هيثم حسين : "وصية هابيل" أنا وأنا

"وصيّة هابيل" رواية للكاتب اللبناني شربل داغر، الأستاذ الجامعي، المترجم، الشاعر، وقد صدرت هذه الرواية عن دار الريّس، ٢٠٠٨، وتقع في ٢٨٣ صفحة من القطع الوسط. تتوزّع على خمسة فصول. تتوالى حواريّة، شاعريّة، واقعيّة معاً... وهذا النوع من الروايات قد يكون سهلَ القراءة، مُربكها في آنٍ، لكنّه صعبُ الكتابة ومربكها أيضاً، لأنّه يحتاج الى مقدرة هائلة على التحكّم بالمشاهد من خلال الجمل القصيرة المعبّرة، والصمت الذي يعبّر عنه بالبياض الذي يفصل بين الفقرات أحياناً. وفي مثل هذه الأحوال يكون القارئ ملبّسَ الصفات للبطل، وذلك بحسب أفكاره وآرائه وأفعاله. تقدّم الرواية بأسلوب بعيدٍ عن القالب السرديّ الذي تعورف عليه، حتّى قارب أن يكون قيداً، مجموعة من القضايا، مازجاً بين الرواية الدينيّة والميثولوجيّة، مرتكزاً على التقنية الحديثة، كالإنترنت، الذي يعتمد كوسيلة للتواصل بين أطراف الرواية...


الواحد نفسه

يتطرّق الروائي في روايته إلى مناقشة قضايا إشكاليّة، في التربية والدين والمجتمع، من خلال طرح الأفكار المختلفة التي تصل حدّ التباين أحياناً. ويستشفّ من العنوان أنّ هناك ما هو مدفون في التاريخ، ويبحث الروائيّ عنه، وهذا الجديد قد يُظهر وقائع متعلّقة بجريمة تصفية هابيل... وبحسب الرواية الدينيّة، فإنّ هابيل قد قتل على يد أخيه قاين (قابيل إسلاميّاً)، وأنّه لم يُكتب له أن يكتب وصيّة ما ولا أن يوصي بأيّ شيء، لأنّه استُدرج إلى الفخّ الذي نصبه له أخوه، وأوقعه فيه، وأودى به، ليكون الشهيد الأوّل، القتيل الأوّل، الضحيّة الأولى، الشاهد الأوّل على الجشع، وعلى الحقد، وعلى إذعان الإنسان وانسياقه وراء غرائزه، الدليل الأوّل على عبوديّة الإنسان لحيوانيّته التي تتغوّل في داخله، لتودي بكلّ ما إنسانيّ وخيّر فيه. ذلك لأنّ الجريمة الأولى التي مضت من دون محاكمة، فتحت السبيل أمام الكثير من الجرائم التي اقترفها، وسيقترفها، في زمن لاحقٍ، أحفاد قابيل؛ البشر كلّهم، بمن فيهم أولئك الذين يسري دم جدّهم هابيل في عروقهم... هل كان انقياد هابيل لأخيه إلى مقتله جهلاً منه بما يقاد إليه، أم إنّه أبى أن يعيش بعدما انتكس بما قرأه في عين أخيه؟! وهل يمكننا أن نقول إنّه سار إلى حتفه منتحراً، ليثبت بموته أنّه انتصر على وساوس أخيه وأمراضه كلّها، بأن ترك له العالم كلّه، واختار أن يكون المُضحَّى به في سبيل استمرار الحياة، عسى ينبت من ذرّيّته مَن يدين فعلة أبيه تجاه أخيه، ولتستقى من تضحيته العِبَر، أنّ الحياة تفقد معناها عندما تنهار منظومة القيم التي يشيّدها المرء لنفسه، ليسير وفقها، وذلك باستنانه القوانين واشتراعه الشرائع المناسبة.
يدخل شربل داغر في عالمه الداخليّ، يُقوِّل هابيلـ:(ـه) وقابيلـ:(ـه)، إذ إنّدم كليهما ينبض في عروق كلّ بني آدم، على الرغم ممّا يقال عن أنّ السلالة البشريّةهي سلالة قايين، أمّا هابيل فلم يسعفه قدره أن يخلّف أبناء يخلفونه، بل تراه خلّفصفاته التي انتقلت إلى سلالة أخيه، فكان أن أصبح الإنسان جلاّداً وضحيّة في آنٍ،وبقي وفيّاً لجيناته المتوارثة. استجاب لقايين في داخله، ولم ينسَ التعاطف معهابيلـ:(ـه). وكلّ ذلك من خلال أخذٍ وردٍّ لا ينقطعان طوال الرواية، بين الوافد، الذي قد يكون صحافيّاً، أو قريناً للراوي المتوحدّ مع الروائيّ نفسه، فيكون التحاورحول أمور كثيرة، يتكاملان في الإحاطة بها وإبانتها.

كأنّي بالكاتب يكتب سيناريولفيلم مُناجَيَاتيّ، يعوّل كثيراً على حركات الكاميرا وعلى إبداع المخرج الذيسيتولّى إخراجه في مَلْء الشواغر الكثيرة التي يتركها، كييفسح له حرّيّة أكثر فيالحركة والمناورة، فنجده يكتفي في مواضع كثيرة تتخلّل الحوار الدائر بكتابة نقاطمتسلسلة من دون أن يضيف تعليقاً أو يعلّق بهامشٍ على ما يجري، أي إنّه حاولالاستغناء عن التوصيف وضحّى به، "فكان التوصيف هابيل روايته، والحوار المسرحيّقابيله"، مقابل الانسياق الكامل وراء الحوار المتتابع حتّى نهاية الرواية. وهو حوارمسرحيّ، حيث الاعتماد على الجمل القصيرة، وتبادل المتحاورين، دون أن يسمّيهما، بلكانا شربل داغر نفسه، وذلك عندما يبدأ بداية من رسائل يتلقّاها من مجهول هو هونفسه، يبدأ التلاقي بينهما ثمّ التكالم، أحدهما يسجّل ويسأل، والآخر يجيب ويسألأيضاً، أحدهما يترجم والآخر يدوّن، كلاهما مترجما حياة ووقائع، أحدهما يستدرج الآخرإلى نزال الذكريات والرؤى المنداحة، حيث تكون السيرة الذاتيّة محور الرواية، وكمايرد على لسان الراوي: "السيرة رواية مختلقة، وأما الأحسن فكتابة الرواية..." (ص ٢٠٦). قد يكون في هذا القول تهرّب ما من استحقاقات معيّنة، وقد يكون تبريريّاً أوتواضعاً، لأنّه وهو يقول ما يقوله، يكتب رواية السيرة، أو سيرته رواية. لكنّ القصصلا تكتمل إلاّ بسؤالهما وجوابهما معاً، فكلاهما يعرفان تفاصيل ما يرويانه تماماً،من خلال النبش في الذاكرة، حيث ينير حديثهما الدهاليز المعتمة فيها، وفي الماضي،يقلّب في أوراق الزمن (١٢٨). يحلو لهما الرضوخ للعبة تبادل الهواجس، حيث لا يتحدّدمسار السرد، يتفرّع هنا وهناك، ولا يعود للتكالم بينهما وجهة محدّدة. من خلالالغوص إلى النفس، الوصول إلى الدواخل، تكليمها واستنطاق المخبوء فيها، والخوض فيأحاديث لم يكن قد أزيح عنها ستار السرّيّة بعد، مثل أجواء الدير، وفضح بعض حالاتالشذوذ التي تمارَس في عتمته وخلف أسوار هيبته وهالته التي تضاعف من المحاذيرالكثيرة لمن قد يفكّر من الاقتراب منه أو اختراقه. ويأخذ الحديث بينهما، بين ذينكالساكنَيْنِ فيه، سبلاً مختلفة، يبدأ من الحنين البادي إلى الصور القديمة، إلىالأزقّة والمنعرجات والزواريب، إلى "النمليّة" و"الأوتومتريس"، وإلى الهواء الذييسبقه إلى خطواته، والذي كان يداعب جبينه عندما يستلقي في ظلال شجرة الحور، وإليهوهو يحمله عبر المسافات مثل طائرٍ (ص ١٤٥). ويخوض في الأجواء الأسريّة، عن والدهوإخوانه، عن جيرانه، عن علاقاته الحميمة، صداقاته العابرة، مَلعناته وشيطناته معرفاقه، اكتشافاته التي لم تنتهِ. ولا ينتهي في استذكار مناخات الثرثرة، وساعاتالصياعة، لأنّ كلّ ما يقبع في الذاكرة يكون محبَّباً بعد أن يتعتّق حيث هو، وكأنّالذكريات كالخمرة، تستطيب بالتعتّق، ويقوى مفعولها بمرور الزمن وتقادم العهد. ويتناثر المكان أمكنة، فالمكان المكشوف على الاعتراف (١٦٤)، يحرّض على التصريح بكلّما كان، ولا سيّما أنّ قابيلـ:(ـه) لا يخجل ممّا اقترفه من ذنوب ومساوئ، ذلك لأنّهيردّها إلى الظروف التي دفعته إليها دفعاً، دون أن يكون له فيها رأي أو خيار. وهنايثير الكاتب مسألة قديمة جديدة، وهي مسألة الجبر والاختيار، ويذكّر بالمعتزلة الذينعَنوا بها حتّى تشكّلت فئة من فلاسفة الكلام.


العين

يأتي تصريحه الأكثرلنفسه، في حواره البينيّ، الذي هو مماحكة من خلال التلاعب بالضمير، وهو مساررةومجاهرة في آنٍ، يكون في تمشّيه الليليّ والبوح بما يعتمل في داخله مع تحاشي النظرإلى الوجه، وكأنّه في ذلك يطبّق وصيّة لعليّ بن أبي طالب يقول فيها: "لا تطلبنّحاجة ليلاً فإنّ الحياء في العين"، وكي لا يكون هناك مجال للتدقيق في ملامح الوجه،التي تتغيّر بحسب المقول، وبحسب الصدق والكذب فيه، لذلك نلحظ أنّه يقال لمن لايُوثَق بكلامه: "ضع عينك في عيني"، للتأكّد من مصداقيّة ما يقوله، حيث العيونفضّاحة، والوجوه وقسماتها أكثر فضحاً ووشاية منها. فتتجلّى في البوح بصور ملتبسة،غامضة، ملفّقة، مختلقة، ولا يطلب من أحدٍ أن تكون مصدَّقة، لأنّه واثق من صدقها، أولا حاجة به إلى غير ذلك.

يشارك الراوي في لعب دور هابيل في مسرحيّة استثنائيّة، انتُقيت كلّ الأدوار مسبقاً، ولم يبقَ إلاّ دور هابيل شاغراً، يُمَسْرِح الحياة، يحبك من تفاصيلها فصولاً سبق وقُدّمت مراراً، يكون المتكلّم بصمتٍ، هذا الذي يفضح صمته قاتليه ويغلبهم صفحه عنهم وتسامحه تجاههم.

ثمّ يقع الروائيّ في فخّ ينصبه لقرّائه في نهاية الرواية تقريباً (ص ٢٧٧)، وذلك عندما يقدّم شيفراته على طبق من تسهيلٍ، في قوله: "أنت وأنا لسنا اثنين: واحد يسأل والآخر يجيب، واحد يتكلّم والآخر يتكلّم أيضاً. أنا وأنت: نتقدّم الواحد في اتّجاه الآخر". وكذلك عندما يصف نفسه المنقسمة اثنتين، كالقطار الذي يسير على سكّتين (ص ٢٨١). ثمّ يختم بأسئلة لا تنتظر الأجوبة، وكأنّ هناك حالة تيهٍ قادمة، أو حالة وحشة ووحدة لا يطيقها، فيبدأ الاستنجاد بقسميه والبحث عنهما، عندما ينادي: "أين أنتما؟ أتتركانني أقف وحدي في هذا البياض الحالك؟ لعلّهما توجّها إلى غيري... إنّي أشعر بالبرد..." (٢٨٢ـ٢٨٢.( كما قد يتبادر إلى ذهن قارئ الرواية أنّ كاتبها يلهج في الحديث عن ذاته، يتبدّى ذلك في الإكثار من الاستشهاد باسمه، أو قصيدة له، أي كأنّه يُمحور كلّ ما يتعلّق به، بينما يجعل من كلّ ما يحيط به دائراً في فلكه، مهيّئاً له أرضيّة تريحه، أو تعظّمه. هنالك قلّة من الجمل تتبع الدارج من القول، منها، ما يقوله الكاتب: "ينبث ببنت شفة" (٢٧٦)، وأظنّه يقصد: ينبس ببنت شفة، أي كلمة، التي هي بنت الشفة، وهذا تشبيه متعارف عليه، وقول "ينبث" خطأ شائع أيضاً. لأنّ معنى ينبث مختلف، وهو بحسب لسان العرب لابن منظور "نبث ينبث كنبش ينبش".

وأخيراً أقول: إنّ رواية "وصيّة هابيل" هي إعادةمحاكمة لقصّة البدء، بحث عن قايين، هذا الذي بقي جبينه مدغوماً بلطخة تميّزه، ولميُحدَّد له عمرٌ، ولم تعرف له نهاية، وذلك لإيقاف الجريمة عند حدّ معيّن، كما أنّهامحاولة لإخراج هابيل من عَراء الصمت، من دون أن يبقى كلامه أسير الحوار فقط، منخلال تحريره من أسره، إحيائه رمزيّاً، والانتصار له، كونه المتسامح، رغم أنّهالضحيّة الأولى في التاريخ، وجريمة قتله هي الجريمة الأولى التي فتحت باب الجريمةعلى مصراعيه، ليكون التاريخ تاريخ الجرائم والانتقامات، أي تاريخ قابيل وأنصاره،بينما بقي دم هابيل مهدوراً حتّى تاريخه، وبقي صمته يضجّ ويعبّر، في حين أنّ هناكمن يعنّفه ويقرّعه على صمته.

(جريدة "السفير"، بيروت، 7-7-2008).