مع شوقي العنيزي وخالد الماجري: الآخر هو ما يسبقني إلي
ليست الكتابة الشعرية لدى شربل داغر ترفاً يصبو إلى الإثارة والإغراب، وهي ليست جملة من التداعيات الهلامية والصور المعتمة لذات ساكنة في هوسها ومشغولة بجنونها عن الآخرين. الكتابة هنا، وببساطة، معاناة ولكنها ليست معاناة في مفهومها الضيق، أي في بعدها النفسي والاجتماعي والحضاري، المتلبس بالذات الكاتبة والمصاحب لها. صحيح أن الشاعر ما ينفك يمتح من هذه الأصقاع، ويتزود بإيقاعاتها لتأسيس فعل الكتابة وتحويله من الغياب إلى الحضور، ولكن المعاناة الحقيقية التي يعيشها هي بالأساس معاناة مع اللغة، يداعبها، يأخذها بحذر ولطف شديدين، يجاهد في ترويضها، ولكنه لا يدعها تنقلب عليه.
هكذا يقبل على الكتابة من دون خشية قديمة، وهي التجريب مرتين أو ثلاث للمادة الواحدة، على ما يفعل الكتاب عادة، فتراهم يستبقونها ما يكفي، ويعدونها في ظنهم مرات ومرات، ويسوونها وينتبهون إلى نهاياتها وخواتيمها، ما يجعل الكتابة فعلاً تدوينياً في نهاية المطاف.
كيف نقبض على اللحظة الهاربة؟ وكيف تكون الكتابة فعلاً يحمينا من التلاشي والذوبان في حضرة التاريخ؟ كيف نعيد بناء علاقتنا مع أنفسنا ومع الأشياء؟
هل أكون أنا فأخلص اللغة من ذاكرتها، أي من أوجاع ذويها الغابرين؟ أم أرخي العنان للذاكرة وأعيد كتابة هموم الشنفرى وامرىء القيس وعروة بن الورد... وأضيع في صحراء الربع الخالي؟ تستبد بنا هذه الأسئلة وغيرها ونحن سائحون في رحاب مجاميع الشاعر اللبناني شربل داغر الشعرية، وتزداد هذه اللعبة حدة حين نكتشف أن علاقتنا باللغة مبنية على الوهم. طيلة قرون من الزمن كنا نعتقد خلالها أننا الفاعلون في اللغة، اللاهون بها، وإذ بالكشوفات العلمية الحديثة تفجعنا في أخص خصائص كينونة الكائن الشعرية، ونقصد اللغة طبعاً. ألم نتبين أن للغة تاريخاً وذاكرة، وأنها تقول تاريخها في اللحظة التي نتوهم فيها أنها تقولنا؟ أليست اللغة خائنة، خوانة، كلما حسب الإنسان أنها تقوله وتتكفل بالعبارة عنه أنكرته وغالطته؟ إنها خيانة لما تمثله، وخيانة لوجودنا كأشياء؛ إنها بداية خيانة وبداية جنون واللغة هي بداية الاثنين معاً. لذلك علينا أن ندخل لغة بلا منهج ولا تخطيط: علينا أن نخون اللغة نفسها. في هذا الإطار تحديداً يتنزل مشروع شربل داغر الشعري، الذي يصبو صاحبه إلى الانفلات من كل المرجعيات التي من شأنها أن تشد النص إلى القشرة الخارجية للأشياء وتقضي بمقاربته ومحاكمته، ذلك أن هاجس الشاعر يتمثل تحديداً في محاولة الكتابة من الداخل، أي كيف نكتب الأشياء ونعيد صياغتها من جديد لا كيف نكتب عنها؟
أسئلة كثيرة جداً تندلع فينا بمجرد التوغل في مجاهيل وخبايا النصوص الشعرية لشربل داغر، هذه النصوص القائمة في مهب التجريب، والمهووسة بكتابة الذات، والتي لا تمنح نفسها لمريدها بيسر، وإنما عليك قراءتها وقراءتها من جديد، وكأن عملية القراءة هي إعادة اشتغال جديد على النص موازية لعملية الكتابة بما تنضوي عليه من شطب، وتمزيق، وإعادة صياغة.
لذلك فإننا نورطه، اليوم، إذ نحتفل به بيننا أستاذاً وصديقاً حميماً. نحن نعرفه جيداً، وهو يعرفنا جيداً دون أن نلتقي من قبل. لأن هذا النمط الجديد من الكتابة يحتاج إلى تناول الكلمات بيسر وتذوقها حرفاً حرفاً، والرحيل بعيداً مع كل نفس فيها دون أن نبتلعها تماماً، لأن الابتلاع سمة من سمات النص الخطابي الشعري، أي النص الاستهلاكي الذي نحتويه ولا يحتوينا، كما يحتاج إلى تتبع خطى الرجل وتقفي تطلعاته المشرئبة إلى أكثر من مجال:
* تقول في «تخت شرقي»: «تيقنت من أن لك وتراً واحداً يسع الأنغام كلها»، كيف يحمل الشاعر عبارة وحيدة، عباراته الشحيحة، ذلك الكم الهائل من المعاني؟ هل ان العلاقات القائمة صلب النص، بينها وبين جاراتها، هي السبيل إلى إكسائها ذلك العمق أم أن الشاعر يعمد إلى الكلمة فيثورها ويخرج إلى السطح ما ترسب فيها على مر التاريخ ويكون ذلك عبر المشهد والصورة والطقس الذي تنتظمه القصيدة؟
- أجيب انطلاقاً مما قرأت في كتاب عن تجارب الخط في اليابان، وهو أن الخطاط-المعلم يُقْدم، في الامتحان الأخير لدارس الخط، قبل منحه »الإجازة« في الخط كما نقول في الأدبيات الإسلامية القديمة، على طرح السؤال هذا، بين جملة أسئلة أخرى، على الدارس: أمامك نقطة حبر وحيدة قبل وفاتك، فما تخط بها؟
أعرف في كتابة الشعر مثل هذا الانصراف الشديد إلى تحميل المعنى حمولات متشابكة ومتعالقة ومتباينة في آن، وهو انصراف لا يستند إلى لعبة شكلية أو تعويضية، أي قول الكل بواسطة الجزء، أو قول الكل بواسطة عنصر من عناصره وحسب، وإنما يعني الانصراف إلى استخراج ما يمكن أن يكون عليه صلب القصيدة في تشكلها الحيوي، أو نبضها، أو نواتها البنائية التي تؤلف شكلها عند تشكله.
في هذا الانصراف ما يجعل الشعر تجربة بالمعنى الاختباري، بل الكياني، إذ أن القصيدة التي أكتبها، والتي قد تنطلق من تجرية حياتية أو من أحد عناصرها، هي غير ما تنطلق منه أو تسعى إليه، عدا أنني، أنا القائل في القصيدة، أصبح غيري بعد كتابتها. وهو ما يحدث في الحياة نفسها، إذ أننا نروي ما حدث لنا، في المرة الثانية والثالثة وغيرها، بطريقة مخالفة، محسنة، لطريقة السرد مثلما حصلت في المرة الأولى، أليس كذلك؟
* الجزئي والعابر حاضران بكثرة في نصوص شربل داغر، ولعل «رشم» و«تخت شرقي» يمثلان أبلغ دليل على ذلك، فكيف يفعِّل الشاعر هذه التفاصيل الصغيرة في قصيدته ذاهباً بها إلى مناطق قصية من المعنى؟
- يروقني في السؤال الحديث في آن عن التفعيل والاستقصاء، إذ أنهما يشيران إلى عمليات واستهدافات في الشعر تتعدى فعل الغناء نفسه، وهو شكل من أشكال التعبير الإنساني بالشعر. أقول هذا وأنا أفكر في تحقيق تلفزيوني أنجزه الجيش الإسرائيلي عن عملياته العسكرية في مخيم جنين، ويظهر فيه صبي وصبية على عتبة غرفة في بيتهما، حيث تشرع الصبية في البكاء، فيما ينهرها أخوها بأصبعه الصغيرة عن فعل ذلك بنوع من الاعتزاز المكابر... هذه اللقطة تساوي ملايين الصور المتتابعة عن اقتلاع السلطة الوطنية في فلسطين، وعن تعريض الشعب الفلسطيني لعملية شبيهة بما جرى عند نشأة كيان دولة إسرائيل وما قام عليه من اقتلاع وتشريد وتأجيل أو تعليق للبحث عن حل للشعب المقيم، أي الشعب الفلسطيني.
هذا يعني في الشعر نزولَه من عالم المواضعات إلى عالم المعايشات والمكابدات، بما يتطلبه من ملاحظةٍ لا تنفصل عن التفطن في ما يعرض لها، ومن تحسسٍ لا ينقطع عن التأمل في ما يؤلمه أو يفرحه. وفي هذا يكون الشعر متنبهاً إلى أبسط الأشياء والحركات والأفعال، ولا ينشغل بالتالي في رسم مشاهد عريضة، مكرورة وغير نافعة بالتالي. وهو في ذلك شعر يقترب من الملموس المادي، أي مما يقع تحت الحواس وتختبره، فتذوقه وتجلوه في آن. وفي العابر بالتالي شيءٌ مما يقوم عليه الثبات المقيم، وشيءٌ من احتماله المخبوء أو المستكين أو المرجو: فالشاعر يقلِّب احتمالات الفعل، ويقلب عدم حدوثه كذلك، أو احتماله. هذا يعني شعرياً عدم الاكتفاء بما جرى، بما حدث، بما ننقله من مجريات الشارع، على أنه جميل بمجرد حدوثه في الشارع، لا في القصر أو الوزارة. فهناك شعر، ومنه ما يسمى بـ«شعر التفاصيل»، يكتفي بالحدوث، ويقدمه على أنه حقيقة أرضية، قيِّمة في حد ذاتها، بمجرد صدورها عن الأرض، وعن بشر مهمشين أو مركونين في خلفية المشهد العريض أو خارجه. ولو نقلت هذا الكلام إلى نصاب السياسة، لقلت: لا يشكل الحديث عن الفقراء والمعدومين حديثَ السياسة المطلوب بمجرد حديثه عن فقراء ومعدومين...
وهذا الشعر لا يعدو كونه مُنْقَلَب شعر حديث آخر تستفحل به الفصاحة من جديد، إذ يكتفي من اللغة بقسم من ألفاظها، بالقسم التالف واليومي والركيك منها، وهو يقع في فصاحة مضادة، إذا جاز القول.
* يقول جورج باتاي: «العري يتعارض وحالة الانغلاق أو الانطواء، أي حالة الوجود المنفصل. العري حالة تواصل، تشي ببحث عن اتصال ممكن يخرج بالكائن من حالة الانطواء على نفسه». إلى أي مدى تتعامل الفنون الحداثية بهذا المنطق الإيروسي مع القارىء؟ كيف يعري الرسام أشكاله من علاقة المشابهة مع الواقع، ويعري الشاعر صوره وكلماته من المدلولات المستهلكة، ليغدو بذلك ما يراه البعض قطيعة مع القارىء وسيلة من وسائل الاتصال الاستطيقي معه؟
- سعيت في مقدمة «تخت شرقي» إلى شيء من هذا، إذ أن عنوانها، «الرغبة بالقصيدة»، يعني تمييزها عن غيرها، وهو تمييز يتعين في الرغبة في القصيدة، أي في الإقبال الشبقي عليها، على ما تفرق العربية بين «رغب في الشيء»، أي طلبَه، وبين «رغب بالشيء»، أي ميزه عن سواه. ذلك أن الانصراف إلى القصيدة نوعٌ من تشهيها، أو الحلم بها، أو مجامعتها، على أن الطرفين في العلاقة هذه يتبدلان أثناء الفعل نفسه، وإن كانا أليفين قبل شروعهما في السفر، في الذات وفي الآخر، على ما أقول في «رشم»، إذ يقول أحدهما: «أكنتَ أنتَ؟»، ويجيبه الآخر: «أَكنتِ أنتِ؟». وهو قول في التوصيف الشعري يفيد أن اللذة عموماً، ومنها الالتذاذ بالشعر وفيه، واقعة في الفعل، لا في بلوغ ما أو وصول، وواقعة في التقاسيم، على ما فيه من تكرار وتنوع وارتجال ومعرفة مسبقة، كما في «رشم» كذلك: «كأن له تقاسيم/ تستقيم في تكرارها/ وتنتشي تباعاً».
لهذا لا تبحث القصيدة، كما الرسام، عن مشابهة، وإن تنطلق من واقعة ما، أو من تجربة ما، بل تبحث عما يحدث أثناء الفعل الشعري نفسه، أثناء الفعل التصويري نفسه، في الصنيع الشعري نفسه، في تدافعات الممارسة التصويرية، في مجرياتها، في حدوثاتها، في خروجها إلى فعل جديد يتعدى ما سبق أو ما حدث، وهو ما يتقدمنا مثل الرغبة الغامضة، وإن يخبر عنا بعد وقت.
أهذا ما يحدث للقارىء أيضاً مع شعري؟ لا أحسن جواباً عن هذا السؤال، فهو موجه إلى غيري، إلى القراء، أي إلى كثرة مختلفة وإن متحاورة، لا إلى القارىء. وما أعرفه كقارىء أتحقق منه في غالب ترجماتي، ولا سيما من الشعر ومراسلات الشعراء، وهو الرغبة في تملك ما كتبه هؤلاء بفعل الترجمة نفسها.
* هل يقوم تشكيل الصورة لدى شربل داغر على لحظات استبصار وكشف شعري يرى أثناءها الشاعر الأشياء جواهر، لا أعراضاً، أم هي لعبة المشهدية وزوايا النظر التي يوظفها الشاعر ليحول من خلالها الأشياء إلى ذوات أخرى حسب الناظر وزاوية نظره - هذه المنارة، التي لها «الاتجاهات كلها، مقيمة ومسافرة» -، بعبارة أخرى: أهي رؤية صوفية للعالم أم هي رؤية تشكيلية له؟
- سبق للناقد والشاعر أمجد ريان (من مصر) أن صرف دراسة نقدية لدرس شعري، تحت عنوان «شعرية المجاز المشهدي»، وعالج فيها انبناء النص الشعري في مشهدية ذات مبنى تعددي في معانيه ودلالاته. وهو ما قاله في كلام آخر الدكتور جورج دورليان في دراسة بعنوان: «انبجاس العابر»، وهو ما توقف عنده غير دارس وناقد في الحديث عن تشكيلية البناء في شعري، ما سهل للبعض الجمع بين درسي للفنون والجماليات وبين كتابتي الشعر.
وهي أقوال تسعى إلى التوصيف والتعيين، ولا تبلغ ما بلغه السؤال المطروح، أي الحديث عما يقع خلف المشهدية هذه، وهو مصدر الرؤية: أهي صوفية أم تشكيلية؟ وهو ما أجيب عنه بقولي هذا: لا يمكنني إغفال العناية في البناء، وهي عناية تتعين في أسلبةٍ تؤطرُ الوحدة الشعرية، بل القصيدة في إجمالها البنائي. إلا أن هذه العناية ناتج، لا مصدر، وهي تسوية وتشذيب وتحسين تتأتى من شيء سابق عليها، وهو في أساس بناء النص الشعري. ولكن لا يسعني القول بأن هذه العناية تصدر عن رؤية شعرية ذات أساس صوفي.
ولو كان لي أن أبحث عن مصدر اعتقادي، لوجدته في منظور حيوي، مادي، طبيعي، يمنح الأشياء حيويتها النابضة فيها. وهي أشياء لها أسبقيتها وديمومتها في تحاورها مع البشر، طالما أنها، مثل الصخر، في قصيدتي «حصى لصبرها الصاحي»، «دمى دهرية/نلهو بها وتستنفدنا».
* من بين الصور التي يرى الدكتور جورج دورليان أنها تعبر عن عمق التصادم الداخلي تلك التي يجعل فيها الشاعر من الأرض كائناً منقسماً إلي نصفين يتلصص الواحد على الآخر، أو تلك التي يغدو فيها الرجل رجالاً يجرون الماء برافعات هيكله: إلى أي مدى يمثل هاجس تصوير الانقسام والانفصال سعياً إلى التوحد والاتصال؟
- هذا يعني الحديثَ النقدي عن كينونة الكائن الإنساني، بما يشير إلى أنها ليست كياناً واحدياً، إذا جاز القول، بل متعدداً، بما يعنيه من صدام، ومن تحاور كذلك، إذ أنها أقرب إلى خشبة مسرحية، لا إلى إبلاغ أو اعتراف موجهين إلى متلق. وهذه الخشبة يجري فوقها الحوار، وإن يبلغ غيرها، ممن يتلقاه بعد وقت في هيئة قراء منعزلين ومتصلين فيما بينهم كذلك.
فالمتكلم في قصيدتي قد لا يتوجه إلى غيره، بل إلى نفسه، إذا جاز القول، وإن كان ما يقوله يتقبله أو يتبناه القراء على أنه لهم، يعنيهم، ويحاورهم بالتالي. وإذ يتوجه المتكلم إلى نفسه، يصدر عن لعبة أصوات ويندرج فيها، طالباً للآخر، بل للآخرين، الذين فيه، على أن هذا الآخر/الآخرين اجتماعي، هو الآخر، أي مما يتعداهما ويسبقهما ويفعل فيهما معاً. وشعري يبتعد في ذلك عن أنوية متضخمة، تقليدية وتعسفية، تتوهم بأن لها القدرة على الإنشاء غير المسبوق، على التخطي الذي يقع خارج الأفق الاجتماعي للمعنى.
* في مجموعتك الشعرية الموسومة بـ«تخت شرقي» نلاحظ طغيان النزعة التصويرية على السرد، أي أن العدول (أو الانزياح) في هذه المجموعة لا يقع في مستوى اللغة وتعطيل طابع الاسترسال والشفافية اللذين يتسم بهما السرد بقدر ما يقع في مستوى المشهد المتكون من صورة أم كثيراً ما يلتفت عنها الشاعر إلى صورة جزئية تكتمل بعدها الصورة الأساسية، مثلما هو الشأن تماماً بالنسبة إلى تقنية العبور في الصورة السينمائية، ألا يمكن أن تكون هذه المشاهد المحتفى بها المحصِّن لشعرية النص وانسجام عوالمه، والمنقذ له من فخ تعطيل الرسالة الذي يمكن أن يتولد من السرد المشروخ بالانزياحات حتى التعتيم؟
- ما يدلل عليه السؤال يشير إلى أحوال مختلفة في النص، ولا يعني الجواب عن هذا السؤال الاختيار بين هذه الحال أو تلك، بل الحديث عنها كلها، بوصفها موجودة وفاعلة في النص الواحد. فالمشهدية قد تكون واقعية ومجازية في آن، وقد تكون هذه من دون تلك في وحدة بنائية من دون غيرها. وهذه مثل تلك أدوات في هيئة معطيات للنص، ومعطيات في هيئة أدوات للنص أيضاً. وفي ذلك يختلف الشعر عن غيره من الفنون الكتابية، إذ يقوم على التلاعب المجازي والاستعاري والرمزي وغيره في مستويات القصيدة ومستويات التعبير فيها، ما يعدد المقاربات الممكنة له، ويوسع من المعاني والدلالات.
* في القصيدة-المجموعة «رشم» يكتشف القارىء بجلاء أن الحب الحقيقي لا سبيل إلى أن يوجد إلا إذا رأى الأنا إنيته في الآخر وإذا رأى الآخر آخريته في الأنا، مثلما تقول: «أنا هو آخر في مضيق الشفتين»، فيتجاوز الشعر بذلك دائرته اللغوية الضيقة متجهاً نحو الرسم فضاء سيميائياً حراً: الشعر والرسم، إذن، هما الكائنان، «لقاء عجول بين دفتي باب»، لكن من هي هذه الذات التي يلتئمان فيها، من هو هذا الكائن الأندروجيني (androgyne )؟
- لو كان لي أن أتحدث عن الجنس المحدد للكائن الإنساني، أو عن الجنس المميز سواء للذكر والأنثى، لما تحدثت عن الكائن الأندروجيني، أو الخنثى، بل عن العابر للجنس، أي ما يحدد الجنس، والثنائي الجنسي، وما يعبرهما ويتعداهما كذلك. وهو حديث أستعيره للحديث عن الحب، وعن الفن كذلك. ففي ذهاب الذكر إلى الأنثى، أو الأنثى إلى الذكر، ما يعرِّض الأنا لأحوال يظهر فيها تعددها، بل توقها إلى الآخر على أنه غيرها، أو نقيضها، وعلى أنه شبهها أيضاً أو مثيلها. ففي الحب شيء من المثلية الجنسية، وإن حدث بين ذكر وأنثى...
وكذلك ما يحدث بين الشعر والرسم: ففي ذهاب الشعر إلى الرسم، وهو ما حدث لي، تعويل على أدوات وهيئات وسمات أستعرتها من الرسم نفسه، كأن أعالج الوحدة الشعرية مثل لوحة مبنية، أو أشدد على اللونية وحسب بوصفها عنصر البناء الشعري، أو غيرها من أدوات لعبة التحاور العميقة والتقنية في آن بين العالمين.
وهو ما حدث في ذهاب الرسم إلى الشعر، إلى شعري، في غير تجربة تشكيلية مع الفنانين جمال عبد الرحيم (من البحرين) وإيتيل عدنان (من لبنان) ومحمد فتحي أبو النجا (من مصر) وهناء مال الله (من العراق). وهو ما توقف عنده الشاعر والناقد فاروق يوسف (من العراق) الذي تحدث عن استدعاء الشعر لأسرار الرسم: «محاولة «رشم» تبتكر مسلكاً جديداً لصلة الرسم بالشعر. لا لأن الشاعر والرسام قد صنعا مؤامرتهما متكافئين فحسب، بل كلُّ واحد منهما، بمعزل عن الآخر، قد مضى إلى عالمه وهو يعرف جيداً أن ليس في انتظاره إلا قدر خفي لا شكل له، خفيفاً وشفافاً كما لو أنه لم يولد بعد، أيضاً».
* الالتقاء بين الشعر والرسم في مجموعة «رشم» - على جمال المعالجة والصياغة - بدا سبباً في تشتيت القصيدة وتجزئتها لدى عملية القراءة، إذ يجد القارىء نفسه أمام منظومتين جماليتين مطالب بتفكيك شفراتهما.
- هذا ما قاله بدوره الشاعر والناقد جمال القصاص (من مصر)، إذ توقف عند غياب الاندغام أو التداخل بين العمل الفني والنص الشعري. وهو قول يحتاج إلى نقاش: حافظَ عبد الرحيم على القصيدة، في لغويتها الكتابية، بل في لغوياتها (إذ يحضر نص القصيدة فوق كل محفورة فنية في لغات ثلاث: العربية والانكليزية والفرنسية)، ما جعل التناظر قائماً بين العالمين. لكن هذا القول لا يكفي، إذ أن عبد الرحيم امتنع عن تزيين النص بالرسم، أو عن التعليق عليه، أو عن ترجمة القصيدة - إذا جاز القول - في بناء تشكيلي، بل بحث عن أسباب تعالق أخرى بينهما. وللدارس - على ما أقترح - أن يبحث عن معالم التعالق بين النص والتصوير، لا أن يقول إنهما متجاوران وحسب. إذ يبدو التصوير أحياناً انتقالاً بعالم القصيدة إلى عالم التشكيل، ويبدو أحياناً أخرى مثل واعز على التصوير ليس إلا، أو مثل دافع له، ينطلق منه ويتعداه. هذا ما يتيح - على ما أعتقد - قراءة منفصلة، مثلما قلت، وقراءة متعالقة كذلك لعمل «رشم».
أما الفنان أبو النجا فسلك وجهة أخرى تبدو للناظر أكثر توليفاً للقصيدة في بناء التصوير، إذ أنتج عملاً لا ينفصل فيه كلام الشعر في ماديته الشكلية واللونية عن مواد التصوير الأخرى، وهو في الوقت عينه نص مقرؤ، بل كتبته أنا بنفسي، بناء لطلب الفنان. في هذا العمل يبدو الشعر داخلاً في نسيج التصوير، ما لم تعرفه تجارب تشكيلية عربية أخرى - على ما أعرف -، إلا أن هذا العمل بدوره يعول على النص الشعري لقول تشكيلي منطلقُه في غيره ولكنه وثيق الصلة بالفنان نفسه، بصنيعه السابق، بل تكون القصيدة في هذه الحال محرضاً على التصوير ليس إلا.
* التجارب الشحيحة التي عرفتها الحضارة العربية والمتمثلة في التلاقي بين الشعر والرسم كانت قائمة على مبدإ التناظر، ويرتكز خلالها الشعر على الرسم أو يتعكز الرسم على الكلمة الشعرية وينقلها إلى لغة الصورة. فكيف استطاع شربل داغر مع الفنانين جمال عبد الرحيم ومحمد أبو النجا وإيتيل عدنان وهناء مال الله الخروج من هذا المأزق؟
- لا يسعني أن أجيب بدلاً من الفنانين الذين اشتغلوا تشكيلياً على شعري. وما أريد قوله في هذا المجال يتعدى التصوير انطلاقاً من شعري، ليطاول العلاقة القديمة التي تشير إليها، والجديدة أيضاً، ولكن من منظور جمالي وحسب، لا تقويمي لهذا العمل أو ذاك. فهذه العلاقة القديمة قامت خصيصاً بين النص الأدبي، لا الشعري، والتصوير في الغالب، ما يعين اختلافاً صريحاً بين العلاقة القديمة والعلاقة الجديدة. ففي التجارب القديمة طلب الرسام، مثل الواسطي، سرد المقامة في عمل تصويري، ما يقوم على علاقة إخبارية وتتبعية للنص الأدبي، أما علاقة الرسام الحديث بالنص الشعري فمختلفة لأنها تعتمد على التخييل والتعبير على أن عناصر السرد خفيفة أو ثانوية. إلى هذا، فهناك عناصر أو أسس في الصنع، في التصور الثقافي والجمالي، في أنواع الإنتاجات المعروضة على التداول، تختلف تماماً بين العهد القديم والعهد الحديث، ما لا نقوى على تنظيم أسس المقارنة بينهما، وفي حوار خصوصاً.
* في مجموعتك الشعرية «حاطب ليل» كثيراً ما ترد صورة الأنا في شكل أنوات، كما ان حالة الانفصام (الشيزوفرينيا) كثيراً ما تتلبس بهذه الذات فيصبح نشدان هذه الذات المنفصلة عن الشاعر والموضوعة قبالته تحت مجهر الرصد مسلكاً لا مفر منه. ولكن ألا تعتقد أن هذه السمة هي التي خلصت خطابك من الوقوع في فخ الذاتية والالتفات عنها إلى سرد الذات في العالم؟
- تحدث الدكتور خريستو نجم في دراسة عن شعري عن حال الانفصال، ما يشير إليه عنوان الدراسة أساساً: «أزمة الإبحار بين ضفتين»، غير أنني أجد ضرورة للحديث عن التعدد. وهو ما يقوله المتكلم المذكر في غير قصيدة، وهو ما يمثل في الحديث أحياناً عن الأنثى، إذ أنها «نساء يتعاقبن على الدور عينه». فالواحد، عينه، تعددي، لا ثنائي، أو تصادمي فقط.
هكذا تتكاثر في شعري صور الأعمى والتوأم والبديل و«المُرَوْبِص» وغيرها، أي الأنا في الآخر. وإذ يتحدث الأنا عن الأنت، فهو لا يخاطب غيره وحسب، وأنما يخاطب أيضاً طيفه أو صوته أو وجهه المحتمل أو المشتهى. وهو ما يمثل أيضاً في صورة عناصر وأشياء طبيعية، مثل الحجر في إحدى قصائدي، إذ هو مرآة لوجه الصبي في طفولته، أو شريك له في الرقص أو كتاب طبيعي...
لا أسعى من خلال ذلك التخفيفَ من غلواء الذاتية المستشرية في النص الحديث - والذي يبدو بهذا الفعل بعيداً عن الحداثة نفسها التي تعين فردية الكائن و«خفته» حسب كونديرا -، وإنما تعيين الذات نفسها، حيث أنها مبثوثة في غيرها، في خارجها، قبل تحققها، قبل إقدامها على الكلام والتعبير. فالآخر هو ما يسبقني إليَّ، وهو ما يتحدثني ويتلفظني قبل إقدامي المخصوص على الكلام.
* في اللقاء الذي أجري معك في «منتدى بيت القصيد» التابع لـ«بيت الشعر» في تونس (نيسان/أبريل 2002) قلت في معرض حديثك عن نتاجك الشعري: «أنا لا أستطيع أن أقول إن هذا الكلام ملك لي»، فهل بدأ شربل داغر يؤسس لمقولة جديدة في شعرية الحداثة تدعو إلى الفصل بين ذات الشاعر وبين الذات الشاعرة، أي ذات الشاعر كمل تمثل على الورق؟
- بل أذهب أبعد من ذلك: لو كان في مقدوري استعادة مساري الشعري، لكنت عمدت إلى تدبير اسم مستعار لكتبي الشعرية، لا بغرض التخفي، وإنما بغرض عدم نسبة هذا الكلام إلى من ليس له. فاسمي المعروف هو اسمي العائلي، أي الموروث، أي المسبوق، فكيف لي أن أثبته فوق كلام لا يعود إلى هذا الأصل بالضرورة! ولو طلبت الاستمرار بهذا الكلام لقلت بأن اسمي العائلي هو وارث عائدات هذا الكلام الشعري، لا الكلام نفسه. فهذا الكلام هو أصوات، لا صوتي الواحد الوحيد، ولا أقوى على جعله مالكاً لكل ما يقوله، وهو في أحسن الأحوال قيِّم عليه، مدير له، طالما أن المتكلم في القصيدة تتناهب كلامه أصوات، متأتية منه ومن غيره، من مكابداته ومن لعبة الأصوات والأصداء التي يختزنها من جلبة خارجية، واقعة خارجه عند أقرانه، أو في أفق التوقع الاجتماعي للمعنى.
* يستند داريدا إلى طبيعة اللغة باعتبارها قوة لا نستطيع السيطرة عليها حتى عندما نحكم الوعي في استخدامها، لإثبات أن المعاني التي ترشح من النص ليست بالضرورة تلك التي حكَّم الكاتب وعيه لصياغتها. ألا يمكن أن تنقلب اللغة في هذا الإطار على الشاعر فتقول ذاكرتها وذاكرة الأشياء، ويبقى الشاعر غريباً في حضرة الضياع يهفو إلى من يقوله ويرثي لضياع ملكوته؟
- هذا ما قاله ميشال فوكو، قبل داريدا، في كتاب «الكلمات والأشياء»، إذ تحدث، بعد عهد المطابقة بين الكلمة والشيء، عن عهد آخر يتم فيه اجتياز عتبة الحداثة، وتنفصل فيه الكلمة عن الشيء فلا تحتاجه، بل يحدث لها نوع من التولد الانبثاقي، التلقائي، إذا جاز القول، مثلما يحدث ذلك في «الأدب» (littérature ) والسرد، مع سرفنتس وغيره. وهو ما يقوله داريدا في تشديده علي أن اللغة سابقة علينا، وتتحكم بقولنا بالتالي. إلا أنني أميل بهذا الكلام، مع احتفاظي بشيء منه، صوب وجهة أخرى تعيده إلى ما يصدر عنه ويصب فيه، أي التداول الاجتماعي للغة، وبالتالي لفنونها الكتابية، مثل الشعر وغيره.
طبعاً اللغة تسبقنا، بنظامها وحمولاتها، وهو ما يقوله فوكو وداريدا، وأسوقه بشيء من التبسيط طبعاً، إلا أن مسبقاتها تهيء للكلام، ومنه الشعر، ما يوقعه في المعجم، من جهة، وفي تداول المعاني، من جهة ثانية. ويعني هذا، أن تأويل الشعر - وهو أقصى ما نستطيعه مع الشعر - لا يمكن أن يقع في فراغ، أو في متاهة، أو في ضياع، وإنما في المعاني المتحققة في، أو المتحصلة من، التداول الاجتماعي للمعنى. وهو ما يتحقق ويتحصل في فحص الكلام القاموسي في تعبيره الحاصل. لهذا أقول في الوقت عينه: لا يوجد معنى قاموسي إلا بوصفه معنى تقريبياً لا ندركه إلا وفق ملكاتنا، ولا يوجد معنى مخلوقاً، مبتدعاً من دون أصل، أي يبدعه الشاعر من فراغ، مثل الفعل النبوي، وإنما من أفق المعنى في تداوله.
لهذا فان الشاعر في حسابي قد يكون مستعملَ التراكيب-المعاني في ساريها المعروف، وقد يكون مجدداً لاستعمالاتها، أي يشدد على اقتراحه المخصوص، على إسهامه المبتكر، في التحاور مع غيره ومع نفسه بواسطة اللغة.
لا يخرج الشاعر من اللغة، في جاريها، إلا ليعود إليها وإن في هيئة مختلفة. وهو لا يعدو في صحراء، بل تجدد المتاهةُ سبلَ اللغة.
* هل أن اللغة، إذن، هي مطية الشاعر لتطويق الحالة الشعرية والقبض على اللحظات المستعصية أم ان الشاعر هو وسيلة اللغة لإنتاج الشعر؟
- لا أحسن النظر إلى اللغة وإلى الشعر وفق هذه الاحتمالية الثنائية، إذ أنني أميل إلى طرحهما في صياغة أخرى. وهي صياغة تظهر القصيدة مسبوقة وباحثة عن التجديد، من جهة، وتظهر الشاعر مخاتلاً بين كونه لاعباً مجرباً وبين كونه اللعبة نفسها، من جهة ثانية.
* يكتب شربل داغر النص الغنائي والنص النثري الصرف، ألا تعتقد أن الغنائية أصبحت تمثل عنصراً غير مرغوب فيه في قصيدة النثر التي أضحت تفتش عن فرادتها خارج المعايير الجمالية القديمة كما يزعم البعض؟
- سبق أن قال الشاعر الفرنسي جان-بيار فاي عن شعري أنه يتميز في بعضه بـ«غنائية خافتة» تجمع بين الأنوية الحميمة وبين المشهدية الملحمية. وهو قول أقبله ولكن شريطة أن أضيف عليه أن الغنائية طريقة يحتاجها بناء القصيدة أحياناً أو بعض وحداتها وحسب، وليست غرضاً مطلوباً أو قالباً أريده للشعر. فالغنائية مطلوبة لذاتها في غالب الشعر، أياً كان جنسه، سواء أكان قصيدة نثر أو قصيدة تفعيلة أو غيرها، فيما الغنائية عندي نوع في مقاربة الشعر، أي طريقة في معالجته، إلى جانب مقاربات ومعالجات أخرى قد تتناول الموضوعات عينها ولكن وفق استهدافات مختلفة.
الغنائية، وفق هذا المنظور، ليست مستحسنة أو مستقبحة في ذاتها، وليست مذمومة في قصيدة النثر وممدوحة في قصيدة التفعيلة، وإنما هي تناولٌ، أو احتياج يطلبه تقليب المعنى في قصيدتي.
* كثر الحديث في المدونة النقدية الحديثة عن مفهوم آخر اعتبره البعض أس قصيدة النثر وهو مفهوم الإيقاع الداخلي، ألا ترى أن هذه الدعاوى لم تحدد إلى الآن الإيقاع الداخلي الذي تكتسب له قصيدة النثر فرادتها وتميزها من النص الكملاسيكي في اعتقادهم؟
- سبق لي في كتابي «الشعرية العربية الحديثة» أن انتقدت مفهوم «الإيقاع الداخلي»، المأخوذ من المدونة النقدية الفرنسية من دون فحص. فلقد أثبتت في هذا الكتاب أن هذا الإيقاع مزعوم في قصائد النثر التي نعاينها، أي أنه موجود وغير موجود في آن. ولقد تحققت في دراساتي النقدية من أننا لا نزال نعامل قصيدة النثر، بل قصيدة التفعيلة أيضاً، وفق منطق عروضي، ولا نذهب كفاية إلى هذين النمطين لمعاينة نظامهما الإيقاعي. فالقصيدة العمودية، وحدها، هي التي تتمتع بنظام المقروئية الإيقاعية القائم على التوقع المحسوب، إذ أن المستمع لها يتوقع حدوثها إيقاعياً، بل لفظياً في أحوال، إذ لا يتأخر القارىءُ أحياناً، عند سماعه القصيدة لأول مرة، عن اقتراح التراكيب النازلة فيها، ولا سيما في الشطر الثاني منها. أما قصيدة التفعيلة فلا تعرف ذلك، وإن تعتمد على التفعيلة، وهو ما لم ندرسه كفاية: أي الفارق بين نسبة قصيدة التفعيلة إلى بحر (وبعضها - وإن قليل - يعود إلى بحرين في آن) وبين نظامها الإيقاعي المتشكل في تتابع الأسطر. فلقد أظهرت في »الشعرية العربية الحديثة« أن لقصيدة التفعيلة تتابعاً في الأسطر، يستند إلى وحدات البحر الإيقاعية، أي ينتسب إليها، إلا أن توزع الوحدات يتخذ في الأسطر شكلاً غير محسوب أو متوقع، لا إيقاعياً، ولا لفظياً. فالأسطر متفاوتة، وعدد الوحدات متفاوت، ما يعني أن نظام التوقع المحسوب، الذي يقوم عليه نظام القصيدة العمودي، لم يعد معمولاً بها.
وهذا ما يصح في صورة أقوى في قصيدة النثر، إذ أنها لا تنتسب أبداً إلى البحر الشعري، عدا أن الإيقاعات التي قد ترد فيها - وهي لا ترد أحياناً أخرى - لا تنتظم وفق نظام محسوب، يمكن توقعه بأي حال.
* نلاحظ في «تخت شرقي» و«حاطب ليل» نزوعاً إلى الإطالة في بعض النصوص، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل التالي: إلى أي حد يمكن أن تحتمل قصيدة النثر، التي يدعو الكثير من روداها إلى الشعر الصافي، الإطالة؟
- هذا نزوع لم أطلبه، وإنما احتجته أو وجدت ضرورة له، أي أنني لا أنظر إليه، سواء في الاحتياج إليه أو في التخلي عنه، مثل ضرورة شكلية أو بنائية، أو من أساسيات القصيدة التي أكتبها. وأجد أحياناً أن الشعراء، أو النقاد، يلتهون عن الشعر بأوصافه الخارجية.
أما ما احتجته من إطالة - أحياناً، وليس في صورة دائمة، إذ لا تتعدى قصيدتي أحياناً السطرين - فيعود إلى بناء القصيدة نفسه، حيث أنه بناء يقوم على التعدد والانفصال ضمن القصيدة الواحدة. فلو عدت على سبيل المثال إلى قصيدة »غيبة جسد ماثل« أو »عن كونه غائباً/ بوصفي متكلماً« وغيرها، لانتبهت إلى وجود لعبة شكلية في القصيدة، في كل وحدة منها، وهي ليست شكلية تماماً: فلكل قصيدة وحدات بنائية، تتألف كل واحدة منها من مقاطع عديدة، ولقد عمدت إلى تمييز كل وحدة بنائية في سطرها الأول بحرف طباعي مختلف عن تاليه، ولكنني جعلت هذا السطر الأول مندمجاً في الوحدة البنائية، ما يجعلها في آن: قصيدة منفصلة تماماً، ومتواصلة ومتعالقة مع غيرها. وهو ما يشير إلى أن هذه القصائد الطويلة تستند إلى مفهوم آخر، يقوم على سرد متعدد، ذي وقفات أو معالجات مختلفة، أو يقوم على تعالق وتباين ينهل ويصب في مناخ أو فضاء واحد من المعاني.
* ألا تعتقد أن غياب الأنموذج أو المعيار في النص الشعري الحديث والقول بأن هذا النص قد أصبح يحمل معياره في صلبه ويؤسس لأنموذجه الخاص قد فتح الباب على مصراعيه لمقولة التجريب واختلاط الحابل بالنابل؟
- سقت القول في إحدى دراساتي بأن قصيدة النثر «نص مُفَرْدَن»، أي أنه إنشاء كتابي لا يخضع لمواضعات مسبقة، بل لمعالجات يتدبرها كل كاتب، حتى أن النص الواحد عنده لا يشبه غيره في شعره. من هنا يتأتى غياب الأنموذج، وهو غياب لنا أن نتحقق من إسهاماته التجديدية، وإن يؤدي أحياناً إلى تجارب تجديدية غير مجددة فعلاً.
وأقول في هذا المجال إن قصيدة النثر تحتاج إلى نظر مزيد لكي نتحقق من أنماطها، حيث أنها ليست نمطاً واحداً، يميل إلى الإطالة أو إلى التكثيف، أو يقوم على تكثيف لحظة وجودية أو على سرد متعدد الفقرات. ذلك أن هذه القصيدة أغنت وجددت أشكال التعبير العربي، لا الشعري وحسب بل الجمالي في صورة عامة، على ما أرى وأدافع.
* من بين المفاهيم التي طرحتها قصيدة النثر بحدة عند بعض محترفيها، مفهوم الوحدة العضوية، ألا تعتقد أن هذا المفهوم ما يزال ضبابياً بعض الشيء؟
- هذا المفهوم يعود أساساً إلى الناقد كولريدج، وإلى القصيدة الكلاسيكية قبل غيرها، ولهذا أجدني ميالاً إلى القول: لا بأس إن بقي هذا المفهوم ضبابياً، لأنه لا يصلح لدرس الشعر، ولا سيما الحديث منه! ذلك أن القول بالوحدة العضوية لا يعدو كونه الحديث عن مفهوم يخلط بين الوصف والتقويم، بين فحص شكل شعري متحقق وبين الدعوة إلى شكل شعري بعينه على أنه وحده الجدير باستحقاق تسمية الشعر نفسها.
فالشعر، إن تقيد بهذا المفهوم، تقيد بمفهوم هو أقرب إلى تعميم البناء المعماري على القصيدة، والذي يطلب درجات عليا من التحكم في بنائها، فضلاً عن أن القصائد متنوعة الأشكال، قد تعتمد في بنائها على »تشظية« القصيدة، إذا جاز القول، أو على تراكمها التتابعي، أو على تغويرها الدوراني وغير ذلك من الأشكال.
* في كتابك «الشعرية العربية الحديثة» طرحت العديد من القضايا الشعرية الخطيرة باقتضاب شديد مثل مسألة توزيع الأسطر الشعرية. ولكن المدونة النقدية العربية بقيت تفتقر حتى الآن إلى بحث يفصل القول في حد السطر الشعري والدوافع المختلفة للتوزيع. فهل فتح شربل داغر الباب لكي لا يدخله أحد؟ وهل تنكب شربل لهذا المبحث فلم يفصل القول فيه بالشكل المنشود إلى الآن خاصة وأن عمر الكتاب 14 سنة وأن شربل داغر لم يشفق على هذا المولود اليتيم بأخٍ يخرجه من غربته هذه؟
- يعود هذا الكتاب إلى ما قبل ذلك، إلى سنوات 1977-1981، إذ هو الجزء الأساسي، لا التام، من أطروحتي الأولى التي دافعت عنها في العام 1982، في جامعة السوربون الجديدة - باريس الثالثة. ولقد كتبت منذ ذلك الوقت دراسات عديدة عن الشعر العربي الحديث، وأعمل منذ عشر سنوات وأزيد على مشروع آخر لدرس الشعر الحديث سيعرف طريقه إلى النشر قريباً. وهو مشروح طموح في تطلعه المنهجي والدراسي، إذ يعيد النظر في المدونة النقدية المطروحة لدرس هذا الشعر، بل لتأريخه وتعيينه، ويقترح تبويباً وتعييناً جديدين له
(مجلة "الحياة الثقافية"، تونس، العدد 139، 2002).