تقريظ
يحملني الخوف على الرواية، التي هي شغفي الأوّل في هذه المرحلة من تاريخي الشخصيّ، والذي صاقب أن يكون زمن الرواية، إلى التوجّس من كتّابها من ذوي الأصول والمنابت الاحترافيّة الثقافيّة الأخرى.. أخاف عليها من الشعراء، مثلما أخاف عليها من النقّاد الأكاديميّين، فكيف يكون الأمر مع ناقد أكاديميّ وشاعر في الوقت نفسه؟! ستكون الخشية مضاعفة، لا شكّ!
لكن حينما نفتح الصفحات الأولى، من «بدل عن ضائع» لـشربل داغر، وتبدأ الجملة السرديّة بالتدفّق، وباقتحامنا، ننسى الانتماءات الأخرى كلّها، لننتمي إلى أصول الفنّ غير المفتعلة، غير المتحذلقة.. ننتمي إلى الرواية.

مهرجان النصوص
يقابل النكوصات في حياتنا العربيّة عموماً، النكوصات التي باتت دامغة، منذ التسعينيّات حتّى اليوم، اجتماعيّاً وثقافيّاً على مستوى النظريّة والفكر، واقتصاديّاً، وسياسيّاً، يقابلها تقدّم هائل في الكتابة الروائيّة، يعود ذلك إلى أصل هذا الفنّ، الذي يعتاش علىى حضور المتناقضات جميعها، ويستفيد من الخيبات والألم والدمار، مثلما يعود إلى وعي الكاتب الحادّ، الذي يشكّل له قطيعة واضحة مع مجتمعه، إذ يمتلك الكاتب الحقّ وعياً فرديّاً، ما يزال يمنعه إلى اليوم من التماهي مع رغبات الجماهير المريحة، ووعيها القابل للتشيّؤ، رغم مرورنا بمقولات علم اجتماع الأدب، ومقولات الاشتراكيّة، إذ سيبقى الكاتب الروائيّ نخبويّاً، مهما جهّز من الأقنعة.
لقد وصل الروائيّ العربيّ إلى حالة مستفحلة من الليبراليّة، في مجتمعات أسقطت بفرحٍ دكتاتوريّات اليسار، لتسقط في قبضة راديكاليّة اليمين، لذلك في ظلّ هذا الادعاء كلّه، والتناقض كلّه، الذي أفقدنا الثقة بكلّ شيء، يحاول شربل داغر استعادة المفقودات وتشكيلها سرديّاً. إنّ مفقوداته فادحة، فليس أفدح من التباس الهويّة سوى شيئين: فقدها، وخواء الجذور!
نعود مع «بدل عن ضائع» إلى الأصل المباشر لهذا الفقد، إلى الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، التي لم تقُلْ كلّ عذاباتها بعد. لقد توقّف النزف، لكنّ الجراح يجب أن تكشف تماماً للعراء، لكي تشفى، وإذا ما عدنا إلى أصل نظريّ نقديّ أبعد، سنجد تمثّلات العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، إذ يسير هذا النصّ تماماً بموازاة النظريّة، وهذا مغنم محبّب بالنسبة إلى دارس الأدب.
تُعرّف الرواية بأنّها بحث عن قيم مفقودة في عالم متدهور، ويبحث الأبطال في هذا النصّ عن هويّاتهم الإنسانيّة، لا القوميّة أو الوطنيّة أو الإثنيّة أو الجندريّة فحسب، ويتشكّل عالم النصّ من البحث عن الهويّة عبر الآخر، الآخر الذي ما زال نائماً بالنسبة للمدوّنة الروائيّة العربيّة، فهو الآخر البعيد الذي يشبهنا في بعده عن المركز (أوروبا وأميركا)، وفي كونه ضحيّة الإمبرياليّة (كما لبنان والسنغال)، وفقاً لفرانز فانون وإدوارد سعيد.
يُصاغ هذا النصّ من سرد الضحايا، الضحايا في الجغرافيا، واللون، والجندر، والجسد، فالكاتب المأجور أو الراوي ضحيّة إحدى الميليشيات، وكلّ من ماري لويز وهادي، ضحايا اللون، وحتّى المخلّص (أمادو سال) شافي الروح والجسد، هو ضحيّة المستعمِرة القادمة بفكر إمبريالي دنيء وعنيف، لتوسّع أعمالها التجاريّة، بتجارة الأجساد (أردموته).
يتسلّل في مهرجان النصوص، الصاخبة في معظمها، هذا النصّ المليء بالانكسارات والهشاشة، يتسلّل بهدوء، بعيداً عن الصراخ، والعنف، والشعارات، والإيديولوجيا، والعنصريّة. إنّه يطرح قضايا حسّاسة ومغيّبة، لكنّها عميقة ومؤلمة، ومسبّباتها دامغة: الاستعمار، والحرب الأهليّة.
سالكة وآمنة
يختار البطل، الراوي الرئيس، أن يعبّر عن استلابه، بارتداء قناع «الكاتب المأجور» (Ghost Writer) الذي لا يستطيع أن يكون هو، ذلك أنّ الهويّة تأتي من الـ»هو» بحسب الفارابي، للإشارة إلى التفرّد، والخصوصيّة التي لا تجمعك مع أحد، ويقول ابن رشد في هذا الإطار: «الهويّة مرادف للصدق، والوجود، والحقيقة». ذلك هو المدماك الرئيس لفهم الهويّة، التي سحقتها الهويات الجمعيّة المؤدلجة، والتي هي مجرد خيال.
يخاف البطل أو الكاتب المأجور، من أن يكون هو، فيكتب عن أحلام الآخرين بلغته التي تساوي هويته، أو يكتب عن نفسه ولكن بتوقيع الآخرين. هذا الاستلابُ يجعل الشخصيةَ إشكاليّة، تخاف مواجهة العالم بسبب وصمة تركتها الحرب: الاختطاف، تغوّل الأصدقاء ومشاهدة تحوّلهم إلى مجرمين وخونة، مقتل الأب وإصابة الأخ، التهجير... وصمات جسديّة وروحيّة. ينتقل البطل إلى مكان جديد، فيتخلّص من كلّ شيء، لكنّ الهوّة التي في الداخل تنتقل معه، إنّه سلبيّ ومسحوق، ويريد أن يولد من جديد، فيبتعد عن أيّ علاقة بأيّ شخص، إذ لا يريد لأحد أن يؤذيه، فالمواليد الجدد ضعفاء ومفعمون بالهشاشة.
تقوم «يسرا خالد» باقتحام الراوي، وهي امرأة خارج إطار النموذج، ليست خارقة، ليست مفكّرة، لا تمتلك جمالاً متجاوزاً، لكنّها وثيقة العلاقة بأنوثتها، ولا تمتلك هويّة سوى جسدها، وهذه الهويّة مستلبة من قبل الزوج المالك، لا الشريك، والذي يريد أن يستولد ولداً من هذا الجسد. تتعالق «يسرا» والكاتب المأجور، بعلاقة القلِق مع القلِق، والمستلَب مع المستلَب، فتكون الخلاصة انتحاراً مباغتاً، إذ ترمي بنفسها من النافذة، وهو يراقبها من شبّاك شقّته، فتحرّر نفسها، وتتركه ليبحث عن طريقته الخاصّة بالتحرّر.
يبحث الأبطال جميعاً عن الحريّة التي هي صنو الحبّ، كلّ منهم يريد التحرّر عبر جسد الآخر: يسرا، والكاتب، وآمادو سال المخلّص، وسوزي الإفريقيّة. إنّ دروب الحريّة بالنسبة لهم سالكة لكنّها غير آمنة. تتحرر «يسرا» بالانتحار، ويبحث الكاتب المأجور عن ولدها «هادي» الذي وُلد لها من علاقتها بالمخلّص، ولد أسود يحمل وصمته في جلده، تمّ خطفه من قِبل أبيه، ثمّ اختفى من أبيه، وترك لأمّه الأدواء.
يعوّض الكاتب المأجور في بحثه عن «هادي» الذي صار هويّته البديلة، ثأره الأصليّ عند قتَلة أبيه، أي ميليشيات الحرب الأهليّة، وتُمكّنه الهويّة البديلة من الحياة، ذلك أنّها هويّة قائمة على المساعدة الإنسانيّة، والعطاء، هويّة تحْيي، ولا تقتل، إذا ما استعرنا عبارة أمين معلوف في «الهويّات القاتلة».

جماليّات روائيّة
ينماز النصّ بحبكته البوليسيّة، التي يشكّل البحث عن المفقود ظاهرها، إنّها أقرب ما تكون إلى مظلّة تظلّل الأحداث العارمة التي تتعلّق بالجوهر، بقضايا الرغبات، والنوستالجيا المصحوبة بالهرب، وغيرها من التناقضات المتعلّقة بالأنثروبولوجيا، من مثل حنين الأبيض لاكتشاف الأسود، وحنين الأسود لاكتشاف الأبيض.
ينماز النصّ أيضاً بكونه مكتوباً بأصوات الضحايا، التي تصف جلاّديها جيّداً، وتعرف أنّهم مأفونون، ومرضى نفسيّون لا سبيل إلى شفائهم، مهما مددت لهم من أيادي للمساعدة. إنّ هؤلاء الجلاّدين هم الذين يشكّلون الآن القوّة الاستناديّة لعالمنا، لذلك يتمتّع عالمنا بالهشاشة والخبث، إنّهم أولاد الميليشيات الذين تحوّلوا إلى وزراء وقادة، ورجال أعمال، ومنظّرين للفكر.
ينماز النصّ بقدرته على طرح الأسئلة الإشكاليّة لفنّ الرواية، والمتجسّدة في أهميّة القضايا الكبرى، والتي تعتريها تحوّلات تشكّك في أصالتها، بالنسبة لأصالة الوجع اليوميّ الذي تخلّفه تلك المواجهات، كالحروب والصراعات الدينيّة والعنصريّة، والذي لاسبيل للتصالح معه أو إلغائه، والذي يتمّ تغييبه أو تناسيه، لكنّه يحفر عميقاً في جوهر الأفراد، ويشوه هذا الجوهر، ويمنعه من التجلّي.
ينماز النصّ بالقدرة على النمذجة، أي صناعة نماذج فنيّة جديدة، لا استعادة النماذج السائدة، فالبطوليّ هنا ليس مغرقاً في التراجيديا، إنّه يقاوم تكريس كونه ضحيّة، بل يحاول التخلّص من فكرة أن يكون ضحيّة، كما يحاول المعذَّب أن ينفي استمتاعه بالعذاب، ليكتشف معنى جديداً للسعادة غير معنى الاستسلام. وتظهر المرأة جماليّاً بطريقة أكثر جدّة ممّا اعتدناه، فالنساء هنا لسن جميلات أو قبيحات، ومعذّبات بالهويّة، ومتحرّرات من سجن الجسد، لا يشبهن إيمّا بوفاري، ولا آنا كارنينا، ولا سلمى كرامي...
ينبغي في الحديث عن الإيروتيكا أن نشير إلى التعالق الثقافيّ الذي يرمز فيه النصّ إلى القديم والجديد، في العلاقة بين المقدّس والمدنّس، والرقص والتصوّف، والجسد والعبادة، ويمكن في هذا الإطار قراءة الإيروغرافيك على أنّها تجلٍّ من تجلّيات المورفولوجيا الوظيفيّة للنصّ، مثلها مثل العمران، والأزياء، والمناخ.

(أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة –الأردن، في ندوة حول الرواية، في "المركز الثقافي العربي"، في 23 أيلول-سبتمبر من سنة 2014، بمشاركتها مع: الياس فركوح، محمود منير والروائي).