان »الحديث« بوصفه جامعاً في الفن بين العارض والتاريخي. وهو ما تنكب عنه أدونيس في تعريفه للشعر الحديث في نهاية الخمسينات، على الرغم من أخذه الكثير لأفكار بودلير وغيره من الحداثيين الفرنسيين. ما استوقفني في تعريف أدونيس هو تبرمه من الزمن، من اللحظة، مستمداً الشعر من مصادر أخرى، فيما بدا لي في دراساتي النقدية للشعر الحديث أن الزمن هو السمة الحاسمة التي ميزت حداثة الشعر عن قدامته. فالقصيدة العمودية لا تستمد مصادرها من الوجود، من التجربة، بل من مواضعات مسبقة في الجنس والغرض والمعنى، هي ما ارتضته الجماعة عبر متأدبيها أسساً للجمالية، فتقيدت بها وتبارزت فيها وتمايزت بين شعرائها. فقصائد مثل قصائد ابن الرومي أو أبي نواس أو المعري وغيرهم، أو المتنبي في »الحمى«، قليلة في الشعر العربي القديم، حيث ينشأ المعنى من المكابدة الوجودية، من المعاينة، من لحظ تغيرات الزمن والتفاعل معها.
* إلا أنك في نصك السردي، في نهاية «حاطب ليل»، تنتقد قصيدة اليومي والتالف، قصيدة التفاصيل، كما أسماها البعض؟ فأين أنت؟
- أعرف أن استعادة الفصاحة سطوتها في الشعر العربي الحديث هي التي حركت شعراء عديدين، ولا سيما الشباب كما يقال، صوب اليومي والتالف والتفاصيل وغيرها. وهي بالتالي إعادة وصل القصيدة بما انقطعت عنه، أو جففت مصادره. إلا أنني أخشى في هذه القصائد وقوعها في فصاحة مقلوبة، إذا جاز القول: فإذا كانت القصيدة الحديثة الأولى استعذبت ألفاظاً دون غيرها، فإن الشعراء المجددين انقلبوا علي الألفاظ هذه لصالح غيرها، فبات الكلام عن الساندويش والترام وخصيتي الحبيب وغيرها مطلوباً لذاته، هو الآخر.
هكذا وقعنا في لفظانية لا تفصح عن نفسها تعمل على الإدهاش والإغراب والصدم الجمالي، إذا جاز القول، من دون أن تكون لهذه اللفظانية أسباب تجديدها، ليس في اللغة وحسب، وإنما قبل ذلك في الحراك الوجودي، الذي فيه اللغة والفكر والحس والتجربة خصوصاً.
هكذا لا أفهم أسباب اجتماع الصوفية بالسوريالية، أو الحب بالصوفية، إلا إذا طلبوا الجمع بين غرابتين لغويتين، ليس إلا، بين تجربتين كتابيتين قامتا على إزاحة اللغة عن جاريها. ذلك أننا لو طلبنا ما يقع خلف الكلمات وفيها، في هذه التجارب المختلفة، لوجدنا أنها لا تجتمع، إذ تصدر عن اعتقادات ومعايشات متضاربة. والجامع بينها يكون بالتالي إنشائياً، أسلوبياً، يقوم على استغلال عناصر شكلية في الكتابة ليس إلا. وهو الوجه الآخر للفصاحة المستجدة.
* تقول في النص عينه: «أسأل الشعر عن فردانيته، عن كونه يتوجه إلى قارىء لا إلى جمع»: ما الفرق، ما دام في الحالتين ثمة آخر؟
- أميز في كلامي بين الشخص الطبيعي والشخص الكتابي، وبين الشخص الكتابي وأصوات الكتابة فيه وفي كتابه، إذ أنها متعددة، عدا أن بعضها ينازع بعضها الآخر، سواء في الوجود أو في الكلام.
فالذي يتكلم في «حاطب ليل» ليس واحداً، ولا متطابقاً، خاصة وأنه يقول: «غيري بصفة كوني... »، أو «مشمولاً بغيري... »، أو «أنا أو غيري». والفردية بالتالي تعني عدم الانتظام في صف الجماعة، ولا التحدث إليها بما هو متواضع ومتفق عليه. ولا تعني الفردية بالمقابل مقلوب العلاقة الجمعية، أي مدح الثورة والغرابة والهامشية وغيرها من القيم السلبية. وإنما تعني الفردية التعبير عما ينازع النفس في هويتها، عما تجد معناه في خارجها. كما تعني أيضاً الفارق بين أن يكون القراء جمعاً وبين أن يكونوا قراء مختلفين، يتملكون في أشكال مخصوصة ما نتوجه به إليهم. هم قوامون على القصيدة ومالكون مقيمون ما شاؤوا فيها. ولهم فيها أبدية، إن رغبوا، أو بلغوا.
* تقول: «الشعر هو الميدان الذي يمتحن فيه الشاعر اللغة»، ويمكن أن نضيف بأن اللغة تمتحنه بدورها، فماذا تقول عن العلاقة باللغة؟
- الشاعر يمتحن اللغة طبعاً، ولكنني لا أريد منها القول أو الإيحاء بأي تناول شكلاني أو تزويقي للغة. فالشاعر يمتحن بمعنى يخوض تجربة في اللغة، وبها. ذلك أن الشعر هو الامتحان الأعلى في اللغة وبها، أكثر من وجوه الاستعمال، والتجدد، الأخرى للغة في الأصناف الأدبية. وأنا إذ أتحدث عن الامتحان على أنه تجربة، فهذا يعني أن اللغة تمتحن الشاعر بدورها، في علاقة المفاعلة، التي تحدثت عنها.
* تحكي في هذه المجموعة عن الحجر والصخرة والحصاة والجبال والأشجار والسواقي: ما علاقة الأماكن الأولى في ذاكرتك وحياتك، بقصائد المجموعة؟
- ليست لي علاقة مخصوصة بالأمكنة، وأنا أتحقق في أسفاري الكثيرة من أنني أعتاد على غرفة الفندق، وأتحقق من تغيراتها السريعة، على الرغم من أيامي القليلة فيها. بل أجدني أليفاً مع شاشة الحاسوب أكثر من أي مكان آخر، وهي لا تعدو كونها ورقة مرئية، واحدة ومتكررة، لا يختلف بعضها عن بعضها إلا بما أحدثه في هذه من دون تلك.
أقول هذا من دون أن أغفل أن أمكنة الطفولة، أمكنة اللهو، تبقى منبعاً للصور الانفعالية، وأكثر من غيرها. فأنا قد أعود إليها، خاصة بعد غياب 18 سنة عنها، من دون أن أبادلها لغة الحنين، بل لغة المكاشفة المتأخرة، أو المرجأة منذ وقت بعيد. ففي القصيدة يتحقق المتكلم من أن العناصر الطبيعية هذه تربيه أكثر من جبران، وأنه يلهو بحصاها ويقايض بها كالعملة لكنها تستنفده. فإن أتى المتكلمَ الغناء فهو غناء خافت، بل مكتوم.
هكذا يتحدث المتكلم عن صعوبة السيرة، عن صعوبة العودة، لا عن خرافة الأصول. فيستشعر في الحركات، في الأفعال، ما يعيق فرديته الكامنة: فهو حاطب ليل له إقبال النهم على الوجود فلا يميز فيه بين قضاء الحاجة والتذوق.
* كيف تصف كناقد حال الشعر العربي الحديث اليوم؟ فقد انطلق الشعر الحديث من دعاوى كبرى بدت هي حاملته الإيديولوجية (حتى عندما تكون الإيديولوجيا) ليصل إلى حال من اللادعاوى واللابيانات واللاتغيير، وفي الأثناء هذه يبدو أن سؤال قصيدة النثر لم يعد مطروحاً في السجال، بمعنى أنها أوجدت لنفسها مكاناً؟
- سؤال بحجم مشهد عريض، إذا جاز القول. سأبدأ حيث انتيهت، وهو أن قصيدة النثر استقرت فعلاً في المشهد الشعري العربي، بل باتت تحتل غالبه، على ما تحققت في إحدى دراساتي النقدية. إلا أن مكانتها الأكيدة تبقى إجمالية، إذا جاز القول، فما تم درسها بروية وتمعن، فتخرج من التعصب لها أو عليها. فهذه القصيدة تعني، بل عنت في تجاربها العربية، حرية الشاعر المطلقة في قصيدته، وهو الذي دفع العديدين إليها، ولا سيما من الشباب ومن المتمردين، من دون أن تكون الحرية ضمانة للجودة الفنية دوماً. فعنت الحرية في أحوال بعض الشعراء التحلل اللغوي والخلوص إلى لفظانية لا يسعها وحدها أن ترفع اليومي من الكلام إلى عالي الشعر.
فما نغفل عنه هو واقع الشقة، بل الهوة، بين اليومي، أي العامي العربي، من جهة، وبين لغة الكتابة نفسها، أي العربية الفصحى، من جهة ثانية، وهي شقة لا تبلغها، على سبيل المثال، اللغة الفرنسية أو الانكليزية. وما نغفل عنه كذلك، أو ما لا يقبل به البعض من الشعراء، هو أن الشعر اشتغال عال باللغة، فلا يعني هذا فوقيتها، بل تكثير وتبديل دلالاتها، وهو ما لا يتيحه الكلام اليومي في معانيه المتداولة وضعف مردودية دلالاته.
* إلا أن هذا لا يمنع دخول ألفاظ عامية في شعرك؟
- طبعاً. بل أجد هذه الألفاظ ترن في مواضعها في القصيدة الرنة المناسبة. إلى هذا، أجد أن لغة الشعر، مع قصيدة النثر تحديداً، تقوم على كتابة النص، لا على خطابته، لو شئنا الاختصار. هذا يؤدي بالضرورة إلى تخفيف النبر الشفوي في القصيدة، المستقى من ضعط الكلام التلقائي والمأخوذ من انبثاقات الكلام اليومي، لصالح سلوكات كتابية تعول على القراءة، وبالتالي على التركيب، لا على السماع.
* وماذا عن توصيف المشهد الشعري بين لحظتيه، بين الدعاوى الكبرى سابقاً والتبرم منها حالياً، كما ذكرنا؟
- أجد هذا الوصف موفقاً، ويناسب لحظة في العالمية تتنكب، هي بدورها، عن الدعاوى والعروض الشمولية، لصالح دعاوى مضادة وجزئية. وإذا كان لي أن أختار بين الوجهتين، فأجدنى أقرب إلي الوجهة الثانية مني إلى الأولى. ولو شئت إبراز قول نهائي لاستعدت ما كتبته عن أن الشعر «لحظة مشرقة من الأبدية»
(جريدة "المستقبل"، بيروت، 18 حزيران-يونيو 2001).
Normal 0 false false false MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;}
مع سامر أبو هواش: القصيدة بالنثر قصيدة وغيرها في آن
صدرت مجموعة شعرية جديدة للشاعر والناقد شربل داغر بعنوان "حاطب ليل"، هي الرابعة له منذ العام 1981. يشتغل داغر على مفهوم القصيدة وبنيتها وتركيبها الداخلي مسائلاً الشعارات التي ترفعها وتتبناها بعض الأصوات الحداثية العربية.
* أول مجموعة شعرية صدرت لك في 1981، أي في وقت مبكر نسبياً، وانقطعت فترة طويلة لتعود، ماذا عن الانقطاع، ثم العودة؟
- لا أحسن الجواب في صورة أكيدة عن هذا السؤال. فأنا انقطعت عن الشعر من دون أن أنقطع، طالما أن قسماً من قصائد مجموعتي السابقة، »تخت شرقي«، يرقى إلى العامين 1982 و1983. عدا أنني دخلت إلى الشعر في صورة غير عمدية في الكتابين الأولين: فالأول، »فتات البياض«، دفعني إلى نشره الشاعر الصديق محمود درويش، إذ بادرني بالقول ذات يوم: كيف يرد خبر عنك شاعراً، وأنت لم تنشر مجموعة واحدة بعد! حرت جواباً يومها... واستعاد محاولته مرة ثانية، فكان أن وضعت بين يديه بعد وقت المجموعة، وكتبت في مطلعها هذا الإهداء: «إلى شربل: لئلا يصير شاعراً»، بنوع من المداعبة ضد الصديق درويش نفسه. أما الكتاب، «رشم»، فتعود فكرته إلى صديق آخر، الفنان التشكيلي البحريني جمال عبد الرحيم، الذي طلب مني وضع محفورات فنية انطلاقاً من قصيدة طويلة لي غير منشورة. وهكذا كان...
* وماذا عن الكتابين الأخيرين؟
- لم أرتكبهما عفواً، أو بالصدفة. فضلاً عن أنني أتحمل مسؤولية نشرهما وحدي (ضاحكاً). إلا أن ما يشغلني فيهما يتعدى شخصي القانوني، أنا الواضع اسمه على صدر الغلاف. ففيهما ما عاشرته زمناً، وما وقعت عليه صدفة وغيرها من الأحوال النصية التي تلتم على بعضها البعض التماماً محيراً للشاعر نفسه، لي على أي حال. ففي القصيدة أصوات تتعداني، ولست سوى حامل لها، وفيها ما يأتيني من غيري وأتبناه، وفيها ما يصدر عني وأراه في مرآة تقع فيها وجوه غيري كذلك.
* القارىء في «حاطب ليل» يلاحظ اتساع العبارة إلى ما هو خارج السرد (الأنا)، إلى الأشياء والعناصر وإلى بشر آخرين، أي بدلاً من سرد الذات هناك سرد العالم، سرد الذات في العالم...
- لا تصدر المجموعة عن ذات أكيدة في إعلاناتها وتوكيداتها، عن نفسها وعن غيرها، مثلما يجري عادة في شعرنا حيث المجموعة مدونة لإبراز المتكلم، ولإظهار دعاويه عبر الكلام. أنتسب وأسعى في الوقت عينه إلى طريقة أخرى لا يكون فيها المعنى سابقاً على تحققه في القصيدة، إذ أنه يكون في ذلك تعبيراً مسقطاً فوق الورق، تعبيراً منزلاً، أي جاهزاً بكيفية ما وعاكساً للمعاني المتداولة. وهي طريقة في كتابة الشعر لا يكون المعنى فيها تالياً على الكتابة نفسها، أي التجلي الربوبي عبر الكلمات، مثل من يرمي نرده ويتحقق بعد وقت مما أصاب أو مما لم يصب في لعبة التعبير التي قد تقع في نوع من الهباء الجمالي، وربما في خلاء المعنى كذلك، أو في الإنشائية المفتونة برنين كلماتها.
فالمعنى عندي إنتاج للمعنى، مكابدة في التعبير لا تختلف عن المكابدة في الوجود نفسه. والكتابة تجربة في هذه الحال، يتحرك فيها الشاعر بين الظن والهجس والتحسس. والقصيدة عندي ليست امتحاناً للغة، ولا تجريباً لتحققاتها الممكنة، وإلا وقعنا في لفظانية نرجسية تحيل صور العالم المختلفة إلى مرآة فردية ثابتة، وتجعل الحبيبة وجهاً آخر للأنا، والثورة تفشياً ذيوعياً للفحولة...
* فيكون المعنى قيد التجريب والبناء، والأنا قيد النقد.
- أجل. فالمعنى ليس ما أتلفظ به، ولا ما أسبغه على الموجودات، بل هو واقع بيني وبينها، في مدى القصيدة، في عمقها المتولد، في شبكتها الحوارية التي تقيمني فيها محاوراً لا محاضراً، والتي تبادلني الكلام في الوقت الذي أجلس قبالتها. هذا يشبه اشتغال التشكيلي على لوحته في أحوال متقطعة ومتمادية، والذي لا يلبث أن يزورها بعد أن أقام فيها، فتكون «أليفة مجهولة»، مثلما قلت في قصيدة في «تخت شرقي». وهو ما أقوله في صور وأشكال عديدة في المجموعة الجديدة، إذ تبدو فيها الأنا تتنصت لغيرها بقدر ما تخبرها أو تبلغها، وتعاين الصور واللقطات بقدر ما تلونها. أنا تستهدي إلى الكلام عندما تتحسسه، وتتلقفه وتستعيده قبل أن تعيده من جديد إلى دورته الخارجية، خارج الشاعر، بين أيدي القراء أنفسهم.
هذا يعني التخفيف من غلواء الذات، من انتشارها الحلولي في الكائنات والعناصر، طمعاً بقول السرد في العالم وسرد الذات في العالم، كما قلت في سؤالك. فأنا لا أسوس الكلمات، ولا أتبرج بها، وإنما أفتحها مثل رسالة مختومة من دون توقيع على أنني استعيدها وأوجهها بدوري إلي قراء محتملين.
تجتمع لغة الشعر بالتالي تحت لفظ اللسان: ما أذوقه ويتكلمني، ما أمتلكه ويعود لغيري.
* هناك صلة عضوية وبنيوية بين القصائد وعناوينها، هل حدثتنا عن ذلك، وعطفاً عليه على التجريب في القصيدة، بمعنى التفكير في بناء كل قصيدة على حدة؟
- الملاحظة سليمة، وتشير إلى حل طباعي لما هو بنائي في القصيدة. فالعنوان هو الجملة، بل السطر الأول في غير قصيدة، وهو مندمج بتوالي أسطر القصيدة فلا يحتل وسط الصفحة العالي، وهو مختلف عن باقي السطور في أنه يبرز بحجم طباعي مختلف وأكبر. ولقد توصلت إلى الحل الطباعي هذا، لا طمعاً بالتجريب الشكلاني، وإنما لأنني وجدت فيه ما يدل على وجود دورات مختلفة للمعنى في القصيدة الواحدة. فقصائد المجموعة طويلة في غالبها، وتجتمع في وحدات منفصلة ومتواصلة في آن. هكذا ميزت كل وحدة عن غيرها من دون أن أقطعها عنها في صورة تامة، ومن دون أن أجعل من توالي الوحدات تتابعياً في صورة تلقائية أو رقمية. فتوالي الوحدات في القصيدة الواحدة لا يعدم الانفصال التام بينها، ولا التكوكب الجامع لكل وحدة في مبناها الخاص. وهو ما يمكن قوله بالعكس أيضاً: ان انفصال الوحدات في القصيدة الواحدة لا يعدم الاتصال بينها...
* أهي طريقة مختلفة في بناء القصيدة الطويلة المعروفة والمعتمدة كثيراً في الشعر العربي الحديث؟
- لست في موقع يتيح لي الفصل بين تجربتي وغيرها. ما أريد قوله هو أنني أجد بعض القصائد الطويلة في الشعر العربي الحديث يفتقر إلى بناء نصي مخصوص، ويقوم على شيء واقع خارج القصيدة نفسها، في ذات الشاعر، في انتشار أناه، في ذيوعها، في طلبها استجماع الغير في تمام صورتها عن نفسها. ولو شئت المداعبة لقلت ان الشاعر في هذه الحال هو أقرب إلى من يقف على سحابة سماوية، يرى إلى الأشياء من عليائه، مجموعة في تفرقها في قبضة خالق، بل تحت سلطان التسمية والتعيين الذي له. وتكون في ذلك غير مجموعة في ما يمكن عليه البشري، أي أن تكون العناصر والكائنات، أعلى منه مثل جبل، أو أدنى منه مثل حصاة، أو يتناولها بعين الفاحص مثل صدفة بحرية...
وهناك من القصائد الطويلة ما لا يلتم في مبنى حين تتعدد فيه الوحدات والمقاطع، بل تبدو القصيدة الواحدة استعادة أو تكراراً أو استمداداً أو تطويراً لما سبقها في مقاطع. هذا يقيم القصيدة وفق بناء قديم، معروف في البيئات التقليدية، وهو الغناء تبعاً لمطالع ولازمات موسيقية. وهذا يقيم القصيدة أيضاً وفق أنواع من الاجتراح اللغوي، المتكرر، الذي يعمل على استنفاد طاقة الإبلاغ في الكتابة، لا طاقة المعنى. فالشاعر لا يستنفد معناه، ولا يتفقده ولا يفرغ منه، بل يبادله التناولات الخفيفة، العجولة والمتكررة. هكذا تتوقف القصيدة من دون أن تتوقف، وتنتهي من دون أن تنتهي. وهي في ذلك بدء مستعاد، وشعر مرجأ.
* وماذا عن بناء كل قصيدة على حدة في «حاطب ليل»؟
- حلا لي في إحدى دراساتي تشبيه قصيدة النثر بـ«النص المُفَرْدَن»، أي الذي يقوم وفق تدبيرات فردية خالصة. أي أن للقصيدة شكل تحقق، شكل بناء، مخصوصاً في كل مرة. فقد تتدرج هذه القصيدة في تتابع ما، وقد تغور أو تخوض في معناها، وقد تكتشف رسالة مودعة لها في ما يعرض لها، فلا تراها إلا بعد انبجاسها أمامها...
إلا أن الشاعر في ذلك كله متعدد وواحد في آن، يتحكم بالقصيدة ويجعل من صوته محلاً لهبوب الأصوات. ولو استعدت عنواناً شهيراً لأدونيس لقلبته وقلت: الشاعر ليس «مفرداً في صيفة جمع» بل «في صيغة مفردين». بل هو خشبة المسرح والممثلون والحوار والملقن في بعض الأحيان. ولهذا أقول إن القارىء هو القارىء الأول واقعاً، لا الثاني بعد الشاعر.
هذا يعني في حسابي أن قصيدة النثر جديدة دوماً، وغير مسبوقة في شكلها، حيث يقوى الشاعر بين اللفظين، كما في السطر الواحد، من أن يتدبر أمره، من أن يجعل هذه المواد نعمة ذات قابلية للتثمير والاستمداد والتكثير. ذلك أنني أخال الشاعر العمودي لا يعبأ في الغالب بألفاظ القصيدة، لفظاً لفظاً، وتركيباً تركيباً، وشكلاً شكلاً، في السطر الواحد وفي تتابعها - إلا إذا كان سعيد عقل - طالما أنها تؤدي المعنى في مطلوبه، وتناسب التركيب الوزني، فيما لا يقوى على ذلك شاعر قصيدة النثر، بل نراه يولي اللفظ، واندراجه فوق الورق الطباعي، وشكل تتابع الأسطر، عناية لازمة بل فائقة، تتيح له التفعيل المشدد لطاقاتها المتعددة. هكذا تنشأ في قصيدة النثر شبكات، وتتجه في غير وجهة، عدا أنها تحتمل في مبناها وجود مبان متلابسة وشفافة في آن.
* كيف تكون قصيدة النثر، وبموازاة القصيدة العمودية، قصيدة بالتالي؟
- قصيدة النثر قصيدة وغير ذلك في آن. فأنا أجد أن منتقديها اكتفوا بملاحظة القصيدة العمودية ووضعوا حدودها على القصيدة »الملعونة«. وكانوا في ذلك أقرب إلى »لجنة قبول« منهم إلى لجنة قراءة فعلية لها على أية حال. وهذا يصح أحياناً في عدد من المدافعين عنها، إذ تحدثوا عن قصيدة النثر تبعاً لضرورة السجال مع العموديين، فعرَّفوها بما يناسب الرد على خصومها، وغفلوا في الغالب عن درسها الخصوصي.
أعتقد أن قصيدة النثر أغنت تاريخ الأشكال الفنية في عالم العربية غنى مثيراً ووفيراً. وهي أشكال تأخذ من الشعر، ومن النثر، ومن غيرهما أيضاً كالسينما على سبيل المثال، أسبابها وطرق بنائها، وفق اجتهادات متحققة في التشكيل، أي في بناء الشكل، وهي اجتهادات تالية وغير مسبوقة وغير مكرورة بالضرورة. ففي قصيدة النثر استعارية وتخيلية هي من معين الشعر، وفيها ترسل وإبانة وتفصيل هي من معين النثر، وفيها من السرد خصوصاً. وفيها إيقاعية لا تبلغ الوزن، إلا أنها ماثلة في النص، من دون أن تكون متوقعة أو منتظمة أو محسوبة. وهذا يعني أنها موقعة وغير موقعة.
* ولكن ماذا عن بناء قصيدتك المخصوص الذي توليه عناية فائقة، على ما يبدو؟
- أبني قصيدتي فتشملني إذ أتقدم منها. وهي ليست تعبيراً عن انتشاري، عن ذيوعي الحلولي في الموجودات وبين البشر. فأنا لا أصدح بما أنا عليه، بل يتأتى كلامي من معايشة، من مكابدة، من محاسسة، تجعلني في ذاتي محتدماً في غيري، مسبوقاً إليه...
هكذا أتحرى في القصيدة وعنها، أتفقدها واستنفدها، وفق حركة تتقدمني وأسعى إلى الإحاطة بها، أصل إلى ختامها فأجدني خارجها، غريباً عنها، بل زائراً لها.
* تقول في النص السردي، في نهاية «حاطب ليل»، عن علاقتك بالحاسوب: «أخشى الشعر كفاية فلا أصبه في دعوة، في ادعاء معنى أكيد بل تراني أتسرى بحثاً عن الهارب، مما يغوي عيوننا ويفلت منا: لحظة مشرقة من الأبدية». يبدو كأن هذا هو الشعر بالنسبة إليك؟ كيف؟
- يعين كلامي هذا مصدر الشعر وطموحه الأبعد، كما يعين خصوصاً هذه العلاقة التي تقوم على المفاعلة: هذا يجعل القصيدة تجربة، فيها ابتداء واستعادة وتفعيل، وهي في ذلك «بدء ملحوق»، كما قلت في مقدمة مجموعة «تخت شرقي»، أي تسعى إلى استدراكه. هذه المفاعلة مشددة، تنطلق من لحظة، من لقطة، من تركيب، من دون أن يكون بداية تدشينية، بل ابتداء للكلام على أن يفيد معنى مخصوصاً.
سبق لبودلير في نص شهير عن أحد الفنانين الفرنسيين أن عين الفنان »الحديث« بوصفه جامعاً في الفن بين العارض والتاريخي. وهو ما تنكب عنه أدونيس في تعريفه للشعر الحديث في نهاية الخمسينات، على الرغم من أخذه الكثير لأفكار بودلير وغيره من الحداثيين الفرنسيين. ما استوقفني في تعريف أدونيس هو تبرمه من الزمن، من اللحظة، مستمداً الشعر من مصادر أخرى، فيما بدا لي في دراساتي النقدية للشعر الحديث أن الزمن هو السمة الحاسمة التي ميزت حداثة الشعر عن قدامته. فالقصيدة العمودية لا تستمد مصادرها من الوجود، من التجربة، بل من مواضعات مسبقة في الجنس والغرض والمعنى، هي ما ارتضته الجماعة عبر متأدبيها أسساً للجمالية، فتقيدت بها وتبارزت فيها وتمايزت بين شعرائها. فقصائد مثل قصائد ابن الرومي أو أبي نواس أو المعري وغيرهم، أو المتنبي في »الحمى«، قليلة في الشعر العربي القديم، حيث ينشأ المعنى من المكابدة الوجودية، من المعاينة، من لحظ تغيرات الزمن والتفاعل معها.
* إلا أنك في نصك السردي، في نهاية «حاطب ليل»، تنتقد قصيدة اليومي والتالف، قصيدة التفاصيل، كما أسماها البعض؟ فأين أنت؟
- أعرف أن استعادة الفصاحة سطوتها في الشعر العربي الحديث هي التي حركت شعراء عديدين، ولا سيما الشباب كما يقال، صوب اليومي والتالف والتفاصيل وغيرها. وهي بالتالي إعادة وصل القصيدة بما انقطعت عنه، أو جففت مصادره. إلا أنني أخشى في هذه القصائد وقوعها في فصاحة مقلوبة، إذا جاز القول: فإذا كانت القصيدة الحديثة الأولى استعذبت ألفاظاً دون غيرها، فإن الشعراء المجددين انقلبوا علي الألفاظ هذه لصالح غيرها، فبات الكلام عن الساندويش والترام وخصيتي الحبيب وغيرها مطلوباً لذاته، هو الآخر.
هكذا وقعنا في لفظانية لا تفصح عن نفسها تعمل على الإدهاش والإغراب والصدم الجمالي، إذا جاز القول، من دون أن تكون لهذه اللفظانية أسباب تجديدها، ليس في اللغة وحسب، وإنما قبل ذلك في الحراك الوجودي، الذي فيه اللغة والفكر والحس والتجربة خصوصاً.
هكذا لا أفهم أسباب اجتماع الصوفية بالسوريالية، أو الحب بالصوفية، إلا إذا طلبوا الجمع بين غرابتين لغويتين، ليس إلا، بين تجربتين كتابيتين قامتا على إزاحة اللغة عن جاريها. ذلك أننا لو طلبنا ما يقع خلف الكلمات وفيها، في هذه التجارب المختلفة، لوجدنا أنها لا تجتمع، إذ تصدر عن اعتقادات ومعايشات متضاربة. والجامع بينها يكون بالتالي إنشائياً، أسلوبياً، يقوم على استغلال عناصر شكلية في الكتابة ليس إلا. وهو الوجه الآخر للفصاحة المستجدة.
* تقول في النص عينه: «أسأل الشعر عن فردانيته، عن كونه يتوجه إلى قارىء لا إلى جمع»: ما الفرق، ما دام في الحالتين ثمة آخر؟
- أميز في كلامي بين الشخص الطبيعي والشخص الكتابي، وبين الشخص الكتابي وأصوات الكتابة فيه وفي كتابه، إذ أنها متعددة، عدا أن بعضها ينازع بعضها الآخر، سواء في الوجود أو في الكلام.
فالذي يتكلم في «حاطب ليل» ليس واحداً، ولا متطابقاً، خاصة وأنه يقول: «غيري بصفة كوني... »، أو «مشمولاً بغيري... »، أو «أنا أو غيري». والفردية بالتالي تعني عدم الانتظام في صف الجماعة، ولا التحدث إليها بما هو متواضع ومتفق عليه. ولا تعني الفردية بالمقابل مقلوب العلاقة الجمعية، أي مدح الثورة والغرابة والهامشية وغيرها من القيم السلبية. وإنما تعني الفردية التعبير عما ينازع النفس في هويتها، عما تجد معناه في خارجها. كما تعني أيضاً الفارق بين أن يكون القراء جمعاً وبين أن يكونوا قراء مختلفين، يتملكون في أشكال مخصوصة ما نتوجه به إليهم. هم قوامون على القصيدة ومالكون مقيمون ما شاؤوا فيها. ولهم فيها أبدية، إن رغبوا، أو بلغوا.
* تقول: «الشعر هو الميدان الذي يمتحن فيه الشاعر اللغة»، ويمكن أن نضيف بأن اللغة تمتحنه بدورها، فماذا تقول عن العلاقة باللغة؟
- الشاعر يمتحن اللغة طبعاً، ولكنني لا أريد منها القول أو الإيحاء بأي تناول شكلاني أو تزويقي للغة. فالشاعر يمتحن بمعنى يخوض تجربة في اللغة، وبها. ذلك أن الشعر هو الامتحان الأعلى في اللغة وبها، أكثر من وجوه الاستعمال، والتجدد، الأخرى للغة في الأصناف الأدبية. وأنا إذ أتحدث عن الامتحان على أنه تجربة، فهذا يعني أن اللغة تمتحن الشاعر بدورها، في علاقة المفاعلة، التي تحدثت عنها.
* تحكي في هذه المجموعة عن الحجر والصخرة والحصاة والجبال والأشجار والسواقي: ما علاقة الأماكن الأولى في ذاكرتك وحياتك، بقصائد المجموعة؟
- ليست لي علاقة مخصوصة بالأمكنة، وأنا أتحقق في أسفاري الكثيرة من أنني أعتاد على غرفة الفندق، وأتحقق من تغيراتها السريعة، على الرغم من أيامي القليلة فيها. بل أجدني أليفاً مع شاشة الحاسوب أكثر من أي مكان آخر، وهي لا تعدو كونها ورقة مرئية، واحدة ومتكررة، لا يختلف بعضها عن بعضها إلا بما أحدثه في هذه من دون تلك.
أقول هذا من دون أن أغفل أن أمكنة الطفولة، أمكنة اللهو، تبقى منبعاً للصور الانفعالية، وأكثر من غيرها. فأنا قد أعود إليها، خاصة بعد غياب 18 سنة عنها، من دون أن أبادلها لغة الحنين، بل لغة المكاشفة المتأخرة، أو المرجأة منذ وقت بعيد. ففي القصيدة يتحقق المتكلم من أن العناصر الطبيعية هذه تربيه أكثر من جبران، وأنه يلهو بحصاها ويقايض بها كالعملة لكنها تستنفده. فإن أتى المتكلمَ الغناء فهو غناء خافت، بل مكتوم.
هكذا يتحدث المتكلم عن صعوبة السيرة، عن صعوبة العودة، لا عن خرافة الأصول. فيستشعر في الحركات، في الأفعال، ما يعيق فرديته الكامنة: فهو حاطب ليل له إقبال النهم على الوجود فلا يميز فيه بين قضاء الحاجة والتذوق.
* كيف تصف كناقد حال الشعر العربي الحديث اليوم؟ فقد انطلق الشعر الحديث من دعاوى كبرى بدت هي حاملته الإيديولوجية (حتى عندما تكون الإيديولوجيا) ليصل إلى حال من اللادعاوى واللابيانات واللاتغيير، وفي الأثناء هذه يبدو أن سؤال قصيدة النثر لم يعد مطروحاً في السجال، بمعنى أنها أوجدت لنفسها مكاناً؟
- سؤال بحجم مشهد عريض، إذا جاز القول. سأبدأ حيث انتيهت، وهو أن قصيدة النثر استقرت فعلاً في المشهد الشعري العربي، بل باتت تحتل غالبه، على ما تحققت في إحدى دراساتي النقدية. إلا أن مكانتها الأكيدة تبقى إجمالية، إذا جاز القول، فما تم درسها بروية وتمعن، فتخرج من التعصب لها أو عليها. فهذه القصيدة تعني، بل عنت في تجاربها العربية، حرية الشاعر المطلقة في قصيدته، وهو الذي دفع العديدين إليها، ولا سيما من الشباب ومن المتمردين، من دون أن تكون الحرية ضمانة للجودة الفنية دوماً. فعنت الحرية في أحوال بعض الشعراء التحلل اللغوي والخلوص إلى لفظانية لا يسعها وحدها أن ترفع اليومي من الكلام إلى عالي الشعر.
فما نغفل عنه هو واقع الشقة، بل الهوة، بين اليومي، أي العامي العربي، من جهة، وبين لغة الكتابة نفسها، أي العربية الفصحى، من جهة ثانية، وهي شقة لا تبلغها، على سبيل المثال، اللغة الفرنسية أو الانكليزية. وما نغفل عنه كذلك، أو ما لا يقبل به البعض من الشعراء، هو أن الشعر اشتغال عال باللغة، فلا يعني هذا فوقيتها، بل تكثير وتبديل دلالاتها، وهو ما لا يتيحه الكلام اليومي في معانيه المتداولة وضعف مردودية دلالاته.
* إلا أن هذا لا يمنع دخول ألفاظ عامية في شعرك؟
- طبعاً. بل أجد هذه الألفاظ ترن في مواضعها في القصيدة الرنة المناسبة. إلى هذا، أجد أن لغة الشعر، مع قصيدة النثر تحديداً، تقوم على كتابة النص، لا على خطابته، لو شئنا الاختصار. هذا يؤدي بالضرورة إلى تخفيف النبر الشفوي في القصيدة، المستقى من ضعط الكلام التلقائي والمأخوذ من انبثاقات الكلام اليومي، لصالح سلوكات كتابية تعول على القراءة، وبالتالي على التركيب، لا على السماع.
* وماذا عن توصيف المشهد الشعري بين لحظتيه، بين الدعاوى الكبرى سابقاً والتبرم منها حالياً، كما ذكرنا؟
- أجد هذا الوصف موفقاً، ويناسب لحظة في العالمية تتنكب، هي بدورها، عن الدعاوى والعروض الشمولية، لصالح دعاوى مضادة وجزئية. وإذا كان لي أن أختار بين الوجهتين، فأجدنى أقرب إلي الوجهة الثانية مني إلى الأولى. ولو شئت إبراز قول نهائي لاستعدت ما كتبته عن أن الشعر «لحظة مشرقة من الأبدية»
(جريدة "المستقبل"، بيروت، 18 حزيران-يونيو 2001).