مع اسكندر حبش: ذواتي الكتابية تنبجس فأتبناها
* لماذا هذا الانقطاع الطويل عن الشعر، ولماذا هذه العودة القوية إليه، وقد صدرت لك ثلاث مجموعات شعرية في أقل من ثلاث سنوات؟
- هذا يحيرني أكثر مما يحيرك، لو تصدقني.
قد يعود، لعودتي إلى لبنان بعد سنوات الهجرة، سبب في ذلك، وقد يكون لغربتي فيه سبب آخر. هذا ما يجتمع في مسعى كتابي، تواصلي، لا أتبين احتياجي إليه من اضطراري عليه. ويزيد من حيرتي هذه كون اللبنانيين أقل احتياجاً إلى الشعر مما كنت أعهده في لبنان في ما مضى، فضلاً عن أن التباري به، والتمايز به، جمالياً واجتماعياً، غير جالب لأي نفع ظاهر.
يبقى أن أقول أمراً آخر، وهو أن الانقطاع عن كتابة الشعر لا يعني الانقطاع عنه، بل الانشغال به، والبقاء على مقربة منه، في غرفة مجاورة. انقطعت عن كتابة الشعر، لكنني لم أنقطع عن النظر إليه، عن قراءة قصائد كنت أتمنى امتلاكها، أو تعديلها، أو تمزيقها. هذا الانقطاع انشغال صامت بالشعر، كان يتسرب في كتاباتي الأخرى، على ما لاحظ الناقد فاروق يوسف. وهو نوع من الوله المتمادي والخافي، ولكن بمؤشر سلبي.
لعل الشعر طرق بابي في غفلة عني، وإذا به، بمجرد أن فتحت له ذات مرة، دفع في وجهي بورود زياراته المتكررة.
* لكن ماذا عن «حاطب ليل»؟ ها أنت تعود إلى عبارة قديمة، مثل «رشم» سابقاً؟
- يعنيني في الشعر الشيء وغيره في آن، أي ما يكثر الدلالة ويبلبلها كذلك. هذا ما قلته في «رشم» و«تخت شرقي» منذ العنوان. هذا ما أقوله في «حاطب ليل» أيضاً.
فالشعر في هذا النسق لا يجنح إلى التعمية والإغراب الشكلي، ولا إلى إطلاق دلالاته ومعانيه في وجهات متعددة ومبهمة وغير مفضية إلى شيء أحياناً. بل يميل إلى تكثير الدلالة، إلى بناء القصيدة وفق استعارات متوسعة، أو وفق مجازات تجيز للقصيدة الواحدة أن تكون ذات مبان متعددة، متداخلة وشفافة في آن.
* ماذا عن «حاطب ليل» وفق هذا التصور؟
- هذه العبارة القديمة تعين، بداية، قيمة سلبية، فيما تحوز في المجموعة الشعرية دلالات متعددة. تعني هذه العبارة، لو عدت إلى المعجم، «التخليط في الكلام والأمر»، طالما أن الساعي إلى جمع الحطب في الليل يتعثر ويتوفق في الوقت عينه. إلا أن للعبارة هذه دلالات أخرى تتأسس على المعنى القديم، لو شئنا، كما تنفصل عنه: منها الجمع المختلط، ومنها الطلب المضطرب في التماس الحاجات في الوجود، ومنها السعي خلف مجهول تتسربل فيه الخطوات فيما تتجه إلى مقصدها، ومنها أن الحاطب، إذ يقضي حاجته، يهرس العنب في عريشته...
* لذة عجولة، لذة المكبوت...
- صعوبة الخروج إلى الحياة، التي تبقى لاهية من دونه. هواء من دون موسيقى، وآلات وعازفون من دون غناء غير الصرير المكتوم لأسرَّة ليلية.
* ذلك أن الحاطب لا يخرج في واضحة النهار.
- بل يخشى الخروج جهاراً، إذا جاز القول، بما هو عليه وبما يطلبه. وهو، إن خرج في واضحة النهار، فمن مقتلة معلنة، أو في هيئة أشقياء أو مهاجرين أو شهداء...
* «الشهداء المطيعون»، كما تسميهم في قصيدة؟
- يخرجون على العائلة ولكن برضاها، ويعصون على الدولة إلا أنها تخيط لهم النياشين. البعض يتحدث عن الشجاعة، إلا أنني أخافها لأنها تعني أيضاً الإذعان الشديد لسلطة تأمر وتملي وتربي على الطاعة العمياء. البعض يتحدث عن التضحية بالذات، إلا أنني أخافها لأنها تعني أيضاً نكران الحياة قبل الموت. البعض يتحدث عن مقارعة العدو، إلا أنني أخشاها حين لا يعود الموت لحظة حرب بل وجهة مطلوبة في حد ذاتها...
أخشى أن تعطل مقارعة العدو، في الحياة نفسها، قوى الإنسان المدركة والمحركة له، وأن تتحول السياسة لطالبيها إلغاء للسياسة نفسها...
* في المجموعة تضمينات عديدة لأسماء ومواقع وقصص: من هو سهراب مثلاً؟
- ينتسب إلى أسطورة فارسية، واردة في الشاهنامه، وتتحدث عن قتل الأب لولده سهراب، بخلاف الأسطورة التي عاد إليها فرويد، أي قتل الولد لأبيه، التي تؤسس لتكوين الذات والأنا والهوية.
* هل ترى، والحالة هذه، أن الآباء يقتلون الأبناء؟
- بل أكثر من ذلك: أحسب أننا نُسقط الآباء عن كراسيهم، أو نبقيهم عليها مهانين، من دون دور، ونعلي من دور الأجداد من دون أن نعرفهم في صورة مؤكدة: فوقنا وحسب، ولكن على مسافة كافية لكي نفعل ما يقوى عليه القاصرون، حاطبو الليل.
هي الخشية، إذن، من الخروج جهاراً، إذا جاز القول، وهي الخشية التي لوجوه من دون ظنون أو تعابير في صريح أيامها. وهي الخروج إلى شارع، لا إلى مصطبة، أشبه بالخارج من غرق محتم. طالما أن الساكن في بيته، في ظنه، مغيب عما يمكنه أن يكون، بل مهان في ما يبقيه في الحياة ولكن من دون حياة، قيد التخويف والإخضاع اليوميين.
* والقصائد تشير أيضاً إلى تلميحات عن السيرة الذاتية، عن المواقع الطفولية...
- أحسب أن لنا أصولاً تنشئنا غير الهويات الكتابية، مثل صخورنا التي تستقبلنا وتبقى بعدنا. وأحسب أن لنا دوافع تحركنا، قبل النشيد والصلاة والاصطفاف، مثل توقنا للخروج من خروقنا وإن كانت في بيوت من حجر.
هكذا بدا لي جبل الطفولة جهماً، لا أخضر، وحبل السرة بطول حبل حمار ينهق في مرج مشمس.
* هل أنت حاطب ليل؟
- هو أنا وغيري في آن. والغير لا يعني شخصاً آخر، بل عدة ذوات، منها ذوات كتابية تنبجس في الكتابة، في تدافعاتها، وأتبناها. حدث في مجرى الكتابة أن انبثقت فيها لحظات انفعالية عايشتها في الصبا، كما أودت بي الكلمات في جموحها إلى بناء لحظات انفعالية لم أعشها إلا بفعل كتابتها، حتى أنني إذ أقرأها، اليوم، أنفعل بها كما لو أنها حدثت لي، كما مع صبية خلف صخرة في كرم...
* تبدو القصائد صادرة عن شاغل طافح بالحياة، لكنه يشير أيضاً إلى ما يعيق هذه الحيوية ويعطلها ويميتها ويعلق تحقيقها.
- نبقى دون الحياة، تحتها، فيما يقوى بعضنا القليل على الخروج المذعور في هيئات إنسانية مهشمة، وفي فرديات برية أو متوحشة أو شقية. كيف لا، وبعضنا يساس بالآلاف، ومئات الآلاف، طائعاً، راضياً بما يجعله نكرة غير معرَّفة! كيف لا، وهذه الحرب، التي لم تنقض فصولاً بعد، تبدو محاكاة ساخرة ودامية لما يمكن أن تكون عليه السياسة والوطن والتقدم وغيرها. ذلك أن صانعي الحرب ولاعبيها لاهون في غفلتهم، في طيشهم، في عسفهم، عما هو عليه حالهم، وهو أنهم في عنفهم ونكاياتهم المحلية يتوهمون - البعض القليل منهم واقعاً - أنهم يؤدون أدواراً جليلة في التاريخ، فيما هم أقل من حملة صحون على مأدبة التاريخ الصاخبة.
* هو شعر حميمي يعتني بملاحظة ما بين اليد وزغب الجسد...
- تستوقف القصائدُ الجسدَ بوصفه بيتاً اجتماعياً، تجري عليه الممنوعات ويستدخلها ويقيمها وسيطاً، أي حائلاً بينه وبين جوانيته، أي عالم الممكنات فيه. وهو في ذلك التقاط حسي للإنسان، إذ تلتقط القصيدة العالم الذي نتحقق فيه من قوة التقاليد التي يقيمها الجسد في حركاته، في اعتياداته، والتي تعيق حركاته مع غيره، سواء أكان عالم الوجود الطبيعي أم عالم الإنسان.
تستوقف القصائد عالم الجسد القريب، حيث لا تقوى المرأة على الخروج من قيود تحدها وهي وحيدة أمام نافذة مطبخها...
إلا أن القصائد تلتقط أيضاً ما تبقيه البرودة على مقعد، أو على وسادة ليلية، أي هذا الحس المتفاعل بالموجودات، والتي لا ينأى عنها أو يرذلها أو يخشاها مثل عدوان على تماسك الذات التى يبقيها في داخلها خاوية من الحياة نفسها.
* أهذا ما نلقاه في قصائد، في سعيها إلى تحريك اللحظة الوجودية نفسها؟
- وجد يوسف الخال، في محاضرته الشهيرة عن الشعر اللبناني في العام 1956، في «الندوة اللبنانية»، وهي البيان النظري، إذا جاز القول، لانطلاقة مجلة «شعر» بعد شهور، أن التجربة هي عماد القصيدة الحديثة، وهي ما خلت منه القصيدة في تاريخها العربي، إذ تحولت إلى سلسلة من الأغراض، إلى ترتيب متتابع لها، بدل أن تكون ذات مبنى مخصوص بها، مبنى ينطلق من بلورتها لما تقيمه، مثل أي بناء آخر.
يحلو لي أن أشير إلى التجربة، وعندي أن هذا المفهوم يشير إلى علاقة القصيدة بالزمن، إذ وجدتُ في علاقة القصيدة بالزمن، بالمعيش والتاريخي والمحسوس، علاقة تقيمها في حداثتها. ولقد وجدت كذلك أن كثيراً من شعر الحداثة في بلادنا تنكب أو خشي من هذه العلاقة مع الزمن، لأنه طلب علاقة متجددة بسيرة الفصاحة في الكتابة العربية. هذه العلاقة التي تميت نبض الوقائع لصالح سوية محسنة للفظ، ولرونقه، إذ يعتبر هذا الشعر أن بلوغ الشعرية هو بلوغ حدود الإعجاز الإسلوبي.
* ولكن ماذا عن شعرك في هذا المنظور؟
- توقف أحد الدارسين في دراسة عن مجموعتي «تخت شرقي»، عند هذه الحيوية في اللحظة الشعرية في عدد من قصائدي، وانتبه إلى تجلياتها، حيث هي إقامة في الحركة أو ظعن في السفر، وفق عبارته. أي هي الابتعاد عن السكونية التي نراها في الشعر، حيث هو وصف لما هو ماثل من علامات، فيما ينبني المعنى في القصيدة التي أطمح إليها في الحركة نفسها، في تدافعاتها: يكون المعنى قيد الإتيان في هذا المنظور الشعري.
وهو شعر لا ينقطع عن مكابدات الوجود الإنساني، ولا عن قول اللذة في الشعر، فلا يخشى الإفصاح عنها في مناخات نضالية، ولا ينصرف بدلاً عنها إلى وجد كتابي، أو غرابة شكلية تقوم على تشتيت الدلالة أو تبديدها في نوع من الهباء الجمالي.
القصيدة تتنصت إلى الجلبة الحادثة خارجها وتستدرجها، أي تتناهبها أصوات من غير حدب وصوب. فالشعر في آن يستمع ويخاطب، يتسارر مع نفسه ويبلغ غيره. وهو يلتقط أصواتاً غائرة أو خافتة، أو يجد حاجة للتحاور معها. وهو في ذلك قد يحيي ما هو مستكين في الوجود، مثل الهواء الذي يعزف بأجساد الساهرين من دون أن يحرك فيهم وتر انفعال جمالي.
والشعر في ذلك رصد في أحوال، وتعويض في أحوال أخرى عما لا يجري، عما لا يحدث. وهو احتفال بالحياة حتى حين لا تجد لها متنفساً في أفعال البشر وحيواتهم... هذه الحياة التي لا تعطى في أيامنا إلا للفاجرين!
* شعر يدافع عن موقف من الشعر، بالتالي. أليس كذلك؟
- أريد أن أخرج من الكلمة من جديد، لا أن ألتم فيها بما يخفيني ولا يريحني. ذلك أن الشعر يعود إلى غيره، فلا ينصرف إلى التلهي المجاني بذاته.
أخالني، وأنا أقرأ بعض الشعر العربي، أن اللغة، أن ألفاظها مساقة إلى علاقة استعمالية للغة، وهو ما أرساه محمد الماغوط في قصيدة النثر، وتبعه في ذلك كثيرون، وهو أن اللغة مخدومة لغيرها، للتعبير عن صورة، عن موقف، عن انطباع، عن خاطرة، وهذه التي تملي على اللغة ما تطلبه. الشعر في ذلك يتجنب الخوض، بل التخويض في اللغة وبها. وهو في ذلك تعبير عن أحوال، صادمة أو مفاجئة، وفي ذلك تكون جدة هذا الشعر في التعبير، في مفارقة الصورة، أو في صدمتها، فلا يعمل على تكثير في المعنى، أو على تجريب مناحيه في صور مغايرة. أريد من القصيدة أن تنبىء عن اللغة في تجددها، لا في كونها أداة استعمال تخاطبي أو إبلاغي.
أسعى إلى قصيدة لها ماء ترويها، فليست بالتالي »ناشفة«، جافة. قصيدة قيد الحركة، في الظن والخطو، في التحريكات، في هذا الرواح والمجيء، في الحراك الزمني.
* يبدو لي أنك سلكت سلوكاً موازياً في سيرتك بين التحصيل الثقافي والأكاديمي وبين كتابة الشعر وغيره. فأين أنت واقعاً؟
- أنا فيهما وبينهما وخارجهما في آن. ذلك أنني انصرفت إلى الدرس في باريس، بعد أن تحققت من أن زادي الذي حصلته في لبنان قبل ذلك كان خفيف الحمولة للغاية، مصحوباً بكثير من الإدعاءات والتورمات عن النفس والآخر، وعن المعارف والمناهج. كان لي أن أتعلم من جديد... وهو ما يفسر تأخري في نشر بحوثي، ولا سيما في الجماليات والأدبيات. إلى هذا، ما عناني يوماً، منذ صدور كتابي الأول، وهو مجموعة »فتات البياض« الشعرية، انتظامي في سلك المؤلفين، ولا أن أكون من أعيان الأدب، إذ وضعت في صدر المجموعة هذا الإهداء: «إلى شربل: لئلا يصير شاعراً». ما عناني في الكتابة هو الكتابة نفسها. صوتها، لا موقعها، حوارها مع الآخر، لا بنيانها الموقعي.
* نشرتَ غير دراسة تناولت تكوين القصائد والمجموعات الشعرية، أي ما يبنيها ويجعلها ملتمة على بعضها في نص، في كتاب: كيف تنظر إلى مجموعتك السابقة «تخت شرقي»، وإلى مجموعة «حاطب ليل»، وفق هذا المنظور؟
- تعرف، من دون شك، أن «ألَّف» في العربية تعني «جمع» في ما تعنيه. وهذا يصح في «تخت شرقي» إذ اشتمل على مجاميع شعرية مختلفة التوقيت والمناخات الدلالية. إلى هذا، تختلف المجاميع في الموضوعات التي تنهل منها وتخوض فيها. أما «حاطب ليل» فهو ينتسب إلى توقيت وانشغال مترابطين، ما يجعله مختلفاً في مبناه التكويني عن المجموعة السابقة.
* هذا ما أنتبه إليه في مطالع أو انطلاقات ضمن القصيدة الواحدة في المجموعة الجديدة، إذ أنك تعمد - ربما لأول مرة في الشعر - إلى جعل بدايات بعض المطالع بمثابة العنوان، ما يجعلها مستقلة، فيما تشترك مع غيرها في مناخ القصيدة الواحدة. ماذا تقول عن هذه المباني الخصوصية؟
- قد تكون تجربة جديدة. طلبت فيها أن أكتب قصيدة واحدة من دون أن تكون موحدة، ومتصلة من دون أن تكون مشدودة. يقوى القارىء فيها، عند قراءة كل مطلع، أو كل بداية، أو كل انطلاقة جديدة للقصيدة، أن يقرأها قائمة في ذاتها، ومكتفية بما يؤسسها ويبنيها. ويستطيع القارىء كذلك، بل يتحقق من أن للمطالع أو البدايات أو الانطلاقات هذه ما يجمعها، من دون أن يكون متسلسلاً.
هذا ما أبعدني عن قصيدة طويلة تقوم على مبنى خارجي عليها، كما في القصيدة ذات الأساس السردي أو المسرحي أو الملحمي وغيرها، مما يبني القصيدة لا من تولدها، بل من مبنى سابق عليها وتتقيد به. وهذا ما أبعدني عن قصيدة طويلة فضفاضة ومتشظية، تخوض في غير أمر، فلا يوحدها سوى وحدة الذات المتكلمة فيها، أي كونها »تتمظهر« في تحليات الوجود.
* تبدو القصيدة في مجموعتك، بخلاف ما تقول عن غيرك، مبنية وفق موازين وحسابات، حتى صح فيك ما كتبه عنك الدكتور جورج دورليان، وهو أنه «شعر ذكي يتوجه إلى قراء أذكياء»؟
- أشار الشاعر والناقد المصري أمجد ريان، في دراسة له عن شعري، إلى هذه العناية الفائقة بالبناء في شعري، ونسبها إلى نوع من النقد الضمني للشعر كما يكتب في بلادنا، وربطها بمفهوم النص الذي ينبني وفق مقتضيات فيه تجعله مخصوصاً ومختلفاً في كل مرة، في كل قصيدة.
تعنيني في الشعر التجربة، كما قلت. وأريد منها الحديث عن وقائع وأفعال ومعايشات ومكابدات في الوجود، وعن تجربة ذلك في الكتابة. فالشعر ليس نقلاً أو ترجمة لما جرى، حتى وإن كان حاراً وحارقاً، وإنما هو كتابة تحويلية له. ذلك أن الشعر لا يقوم على البوح، أو على الإفضاء بحوار أو بحديث أو بشكوى، وإنما هو بناء معنى، ولكن لصيق وطافح في انبثاقات الكلام. هكذا لا يعود شكل القصيدة خارجياً، كما في القصيدة العمودية، ولا تلقائياً وطبيعياً، كما في بعض قصائد النثر، وإنما هو بناء مخصوص ليس له ما يدل عليه إلا فيه.
* لم يكن غريباً التفات غير فنان تشكيلي إلى شعرك، مثل البحريني جمال عبد الرحيم، في «رشم»، والمصري محمد فتحي أبو النجا في تجربة «شغف» الأخيرة، فهو شعر لا يقوم من دون الصورة؟
- طالما افتقدت في الشعر العربي - لو أردت التحدث في لغة نقدية وتقنية وبلاغية، إذا شئت - الصورة. ولا أريد بها الإشارة إلى الاستعارة أو غيرها في عدة الشعر المجازية، وإنما أردت بذلك الحديث عن عالم مرئي في الشعر. ذلك أن شاعرنا يبدو أعمى في أحوال، أو مترسلاً لغوياً في أحوال، من دون لون أو حس أو طعم. وما أطلبه في القصيدة ليس الصورة في حد ذاتها، وإن كانت، كما قال غير ناقد وفيلسوف، من أساسيات القصيدة، وإنما أطلب بناء عالم ليس له أن يبنى وأن يلتم إلا في مشهد وجودي، وما يدل على هذا المشهد هو كونه المرئي.
* تبدو في شعرك، كما في كلامك، تعيد النظر في الحداثة، في الشعر الحديث، أليس كذلك؟
- طبعاً. أقر بأن شعري يشتمل على نقد ضمني لشعر آخر، وإلا لما كنت كتبت، ولما عاودت كتابة الشعر من جديد. فالشعر الذي ألفته وتربيت عليه أتنكب عنه اليوم، لأنه يبدو لي صادراً عن ذات متورمة، ومضخمة مثلما قلت في كتابي «الشعرية العربية الحديثة». حتى الشعر الآخر، الذي يظن أنه مخالف ومتفلت وهامشي، أراه يكتب الشعر ذاته ولكن بمؤشرات أخرى، سلبية، نقيضة ظاهراً لفحولة الشعر المستجدة.
اعتقدنا لسنوات وعقود أن قول الصعلكة والجنون والقيم السلبية باختصار هو نقض للشعر الحديث الساري والمكرس، فيما هو جلوس معه في الميدان نفسه. فهناك شعر يقول وفق المباني نفسها الشعر نفسه، ولكن بدل أن يقول إنه «لغم الحضارة»، يقول أنه «ينشغل بأشيائه الحميمة». في الحالتين، في التجربتين، لا يبنى الشعر على أساس نقد الأنا، الصادحة غناء أو تبرماً، بل يؤكد هذه الأنا، هذه الذات المتكلمة التي تمتلك حق التسمية والتعيين. فالشاعر في الحالتين هو من يسبغ على الأشياء والكائنات قيمها ومراتبها.
* ألا تتوانى الذات المتكلمة عن الإبلاغ في شعرك أيضاً؟
- شغلتني في غير قصيدة ومجموعة صورة الأعمى الذي يتحسس الصور ويجسها ويزنها، لا الرائي الطليعي الذي يتقدم الجموع ويرشدها مثلما قال الشعراء «التموزيون» وأصحاب الرؤى العريضة، الحضارية والوطنية وغيرها. كما شغلتني صورة البصاص الذي يرى إلى ذاته في هيئة أخرى عنه، والتوأم القلق لعدم تمامه، والبديل الذي ينتظر في خلاء الشهوة، وغيرهم ممن أدخلوا الذات المتكلمة في تنافر، في تثينة، بل في تعدد. فالأنا ليست واحدة في شعري، ولا في القصيدة الواحدة، حسبما قال عنها الدكتور خريستو نجم. وهي لا تفصح بل تتحرى عن معناها في غيرها، في الحصى على سبيل المثال، في حصاة-كتاب، مثلما أطلق عليها الشاعر الفرنسي جان-بيار فاي.
* في ختام «حاطب ليل» نص نثري بعنوان: «حاسوبي، مجازي المجمول»، وهو جديد في نوعه، إذ أنك تتحدث فيه عن علاقتك كاتباً بالحاسوب، أشبه بدخول إلى محترف الكاتب.
- يروقني تشبيه «محترف الكاتب»، لأنه يناسب أحوال هذا النص المتغيرة. فأنا فيه أفكر وأكتب وألهو، كما يمكن للفنان التشكيلي، على سبيل المثال، أن يعمل في محترفه الخاص، بعيداً عن أعين المتلقي، بين مواده وأشيائه واعتياداته الخصوصية.
* ولكن ألا تدعو القارىء بذلك إلى الانقياد إلى طريقتك في تفسير شعرك، أو تقديمه؟
- لا أظن ذلك، إذ امتنعت عن جعل هذا النص في مقدمة المجموعة، بل في ختامها. إلى ذلك، لم أتحدث في هذا النص عن القصيدة إلا لماماً، بل عن الكتابة عموماً.
يبقى أن أشير إلى أن القارىء يتملك، حسبما أقول في هذا النص، القصيدة تملكاً مخصوصاً به، ولا يكون الشاعر في هذه الحالة سوى صوت، لا القاضي المبرم في جلاء النص، ولا مالكه الحصري.
* لنتوقف عند الترجمة: ترجموا شعرك إلى غير لغة، إلى الفرنسية والانكليزية والإلمانية: ماذا تقول عنها وأنت مترجم شعر بدورك؟
- هذا أمر أحرجني مع الصديق الدكتور جورج دورليان، عندما ترجم قصيدة «رشم» إلى الفرنسية، ومع الشاعرة فينوس خوري - غاتا عند ترجمتها قصيدتي الطويلة، «حصى لصبرها الصاحي»، لإحدى المجلات الشعرية الفرنسية، إذ أنه كان لي في الحالتين أن أواجه معهما خيار الترجمة العميق: أهي نقل أم تأليف؟ فكيف إذا كنت واضع النص في لغته الأولى!
هذا ما تحاشيته مع الدكتور نعوم أبي راشد، في ترجماته الفرنسية لقصائد عديدة من شعري، وهذا ما تحاشيته قبل شهور قليلة مع الدكتور بدر بناني والدكتور باسل سمارة، من الولايات المتحدة الأميركية، في ترجماتهما لقصائد من شعري لإحدى المجلات الأميركية ولأنطولوجيا شعرية بالانكليزية. كان لي أن أقرأ الترجمات بمشاعر متداخلة من الإلفة والغرابة. أزورها، وهي لي. وأقول لنفسي: هي لذاتها، لمن يطلب امتلاكها، لمترجميها، وهي أيضاً قوامة على نفسها، تسعى راشدة في الوجود.
* لا يرد ذكر لبنان في أي قصيدة أو مجموعة، ومع ذلك أجد أنه ماثل بقوة في شعرك. فماذا تقول؟
- لو شئت الدعابة لقلت إن لبنان لا أجده في لبنان، طالما أن الدفاع عنه بات اختصاص فئات من دون غيرها، فيما يضيق به غيرهم ذرعاً. لعلنا لا نجد في غير هذا البلد مثل هذه الطموحات البالغة للدفاع عن قضايا وبلدان خارج البلد نفسه، وهي أريحية لا توازيها سوى قدرة اللبنانيين على الهجرة.
واقعاً، لا أحسن تعريفاً إيجابياً لـ»لبنان«، وأنتبه في أحيان عديدة إلى أن غيرنا هو من يعيننا باللبنانيين أكثر منا، أو يجد أننا أصحاب صفات وسمات وسلوكات تحددنا وتجمعنا في آن. يبدو أن فينا ما يدل علينا على الرغم من الفروق التي نعمل - وغيرنا أيضاً - على تأكيدها وتمييزها فينا. يشير هذا التشرذم إلى دخولنا في أحوال جديدة، بعيدة عن صيغة الدولة من دون شك: فهذا يريد استكمال التحرير من دون أن يعيد الجزء المحرر إلى الدولة بالضرورة، وذاك يريد إنهاض الاقتصاد من دون إنهاض السياسة والإدارة، وذلك يريد أن يستعيد القرار الحر من دون أن يتحرر من الدولرة...
إقطاعات نفوذ وحسب، ونطاقات ضيقة لممارسة السياسات وإنتاجها، ما يقيم هذه السلطات الجزئية على تناحر بين بعضها البعض، ويعلق الدولة بالتالي: هذا لا ينتج، لا دولة قاصرة، ولا دولة تابعة. هذا يبقيها ميدان حرب وتناحر ومكبوتات ناقمة ومتجددة. هذا يجعل الدولة في أحسن الأحوال هيئة قيد إداري، مأمور نفوس يسجل القيود ويبلغ عنها، هي التي تحدث خارجه.
* أصوغ السؤال في كيفية أخرى: لماذا عدت إلى لبنان؟
- عدت إليه لأنني أُكرهت على الخروج منه في سنة الحرب الأولى. وأقيم فيه منذ سنوات من دون أن أجد فيه ما يقيمني فيه فعلاً. ولا يخفف من هذه الغربة سوى كوني أعيش في علبة الحاسوب أكثر مني خارجها.
يبقى أن شعوراً قديماً لا يزال متجدداً في قواي، وأخجل عن الإفصاح عنه منذ عودتي، لأنه يبدو أخرق لعديدين. وهو أنني أجد في تنوع هذا البلد، في تعدد أصوله وجماعاته، ما يشير، «بالقوة» على الأقل، لا «بالفعل» للأسف، على طريقة الفلاسفة القدماء، إلى بناء معنى للإنسان، لا يتحدد في أصله، ولا في ما يسبقه إلى الوجود، إلى ميلاده، أي طائفته ونسبه، بناء معنى لجلاء إنسانيتنا المشتركة
(بيروت، 2002، ورد في كتاب: "غيري بصفة كوني"، 2003).