يختار شربل داغر عنوان روايته بعناية فائقة. "بدل عن ضائع" تتضمن أفكاراً عدة تدل على مناخات العمل والقضايا التي ينبش في تفاصيلها، وربما في مقدمتها فكرة الكتابة نفسها، وفكرة الحرب.
ينتقي الكاتب "أجير كتابة" لدى إحدى دور النشر مهنةً لبطل روايته وراويها، إذ يعد ملفات حول مواضيع مختلفة حسب الطلب، تبتدئ بصناعة الكاوتشوك، وتاريخ العملة، والفائزين المتتابعين في سباقات "الفورمولا وان"، ولا تنتهي بكبار الطباخين العالمين.
وهو بذلك كاتب لا يغوص عميقاً في مواضيع كتاباته، ولا يعلم وجهة استعمالها اللاحق، ولمن تُعدّ هذه "الملفات المطبخية"، كما يسميها، متسائلاً في نهاية العمل: "أأنا مزوِّر؟ طبعاً، بدليل أنني أعمل لغيري، ويختفي اسمي من الإنتاج في صورته الأخيرة".
أسئلة كثيرة تخلص إلى إقراره بأنه خادم ممتاز، وليس محتالاً، وهو ما يجعل المزوِّر أفضل حالاً منه، لأنه شريك في العمل أكثر منه، وأكثر حريةً بالمعنى النفسي، لا التأليفي... ذلك أنّ الأجير يعمل بقدر من الحرية والتفنن، لكنّ عمله قد ينتهي إلى التلف. أما المزوِّر فيتوصل، وإن خلف أسماء وأسماء، إلى تقديم ما ينتجه في صورة نهائية. قد يُعتَرف بقوةِ فنِّ المزوِّر، بينما لا يتمُّ أبداً تثمين عمل الأجير الكتابي، إذ إنه عملٌ غير نهائي، وإن بلغ مرحلة النشر في صورة تامة".
تبدو الكتابة بأشكالها كافةً خدمة ممتازة حتى لو ظهر اسم الكاتب على عمله، لكن داغر أراد أن يختبر هذه المهنة تحديداً لبطل روايته الثانية، لعله ينجو به من الواقع، ويبقيه كائناً خفياً لا صلة له بما يكتب، فينتقل إلى بيت جديد ليهرب من ماضيه وذاكرته المتخمة بأهوال الحرب الأهلية اللبنانية، وما علِق منها من تشوهات لا تمحى، ظنّاً منه أنه سيعيش حياة أخرى.
يضع الحرب وراءه، ويمضي بطل رواية "بدل من ضائع" رغبةً في الخروج من متاهته الشخصية عبر كتابة رواية ممهورة باسمه، عوضاً عن إعداد دراسات تُنشر بأسماء آخرين، فيتتبع مأساة امرأة في الجوار فقدت ابنها، ويبدأ رحلة الكشف عن أسرارها، ليتواجه من جديد أمام ضعفه الشخصي؛ الغواية الحسية، وآثار الحرب الناهشة في الروح.
يلتقي الراوي يسرا التي ترتاد المقهى ذاته الذي اختاره مكاناً لممارسة الكتابة، وسرعان ما ينجذب إليها، مندفعاً لإزالة الغموض الذي يكتنف حياتها، وما يلتف شخصيتها وسلوكياتها من غرابة.
في الأثناء، تعرض عليه صاحبة دار النشر أن يؤلف عملاً أدبياً يحمل اسمه الصريح، فلا يجد بادئ الأمر مادة للكتابة، رغم أنه حلُم بذلك مسبقاً، ويتملكّه إحساس بخلوّ حياته من أمر يثير الدهشة، كأنه اعتاد على تناول قضايا لا تخصّه.
يقرر لاحقاً البحث عن لغز جارته، التي غدت قريبة منه، وشبه مقيمة في منزله، ويتلقى الصدمة الأولى حين يسيتقيظ على ضعفه تجاهها، وإخفاقه في ضبط شهوته، التي يبلغها قبل أن يمسّها، وفي ذلك إشارة بليغة إلى العجز الذي يلازم الرجل في بلادنا، ويواريه بادعاء الفحولة.
يظهر وصف صاحبة دار النشر الحرب موضوعاً ذا صلة، فتقول: "الحرب تعني الصمت، تعني الغياب، تعني انتفاء السرد، لمّا يكون الرجال هم من ارتكبوا الحرب، وهم من يقومون بالسرد. إنه قانون الفحولة... إنه قانون العشيرة: تحتكمُ إلى نفسها، لا إلى الدولة، فيما تتخاصم مع غيرها".
من الإشارات اللافتة حول سرد الحرب، ما يعرضه الراوي عن والده الذي كان يعمل في محطة القطار التي يأمل بتشغيلها، وكان يعتبر نفسه "ابن دولة"، كونه موظفها سنين طويلة، ويؤمن بها فوق كل العشائر. لكن الحرب تدخل المحطة، فتتخذها إحدى الميليشيات مقراً لها، ويتعطل القطار من جديد، وتنتهي الأمور بمقتل الوالد على يد مجهولين، كما يراد لكل تفاصيل الحرب الأهلية أن تكون.
بالطبع يستمر الراوي في مغامرته، ليتعرّف خلالها على حقيقة يسرا، التي تروي سيرتها منذ نشأتها في عائلة محافظة لا تختلف عن مثيلاتها في المجتمع العربي، ثم ارتباطها بتاجر لبناني ترتحل معه إلى السنغال حيث يقيم ويدير استثماراته، وهناك تستفيق على جسدها فجأة، وعلى نظام يفرض عليها الاندماج به: زوجة صالحة وأمّا تنجب الأولاد من دون أن يكون لديها حلمها أو شغفها الخاص.
ولحظٍ عاثر، لم توفق يسرا بحمْل من زوج عاقر، كما تؤشر معطيات عديدة في العمل، ولأن المرأة وحدها من تحمّل علة العقم، تبدأ عذاباتها بحصار مطبق لا فكاك منه إلاّ بطفلٍ يديم زواجها، فتضطر للسفر إلى باريس طلباً للعلاج، وهناك بالطبع لا يُسمح لها بالتجول من دون رفقة زوجها أو صديقة.
تنتابها كراهية لجسدها في حالة نفسية مركبة، وتصف ذلك بقولها: "تملكني شعور بالمرارة، ممتزج بلحظة سعادة كنت أستعيدها مراراً وتكراراً. لحظةُ ما عشته في الساعة وأقل التي أمضيتُها وحدي في ذلك الفضاء التجاري الذي وجدت نفسي حرة فيه، وإن بين جموعٍ غفيرة. هذه اللحظة كنت أستعيدها بالوكالة مع الليدي شاترلي (رواية عشيق الليدي شارترلي للكاتب د. هـ لورنس)، إذ تكتشف لذة الجنس المحرمة، لا واجب الحمل، وحدها مع فيضان جسمها الذي كان محبوساً. دعتني القراءة إلى إجراء مقارنة بيني وبينها، ولا سيما في الاندفاع الغريزي، الشهواني، الذي كان يحركها، مثل «المروبصة»، صوب كوخه، صوب فجاجته المثيرة. بدوري عرفت شيئاً من غموض هذا الاندفاع، إذ رحت أتوجه، بعد الظهر، إلى سريري، كما إلى موعدٍ سريّ، وأختلي بجسدي، كما لو أنه كائنٌ آخر" (ص 29).
يُجمع الأطباء بأنه لا موانع لحملها، وبذلك يتضاعف العذاب عبر تهديد زوجها المباشر بالطلاق ما لم تظفر بمولود، ما يضطرها للذهاب إلى المشعوذين، فتجد حاجتها لدى ساحر أفريقي يلقب نفسه "شافي الروح والجسد"، فيتحقق مرادها، لكن ما أن تضع وليدها حتى تنقلب حياتها رأساً على عقب.
لم تهنأ بولد ذي بشرة سوداء وملامح أفريقية، مما يعني أن نالت حملها من المشعوذ، فتُحرم من طفلها، بعد إدعاء وفاته، فتضطرب حالتها العصبية، لتعود بعد فترة إلى لبنان، وتتعرف على بطل الرواية، لكنها تنتحر بعد أن روت له معاناتها.
يسرا تتجرع المرارة بجسدٍ يشكل عبئاً عليها، وتُجبر على الحمل، الذي لم يأتِ إلاً خارج إطار "الشرعية"، والتخلي عن ابنها، ثم العودة بخساراتها إلى شقة في حي غريب في بلدها. وفي نهاية المطاف تنتحر، ربما، لأنها أكملت كتابة روايتها، ولأنها وقعت في الحب أخيراً.
تتكرر مفردة "الحمْل" أكثر من 60 مرة في "بدل عن ضائع"، فربما تُلّح على كاتبها الذي حاول أن يجد لبطله مساراً يخلصّه من الحرب وآثارها، لكن لعنتها تبقى مصاحبة له، إذ تبدو هذه الحرب "حبلى" بأزمات المجتمع المتراكمة، التي مهما غُيبت فلا بد من مواجهتها ذات يوم.
مرآة يتقابل خلالها أبطال الرواية، فما أن ينزاح النقاب عن حياة يسرا حتى يستدعي أجير الكتابة مشاهد من معايشاته للحرب، ومشاهد ضعفه أمام النساء، وفي تداعيهما كان يحاولا الشفاء عبر الكتابة عن حياة حاولا إخفائها فنرة من الزمن.
وفاء لذكرى يسرا، يقتفي الكاتب أثرها، لعله يعيد إليها الحياة، فيسافر إلى السنغال، وبالاستعانة بما تركته من مذكرات وباستنطاق الشهود الصامتين، دهراً، يعثر على ابنها هادي ويثبت هويته رسمياً، وبذلك يحرر هو حياته المخفية أيضاً بإصدار رواية أولى تحمل اسمه عليها.
(ندوة حول الرواية، في "المركز الثقافي العربي"، عمان، في 23 أيلول-سبتمبر من سنة 2014، بمشاركة: شهلا العجيلي، الياس فركوح، محمود منير والروائي).