مع عمر أبو الهيجاء: فساد اللغة فساد الشعر
الشاعر اللبناني شربل داغر يعتبر من الأسماء الإبداعية الفاعلة والحاضرة في الساحة الثقافية اللبنانية والعربية (...). مهرجان جرش يستضيف الشاعر داغر، وعلى هامش مشاركته في جرش، التقته "الدستور"، وكان هذا اللقاء:
* نتاجك الأخير مختارات شعرية صدرت في القاهرة مؤخراً عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع"، وهي بعنوان "غيري بصفة كوني": ماذا تمثل هذه المختارات بالنسبة إليك؟
- هذه المختارات وقفة شعرية في مسار، وإن لبت في صدورها الحاجة إلى تقديمي إلى جمهور مصري يعرفني متقطعاً ومتفرقاً، تبعاً لنشر مجموعاتي الشعرية المختلفة في غير بلد عربي، وخارج مصر. إلا أن صدورها يتيح وقفة مع الذات قبل القارىء، مع النتاج، في نوع من المراجعة اللازمة لقولي الشعري، في تقطعاته وتواصلاته. ذلك أن أقدم قصيدة منشورة في الكتاب ترقى إلى العام 1972، وكانت نشرت في حينها في مجلة "مواقف"، وترقى القصيدة الأخيرة إلى مجموعة "حاطب ليل" التي صدرت عن "دار النهار للنشر" في العام 2001 .
إذن، هناك ثلاثون سنة متواصلة، متقطعة، من الشعر، من الانهمام الشعري، يشملها ولا يشملها هذا الكتاب. ذلك انه تم الاحتفاظ بقصائد وأسقط بعضها الآخر، فضلاً عن قصائد أخرى لم تكتب أساساً، أو عبرت أمام عيوني الشاخصة في حينها إلى غير الشعر. ذلك أن الرغبة في الشعر، أو انقطاعها، هي التي أملت التوجه إليه، لا غير ذلك، طالما أنني لم أتعامل مع الشعر تعاملاً وظيفياً، أشبه بالارتقاء في سلك مهني، أو بالانتساب إلى أعيان الشعر ورتب الشعراء. فالشعر يبقى هوايتي المجانية، وإن أعاملها بتشدد صارم إذ أقدم عليها. وهي هواية لا تزيد الحاجة إليها - على ما تحققت - إلا بالقدر الذي تزداد فيه عزلتي بين أهلي، أو بعيداً عنهم.
لا يسعني بالمقابل نقد تجربتي الشعرية، وأنا الذي قلت بأن قارىء القصيدة هو القارىء الأول لها، لا الثاني. ذلك أن الشاعر يبقى في القصيدة وإن ينتهي منها، إذ أن إقباله عليها، ولا سيما بعد وضعها، يجعله في أوضاع متداخلة مع أخيلة وأطياف ومواعيد مفاجئة تتقاطع فيها، فيما يقبل القارىء عليها إقبال المكتشف، أياً كان القارىء وأياً كانت لحظة القراءة، إذ أن فعل القراءة لا يعدو كونه فعلاً تملكياً للقصيدة، بما فيه التخلي عنها، أو الانقطاع عن قرائتها.
* أتكون في ذلك قد بلغت مرحلة الرضى في قناعتك، أو في قناعة من حولك؟ ألا يعتبر هذا مسماراً في نعش العملية الإبداعية؟
- أوافق ولا أوافق مثل هذا الرأي، وفي آن. ذلك أنني أخشى أو أحذر من الجانب الإدهاشي الذي يقوم عليه تعيين الشعر في قولك: الموت المحتم لمن لا يسكنه قلق الخلق الدائم. ويبدو الأمر كما لو أن الشاعر منتج إدهاشات متمادية، متلاحقة، وهو أقرب في ذلك لأن يكون صاحب مفرقعات نارية في الشعر، يعنيه صدم القارىء وحسب، في نوع من التوتير المتلاحق لعملية الشعر. وهو استغراق في الشكلانية الصرفة، في الهباء الجمالي الذي تفضي إليه المفرقعات بعد دقائق قليلة على انقضاء مفاعيلها القوية والتالفة.
إلا أنني، في الوقت عينه، أخشى التكرار نفسه، مثلما عبرت ذات يوم عن رأيي في شعر نزار قباني في سنواته الأخيرة، حيث قلت عنه: "نزار قباني يقلد نزار قباني". وهو قول يؤكد على مكانة الإنتاج الحاصل، وعلى حدود بلوغه في آن. هذا الوصول لم يعرفه أحد مثل نزار قباني، إذ أن جملته، لو التقطتها في شارع من دون توقيع لعرفت أنها من صنيعه، إلا أنه بدل أن يجددها، راح يستهلكها في أيامه الأخيرة ويستعيدها. هذا بخلاف ما فعله ويفعله شاعر مثل محمود درويش إذ تغير في "الجدارية"، ويتغير في قصائد جديدة له غير منشورة حتى أنه يبدو فيها أقرب إلى مناخات بعض قصيدة النثر.
* وماذا عنك؟
- كنت أسعى للتهرب من الإجابة، إذ أنني أتجنب الحديث عن شعري، وأنا ناقد ودارس أكاديمي. لنقل إنني لا أستحسن الحديث في الشعر عن الرضى، بل أفضل الكلام عن توصلات، أي عن تجريب أدوات في الكتابة الشعرية، وعن تجديد وسائل التركيب النحوي وتوسيع الدلالة. فالشعر اختبارات في ميدان اللغة على أنه ميدان الوجود أيضاً، وهي اختبارات تنحو إلى التجديد حكماً، أي إلى قول غير مطروق. وهو ما تقوله اللغة أساساً، لا موضوعات الشعر، ذلك أن الشاعر يعمل باللغة، مثل النحات بالحجر، والمصور بعجائن اللون. فهناك من يعتقد بأن تجديد الشعر يقوم على التزام قضية، من العمال أو التحرير أو اليوميات العابرة وغيرها، فيما لا تقوم قضية للشعر إلا بما تستطيعه اللغة أساساً.
* يقول معظم الشعراء: أحب القصيدة التي لم تأت بعد. ما تقول في هذا الطرح؟
- هذا قول لا يعني شيئاً، وإن يردده شعراء كثيرون بعد أدونيس، وهو الذي ردده بدوره بعد مالارميه. فهو قول يلزم الشاعر بالتجديد، ويؤجله في آن، ما يعفي الشعر المنتج من النقد، من جهة، وما يمحض الشعر عموماً صفة الخلق المتجدد، من جهة ثانية. هكذا ينعم الشاعر واقعاً، بحسنات الجدة، المرجئة تصريحاً والمحصلة لصيت الشاعر واقعاً، وينعم الشعر بحصانة وإن يتم تأجيلها لوقت آخر.
هذا يرسم صورة مستجدة في أدبياتنا عن الشاعر: صورة قلقة، متسامية، إلا أنها تسعى للتخلص، للتملص من التاريخ، من المسؤولية الشعرية والثقافية التي يضطلع بها أي شاعر.
* هل تفضل أن تكون أنت ناقد نفسك قبل أن ينقدك الآخرون؟ وهذا يدعوني إلى التساؤل: هل في داخلك من يتربص بك؟
- طبعاً هناك من يتربص لي فيَّ، من دون أن أتبين فعلاً من أنا منه، ومن هو مني. وأنا في ذلك بخلاف المتنبي، الذي كان من فرط إحساسه بأنويته، يتخيل نفسه واحداً أكيداً، بل ومنيعاً، تنهال عليه الشرور والمصائب والنوازل من خارجه، ويقوى عليها. نفسي أكثر ارتباكاً، وفيها جلبة لا تنجلي حواراتها في صور منسقة. فيها أصوات تتحاور وتتنابذ أيضاً، ويخلي الواحد أحياناً مكانه للآخر. صوت الناقد هو أحد هذه الأصوات، الذي قد يعلو أو يخبو، أو يختفي حين تستبد بي غواية الشعر إلي حدود نسيان أي شيء خارجها.
الشعر، بما فيه شعري، مطروح على النقاد بعدي طبعاً، وما أجيزه أو لا أجيزه لنفسي فيه، قد يجيزه أو لا يجيزه غيري من النقاد. لهذا لا يحل نقدي أو يبطل نقد غيري لشعري. إلا أن فيَّ ناقداً يعمل حتى حين لا أكتب الشعر، وأقرأه لغيري وحسب. هذا الناقد ينقِّر بدوره، يفحص الاندفاعة، ويصوب ويشطب ويعدل، في عمليات شديدة الخفاء أحياناً، وإن تعرف بعض أسباب اليقظة النقدية. عمليات تجعلني أقرب إلى المصور في محترفه، يقترب من اللوحة ويبتعد عنها، لكي يعمل عليها من جديد، وينصرف عنها ليعود إليها، من دون أن يعرف أحياناً لحظة الانتهاء منها.
هذا ما طلبت الإجابة عنه، ذات يوم، عند فنان صديق، شفيق عبود، في باريس فقال لي: أحياناً أدخل إلي المحترف، فأجد اللوحة المنصوبة فوق الحمالة المسندية منذ أيام قد انتهت، فيما كنت قد تركتها من دون أن أنهيها فعلاً. أحوال الانتهاء من القصيدة عديدة ومختلفة، إذ أنني أنتهي من قصائد، قصيرة واقعاً، بمجرد كتابتها، فيما يبقى غيرها معلقاً شهوراً قبل أن يجد مستقره. وجود القصيدة هوائي، رقيق، شفاف، هش، إلا أنه حين ينتظم فعلاً يقوى بما يقوم عليه ويبدو في قوة غريبة لا أقوى علي زحزحة فيه، ولا على تبديل. ذلك أن القصيدة تلتم غالباً على سر تكوينها مثل محارة.
* ما درجة الثقافة العربية في مخزون الشاعر شربل داغر؟ وهل تؤمن بالتمثل الغربي للشاعر الشرقي؟
- لا يمكنني قياس هذه الدرجة، إلا أنني أتحقق منها، أنا مثل قراء ونقاد لشعري، خاصة وأنني لا أنكر الثقافة في الشعر. بخلاف غيري، ممن يعولون على فجائية الشعر، أو على انبثاقيته غير المحسوبة، كما لو أنه يستطيع أن يخرج من مبان ومعان هي غير مباني ومعاني الشعر في زمنه. كما أظن بأن عدداً من الشعراء يعولون كذلك على تجريبات الحياة نفسها بوصفها معين الشعر الجوهري والحقيقي من دون غيرها. وهناك غيرهم ممن يتنكبون عن قراءة كتاب واحد، فيما يتحصل الشعر في القراءة وإثرها، حتى أن بعض القصائد تكاد أن تكون »تقليباً« لغيرها.
بقدر ما أنا متجذر في لغتي، أستقصي فيها وأتحرى عما يلبي رغباتي في التعبير، فأنا أشم وأذوق حيثما يحلو لي. ولا يعنيني هذا الكلام عن الشرقي والغربي، وإن كان له معنى في سياقات أخرى، طالما أنني أهجس بالبحث عن الآخر، أي آخر، واجداً فيه أناي المفقودة، المكملة، أو المقلوبة. ففي نفسي هواء وأصوات متحصلة أو تهب علي من أنحاء بعيدة ومختلفة، فكيف لي أن أمنع هبوبها، وقد جعلت من الهبوب إيقاعاً لكلامي!
* متى يمكننا أن نميز تماماً بين قصيدة النثر والقصيدة المترجمة؟
- سؤال جميل وموفق، وإن كان يستعيد بعضاً من انتقادات التقليديين لقصيدة النثر. إلا أنني لا أجد حرجاً من وجود علاقة بين قصيدة النثر والقصيدة المترجمة، مثلما لم يتحرج سليمان البستاني من أن تكون ترجمته للإلياذة منظومة، ولا نقولا فياض أو غيرهما من شعراء التجديد الأوائل، الذين أوجدوا صلات لازمة وحيوية بين شعرهم والشعر الأجنبي، بلغ فيهم حد الترجمة نفسها.
علينا ألا ننظر إلى قصيدة النثر بمثل هذه النظرة الارتيابية، التي لا تقبل عداها واقعاً وتنظر إليه بعين الوافد الغريب. أن أي نظرة تاريخية حقة للشعر العربي الحديث بعهوده المختلفة، تظهر لدارسه - وهو ما فعلته في غير دراسة وكتاب - بأنه تجدد بفعل عوامل تغرب وتفاعل عديدة مع نماذج شعرية أجنبية عديدة. وهو ما يصح في قصيدة النثر كما في قصيدة التفعيلة وغيرها من تجارب التجديد التي سقطت من الاستعمال اليوم.
قصيدة النثر ليست القصيدة الركيكة، من جهة، والقصيدة المترجمة ليست القصيدة الركيكة، من جهة ثانية، مثلما يوحي بذلك السؤال. فهناك من النماذج، في الحالتين، ما يسقط هذا التعميم: أدونيس، في ترجمته لقصيدة سان جون برس "ضيقة، هي المراكب"، أنتج ترجمة أجمل من شعره في تلك الحقبة. إلي ذلك، هناك من الشعر العمودي وغيره ما يندرج حكماً في اللغة الركيكة، مثل الكثير من الشعر الوطني والقومي وغيره.
إلى هذا، علينا ألا نغفل عن حقيقة كون الشعر العربي - وهذا يصح في غيره من شعر العالم - بات يعايش أوضاعاً جديدة باتت فيه الخلاسية، أو التناص مسألة لازمة حكماً في الشعر: قلة من الشعراء لا تتقن لغة أجنبية إلي جانب لغتها الأم، وقلة أقل منها من لا تُقبل على قراءة واستعذاب شعر من خارج دائرتها الشعرية. وما نغفل عنه أيضاً هو أن تجديد الشعر بات مطلوباً في صورة أكثر إلحاحاً من الماضي، وهو ما يتمثل في تبديل اللغة في صور متمادية، حتى أن البعض بات يطلب منها ركاكتها في صورة عمدية.
* وماذا تقول في هذه الدعوى الشعرية؟
- الشعر الركيك بات هدفاً عند بعض كاتبيه، ولم يعد الشعر إنهاكاً، إذا جاز التصوير، لطاقة التعبير في اللغة، مثلما كان له أن يكون. شعراء طالبوا بقصيدة التفاصيل، وغيرهم باللغة التالفة، مخاصمين ما اعتبروه عهد الفصاحة الجديد في الشعر العربي. وهم في ذلك محقون، إلا أنهم انقلبوا على منتقديهم ووقعوا في الفخ عينه، أي التعويل الشديد علي اللغة، لذاتها: هناك طالبوا بقسم من اللغة، وهنا كذلك إذ طالبوا بقسمها اليومي والعامي والمهلهل. هؤلاء وأولئك لا يزالون أسرى الفهم الإعجازي القديم للغة العربية، أي كونها صاحبة تحققات لغوية خارقة، تتأتى من ممارسة اللغة نفسها، أو من قسم منها. وهذا ما وقعت فيه بعض قصائد النثر، حيث أنزلت لغة الشعر إلى أسقط الأحوال الكتابية ما أفقدها جماليتها وتعبيريتها، وما منعها كذلك من تجديد اللغة نفسها، وهو من أغراض الشعر.
لا يؤتي الشعر من فاسد اللغة، إلا إذا طلبنا إجراء عرض ساخر أو تربوي من ذلك. إلى هذا يجدد الشعر حياة اللغة، ولا يزيدها إتلافاً وتكراراً وموتاً.
* قليل جداً من يجمعون بين النقد والشعر، فمن ينصب نفسه ناقداً على نفسه يقع في الذهنية، حاصة وأننا لا نتعامل مع الشعر بالوحدات القياسية في زمن تنزاح فيه الكلمات من المعجم: ما رأيك في هذا القول؟
- لا أعرف ما إذا كان الجمع بين النقد والشعر حسناً أم رذيلاً في حد ذاته. هذا ما أنا عليه، وأتدبر أمري معه. أحسب أن في هذا فائدة ينتفع منها شعري، حين أُعمل يد الرقيب في التشطيب والتشذيب والتسوية وغيرها من عمليات الضبط والربط، كما كانت تسمى. أما الوقوع في الذهنية فيشبه البلادة الرتيبة نفسها حين يقع فيها الشاعر، أي أنها ليست شراً قائماً بنفسه. فالشاعر صانع مثل غيره من الصانعين يعمل على مصنوعاته، ويراقب ويعاين مقدراته في التجديد، أو في ابتكار سبل جديدة في الصنع، سواء عنده أو عند غيره. فقلة قليلة من القصائد تنزل مبرمة، منتهية، في ضربتها الأولى.
ولهذا العمل المتمادي على القصيدة لذة مخصوصة، لا تقل في إثارتها عن لذة الوضع الأولى. إذ أنني في هذا العمل أتكشف جوانب خافية في اللفظ، في التركيب، بل أتدبر أحياناً شبكات جديدة من الدلالات تتلابس وتتداخل مع غيرها فتتيح للقصيدة الواحدة غير قراءة ممكنة.
* كثيرون من الشعراء يقعون في التكرار نظراً لعدم القراءة: هل تقرأ ثم تكتب؟ ما هي المعادلة بين أن تقرأ وأن تكتب؟
- المعادلة زئبقية، تتراوح بين حالة وأخرى. ذلك أنني إذ أقرأ أكتب بالضرورة، ولكن في صورة غير واعية أو واعية كذلك، بمعنى التنبه الشديد لما أقرأ والتفكير فيه، وربما تسجيله على ورقة، بما يعني التملك الثابت له، وإدخاله في تناسج لازم، له أن يظهر في القصيدة بعد وقت. وهي أحوال من التناص المطلوب أو الضمني وغيره.
فالشعر معاودة لازمة، إلا أنها تطلب التجديد. معاودة تنطلق من التكرار، من المعروف، من المسبوق، على أنها تجيل النظر فيه، تفحصه. هذا لا يعني عدم التمييز بين القراءة والكتابة
كعمليتين متباينتين، على الرغم من التعالقات المفيدة والحيوية، ولا سيما لكتابة الشعر. إلا أنني أطلب القراءة لذاتها، كفعل ثقافي، بل كفعل من التسلية، من النزهة، من نسيان الكتابة، في نوع من العطلة. إلا أن هذه القراءة، هي للكتابة، مثل العطلة لأيام العمل، أي تجدد الحيوية والإقبال والرغبة في العمل.
* تمت ترجمات عديدة لشعرك إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية، فماذا تقول عنها، وقد خبرت الترجمة الشعرية في غير كتاب لك؟
- عليك أن تتوجه بالسؤال إلى هؤلاء المترجمين، فلهم الأحقية بالجواب. وإذا كان لي أن أجيب فأقول بأن القارىء عموماً، إذ يقرأ، يقوم بعملية تملك للنص الذي يقبل عليه. وهذا يصح في الترجمة كذلك، وإن سعت إلى الأمانة، إذ أن المترجم يتقيد ويلزم نفسه بضرورة نقل النص إلى لغة أخرى، هي الفرنسية أو الانكليزية، ولكن عبر لغته هو، أي خبرته وملكته فيها، أي بألفاظه هو وبعملياته الكتابية المخصوصة على النص.
لهذا يحلو لي، عند قراءة بعض قصائدي المترجمة، التوقف عندها والتعرف عليها، إذ تبدو غريبة وأليفة في آن: غريبة مثل قصيدة أخرى، وأليفة مثل العلاقة بالشبه لا بالأصل.
* وماذا عن عمل أكثر من فنان عربي على نقل قصائد لك إلى لغة التصوير؟
- هذا ما قام به واقعاً غير فنان عربي، مثل البحريني جمال عبد الرحيم، والعراقية هناء مال الله، واللبنانية ايتيل عدنان، والمصري محمد فتحي أبو النجا، وعملوا في تجاربهم الفنية المختلفة على تدبير علاقات متنوعة ومختلفة بين القصيدة والعمل التشكيلي. هي أعمال اشتغلت بدورها على النقل، على الترجمة، على إيجاد علاقات مع نص-أصل، أو منطلق للعمل الفني، ولكن بوسائل أخرى، غير اللغة، هي لغة التصوير نفسها من أشكال وألوان.
مع هذه الأعمال الفنية زادت الغربة طبعاً، ولكن اتسع في الوقت عينه نطاق التأويل. وهو ما يجدد أسس النظر الفني إلى النص الشعري، ويفتحه على فضاءات فاتنة ومثيرة.
* كما صدر لك في الربيع المنصرم كتاب بعنوان: "اللوحة العربية بين سياق وأفق"، فماذا تقول فيه؟
- هو مسعى جديد في توفير تاريخية ما للفن العربي الحديث، بالعودة إلي سياقات إنتاجه وقبوله وتداوله في البيئات، فضلاً عما يثيره هذا التداول من إشكاليات مع الماضي الفني أو مع قبول الجماعات له، بالمعنى الاجتماعي والاعتقادي وغيره. في الكتاب مساع تاريخية لا تكتفي بملاحظة سير الفنانين وأدلة المعارض، بل تتوقف عند التكوينات التاريخية التي جعلت الذوق ينقلب ويتغير أو يتقبل أنماطاً أخرى. وهو ما أدرجته في النطاقين، العثماني المتأخر والاستعماري.
كما توقف الكتاب لمعالجة ودرس تجارب تشكيلية عربية واسعة، مثل استعمال الحرف في التصوير العربي الحديث، أو إدخال العمل النحتي إلي الميدان العمومي، ولا سيما في الساحات. وهي تجارب عربية واسعة تكشف عن مصاعب قبول البيئات العربية لمثل هذه الفنون، في نوع من المعاداة لها، أو التحوير المشدد لها.
كما عالج الكتاب مسائل نظرية شائكة، ولا سيما في الخطاب الفلسفي عند هايدغر وديريدا، حول أصل العمل الفني، مشدداً على أن الفن لا يتعين في ماهية سابقة على تعاملات البشر معه، وإنما يتعين الفن في بلوغ صفة، هي قيد التنافس والتباري بين البشر أنفسهم.
(جريدة "الدستور"، ملحق "فضاءات"، عَمان، 6 آب-أغسطس 2003).