مع محمد جميل خضر: الشعر يُغني اللغة، والمعنى لعبة
مثل رامبو "العابر الهائل بنعال من ريح"، يعبر الشاعر والناقد اللبناني شربل داغر بين حضارتين ولغتين مفجراً من كلّ ذلك آفاقاً خصبة وفضاءات أوسع للتحليق في احتمالات المعنى وحساسيات المفردات البكر. وشربل داغر أقام في باريس ما ينوف عن ثمانية عشر عاماً، واشتبك هناك مع الفكر والفنّ الفرنسي، وعمل في عدد من المجلات العربية الدورية في باريس. ولداغر الذي يعمل أستاذاً متفرّغاً في جامعة البلمند في لبنان عدد من المؤلّفات الشعرية والنقدية، إضافة إلى ترجمته لرسائل رامبو التي جمعها تحت عنوان "العابر الهائل بنعال من ريح" وترجمته لمختارات من شعر اندريه شديد إلى العربية وإصداره لها في كتاب "شمل تشابه ضائع" وغيرها من الكتب المترجمة. ومن دواوينه الشعرية "رشم" العام 2000 إضافةً إلى ديوانه القديم "فتات البياض" العام 1981 وله الكتاب-المرجع "الشعرية العربية الحديثة" العام 1988، كما كتب حول الحروفية العربية وتناول صناعة الزينة والجمال في الفنّ الإسلامي وقرأ المقدّسات الليبرالية للحداثة في عصر النهضة من خلال كتابه "عصر النهضة: مقوّمات ليبرالية للحداثة" العام 2000.
وينحو داغر في قصيدته النثرية نحو التقاط أكثر المشاهد عادية بعين عالية الحساسية وبشغف شديد اللذاذة والاختلاف، ويدخل نصّه الشعري بقلب الراغب وعقل المنقب حتى يصل أقصى إمكانات المغامرة وتفيؤات الدهشة.
وكان الشاعر قرأ أمس في "بيت الشعر" (...)، وقدّمه خلالها الشاعر يوسف عبد العزيز. وكانت "الرأي" التقت الشاعر عشيّة أمسيته خلال هذا الحوار الذي تطرّق إلى الشعر والشعرية والنقد والقصيدة الحديثة:
* عندما رغبت في وصف مناخات تشكّل القصيدة داخلك عرَّفت الشعر بأنّه "صوت الكلام وماؤه الجاري في عيوننا"، فهل في تعريفك هذا ما يوحي ويشير إلى ذهابك نحو الرسم والتشكيل بالكلمات؟
- الشعر الحديث في ظنّي أنزل كتابة القصيدة من علياء المواضعات والأغراض المسبقة فتهيأت لنا قصيدة جديدة جعلتنا نتعرّف على دنيانا وتعبق فيها مناخاتنا. إلاّ أنّ هذا النزول بلغ في مرحلة تالية النمط الحداثي أي أنّ القصيدة الحديثة أصبحت ذات تقليد وانقطعت عمّا أسّس لها. بهذا المعنى أصبحنا نقرأ قصائد حديثة تقلّد قصائد حديثة، وباتت هناك لغة معيّنة على أنّها لغة الحداثة، ودخلنا في ما يمكن تسميته بفصاحة القصيدة الحديثة. ما سعيتُ إليه في شعري هو الخروج إلى حيث تنبض الحياة، إلى ما أسمّيه بالتجربة. والتجربة هي فعل حياتي وجودي قد يكون شديد الخفّة مثل ابتسامة عابرة، وقد يكون مثقلاً بتاريخ يتعيّن في لحظة. والتجربة عندي هي تجربة الكتابة أيضاً، أي ما تستقبله الكتابة، وتعالجه وتحوّله فيما يشبه تكثيف الحياة نفسها، أو التعويض عنها في أحيان أخرى. لذلك فالسؤال عن تشكيلية القصيدة لا يتعيّن فقط في مقاربة جمالية للقصيدة، وإنّما أيضاً في السعي إلى إراءة العالم، إلى جعله حيوياً كما هو. وهو ما توقّف عنده الشاعر والناقد المصري أمجد ريان في دراسة بعنوان "شعرية المجاز المشهدي" والمتعلقة بمجموعتي الشعرية "تخت شرقي".
* تربط بين القصيدة والقصيدة، وتتحدّث عن التقديم والتأخير والشطب والزيادة لكي ينجز الشعراء قصائدهم ثم تعود وتصوّر الشاعر بأنّه صياد في ماء الصدفة. وتأتي في التقديم الذي أردته على مشارف مجموعتك الشعرية "تخت شرقي" على كلّ شيء إلاّ أنّك تظلّ بعيداً عن محاكاة السوية الجمالية لما يجترحه الشعراء من شعر. في ذلك إجحاف لأحد أهمّ قيم الإبداع والإقناع؟ فأنا قبل وبعد كلّ شيء سأبقى أقول هذا نصّ جميل وهذا نصّ غير جميل. فما رأيك في كلّ ذلك؟
- سعيت في هذه المقدّمة إلى القول بأنّ الشعر مثل العمارة عمل بنائي يقوم على معالجات مختلفة من التصوّر والسعي والتدبير والشطب والتعديل وغيرها من العمليات. وهو قول في الشعر قلّما نطرحه، إذ أنّ الشعر حتى في حداثيتنا يبدو نبوي النبرة في بعضه، أو يجعل الشعر تعبيراً يريده أميناً لإحساس أو لتجربة، فيما الشعر في ظنّي يحتاج إلى مهارة عالية وإلى حرفة قوية على أنّ مؤداها هو إظهار القصيدة كما لو أنّها انبثقت مثل ماء متفجّر، أي بتلقائية عنيفة وصادمة. وما تعرّضت له يجتمع في قول آخر في مجموعة أولى هو أنّ الشعر لحظة مشرقة من الأبدية أيّ أنّه يطلب هذه العلاقة بين الآن والمطلق، بين الحسّ والتجريد، بين العملي والذهني، أيّ أنّه كثافة حيوية للإنسان وعنه.
* رغم عزوف كثير من الشعراء عن أدوات الوصل وتجنّبهم لأغلب الزوائد الكلامية، إمعاناً منهم في إضفاء الشعرية على نصوصهم، إلاّ أنّك في كثير من قصائدك جعلت من هذه الحروف والأدوات روافع جمالية لنصّك الشعري وأسباب دهشة. فكيف اهتديت إلى هذه المفارقة؟
- واقعاً لا أعرف ذلك. ما أعرفه أو ما أقصده في القصيدة هو أن لا يأتي معناها مصبوباً في قوالب اللغة، بل تولد تراكيب اللغة هذا المعنى. فما استوقفني في عدد كبير من قصائد النثر العربية هو أنّها تتعامل مع اللغة مثل وعاء وأداة، على أنّ المعنى مسبوق، وليس على اللغة غير أن تلوّنه فوق الورق. وأمّا أنّ المعنى يأتي بعد انبناء اللغة في فعل الكتابة، هذا ما تجنّبته بنوع من اللعب الحاذق بين العفوية والتحكّم، بين ترك اللغة تتقدّم وبين معالجة لاحقة لها. ذلك أنّنا ننسى أنّ القصيدة هي مثل اللوحة عند الفنان، وقد تقتصر في أحوال على معالجات للون واحد، أو لشكل واحد. يكون العنصر في هذه الحالة هو كيفية أن يقول الشكل يولد المعني، وهو ما يقوم به الموسيقي أحياناً إذ يكتفي بوتر واحد بدل اعتماد آلات عديدة في العزف والتأليف. وأسعى في القصيدة إلى استغلال طاقات العربية، بل إلى توليد مفردات جديدة فيها. فالشعر هو الذي يجود اللغة أكثر من غيره. ففي مجموعة "تخت شرقي"، على سبيل المثال، وكما لاحظ أحد النقاد، توجد ألفاظ تسمح بها العربية إلاّ أنّها غير موجودة في الاستعمال أو في القواميس، وأذكر منها مثلين: "محاسسة"، وهو عنوان إحدى القصائد، ومفردة أخرى هي "ارتغاب"... الشاعر يخدم اللغة إذ يُقبل عليها بأدواتها كلّها، بألفاظها كلّها، مجدّداً فيها، ولا يختار منها، كما في القصائد القديمة أو الجديدة، ألفاظاً بعينها على أنّها الألفاظ المأنوسة، أو الألفاظ الجديرة بأن تكون شعرية. أخالني أمام بعض الشعر كما لو أنّنا نخدم العربية لذاتها، فيما نحن يجب أن نخدم اللغة، وأن تعبّر عنّا لكي تحيا وتتجدّد بفعل علاقتنا الحيوية بها.
* هل اللغة كما يصفونها "إهمال واستعمال". هل أقرّت إقامتك الطويلة في اللغة الأخرى على خصوبة خياراتك في اللغة الأم؟ صف لنا أحوال اشتباكك مع العربية وآفاقها؟
- أصدقك القول أنّني حين أكتب يأتيني الكلام أحياناً في اكثر من لغة، وهذا ما يعرفه عدد من أصدقائي في بعض رسائلي، حيث تجد مقاطع أو جملاً منها مكتوبة في لغة غير اللغة التي سبقتها في المقطع السابق. هذه العلاقة الاصطراعية بلبلتني قبل أن أتعامل معها مثل غنى محيي لتجربتي الكتابية والتعبيرية. حدث لي أنّني كتبت نصوصاً ما لبثت أن نقلتها إلى لغة أخرى، سواء من العربية إلى الفرنسية أو من الفرنسية إلى العربية. وتحقّقت من أنّني أنقل النص بقدر ما أكتبه أيضاً لمرة ثانية. فما عرفت في أحوال من هو المترجم ومن المؤلف في حالتي. ولو كان لي أن أختار لغة لكنت كتبت بلغة هي العربية من دون شك، ولكن مطعّمة بغيرها أيضاً. واختياري للعربية لا يتأتّى فقط عن كونها اللغة الأم، بل من احتياجي الشديد لها، بسبب غناها التعبيري والموجز. أسوق مثلاً بسيطاً على ما أقول: أحد كتبي الشعرية أطلقت عليه اسم "رشم" بعد أن وجدت في "لسان العرب" أنّ هذا اللفظ يعني: كتب، لون، ترك أثراً، أجرى رسماً على الجسم وغيرها، وهي معان تحتاج إلى ألفاظ مختلفة في لغات أخرى، فيما تعنيها العربية في لفظ واحد. أسوق مثلاً ثانياً من إحدى قصائدي: "لمق" تعني: كتب، كما تعني: محا ما كتب. وهذا الأمر غير معروف في لغات أخرى أعرفها، إلاّ أنّني مع ذلك أشعر في احتياجي إلى اللغة إلى شيء من الفرنسية، وذلك يعود إلى حاجتي أحياناً إلى عبارات حيوية وحياتية وتعبيرية تجيزها الفرنسية بعد أن استقتها من الكلام اليومي الدارج، فيما يصعب على العربية هذا الأمر.
* تركّز في مجموعتك "حاطب ليل" على الحاسوب الذي تعتبره مجازك المحمول. لكن ألا ترى أنّ هذا الجهاز العبقري تغول وشطب بجرة زر مدرسة نقدية كاملة تقوم على رصد تاريخ كتابة النص الأدبي، وتلاحق مسودّات الكاتب متتبعة صعود الخطّ الإبداعي لديه واضطرابات كتابته لنصّه؟
- هذا السؤال كنت أخاف دائماً من أن يطرحه أحد عليّ، والمصيبة حلّت. فأنا من النقاد ممن طالب ودرس وتحقّق من المبنى التكويني لعدد من القصائد العربية، بعد أن درست مسودّاتها ودرست التحوّلات الجارية فيها وصولاً إلى صيغتها النهائية. واجهني هذا الأمر أكثر من مرّة، وأنا أمام حاسوبي، إذ فكّرت في إمكانية الاحتفاظ بمسوّدات مختلفة للقصيدة الواحدة. إلاّ أنّ الأمر مستحيل على ما انتهيت إلى التوصّل إليه، ذلك أنّ المسودّة الالكترونية هي نظيفة دائماً ونهائية دائماً بمعنى ما: ما أقصده، ما يمكن عملانه في هذه الحالة هو الاحتفاظ ببعض المسودات الالكترونية، وهذه نصيحة لغيري لا لي. ذلك أنّ اشتغالي على القصيدة وفيها يقوم على لحظات تدافع وانبناء، لا أحسن لا إيقافه ولا ضبط تحوّلاته السريعة. وما يخفّف من شعوري هذا هو أنّني أتحدّث في دراساتي النقدية لا عن النص بل عن الحاصل النصّي، إذ أنّني أرى إلى القصيدة مثل صيغة تدوينية لعمليات عديدة سبقتها. والقصيدة في ذلك ليست مولدة طبيعية ونهائية، وإنّما هي صنع متماد ينتهي الشاعر فيه إلى أن يقول عنه أنّه الأليف المجهول، أي القصيدة.
* للوهلة الأولى يظنّ القارئ لنصوصك أنّك في معزل تام عن الهم العام والمواضيع المتداولة، لكن المتفحّص لقصائد مثل "دموع جافة" وغيرها يرى غير ذلك. هل هذا بسبب نضوب فضاءات التشارك والتجدّد أم أنّ الأمر عائد إلى الآلية التي تتعامل من خلالها مع المفردة واحتمالاتها وانزياحاتها؟
- أسعى في القصيدة إلى التماس حسّي للكائنات والأشياء، على أنّ علاقتي بها هي التي تعبّر عنّي وعن صلتي بها. وبهذا المعنى قد لا تجد - إلا لماما في هذه القصائد - الوقوف عند ما نسميه بالقضايا العامة، أو الموضوعات الكبرى، إلاّ أنّ القراءة الفطنة لهذه العلاقة الحسية بالموجودات تكشف عن كينونتي الإنسانية، وهي تكشف على سبيل في "خاطب ليل" سيرتي في بيئة ولكن من خلال علاقتي بالحجر. فأنا في هذه القصيدة الطويلة، بدل من أن أتكلّم عن هموم الفتى في بيئة جبلية تقليدية، أو أن أجعل منها موضوعاً لغناء عالي النبرة، وجدت في الحجر مرآة لسحنتي، وفي الحصاة قطعة نقدية أتعامل بها وتستنفدني، وفي الجبل كتاباً يسبقني ويبقى بعدي. وهو قول عن الذات وعن الآخر الطبيعي والإنساني. وفي هذا يقول الشعر إنسانيته وهو ما أطلبه فيه.
* تبدو في إجاباتك السابقة ممّن يولون عناية كبيرة للنقد خصوصاً، وأنت من كتب غير كتاب على رأسها "الشعرية العربية الحديثة" الذي صار مرجعاً معتمداً في كثير من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. كيف تنظر لدور النقد في استلهام العملية الإبداعية؟
- للنقد دور كبير إلاّ أنّه في بلادنا ضعيف، سواء عند التقليديين أو المجدّدين. أسوق مثالاً ينتسب أكثر إلى التاريخ الأدبي: نحن لا نمتلك حتى اليوم تاريخاً بالمعنى التحليلي لا الحدثي عن حركة الشعر العربي الحديث. أسوق مثالاً ثانياً: قصيدة النثر تحتلّ مكانة كبيرة في شعرنا الحالي، إلاّ أنّها لم تحظ بعد بدراسات تظهر الاختلافات ضمن تجاربها، حيث أنّنا نقرأ عنها بأقلام النقاد كما لو أنّها واحدة، فيما هي قد أغنت ونوّعت كثيراً أشكال بناء القصيدة. وأعتقد في هذا المجال أنّ النقد يشكو، مثل ظواهر كثيرة في حياتنا العربية، من الاحترافية الخفيفة، أي أنّه لم يبلغ بعد الاحتراف العالي. فأنت تقرأ دراسة نقدية لأحدهم تتحقّق من أنّه لا يوثق المعلومة بشكل أكيد، أو يطلق الأحكام بدل أن يدرس ويفحص. وهي وغيرها سمات لظاهرة تجعل النقد لا يواكب تماماً حركة الكتابة، بل تبدو الكتابة تولد بنى وأساليب يبقى النقد بعيداً عنها أو غير دارس كفاية لها.
(جريدة "الرأي"، عّمان، 9 تموز-يوليو 2002).