بدعوة من "جامعة برلين المفتوحة" وبرنامج الدراسات الأوروبي الخاص بالشرق الأوسط، ألقى شربل داغر ثلاث محاضرات، في "اكاديمية العلوم"، في برلين، بين 23 و25 شباط 2010، جمعها تحت العنوان التالي: "الأدب والبلاغة: التأسيس المستجد"، وتوزعت في محاضرة بعنوان: "من مجالسة الأحباب إلى مجالسة الكتاب"، وفي حصتين تطبيقيتين، تحت العنوان التالي: "البلاغة بين الجمالية واللسانية"، ما شمل الحديث عن "بلاغة الجميل" وعن البلاغة الإلكترونية.
من "مجالسة الأحباب" إلى "مجالسة الكتاب"
يفيد أكثر من رحالة في الحقبة العثمانية أنه ما أن يحل في المدينة التي يزورها حتى "يقدم علينا من نبهائها وأعيانها وفضلائها (...). فحصل عند ذلك كمال الحظ والإنس، وابتهجت بمرآهم العين والنفس، وجرى بيننا وبينهم أبحاث علمية ولطائف أدبية"، على ما يقول الشيخ عبد النبي النابلسي (-1731)، عند حلوله في صيدا (الشيخ عبد النبي النابلسي: "التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية"). وهو ما يَحدث له عند وصوله إلى بيروت، أو إلى طرابلس، "التي جرت بيننا وبينهم أبحاث علمية ومطارحات أدبية"؛ أو يستعمل النابلسي عبارات أخرى للغرض نفسه: "أبحاث شريفة وعبارات لطيفة"، أو "أبحاث رقيقة ومعان دقيقة"، أو "أبحاث علمية ولطائف أدبية". وهو ما يؤكده محمد كامل البحيري (1865-1920) بدوره، عند ذكره لحال حمص: "ويغلب عليهم (على أهلها) حب المذاكرات العلمية والعناية بتبادل الأفكار". وهو ما عرفه الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي (1838-1902)، إذ زار مدن صيدا واللاذقية وجبلة وطرابلس ويافا والرملة والقدس والخليل ونابلس وجنين والناصرة وطبرية ودمشق وغيرها، والتقى علماءها وشعراءها ولغوييها وأعيانها، وكانت له معهم "مطالعات نافعة" و"قراءات مفيدة"، ما يجمع "بين أدب الدروس وأدب النفوس"، حسب لفظه.
1 . مداولات ولطائف
ينتقل العالِم فوق خريطة يعرفها قبل أن يزورها: عالَم مسبوق، والخطى فيه معهودة، أشبه بالماشي الذي يسبقه ظله. فالظل، أو "النقل" أو "المأثور" أو "الموروث" وغيرها من الصفات، ترسم معالم التتابع والتقدم. وهو ما يجد له صورة كتابية في "المراسلات" نفسها، التي يقوم بها الأدباء فيما بينهم، إذ هي تسبق الزيارة وتمهد لها وتعززها. وهو ما يعثر عليه الدارس في كتب بعينها، أو في "مناسبات" عدد من القصائد، مما يحدد الواعز إلى كتابة هذه أو تلك. هذا ما يظهر في التراسل في القرن التاسع عشر، ونتحقق من استمراره بعد ذلك حتى العقود الأولى من القرن العشرين.
1 . أ . بين الرحلة والتراسل
إذا كان ناصيف اليازجي لم يبدل إقامته كثيراً، متنقلاً وحسب بين جبل لبنان وبيروت، فما ابتعد أكثر، فإن مراسلاته – مسبوقة بشهرته - تعدت هذا النطاق، فاستعاض عن التنقل الأرضي بالتنقل الكتابي. هذا ما اجتمع في كتاب: "فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء" (1866)؛ وهو ما شرحه ابنه، ابراهيم اليازجي، الذي جمع المراسلات ونشرها: "أما بعد فإذ كان ذكر الشيخ ناصيف قد سار في كل طريق، فتواردت إليه المراسلات من كل فج عميق، رأينا أن نطبع ما دار بينه وبين القوم من هذا القبيل". ووردت إليه مراسلات، من: عبد الباقي العمري (1848) وعبد الحميد الموصلي من بغداد (1848)، وأحمد فارس الشدياق (في مناسبة عزاء، وهو في المغرب)، وجرجس أبلا من صيدا، ومحمد عاقل من الاسكندرية، وعبد الرحمن الصوفي الزيلعي من القاهرة، وحبيب البغدادي، وعبد الهادي نجا الأبياري، ومحمد عثمان المصري، وأسعد طراد، وخليل الخوري وغيرهم. كما بلغته "تقريظات" من: عبد الباقي العمري ومن شهاب الدين العلوي عن كتابه "مجمع البحرين"، ومن العمري عن "النبذة" الأولى من شعره... ويوضح اليازجي الابن كيفية إعداد الكتاب، مضيفاً في ختامه: "هذا ما استطعنا جمعه من هذه المراسلات، وقد بقي عدة قصائد واردة من الجهات لم نجدها، فلم نتعرض لطبع أجوبتها المدرجة في النبذتين المطبوعتين من ديوانه. ومما فاتنا أيضاً الرسائل النثرية المرسلة منه إلى الشعراء خطاباً أو جواباً، إذ ليس لها صور هنا، ولا سبيل إلى استجلابها من حيث هي".
وإذا كان بعض هذه المراسلات ينتسب إلى مناسبات اجتماعية، ما يَدخل في باب "اللياقات" بين "أعيان" الكتابة، فإن غيرها ينتسب إلى التراسل الشعري، حيث أن الشعراء يتبادلون الاعتراف بعضهم ببعض، في وجه "أخواني" من "النقد". إلا أن هذا التراسل يرسم، في المقام الأول، معالم دورة من التداول، وإن في نطاقات ضيقة، على أنها النطاقات التي كان الشعر يتعين فيها، أي في بيئات الشعراء والمتأدبين. كما يتضح، من هذه المراسلات، أن الشعر أداة تخاطب فردي بين شاعرين أو كاتبين، على أنه يعني غيرهما أيضاً. فأن ينتقل شاعر من مدينة إلى أخرى مدعاة للقاء أقرانه (ممن يعرفهم سابقاً، أو ممن يعرفهم سمعة أو شعراً)، أو للتعرف عليهم؛ وهو ما يتم في جميع الأحوال شعراً.
وقد يكون الاقتراب من عالم الشاعر سليمان بن ابراهيم الصولة مفيداً في التعرف على هذه الأحوال هذه، إذ كان الشاعر يعمل في الديوان العثماني، وتضطره أحوال عمله إلى الانتقال من مدينة إلى أخرى، ومن وظيفة إدارية إلى أخرى، فكان يتراسل "وجاهياً" بالشعر، أو عبر وسيط عن بعد.
يقول الصولة: "دخلت مدينة صور-لبنان يوم عاشوراء والشيخ علي عز الدين - أحد أفاضل الشيعة - في مأتم الإمام الحسين (ع)، فلم يستطع أن يقابلني، فبعثت له بهذه الأبيات الثلاثة (...). فأسرع - حفظه الله – لزيارتي، وبعث بالأبيات لحضرة والده بقية الأفاضل، وكوكب المحافل، العلامة الورع الإمام محمد عز الدين، بمقاطعة (تبنين)، وإذ قد وردت من حضرته رسالة هذه صورتها: "من أطراف الهبات، وأظرف الصلات، أن تلا عليّ ولدي حسين ثلاثة أبيات أرسلت لأبيه الشيخ علي يوم عاشوراء، فقلت: لمن هم؟ فقال: لأبي الطيبات، المتصف بأفضل الصفات، صاحب الغيرة والصولة، المعلم سليمان الصولة. فقلت: هدهد الشعراء (...). ثم تناولتها فأعجبتني جداً، وأكثرتني شكراً وحمداً، وأذكرتني برقتها المرحوم والده المجيد، المعلم ابراهيم الصولة الفريد. ولإعجابي بها، وشغفي بما حوت من الإيجاز، والبلاغة والإعجاز، شطرتها وخمستها، وذيلتُ التخميس بخطاب نفيس لحضرة ناظمها الأجل الأمثل، والجهبذ الأفضل الأكمل، راجياً أن يلحظني بعين الرضا الكليلة عن العيب، وأجره على عالم الغيب (...). ثم تبادلت بيننا الزيارات مراراً، وبلغ جناب مخدومة الشيخ علي ما لإبنتي ليلى من الذكاء المفرط وحفظها الشعر من مرة واحدة وإفراط شوقي إليه، فقال (...). وذلك لأني كنت ممنوعاً من الخروج من صور بأمر والي سوريا عزت باشا، لأني أخبرت باستيلاء روسيا على أسكلة باطوم قبل أن تعلم بذلك عامة الناس، فلم يمضِ على ذلك عشرون يوماً حتى صدر الأمر الكريم السلطاني بإطلاقي وعودتي لمأموريتي، فقال يمدحني - حفظه الله - ويعتذر من تأخير زيارته. وهذه هي أبياته المذكورة (...)".
وفي "أعيان الشيعة" )ج 42) ترجمة للشيخ علي عز الدين، ابن الشيخ محمد عز الدين المتوفى 1304 هـ، الذي كان يقطن في صور، قال: "وكان رجل من المسيحيين اسمه ابراهيم الصولي شاعراً أديباً، قد أرسلته الدولة العثمانية إلى صور موظفاً في بعض الدوائر، فكانت بينه وبين الشيخ علاقة أدب وشعر، فما كاد يمر يوم حتى يجتمعان. وفي يوم العاشر من المحرم انقطع الشيخ للعزاء والمأتم، فأرسل له الصولي الأبيات (...)، فأجابه الشيخ على البديهة (...) الأبيات، وقال: "والشيخ علي عز الدين كان ذكياً حاذقاً نسابة عارفاً بأشعار العرب حافظاً للتواريخ ترجم له في "منية الراغبين في طبقات النسابين" ".
ومن يعود إلى "ديوان" الصولة ("ديوان"، مطبعة المعارف، القاهرة، 1894)، يتنبه إلى أن انتقالات حياته اختلفت عما كان يقوم به العلماء والشعراء قبله من رحلات "علمية"؛ بل تتكشف وقائع حياته (على ما يرد في تقديمات عدد من قصائده) عن حياة فيها مقادير عالية من السفر والاختلاط والتهتك، وهو ما لا يتأخر عن إذاعته وعن التلذذ فيه: "وقال قد قابل في خان ميسلون بدوية تزوره بدمشق"، "وقال يلتمس صرف المرتب له ولأخوانه الكتبة في عيد الفصح"، و"كتب على صورة أهداها لبعض أصحابه"، و"قال في قلع أول ضرس من أضراسه"... ويكون الشعر، في ذلك، أداة تعارف، ومدعاة لتأكيد السمعة الشعرية، وباباً للتنافس بين الشعراء.
1 . ب . قِبلة جديدة
المشهد يتقلب في بعض وجوهه مع الشاعر الصولة، إلا أنه هانىء مع غيره، إذا طلب الدارسُ وصفَ هذه الرحلات وسبلها وما يحدث فيها، وما تستدعيه من أفعال، حيث يبدو الكاتب أكيداً في نقلاته، التي تستند إلى عالم أليف متوارث، عدا أنها تصوغ عالماً يستجمع بين الشفوي والمقروء، وبين التداولي والشخصي. وإذا كان بعض الوقفات يتضمن مناقشات شعرية، وقصائد موافقة للمناسبة، فإن بعضها الآخر انصرف إلى مسائل فقهية (مثل مسألة الطلاق في طرابلس). غير أنه كان للشعر "النصيب الأكبر" في هذه الرحلات، فلا تخلو جلسة مع محدث أو شيخ، إلا وتبرز فيها بعض الأبيات الشعرية مدحاً أو وصفاً. غير أن هذه الأوصاف تختلف مع حلول الإمام محمد رشيد رضا في طرابلس - وهي لاحقة على الرحلات المذكورة -، كما يختلف نظره عن نظرهم في ما يتفقده (في موطنه) ولا يجده، فضلاً عن أن له نظراً يراجع فيه الحال ويدعو إلى صلاحها وتبديلها: ففي غير موضوع من رحلته يتحقق من "كساد" الثقافة الموروثة بأبعادها المختلفة، حيث "أن أكثر هؤلاء (من أقرانه ومعارفه) قد تركوا الدرس والتدريس، واجتنبوا الكتابة والتصنيف، ومنهم من يشتغل بأمر الدنيا من تجارة وزراعة لكساد بضاعة العلم، ولم أرَ في هذه الزورة لطرابلس أحداً من رفاقي لا يزال مغرماً بالمطالعة والكتابة" ("المنار"، 1921). وهو ما يقوله في حال بلدته، القلمون (شمال لبنان)، حيث لم يبقَ فيها غير عمه، الذي يقرأ دروساً في المسجد "لمن عساه يوجد فيه"، ولكنه في غالب أوقاته "معتزل الناس لا يكاد أحد يراه". وهو ما يتعين في فهم أوسع وأبعد تحليلاً، كما يرد في تفسيره لحال المسلمين عند حلوله في بيروت: "لقد نام المسلمون نومة اجتماعية أطول من نومة أهل الكهف وأثقل، الموقظات التي تضج الأسماع تتوالى من حولهم كالصواعق، وقد ضرب على آذانهم، فهم لا يسمعون، ولما بعثوا وجدوا ما يعرفون من سير البشر قد تبدل فصار على غير ما يعهدون، رأوا الغربيين قد سادوا العالم وتولوا إدارة شؤونه في بلادهم وبلاد غيرهم من حيث يشعر أولئك الأغيار ومن حيث لا يشعرون، فحاروا في أمرهم لا يدرون ما يصنعون".
تبتعد "رحلة" رضا عن سابقاتها، وتتخللها عناصر قلق بادية، إلا أنه يظهر في "رحلات" أخرى، مزامنة لها، عناصر دهشة وفضول متعاظمة، ما يمكن أن يقع عليه في مجموعة من الكتب التي تتالت في مطالع القرن العشرين. فغير كاتب بات يطلب التنقل، لا إلى القاهرة أو النجف أو طرابلس الشام، وإنما إلى باريس ولندن وروما وغيرها.
هذا ما يظهر في طلب العلم، في التحصيل الدراسي، حيث باتت المدن الأوروبية، فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية، وجهة مقصودة ومطلوبة. وهو ما يظهر في الفضول الثقافي و"التمدني" الذي بات يطلبه أحمد فارس الشدياق أو علي مبارك أو سليم بسترس أو جرجي زيدان وغيرهم، ممن اختاروا القيام برحلات بأنفسهم، فما فُرضت عليهم مثل "واجب" حكومي، كالطهطاوي أو عدد من السفراء أو غيرهم ممن كانت تدعوهم السلطات الاستعمارية الفرنسية لزيارة باريس على سبيل المثال (أثناء قيام "المعرض العالمي" فيها، للتعرف على معالم التمدن الفرنسي وعلاماته التي لها أن "تبهر" وتقنع "البلديين" بأفق التجربة الاستعمارية المنير: "ثلاث رحلات جزائرية إلى باريس"): الوجهة جديدة، أشبه بتغيير للقِبْلة الثقافية والتعليمية.
يتنبه الدارس يوسف الشويري، في كتابه "الرحلة العربية الحديثة من أوروبا إلى الولايات المتحدة" (1998)، إلى وجود موضوعَين "يخترقان" نصوص أدب الرحلات العربية الحديثة، وهما: "الدعوة إلى النظام، أو الإعجاب بالتنظيم والترتيب حيث يعود إلى نمط معروف مستقر تضبطه القوانين، ويجد فيه كل فرد وضعه ومركزه ووظيفته"، و"الدفاع عن الشرق بعد إبداء الإعجاب بالغرب". وهو ما يمكن إدراجه في تفسير مختلف وقريب منه في الوقت عينه، وهو أن الأدباء-الرحالة استوقفهم "نظام" التمدن، وهو الوجه الآخر لـ"إبداء الإعجاب بالغرب" (لو قلبتُ جملة الشويري).
وقد يكون من المفيد التنبه إلى دوافع ومجريات هذه الرحلات، قبل الحديث عنها بوصفها أثراً كتابياً، وفي المقام الأول.
سليم بسترس قام برحلته، في العام 1855، وهو في السادسة عشرة من عمره، ودوَّنها في كتاب أَطلقَ عليه العنوان الدال: "النزهة الشهية" (سليم بسترس: "النزهة الشهية في الرحلة السليمية")، ما يجتمع في رغبة لا تشبه بأي حال "الإكراه" و"التبرم" و"الخشية" التي أبداها أكثر من سفير في "تقاريره" ابتداء من مدن أوروبية مختلفة، والتي لا تخفى كذلك في ثنايا كتابة الطهطاوي في رحلته إلى باريس (بين العام 1826 والعام 1831). فما طلبه بسترس البيروتي هو "النزهة"، حيث كان يقضي "النهار وأكثر الليل بالجولان والتنزه والفرجة على مناظرها (باريس) الجميلة، وكان كل ذلك كأنه يوم واحد".
وهو كتاب أول في نوع جديد من الرحلات، لا يستدعيه التمثيل الدبلوماسي (مثلما تبدت الحاجة مع قيام أشكال تمثيل دبلوماسي مستجد)، ولا الحج إلى مكة أو غيرها، ولا طلب العلم في القاهرة أو النجف أو فاس وغيرها، ولا رحلات "العلماء" (مثلما أشرت إليها أعلاه)، ولا رحلات الفضول والكشف (مثلما ألقاها عند ابن بطوطة وغيره). يقول بسترس في مستهل رحلته: "كنت مشتاقاً إلى السياحة في البلاد الإفرنجية وما يليها من الطراف لمشاهدة تلك الديار المملؤة من التهذيب والنظام"، وقد دعاه إلى المبادرة في ذلك "قصد تبديل الهواء".
وهو ما يختلف في إخبار جرجي زيدان عن رحلته إلى أوروبا ("رحلة إلى أوروبا")، إذ يبدو فيها أشبه بمكلَّف أو متابِعٍ لمهمة تمدنية، فيفيد قارىءَ الرحلة (التي قام بها في العام 1912) أنه لا يذكر فيها "رحيلنا أو نزولنا وما لاقيناه أو كابدناه في أثناء ذلك، على ما جرت به عادة أهل الرحلة، إذ ليس غرضنا أن يكون ما نكتبه دليلاً للراحلين في السفر والنزول، ومعرفة الطرق والمسافات والأجور". يخالف زيدان في ذلك عادات كتابية، وخدمات مطلوبة، في كتب الرحلات الأوروبية المعروفة منذ القرون الوسطى إلى "الديار المقدسة"، والتي كان يقوم بها الحاج-الرحالة بإعداد الصيغة القديمة لما سيطلق عليه بعد قرون اسم: "دليل المسافر". وإنما طلبَ زيدان من الرحلة أن يدرس أحوال أوروبا، ويتفقد متاحفها ومكاتبها وأثارها، حسب لفظه، قبل مناظر السياحة فيها؛ وهو ما يجمله بالعبارة التالية: "توخينا النظر على الخصوص في ما يهم قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل، ونحن نتخبط في اختبار ما يلائم أحوالنا منها".
وتختلف رحلة علي مبارك عن رحلات أقرانه، حيث أنه أقام في فرنسا للدراسة العسكرية، ابتداء من العام 1844، ولعدة سنوات، ثم كتب "علم الدين"؛ وهي رحلة فيها من الخيال السردي ما يستند إلى معايشاته وتحصيله في فرنسا نفسها: يجتمع ما كتبه في خمس وعشرين "مسامرة"، يقوم بها شيخ مصري اسمه علم الدين وابنه برهان مع مستشرق إنكليزي، إلا أن الكتاب هو أقرب إلى "الموسوعة" ليس في موضوعها وحسب (وهو التحدث عن مواضيع وعلوم وفنون مختلفة في أوروبا)، وإنما في أسلوب تأليفها أيضاً، حيث أن علي مبارك دعا – حسب شهادة أحمد أمين – عدداً من المدرسين ورجال العلم للكتابة في موضوعاتها المختلفة، وفق خطة تأليفية موضوعة ومسبقة.
تبدلت وجهة السفر، وعددٌ من الحاجات إليه، مثلما تبدلت أيضاً أساليب التأليف نفسها، ما يعد تغيراً يكشف عن علاقة جديدة بين "العيون" و"النصوص" (كما أسميتُها في أحد كتبي). وإذا كان الكاتب القديم طلب في تنقلاته بين المدن الإسلامية، وفي دُور الوزراء والأمراء والأدباء، تفقدَ منسوخات كتبهم، ومحادثتَهم في الحلقات والمجالس، فإن الكاتب الحديث بات يقصد وجهة أخرى، مغايرة للأولى، وإن تتشبه بها، أو تحاكيها ظاهراً. فقد باتت قِبلة السفر مغايرة، وباتت مرجعية الثقافة التي يصدر عنها ويساهم فيها تتعين - في بعضها، في مثالها حكماً - خارج مدارها القديم. وما كان يجتمع في المتابعة والمذاكرة بات يقوم على التثاقف والتشوف في آن. هذا ما تعين، ليس في كتب بعينها، وإنما في معايشات وسلوكات، فضلاً عن الزي والقيم والاعتيادات الجديدة وغيرها.
وقد يكون مثيراً للاهتمام، وطريف الدلالة، تتبعُ بعض هؤلاء الكتاب في زيهم، حيث أنها احتلت حيزاً بيناً من الاهتمام، إذ يلحظها الرحالة المسلم عند حلوله في بيروت، مبدياً استغرابه من دخول الأزياء الإفرنجية إلى البيوت، بل إلى الشوارع، في أزياء السيدات خصوصاً. وهو ما شمل تبديلاً بيناً في مظاهر العيش، طاول البيت والشارع، فضلاً عن الكتاب نفسه. فقد كان ناصيف اليازجي يكتب "على ركبته متربعاً فوق منبذة مطروحة على الحضيض، وأمامه منضدة صغيرة لوضع القلم والحبر والقرطاس"، كما يصفه فيليب دو طرازي، بخلاف ما سيكتبه الشدياق بعد وقت، في مقالة في "الجوائب"، عن دخول المكتب "العالي" إلى البيت واستعماله للكتابة (على ما هو معروف حتى اليوم). وهو ما عُرف عن رفاعة الطهطاوي في زيه، حيث أنه حافظ على جبته وقفطانه وعمامته ردحاً من الزمن، فما تخلى عنها حتى في باريس، ولا بعد عودته منها بسنوات، قبل أن يلبس اللباس الإفرنجي. وهو ما أصاب الشدياق نفسه، حيث احتفظ بلباسه التقليدي ردحاً من الزمن، وجال في أوروبا به عدداً من السنوات، قبل أن يُقدم على تبديله (على ما يظهر في عدد من الصور الفوتوغرافية له). وهو ما ألقاه في ألبسة وهيئات عديدين...
وقد تكون تغيرات الزي التي أجراها السلطان محمود الثاني (1808-1839) علامة أولى في هذا المسار. فقد عمد هذا السلطان إلى تبديل زي العسكر العثماني، ما كان له أثره على لباس السكان، وما يمكن التدليل عليه باعتماد "البنطلون" وغيره من الزي الأوروبي. فقد ظهر، هو نفسه، بملابس جديدة، وترك العمامة والقفطان، ولبس الحذاء والسروال الضيق (على ما يظهر في إحدى اللوحات) والقميص والطربوش؛ ورأى البعض أن السلطان أراد من ذلك "تحويل" البلاد من الحياة الآسيوية إلى الحياة الأوروبية. واتبعه في هذا أعداد من العثمانيين، فانصب الجهد على تبسيط الثياب: استبدلت الملابس القديمة بسترة سُميت "استامبولية"، والعمامة بالطربوش حسب الزي اليوناني؛ كما انتشرت الدعوة إلى عدم إطالة الشاربين. ومن يتابع بعض الصور الواردة في "تاريخ الصحافة العربية" لدو طرازي يتحقق من تغيرات الزي، كما تظهر في هيئات أحمد فارس الشدياق وخليل الخوري وميخائيل مدور وغيرهم.
أ . ج . "عمومية" الثقافة
تعود المجالس – التي ذكرتُ بعض أحوالها وأفعالها - إلى موروث الثقافة العثمانية في الولايات العربية، ما كان يجتمع ابتداءً من المسجد وحوله، وينتقل إلى دُور العلماء وملتقياتهم ومداولاتهم. وهو ما يتباين مع تقاليد مستجدة، يمكن التحقق من ظهورها في بيروت منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر، مع نشوء "الجمعيات" العلمية (يمكن العودة المزيدة لدراستها في كتابي: "العربية والتمدن: في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة، 2009).
وهو تقليد يمكن أن نجد بعض تجلياته الأولى في ما نقله عبد الرحمن الجبرتي عن اجتماعات العلماء الذين رافقوا حملة بونابرت إلى مصر، أو عن استقبالهم للمصريين في أمكنتهم هذه: "فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة، ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم، فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين، ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيل، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها، فيحضرها المخازن، فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العسكر. وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أمكانهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك، وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصاً إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعاً للنظر في المعارف – بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع (...). ولقد ذهبتُ إليهم مراراً، وأطلعوني على ذلك" (عبد الرحمان الجبرتي: "عجايب الآثار في التراجم والأخبار").
كان الجبرتي يتحقق مما يمكن تسميته بـ"عمومية الثقافة"، أي أنها شأن "عمومي". وهو ما بدأ في "عصر الأنوار" في فرنسا، والذي ترافق مع مجموعة من الظواهر المتعالقة: بروز الجريدة، تشكل "الجمعيات" الطوعية بعد "الصالونات" وبموازاتها، فضلاً عن ظهور ما هو أهم من ذلك، وهو أن الثقافة بتجلياتها المختلفة ليست شأنا خاصاً، أو أميرياً، وإنما هي خصيصة لـ"المواطن" (يمكن العودة المتوسعة إلى هذا الجانب في كتابي: "الفن والشرق: الملكية والمعنى في التداول"، 2004). ويمكن للدارس أن يتنبه إلى ما يضمره وصف الجبرتي من اندهاش بما هي عليه الكتابة والكتب في العادات الفرنسية، حيث أن الإقبال عليها ممكن ليس في دُور الخاصة والأمراء وحسب وإنما في دُور "عمومية"، للجميع؛ وأنها (أي الكتابة والكتب) تخص أياً كان، لا فئة متأدبة بعينها، بمن فيهم "أسافل العسكر".
لن يكون لهذا السلوك الفرنسي في القاهرة أثره المباشر، إلا بعد توطن أجانب في هذه البيئة أو تلك، ومع تأثر المحليين بعاداتهم، أو دخولهم معهم في علاقات تأثر وتداول. وهو ما يمكن أن نلقاه مع نشاط المبشرين في الإرساليات المختلفة؛ وهذا ما بلغ في بيروت، كما سبقت الإشارة، حداً بيناً، مع تأسس عدد من الجمعيات: "الجمعية السورية" (1847)، و"الجمعية العلمية السورية" (1868)، و"جمعية زهرة الآداب" (برئاسة سليمان البستاني)، و"جمعية شمس البر" (التي ترأسها يعقوب صروف لسنوات)، و"المجمع العلمي الشرقي" وغيرها الكثير. وهو ما ستعرفه القاهرة أيضاً، مع: "جمعية المعارف" (إبراهيم المويلحي)، و"محفل التقدم" و"جمعية محبي العلم" (يعقوب صنوع)، و"الجمعية الخيرية الإسلامية" (محمد عبده) وغيرها. وإذا كانت الجمعيات في بيروت تأسست بتأثير استشراقي بين، قام على تعاون ظاهر بين بعض المرسلين وعدد من الأدباء والعلماء، فإن الجمعيات في القاهرة تأسست بفضل عملِ عددٍ من الكتاب، ممن تجمعوا حول هذا "القطب" أو ذاك. وهي جمعيات لا تشبه بأي حال ما سيعرف بعد ذلك في بعض "صالونات" القاهرة، أو في بعض "النوادي" (التي كانت تجمع الشعراء في "مناسبات" بعينها، مثلما نجد ذلك في بعض "مناسبات" معروف الرصافي أو خليل مطران الشعرية، هنا وهناك). ولكن ماذا عن البيئات الأخرى، غير بيروت والقاهرة؟
هذا ما طلبتُ الوقوف عنده، في لحظة تالية ولكنها موصولة بهذه، في العراق كما في المغرب. والعائد إلى "طروس الإنشاء وسطور الإملاء" لأبي المعز السيد محمد القزويني يتابع بعض وقائع ونصوص "المراسلات" التي انتظمت بين كاتبها أبي المعز القزويني (- 1916) وأدباء من العراق في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وما يستوقف الدارس في هذه المراسلات الشعرية هو التباين، بل المفارقة بين إقدام الكاتب على إرسال قصائده عبر وسائل "عصرية" وما يقوله فيها (الذي يعود فيه واقعاً إلى أدب المجالس). وشمل الكتابُ مراسلات برقية ومخابرات تلغرافية ووقائع ما كان يجري في المجالس عادة: جمعَ الكاتب، في المراسلات والمخابرات، ما كتبه من برقيات أرسلها في أغراض مختلفة (تهنئة، اعتذار، استعطاف، شكر...) بواسطة التلغراف، كما أورد إلى جانبها قصائد وضعها، مثلاً، في وصف عربة السكة الحديد بين بغداد والكاظمية؛ كما جمعَ فيها قصائد تقع في "التقريظ": "كتبتُ على ديوان المرحوم الشريف السيد حيدر مقرظاً"، و"نظرتُ يوماً في جريدة "الزوراء" فرأيت فيها قصيدة (...) فكتبتُ إليه"، وهو ما انعقد أيضاً بينه وبين الشاعر جميل الزهاوي، وبينه وبين الشاعر معروف الرصافي، "على غير اجتماع منا، ولا مشاهدة"، حسب لفظه.
كما يَرِد في الكتاب ما حدث في مجلس أدبي (في العام 1894 في بغداد): "وجعلت أتذاكر معه في الأدبيات (...) وفي النوادر الشعرية"، ما يقدم وصفاً نادراً وتفصيلياً عن تلك المداولات. ويمكن الوقوف، في هذا الكتاب، على وجود عدد من الأندية الأدبية، ارتادها الكاتب في نشأته الأدبية، مثل ندوات: آل السيد سليمان، والشيخ محمود سماكة، والسيد علي بن السيد شناوه آل وتوت، والسيد رضا بن السيد أبي القاسم، والسيد حسن القزويني... "وكانت تلك الندوات أشبه بالمدارس الأدبية، والمعاهد الثقافية، فصقلت مواهبه، وساعدت على انصرافه للأدب". وهو ما يرد في الكتاب عن منتدى قريبِ المؤلف: "كان بيت زعيم الحلة الروحاني السيد محمد القزويني في أوائل القرن العشرين منتدى أدبياً (...) فيتناقل أهل الحِلَّة ما كان يدور في هذا الديوان، والدواوين الأخرى، وظلوا يتناقلونه إلى ما قبل، وما بعد الحرب العظمى الأولى".
يتحقق الدارس، بالانتقال إلى المغرب (ابتداء من كتاب "نقد الشعر في المغرب الحديث" لعبد الجليل ناظم، 1992)، من أشكال مخصوصة للعلاقات بين أدب المجلس ووسائط الذيوع الجديدة، ولا سيما الجريدة. وهي لحظة مغربية موصولة بدخول المطبعة إليه، من باريس في العام 1859، ومن القاهرة في العام 1856، من جهة، وبظهور الصحافة فيه ابتداء من العام 1889، من جهة ثانية.
2 . المطبعة و"القارىء"
يقول طه حسين: "تغير الذوق الأدبي بفضل المطبعة، واندفع الكتاب والشعراء إلى نحو آخر من النثر والشعر لم يكن مألوفاً من قبل" (طه حسين: "الأدب الجديد"، 1927). هذه الملاحظة اللافتة – والنادرة في ما تبينت ودرست في المدونات المختلفة – تبقى استثنائية، إذ لم تُدرس كفايةً، بعدُ، مفاعيلُ دخولِ الطباعة على الثقافة العربية، ولا سيما منذ مطالع القرن التاسع عشر.
2 . أ . الطباعة بين ممانعة ومصاعب
ذلك أن دخولها قبل هذا القرن اقتصر، في الغالب، على مدونة دينية، مسيحية تحديداً، ما اندرج في سجال وتنافس واسعَين، سبق لي أن تحققت من انطلاقهما في مطالع القرن السادس عشر، في البيئات المسيحية العربية: بادر الكرسي البابوي في روما إلى إطلاق "حملة" واسعة على مدى العالم، إثر الإصلاح البروتستنتي، ورداً عليه، خشية من توسعه إلى الأراضي التي عاش فيها السيد المسيح (يمكن العودة بتوسع إلى تاريخ هذه المسألة في كتابي: "العربية والتمدن...")؛ وهي حملة حملت معها – فضلاً عن خطط ورؤى وقيم وسلوكات جديدة ومغايرة للبيئات العثمانية، بما فيها المسيحية منها – أدوات تراسل وتخاطب جديدة، هي بدورها، ما اجتمع في: المطبعة والصحيفة والكتاب.
ولقد كان لدخول أدوات الطباعة – وإن لأغراض دينية وطقوسية – مفاعيل أَجملتُها (في كتابي المذكور) بالحديث عن "تعريب كتابي"، سيكون له – فضلاً عن عوامل منشِّطة أخرى – أثره البين في ظهور المطبعة لأسباب غير دينية، بل سياسية وأدبية: هذا ما سيتكفل به أفراد، فضلاً عن "جمعيات"، في بيروت، منذ منتصف القرن التاسع عشر؛ وهو ما عرفته القاهرة في سياسات "حكومية"، مع "حملة" بونابرت، واستكمالاً مع سياسات محمد علي في الحكم (التي تركزت في نشاط "مطبعة بولاق").
لا يمكن، في أي حال، اعتبار هاتين التجربتين مقدمة أو تمهيداً لتجارب عربية أخرى، ذلك أن دخول المطبعة، أو صدور الجرائد، أو إصدار الكتب المطبوعة وغيرها ظهرت وفق مواقيت مختلفة، كما لبَّتْ احتياجات وتبعاً لوتائر متباينة: فلو جرى التوقف في الجزيرة العربية، لتنبه الدارس إلى أن بروز المطابع الأهلية والحكومية يرقى في مكة والمدينة وغيرها إلى مطالع القرن العشرين، وجرى في العام 1937 إرسال سبعة عشر موفداً لتعلم فن الطباعة في مطبعة بولاق. وهو ما يمكن قوله في صدور الجرائد حيث أن مواقيت صدورها الأول (جريدة "الحجاز" الأسبوعية) ترقى إلى الفترة عينها (ابتداء من العام 1908)، واقتصرت في بداياتها على النشر الحكومي، قبل أن تُقْدم على نشر قصائد لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم... وهذا ما يمكن قوله في تجارب عربية أخرى، مما يُظهر صعوبة كتابة تاريخ "جامع" أو متتابع للأدب العربي المستجد.
دخول المطبعة صعب إلى الديار العثمانية، ولا يخفف منه السماح الذي خص به السلطان مراد الثالث، في العام 1587، تاجرَين إيطاليين بتصدير الكتب وبيعها في الأسواق العثمانية. كما لا يمكن اعتبار القرار الذي رخص بموجبه السلطان بايزيد الثاني، في العام 1494، لليهود (المستقرين في الديار العثمانية، بعد طردهم من الأندلس)، بإقامة مطابع عبرية لهم (على ما ذكر الرحالة الفرنسي نيكولا دو نيكولا، إثر زيارته لاستانبول في العام 1551)، بالقرار الممهِّد لإدخال الطباعة في نطاق الثقافة الإسلامية.
فهذه الأخبار وغيرها تُظهر تردداً، سيكون الوجه الآخر، بل الأخير للممانعة التي أصابت المطبعة، والتي كانت تتهدد الكتابة اليدوية، وتعبيرها الأرقى، أي الخط؛ بل كانت تتهدد أساس الدين والحكم، وهو "القرآن" بصيغته الموروثة، أي الوحي المنزل المدون بأقلام حسنة. ولقد توقف الكثير من الكتب والدراسات عند أسباب الممانعة، أو الدخول المتعثر للطباعة، في النطاق العثماني (مثل كتاب برنار لويس، أو عدد من الدراسات المتأخرة)، ما يجد خاتمة له في خطوة اعتبرَها الكثيرون أخيرةً في هذا العهد المديد، وهي خطوة ابراهيم متفرقة، الذي أقدم في العام 1725 على وضع كتابه التالي: "رسالة وسيلة الطباعة". فما قال فيها؟
عدَّدَ متفرقة – وكان من أكبر المدافعين عن الاستفادة من تقنيات أوروبا التحديثية – فوائد المطبعة، بعد تعرفه عليها في باريس مع أحد السفراء، إذ يتم بواسطتها الاستعاضة عن المنسوخات المعدودة بالضرورة بنسخ عديدة من الكتاب الواحد، ما سيؤدي إلى وفرة الكتب وانخفاض أسعارها، وتنمية الثقافة لدى الناس. ولقد نجح متفرقة في إقناع السلطات بدعوته هذه، فاستحصل على موافقة شيخ الإسلام والعلماء المقربين من "الباب العالي"، مروراً بعدد من الوزراء، ووصولاً إلى السلطان مراد أحمد الثالث: رخص السلطان لمتفرقة بإقامة مطبعة بالحرف العربي، شريطة ألا يطبع كتباً دينية تتناول الشريعة والفقه (خط همايون ذي القعدة 1139 هـ =1726 م.).
إذا كانت المطبعة وجدت سبيلها – على الرغم من الممانعة والتردد والتعثر – إلى جبل لبنان وبيروت والقاهرة، فإنها وجدت ممانعة مستمرة في بيئات عربية أخرى. بل وجد البعض في "انفتاح" هذه البيئات، في المشرق، سبباً للملاحظات السلبية: لم يتأخر المؤرخ المغربي، الناصري السلاوي، في تاريخه العام (الذي بلغ فيه أحداث العام 1895)، وفي ختامه، عن إبداء الشكوى من حال المسلمين، ولا سيما من مخالطتهم للأجانب: "والدليل على ذلك أن أهل المغرب أقل الأمم اختلاطاً بهم (بالأجانب)، فهم أرخص الناس أسعاراً وأرفقهم معاشاً وأبعدهم زياً وعادة من هؤلاء الإفرنج، وفي ذلك من سلامة دينهم ما لا يخفى، بخلاف أهل مصر والشام وغيرهما من الأمصار. فإنه يبلغنا عنهم ما تصم عنه الآذان" (على ما ينقل محمد بن شريفة، في دراسته: "حول تاريخ الطباعة العربية في المغرب العربي"). وقد يكون لتاريخ النزاع – القديم والمفتوح منذ مسألة الأندلس بلوغاً إلى المعارك والمشروعات الاستعمارية في المغرب العربي – سببه المستديم في توليد أسباب الخشية والتمنع مما يأتي من أوروبا، وأياً كان نفعه. وهو ما تنبه له أكثر من سفير مغربي، في تقاريره، بعد زيارات وبعثات دبلوماسية عديدة، مثلما فعلها السفير الصفّار، بعد رحلته إلى فرنسا في العام 1845، حيث أنه وصف "المطبعة الملكية" بباريس وصفاً دقيقاً، ونعتَ آلات الطباعة، ومراحل الطبع، وعملَ المصففين، حيث قال: "فاختبرنا واحداً منهم، وكتبنا له بيدنا سطراً، فأنزله كما هو بحروفه وترتيبها. ثم قلنا له: افسخه! ففسخه". وهو ما قام به سفير آخر، الحاج إدريس العمراوي، في العام 1860، إذ لم يكتفِ بوصف "المطبعة الملكية" الفرنسية، بل قام بجلب مطبعة معه، والتي قال في منافعها: "هذه الآلة التي اتخذوها للطبع هي في كل الأمور عامة النفع، مُعِينة على تكثير الكتب والعلوم، وأثرُها في ذلك ظاهرٌ معلوم، وقد اتخذوها في جميع بلاد الإسلام، واغتبطَ بها مشاهير العلماء الأعلام، ويكفيكَ من شرفها وحسن موقعها رخصُ الكتب التي تُطبع بها، وقد اعتنوا لتصحيحها، وبالغوا في تهذيبها وتنقيحها، مع جودة الخط وإيضاح الضبط".
غير أن هذه المطبعة – التي استقرت في تطوان، وطبعت أول جريدة في المغرب: "صدى تطوان" – كان لها أثر محدود، إلى أن قام الفقيه السيد الطيب الروداني، من جنوب المغرب، والمقيم في وجدة (القريبة من الجزائر، العارفة بالمطبعة بفضل الفرنسيين)، بشراء مطبعة حجرية من القاهرة، في طريق عودته من الحج؛ بل استقدم معه، في العام 1280 هجرياً، المطبعة وأحد عمالها الفنيين (المصري محمد ابراهيم القباني). وكانت تونس قد سبقت المغرب في هذا المجال، إذ استقدم المشير محمد باي، في العام 1857، مطبعة حجرية من باريس (إن أسقطنا المطبعة الحجرية الأخرى، التي أتى بها إلى تونس الراهب الفرنسي بورجاد، وأصدر أول كتبها، "مسامرة قرطاجنة"، في العام 1849)...
كما تأخرت المطبعة في بلوغ شبه الجزيرة العربية: انتقلت إلى صنعاء بقرار عثماني بعد استيلائهم على اليمن مرة ثانية في العام 1872 (في العام 1877، حسب جرجي زيدان وغيره)، بينما عرفتْها مكة في العام 1882...
ووجب الحديث عن أن استعمال المطابع الحجرية لبى، على أكثر من صعيد اعتقادي أو تقني أو فني، احتياجات انتقالية في هذا العهد، ما سهَّل قبول المطبعة وإنتاجاتها. فهذا النوع من المطابع: لا يتطلب تجهيزات تقنية عديدة، ولا عمالاً كثيرين، وغير ملمين بالعربية وحروفها وأشكالها بالضرورة؛ كما لا يقضي استعمال هذه المطبعة على الخطاطين وأساليبهم الخطية السارية والمستساغة؛ ولا تُغَيِّر عمليات الطبع هذه اعتيادات القراء على القراءة، المبنية على القراءة القرآنية في الكتاتيب والمساجد تحديداً.
احتياجات "انتقالية"، إذن، وخالفتْ بذلك ما كانت المدن الأوروبية قد عرفته، وهو المطبعة الصناعية (صف الحروف) قبل المطابع الحجرية (طبع المدون مثل صورة). ولقد عملَ الدارس محمد بن شريفة على تأريخ ظهور الكتب العربية الأولى في المطابع الحجرية العربية: صدر أول كتاب في تركيا في 1803، وفي تونس في 1828، وفي مصر في 1838، وفي الجزائر في 1845، وفي لبنان في 1853، وفي العراق في 1865 وغيرها.
2 . ب . "هيئة" العربية
يحتاج درسُ دخول الطباعة، إذن، إلى وقفة متأنية، لا تكتفي فقط بالتعرف على معالم الدخول هذا (وهو ما بات بعضه معروفاً في عدد من الكتب والأبحاث، التي تناولت دخول الأدوات الصناعية هذه إلى هذه البيئة أو تلك: "ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر"، 1995)، وإنما تدرس أيضاً مفاعيل مثل هذا الدخول بما أحدثَه من تغيرات أصابت "هيئة" العربية، في المقام الأول (قبل درس المفاعيل الأخرى).
ذلك أن دخول الطباعة إلى العربية أصاب هيئتها، ولم يكن عملية نقل اعتيادية من نسخ الأيدي إلى عمل الأجهزة الصناعية. وهو ما يحتاج إلى رصد ومتابعة وفحص، بما يدل على عمليات التغير التي تشبه، وفق مسار آخر، عملية الانتقال التي أصابت الحرف العربي، بعد نزول القرآن، ونَقلتْه من عهد السماع إلى عهد القراءة. فمن يتابع ما فعله الخليل بن أحمد الفراهيدي وعدد من تلاميذه وغيرهم من "اقتراح" لحركات (حركات الإعراب والشدَّة وغيرها) تعين في تدوين أصوات العربية، وسلامة نطقها وفهمها، ينتبه قبل ذلك إلى ما أصاب "هيئة" القرآن نفسها، مثل عناوين السور، والفواصل بين الآيات، وغيرها من المؤشرات التي تدل على "هيئة" خطية، هي الأولى التي تحوزها العربية في تاريخها: احتاجت العربية إلى "حركات" دالة عليها، بعد انتقالها من تعلمها التلقائي، وبالسليقة في بيئاتها، إلى عهد آخر، هو عهد التعليم ولفئات غير عربية، مثل الفرس وغيرهم. هذا ما عرفتْه العربية في هيئتها، مع "الحركات" (الفتحة والكسرة والضمة والسكون والشدَّة وغيرها)، المترافقة مع ضبط "رسم" القرآن نفسه – أساس التعلُّم الأول. وهي الهيئة نفسها التي تبدلت، في عدد من معالمها ومؤشراتها، مع دخول الكتابة العربية في عهدها الصناعي؛ فما كان يركن إليه الناسخ تبدلَ أو بات يحوز على سمات مظهرية مختلفة.
هذا ما شمل، بداية، طريقة الطبع نفسها، حيث أنها انتقلت من الطباعة الحجرية إلى الطباعة الصناعية (ولها أسماء محددة). فقد جرت، في عهد أول، طباعة الكتب أو الجرائد وغيرها من دون حروف معدنية مصبوبة، وإنما كان يُكتفى بكتابتها باليد، ثم يتم طبعها ونشرها في نسخ عديدة. وهو ما فعله رزق الله حسون بنفسه عند إصداره جريدة "مرآة الأحوال"، في العام 1876، إذ كان يخط مقالاتها كلها بنفسه على ورق مستحضَر خصيصاً لهذا الغرض، ثم ينقلها للطبع على الحجر. وهو ما يوضحه بنفسه عند إيقافه للجريدة: "ضاعف الله أيام السادة المشتركين في "مرآة الأحوال"، وزاد بهجتهم ونضرتهم بكرمه ومنه أنه ولي كل إحسان. صدني - وقاكم الله - ضعفٌ عن القيام بكتابة "مرآة الأحوال"... وامتنع تصديرها بحروف الطباعة لما تقتضيه علاوة أضعاف النفقة الليتغرافية. ولم يؤازِ دخلُ "المرآة" ربع نفقتها". تعبَ، إذن، حسون من هذه المشقة (وكان ينقل مطبعته حيثما ينتقل في المدن والبلدان، في إنكلترا وغيرها)، وقد زاد عدد المشتركين في جريدته... وهو ما أصاب غير كاتب عربي، ممن كانوا يقيمون في مدن أوروبية، فكانوا يعولون على العمل اليدوي لنسخ مقالاتهم، بدل أن يستعملوا الحروف المصبوبة، وبدل أن يوكلوا "صفَّها" إلى عمال غير ملمين بالعربية، مما كان سيتطلب وقتاً طويلاً بالضرورة. وهي الطريقة الطباعية المعروفة بطريقة "المكبس"، أو الطباعة الحجرية (الليتوغرافيا)، التي تقوم على ضغط الصفحة تحت مكبس (مثلما يفعل فنانو الحفر حتى أيامنا هذه في إنتاج المحفورات الفنية). وما فعله حسون فعله بعده لويس الصابونجي، في العام 1884، إذ عمد إلى إصدار جريدته "النحلة" مخطوطة بخط يده، ومطبوعة على المطبعة الحجرية.
كما عمل عدد من الكتاب، مثل كرنيليوس فان ديك ورزق الله حسون وابراهيم اليازجي وغيرهم، على حفر الحروف بأنفسهم، وبأنواع مختلفة من الخطوط، وجهَّزوا بها مطابع مختلفة. هذا ما فعله حسون إذ حفر الحروف بنفسه، وجهَّز بها مطبعته، التي أقامها في قرية وندسورث بالقرب من لندن، وأطلق عليها اسم: مطبعة "آل سام"؛ وهو ما يشير إليه في طباعة كتابه الشعري: "النفثات" (1867).
وهذا ما فعله الدكتور فان ديك في بيروت، بعد أن تولى الإشراف على مطبعة الجامعة الأميركية، فكان أن حسَّن فيها، وزاد الشكل على الحروف. إلا أن الدور الأميز في هذا النطاق قام به ابراهيم اليازجي في العام 1886، فوضع قاعدة جديدة لصب الحروف، عُرفت بـ"حرف سركيس"، لأنها كانت تطبع في بيروت في مطبعة خليل سركيس، صاحب جريدة "لسان الحال". فقبل هذا التاريخ، وجب التنبيه إلى أن الحروف العربية المصبوبة بلغت السلطنة من المطابع الأوروبية، التي كانت قد شرعت منذ أواسط القرن الخامس عشر بطباعة الكتب العربية، بين البندقية ورومية وباريس ولندن وأكسفورد وغيرها. وكان لكل مطبعة "شكلها" المخصوص في حفر الحروف العربية، قبل أن يظهر الحرف "الاسلامبولي" في الآستانة، وحرفٌ آخر في المطابع المسيحية العربية، منقولٌ عن حرف رومية، وثالث موسوم بـ"الأميركاني" يعود إلى النشاط الإنجيلي، وبلغَ بيروت في العام 1834 . ويفيد دو طرازي أن "حرف سركيس"، الذي وضعه اليازجي الابن، جمعَ حسنات هذين الحرفين، الاسلامبولي والأميركاني، وزاد عليهما، حتى أنه بات الحرف الشائع في غالب المطابع العربية. وما لبث أن طوَّره اليازجي مرة ثانية بعد قدومه إلى القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر، وشاع استعماله في القاهرة، كما أَدخل في الطباعة العربية، في القاهرة، صوراً للحركات الإفرنجية التي يحتاج إليها المعربون في التعبير عن الحركات الخاصة بها التي لا مقابل لها في العربية.
هذا ما شمل أيضاً أدوات التنقيط نفسها، حيث أنها لم تكن معروفة في العربية، ودخلتْها في الكتب المطبوعة الأولى: العائد إلى رواية خليل الخوري: "وَي. إذن لستُ بإفرنجي" (ولقد قمت بتحقيقها، وصدرت في العام 2009 عن دار الفارابي، في بيروت، ويمكن العودة إليها للتعرف المزيد على هذا الوجه الطباعي)، بين نشرها الأول في الجريدة (ابتداء من العام 1859) وبين نشرها في كتاب (في العام 1860)، يتحقق من اختلافات طباعية بينة بين الطبعتين: إذا كان الخوري استعمل، على سبيل المثال، إدوات تنقيط (مثل النقطة، والشرطة للتدليل على الحوار)، سواء في الجريدة أو في الكتاب، فإنه بدل من كتابة الهمزة بين المدونتين (وهو ما يحتاج إلى تبين وفحص، على ما درست في تحقيقي المذكور). فالخوري صحح وبدل بينهما، ما يشير إلى عمليات تحسين وتبديل، وإلى تجريب واقتراحات أولية في هذا المجال: بقيت أدوات التنقيط في عهدة الكُتاب والطابعين حتى العقود الأولى من القرن العشرين، حين اقترح أحمد زكي (باشا)، في رسالته "الترقيم وعلاماته في اللغة العربية" (1912)، صيغة لها، مأخوذة بالطبع عن الحروف الأوروبية، وهي الأولى في تاريخ العربية؛ وما لبث "مجمع اللغة العربية" في القاهرة أن أقر العمل بها في العام 1932 .
وقد يكون من المناسب التعرف على أوجه الضبط الجديد للعربية بعد دخول أدوات الطباعة إليها، من خلال التوقف عند إصدارات أولى دالة على معالم الاقتراحات الطباعية الجديدة. فإذا كان المراد من عملية الضبط الأولى، الإسلامية، وضعَ حركات تضمن حسن سلامة النطق والتعرف على الألفاظ (بعد تحول الكلام المنزل إلى كتاب "في دفتين")، مما يحتاج إليه المتعلمون، فإن العملية الجديدة طاولت وجوهاً أخرى من هيئة العربية، يمكن اختصارها بالانتقال من النسخي إلى الطباعي. وهو ما يمكن تتبعه بمراقبة أشكال ظهور الكتب الطباعية الأولى (ما لي عودة لاحقة إليه).
2 . ج . الجريدة قبل الكِتاب
من يتابع تاريخ دخول المطابع، أو وصولها، إلى هذه المدينة العربية أو تلك، يتحقق من الأهمية الفائقة التي بات يُوْليها أصحابُ المطابع، أصحابُ الشأن، لمثل هذا المخلوق الصناعي "العجيب": لما وصلتْ المطبعة، التي استجلبَها من أوروبا الأنبا كيرلس الرابع الكبير، بطريركُ الأقباط الأرثوذوكس في مصر، إلى محطة القاهرة، "استقبلَها نيابةً عنه مطارنته وكهنته وشمامسته بالموسيقى والملابس المختصة بالخدمة البِيعية، وساروا بها قاطبة إلى الدار البطريركية، وهم يُرتِّلون التراتيل الروحية. ومما يُروى عن هذا البطريرك حينئذ، أنه لشدة الفرح أعلن لمن كانوا حوله قائلاً: "لولا الخوف من لوم الجهال لرقصتُ أمام المطبعة في الطريق، كما رقصَ داوود أمام تابوت العهد" " (ورد في: "تاريخ..." فيليب دو طرازي). وهو ما طلبَه أصحاب الشأن الديني، في المقام الأول، حيث أن الإقبال على نشر الكتب الدينية وسمَ الدخول الأول – على ما سبقتْ الإشارة إليه – للمطبعة إلى السلطنة، وعند الجماعات المسيحية العربية تحديداً (جبل لبنان، حلب، الموصل وغيرها). ذلك أن الخشية العثمانية من المطبعة، ومن مفاعيلها "المربكة" (على ما تنبه ودرس أكثر من دارس)، باتت معروفة ولا تحتاج إلى زيادة في الشرح أو التأكيد.
وهو ما يفسر – في جانب من التفسير – المصاعب التي واجهتها إنتاجاتُ المطبعة نفسها، سواء من ناحية الجرائد أو الكتب وغيرها. فالبداية المتأخرة، فضلاً عن مصاعب أخرى (سيتم تبينُها ودرسُها)، تفسر جانباً من مصاعب النشأة. ولو أراد الباحث الوقوف على معالم الدخول، وتالياً على مشاكل النشأة، لوجب عليه التوقف عند الصحيفة قبل الكِتاب. فلقد كانت للجريدة الأسبقيةُ التاريخية في إنزال هذا الوليد الأول إلى سوق الإنتاج والقراءة.
قال سليم عنحوري، مؤسس جريدة "مرآة الشرق": "الجرائد (...) تَدخل قصور الملوك وبيوت الصعاليك". وهو ما يقوله عبد الرحمن الكواكبي، صاحب جريدة "الاعتدال" في حلب، في صيغة أخرى: "إن موضوع الجرائد هو مُطلق خدمة الإنسانية (...) إلى غير ذلك من الوظائف العمومية الجليلة التي تجعل الإنسان أن يعتبر الجرائد بمقام خادم عمومي ساعٍ بالخير". وهو ما يوجزه عبد الحميد زكي، صاحب جريدة "السياسة المصورة" في القاهرة، بهذه الكلمات: "الجرائد مدرسة العامة". هذا ما أجدُه أيضاً في كتابات غيرهم من الصحفيين الرواد، الذين وعوا حقيقة الصلة الجديدة التي باتت تُنشئها الصحافة مع طرف جديد في منتهى الكتابة، وهو: "العموم"، أي القارىء (أو: المُطالع)؛ وهذا يَجتمع في الحديث عن أن للكتابة "وظيفة عمومية".
يفيد الجبرتي عن تكليف الفرنسيين لاسماعيل الخشاب مهمة كتابة الأخبار، وما "يقع فيه كل يوم" لـ"الديوان"، ذلك أن للفرنسيين عناية – يلتفت إليه الجبرتي ويلحظها – تقوم على "ضبط الحوادث اليومية"، على أن يجمعوها كلها في "ملخص"، ويطبعوا منها نسخاً عديدة، يوزعونها على الجيش بكل أفراده، ممن كانوا في القاهرة أو خارجها، ما يجعل الأخبار "معلومة للجليل والحقير منهم".
وهو ما أجد تعريفاً مزيداً له، لو توقفتُ عند "مقصد المبشر"، الذي نُشر في صحيفة "المبشر" (1847)، التي خصصتْها الحكومة الفرنسية، بالعربية والفرنسية، لسكان الجزائر، إذ ورد فيه: "أمرَ الأمير بورود هذا المبشر عليكم مرتين في كل شهر. وبه يعرفون الولات (الولاة) والأعيان السيرة مع الرعية. وكذا الرعية تعرف السيرة مع الأعيان والولات (الولاة). وبهذا الإعلام يتضح لكم مراد هذا الدولة منكم. وأعيانكم يجدون سهولة في التصرفات عليكم. وأنتم تعرفون حدود أحكامهم عنكم بحيث لا تخشون من تعدياتهم وجواز الحدود التي بينها السلطان الأعظم كما بمراده". فيَظهر من الكلام أن الجريدة تطاول الحاكم مثل المحكوم، وإن يتخذ، في المثال الجزائري المذكور، معنى مزيداً، بضاف إلى المعنى الذي ذكره الجبرتي، وهو أن السلطات الفرنسية – بعد توطنها الاستعماري في الجزائر – تطمح إلى "طمأنة" الجزائريين من حكامهم الأجانب.
غير أن الحديث هذا لا يُخفي، ولا يُغيِّب، كونَ الصحافة بدأت بتدبير أجنبي في المقام الأول، على ما أحدثَه الجنرال بونابرت، في القاهرة، في أول تجربة صحفية في مدينة عربية ("الحوادث اليومية"). ثم استكملتْ الصحافة ظهوراتها المختلفة، هنا وهناك، وفق احتياجات حكومية، ما تمثَّل في سياسات محمد علي، في القاهرة ("الوقائع المصرية")، وفي سياسات الولاة العثمانيين في غير ولاية عربية، ولا سيما بعد ستينيات القرن التاسع عشر ("الرائد التونسي"، في 1861، و"سورية" في 1865، و"فرات" في حلب في 1876، و"طرابلس الغرب" في العام 1871، و"صنعاء" في العام 1877 وغيرها)؛ وهو ما طلبتْه سياساتُ التبشير والإعلام الداخلي لجماعات إرسالية عديدة، ولا سيما في بيروت ("مجموع فوائد" للمرسلين الأميركيين في العام 1851، و"أعمال الجمعية السورية" في 1852، و"أخبار عن انتشار الإنجيل في أماكن مختلفة" في 1863، و"النشرة الشهرية" في 1866، و"أعمال شركة مار منصور دي بول" في 1876 وغيرها).
وإذا كانت هذه الظهورات المختلفة تعيَّنتْ في سياسات عليا، صادرة عن احتياجات أجهزة بعينها، فإن عدداً من خريجي "المدارس العصرية" العرب سيُقدمون، تبعاً لـ"أذونات" احتاجوها من السلطات العثمانية، على إصدار صحف ومجلات مختلفة: "مرآة الأحوال" (1855) لرزق الله حسون، و"السلطنة" (1857) لاسكندر شلهوب، في الأستانة، و"حديقة الأخبار" (1858) في بيروت لخليل الخوري وغيرها. ولقد عرفتْ هذه الأخيرة صدوراً متسقاً (حتى توقفها في مطالع القرن العشرين، بعد وفاة صاحبها)، بخلاف غيرها مما كان يتوقف صدوره بعد أعداد قليلة: مثل المجلة الشهرية "الشركة الشهرية" (1866)، ليوسف الشلفون، التي توقفت بعد ثمانية شهور، "لعدم إقبال القوم على مطالعتها"، حسب دو طرازي.
هذا ما يدل في حد ذاته على هذه النشأة الصعبة، والمفتعلة في عدد من جوانبها. ذلك أنه لم يكن في مقدور أفراد ضمانُ أو تدبيرُ كفالة مالية لما يقع في التداول، أي لما يحتاج إلى إقبال "العموم" عليه، شراءً أو اشتراكاً. وقد يكون الحديث عن "الاشتراك" هو العلامة الأبين على شروط هذه النشأة، إذ كان أصحاب الجرائد والمجلات يطلبونها، ويُعيِّنون لها مندوبين في المدن المختلفة (على ما يظهر في "الجوائب" لأحمد فارس الشدياق، ابتداء من العام 1860). وهو ما يتخذ أيضاً شكل "خدمات" سياسية توفرها هذه الجريدة أو تلك للحاكم، العثماني أو المحلي: كان الشدياق يقبض، على سبيل المثال، مبلغ خمس مئة ليرة عثمانية كل سنة من السلطان عبد العزيز ("لبث فكر الخلافة النبوية بين المسلمين المنتشرين خارجاً عن الدولة العثمانية"، حسب تعبير دو طرازي)، والمبلغ عينه من اسماعيل باشا، خديوي مصر، ومن محمد الصادق باشا، باي تونس ("لأجل خدمة أفكارهما وترويج مصالح بلديهما"، حسب دو طرازي). وهو ما فعله الخديوي اسماعيل مع مجلة "وادي النيل"، لعبد الله أبي السعود، فدعمها مالياً، بعد أن اشترط من صاحبها "الإخلاص" و"اعتدال المشرب"، وعدم التعرض "في جميع مباحثها للشؤون الدينية".
كتبتْ جريدة "برجيس باريس" (لرشيد الدحداح، التي تأسست في باريس، في 1858) بتاريخ 24 نيسان-أبريل 1862: "قيل إن السلطان الأفخم سافر إلى بروسة ليقيم فيها أسبوعاً. وقبل سفره استدعى منشىء الصحيفة التركية المسماة "ترجمان الأحوال"، وسأله: لمَ لا تتكلم مياومةً على السياسة؟ فأجاب بأنه لم يتكلم على ذلك خشيةَ أن يلحقه لوم، واحترازاً من وقوع صحيفته في الخطر. فقال له: تكلمْ على السياسة والأمور العامة بما ظهر لك من الواقع ونفس الأمر، ولا تخشَ شيئاً"؛ هذا ما يكتبه الدحداح، ثم يستكمل قائلاً: "فإن ثبت هذا..." (نقلاًَ عن دو طرازي).
بدايات صعبة، يمكن اختصارها في رقم ظاهر الدلالة: صدور 27 صحيفة في سبعين عاماً. وهي صعوبات طاولت الصحافة وأي إنتاج طباعي آخر، حيث أن الدورة القديمة تغيرت، وما وجدت الدورة الجديدة – قيد النشوء – أطرافَها الذين يَقوون على التكفل بها، بل على الاحتياج إليها. ذلك أن من يتابع وقائع النشأة هذه لا يتحقق من مصاعبها وحسب، وإنما ينتبه إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أنها كانت إنتاجات "مفروضة" بمعنى ما، من دون أن تجد بعدُ "زبونَها" المحتمل أو المفترَض. ولقد تنبهَ أعدادٌ من السلاطين والحكام وبعض "المتنورين-المُحسنين" إلى هذا الفارق التكويني، فكان أن عمدوا إلى تمويل مشروعات طباعية، ولا سيما منها المشروعات الثقافية الكبرى ذات النفع الحضاري أو الثقافي العام.
هكذا سعى واضعو المشروعات التأليفية الكبرى، مثل الموسوعات والمعاجم وغيرها، إلى تدبير اشتراكات مسبقة لمشروعاتهم، بما يخفف الكلفة المالية المقدَّرة، كما في مشروعات: "دائرة المعارف" لبطرس البستاني، على سبيل المثال. وكان بعض السلاطين والولاة والوزراء يرافقون هذه المشروعات، فيمنحون جوائز مالية مكافأة لأعمال مشهود لها بالجدة والخدمة: مثل 250 ليرة مجيدية أغدقها السلطان عبد العزيز على بطرس البستاني لصنيعه المعجمي ("محيط المحيط" و"القطر المحيط")؛ وهو ما فعلَه مع سليم الخوري وسليم شحادة عند شروعهما في وضع معجم "آثار الأدهار"، بصدور مجلده الأول في العام 1875 .
ومن يتتبع بعض أخبار بيروت والقاهرة يتحقق من إقدام بعض الكُتاب على تأسيس جمعيات – بعضها تجاري بحت – تتولى نشرَ الكتاب أو دعمه: قام ابراهيم المويلحي، مع عارف (باشا)، عضو مجلس الأحكام، بتأسيس جمعية في القاهرة عُرفت بـ"جمعية المعارف"، كان الغرض منها نشرَ الكتب وتسهيل اقتنائها؛ وأقدمَ الأول منهما على تجهيز مطبعة لهذا الغرض، باسمه، وتولتْ هذه المهمة بدورها. وهو ما أَقدمَ عليه بطرس البستاني وخليل الخوري وسليم بسترس وابراهيم الأحدب وغيرهم في بيروت بتأسيسهم لـ
"العمدة الأدبية"، وكانت "شراكة أدبية" ذات أسهم، وقام دورها على الترويج للكتاب، فضلاً عن طبعه؛ كما كان الخوري يقترح على قراء جريدته شراءَ الكتب وتوزيعها على محبيهم بوصفها "أجمل هدية"؛ عدا أنه كان ينشر أسماء المحلات التي تبيع الكتب في بيروت، أو عناوين الكتب المتوافرة أو الواصلة إليها.
ولم يسلم الكتاب الأدبي من سياسات التكفل هذه، حيث أن مُراجع الإصدارات الطباعية الأولى يتحقق من إقدام أعداد من الكتاب، ولا سيما الشعراء، على "إهداء" كتبهم الشعرية للسلطان أو الوالي أو الوزير وغيرهم من أصحاب الشأن. وهو ما نجد قطيعة معه في حادثة جرى تناقلها في ستينيات القرن التاسع عشر، عند حلول سعيد باشا، خديوي مصر، في سوريا، وإقبال الشعراء عليه بقصائد المدح: خليل الخوري رفضَ الجائزة (التي تراوحت للشعراء بين عشرة وخمسة عشر جنيه) على قصيدته "السعادة"، وكتبَ في "حديقة الأخبار" أنه نظمها إظهاراً لإحساساته، لا طمعاً بالمال، لعلمه أنه "جاء الوقت الذي يجب فيه أن لا تكون كلمة "شاعر" مرادفاً لكلمة "متسول"، واقتدى به وقتئذ الشاعر أسعد طراد"، على ما يقول دو طرازي. إلا أن هذه السابقة – التي اشتهرت في سيرة الخوري وذاعَ صيتها – لم تمنع الخديوي، بل شجعته بالأحرى على... الاشتراك بخمسين نسخة من "حديقة الأخبار"، جريدة الخوري. ويكفي الاطلاع على سلسلة الجوائز التي نالها هذا الكاتب، وغيره أيضاً، من نياشين وخواتم مرصعة وأوسمة ورتب، من الدولة العثمانية وغيرها، لكي نتأكد – ولا سيما في نهايات العهد العثماني – من اللمعان الأخير لمثل هذه الصلات بين الحاكم والكاتب.
كما تكفل عدد من المتأدبين الأغنياء بإصدار عدد من الكتب، على ما نعرف لورود العبارة: "تكفل بنشره"، أو "بنفقته": هذا ما ورد في صفحة غلاف "الساق على الساق..." للشدياق، وهو ما عُرف عن أحد الأغنياء، الأميوني، الذي طبع "على نفقته" "نبذة" شعرية لناصيف اليازجي. وهو ما قام به ميخائيل مدور إذ ساعد – وهو الصديق الحميم لناصيف اليازجي – على طبع كتابه "مجمع البحرين" على نفقته في 1854، ما رد عليه اليازجي شعراً. ومن المعروف عن مدور أنه كان له دور رئيس في إصدار "حديقة الأخبار" لخليل الخوري. ولكن ماذا عن الكِتاب؟ وماذا عن أسباب تأليفه وغيرها؟
3 . الكِتاب : الوجود الناشىء
هكذا برزتْ الجريدة قبل الكتاب الطباعي، على الرغم من طول عهد الثقافة العربية بالكتاب، ديناً واعتقاداً وتداولاً. وإذا كانت الجريدة قد برزت بفعل حكومي أكيد، مستلهمٍ من التقاليد الأوروبية واحتياجات الحكومات إلى "إبلاغاتها"، فإن الكِتاب قد يحتاج إلى أسباب بروز مختلف، واحتياج جديد، بفعل دخول الكتابة في عهد صناعي. فكيف يمكن التحقق من وجود الكتاب، بل من وجوده المستجد؟
3 . أ . "سياسات" الكِتاب
لن يجد المتابعُ المدققُ صعوبةً في التحقق من أن مبادرات الجهات الأوروبية المختلفة، طالبةِ النفوذ والتأثير في بيئات عربية مختلفة، مثل الأجهزة الكنسية المسيحية المتعددة قبل السياسات الاستعمارية، هي التي أوجبت صدورَ الكتب الأولى: مثل كتاب "اعتقاد الأمانة الأرتدكسية كنيسة روما"، بأمر من البابا بيوس الرابع، في العام 1566؛ أو الكتب العربية التي صدرت ابتداء من العام 1514 في مدن أوروبية مختلفة، وبلغت قرابة 167 كتاباً.
ولو بحثتُ عن إصدارات المطبعة المغربية الأولى، مع مطبعة القاضي الروداني بعد إقامتها في مكناس، لوجدتُ أنها لا تتعدى الكتب الستة بين العام 1865 والعام 1871 . ويمكن الوقوف على إصدارات القاهرة الأولى بالعودة إلى كتاب "حركة نشر الكتب في مصر في القرن التاسع عشر" (عايدة إبراهيم نصير، 1994). فقد عادت الباحثة إلى أوسع المصادر "المتاحة" عن هذه الكتب، وتوصلتْ إلى عدد من الأرقام والخلاصات: من هذه الأرقام نعرف أن عدد الكتب المنشورة بين العام 1820 والعام 1849 بلغ 867 كتاباً، تبعاً لسنوات من الازدهار والكساد (كما تسميها) في النشر؛ وأن مجموع الكتب التي نشرت بين العام 1850 والعام 1899 بلغ 9538 كتاباً؛ كما وجب أن أضيف إلى هذه الأرقام أرقام "الكتيبات" أيضاً التي تقل عدداً وصفحاتٍ عن الكتب المذكورة. كما يتضح أيضاً أن عدد ما نُشر من كتب لأول مرة في الفترة الأولى بلغ 494 كتاباً (من أصل 867)، أي بنسبة 57 بالمئة، منها 325 كتاباً بالعربية.
ولقد وجدتُ مفيداً – للاستمرار في هذا المسعى - الانطلاق من كتابين:
- "تاريخ فن الطباعة في المشرق" للأب لويس شيخو، ويعود هذا الكتاب، في أساسه التأليفي، إلى مقالات بدأ الأب اليسوعي بنشرها في السنة 1900، في مجلة "المشرق".
- "معجم المطبوعات العربية والمعربة" ليوسف اليان سركيس، وهو "شامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والغربية مع ذكر أسماء مؤلفيها ولمعة من ترجمتهم وذلك من يوم ظهور الطباعة إلى نهاية السنة الهجرية 1339 الموافقة لسنة 1919 ميلادية"، على ما يفيد التعريف الإضافي لعنوان الكتاب الصادر في جزئين (القاهرة، 1928). وعنوان الكتاب يفيد عن لزومه والحاجة إليه، خاصة وأن مصنفه شرح في "مقدمة" الكتاب أنه عاد إلى المصنفات السابقة عليه، وهي: الفهرست العمومي الذي أصدرته "دار الكتب المصرية" في القاهرة في عشرة أجزاء، "فدونتْ فيه ما حوته دارُها العامرة من الكتب المخطوطة والمطبوعة مقسماً على الفنون لغاية سنة 1307 و1308"؛ وكتاب "اكتفاء القنوع في ما هو مطبوع"، وكتاب "جامع التصانيف المصرية الحديثة" لعبد الله الأنصاري، الذي ضمَّنه الكتب المنشورة بين سنتي 1301 و1310؛ والفهرس الهجائي للكتب العربية والإفرنجية المحفوظة بمكتبة مدرسة الحقوق الخديوية، الذي نشرته "نظارة الحقانية" في العام 1913؛ فضلاً عن الفهارس والجداول السنوية، التي نشرها أصحاب المكتبات الحاوية للكتب المعروضة للبيع في محلاتهم: معجم سركيس يستجمع، إذن، ويزيد، لكنه يستبعد كذلك عدداً محدوداً من المنشورات، وهي: الروايات الحديثة والكتب الدينية النصرانية، على ما يوضح في "تنبيه" يتصدر الجزء الأول من معجمه.
إن العودة إلى هذين الكتابين تتيح للباحث الوقوفَ على مدونتين مبكرتين في التصنيف، وفي مدينتين تكفلتا بغالب الطبع العربي في القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، ما يقوي من سند البحث، ومن جدوى نتائجه. غير أن البحث لن يكتفي بحاصل هاتين المدونتين، بل سيتطرق إلى مدونات أخرى، ومن بيئات أخرى معنية بالكتابة العربية، ما يوسع من رقعة البحث نفسه ومن نتائجه.
العائد إلى كتاب الأب لويس شيخو المذكور، والمبكر في نوعه، يقع على معلومات دالة على النشر واتجاهاته، ولا سيما في بيروت. وهي معلومات تحتاج إلى تصنيف ودرس (ما يزيد عن حاجة هذا البحث)؛ وما يعنيني يتوقف على ملاحظة الاختلاف في سياسات النشر بين القاهرة وبيروت (بالعودة إلى كتاب سركيس)، ما يجتمع في عدة خلاصات:
- توزع النشر المصري في أكثر من لغة (التركية والفارسية والفرنسية والإنكليزية، إلى جانب العربية)، بينما اقتصر في بيروت على العربية، فضلاً عن كتب بالسريانية والفرنسية والإنكليزية؛
- تكفلتْ الدولة بنشر الكتب في القاهرة، وتعهدتْها بالطبع "مطبعة بولاق"، بينما قام بها أفراد وجمعيات في بيروت، وتعهدتْها مطابع مملوكة من أفراد وجمعيات؛
- تبدو أرقام الطبع (عدد الكتب، والطبعات، والمؤلفين) تزيد في القاهرة تماماً عن أرقامها في بيروت؛
- إذا كانت مراتب كتب اللغة والأدب تحتل مراتب متوسطة في أرقام القاهرة، فإنها تحتل المراتب الأولى في النشر البيروتي، بما فيها خصوصاً إصدار الكتب الأدبية الجديدة (رواية، شعر وغيرها)؛
- قد يكون الجامع المشترك بين التجربتين هو انصراف النشر، في القاهرة كما في بيروت، إلى إعداد الكتب المدرسية (في أكثر من نوع)، للناشئة أو للكبار، وإلى تحقيق ونشر الكتب العربية القديمة.
وهو ما يحتاج إلى تبين ودرس مزيدين.
3 . ب . كُتب للمدرسة العصرية
جرى الحديث أعلاه عن دخول المطبعة، ثم عن أسبقية ظهور الصحافة، بوصفها الوليد الأسبق للمطبعة، وصولاً إلى الحديث عن ظهور الكتاب نفسه. وجرى التحقق في هذه الفقرات من صعوبات هذا العهد، ومن أشكال الممانعة أو التردد، ما أظهر "ولادة قيصرية"، أو مفتعلة للكتاب. وهو مدعاة لطرح السؤال: لماذا الكتاب؟ ما الحاجة (أو الحاجات) إليه؟ ما موجبات وجوده؟ وأي الكتب صدرت قبل غيرها؟ وأسئلة اخرى، يمكن أن تندرج في "سياسات" النشر، لا للتعرف عليها وحسب، وإنما للتعرف على موجباتها والاحتياجات إليها.
يتنبه الدارس، انطلاقاً من كتاب نصير المذكور أعلاه (عن بدايات الطبع في مصر)، إلى أن كتب المعارف العامة والأدب (وفقاً لتصنيف الباحثة) بلغت المرتبة الثالثة بعد كتب الفلسفة والعلوم التطبيقية وكتب الديانات، وقبل كتب اللغة والتاريخ. وتُظهر الأرقام أن عدد ما نشر من الكتب للمرة الأولى في الفترة الثانية وصل إلى 5239 كتاباً، ما نسبته 55 بالمئة، منها 4617 بالعربية؛ وهما نسبتان تزيدان – كما يتضح - عن نسبتي الفترة الأولى. ويتضح من كتب الفترة الثانية أن كتب الأدب باتت تحتل المرتبة السادسة، واللغة المرتبة العاشرة؛ وهو ما يشير إلى تراجع بالمقارنة مع الفترة الأولى. غير أنني وجدت من المناسب – بدل الاكتفاء بأرقام الطبع، وأنواع الكتب الصادرة – التوقف لدرس اتجاهات النشر الدالة على خيارات المؤلفين كما المقبلين على اقتنائها، وضمن العملية عينها.
يحتاج الدارس لذلك إلى دراسة متأنية قد لا يملك جميع معطياتها، خاصة وأن المعلومات عنها متفاوتة، وقد تكون معدومة في هذه البيئة العربية أو تلك. لهذا لن يكون المسعى أدناه استقصائياً، وإنما يهدف إلى التعرف على اتجاهات النشر، ولا سيما على موجباته. وإذا كان نشر الكتب القديمة ("التراثية"، في لغة اليوم) استحوذ على بعض المجهودات الطباعية الأولى، ولا سيما في القاهرة، فإن الإصدارات الأولى أو بواعثها تمثلت في تلبية احتياجات التعليم.
هذا ما تنبه إليه عدد من المستشرقين إثر قيام مدارس التعليم "العصري"، على ما بدأ في نهايات العهد العثماني، وفي العقود الأولى من القرن العشرين. فالمدرسة "العصرية" استدعت ظهور كتب جديدة، وبأعداد وفيرة، بعد أن جرى الانتقال من "الكتاتيب" إلى "المدرسة"، ذات الصفوف والشهادات المختلفة (على ما درست في كتابي: "العربية والتمدن..."). فما عاد المعلم يكتفي بهذه "الألفية" أو تلك، أو بكتب الحديث والفقه والتفسير، بل بات يحتاج، منذ التغييرات الداخلة على التعليم العثماني إثر عهد "التنظيمات"، إلى كتب تتولى تدريس لغات مختلفة (تضاف إلى التركية والعربية)، و"مسك الدفاتر" وعلوم الجغرافية وغيرها.
ولقد بانت الحاجة إلى ترجمة أو وضع كتب "علمية" بالعربية في صورة صارخة، سواء في القاهرة أو بيروت: ففي القاهرة، ما عاد يُكتفى، كما في السنوات الأولى، بوقوف المترجم إلى جانب الأستاذ الأجنبي، لشرح العلوم المختلفة للطلبة العرب والعثمانيين عموماً. ومن يعود إلى الإصدارات القاهرية الأولى يتحقق من ظهور أول الكتب الجديدة، وهي الكتب المخصصة لتعليم العلوم للطلبة، مثل كتب الجراحة وصب المعادن وغيرها. وهو ما قام به أساتذة أجانب في بيروت، الذين قادتهم ظروف "إرساليتهم" إلى تعلم العربية، والتكفل بالتعليم بها، ثم بترجمتها أو بوضعها في العربية.
غير أن الأمر لم يقتصر على العلوم "الدخيلة"، وإنما على تعليم العربية نفسها. فلقد وجد عدد من الأساتذة، من أجانب وعرب، ضرورة "وضع" كتب جديدة لتعليم العربية، بدل الاكتفاء بالكتب المعهودة، المتناقلة في "الكتاتيب" من قرن إلى قرن.
هذا ما فعله "المعلم" رفاعة الطهطاوي، إذ أقدم على وضع الكتب التالية: "التعريبات الشافية لمريد الجغرافية"، و"المرشد الأمين في تربية البنات والبنين"، و"التحفة المكتبية" لتعليم قواعد النحو في المدارس الابتدائية وغيرها. وهو ما قام به أيضاً بوصفه "ناظر" مدرسة الترجمة...
كما تنبه الأب اليسوعي يوحنا بلو (الفرنسي)، بعد حلوله في بيروت، من الأمر، إذ وجد مدارس الأحداث مفتقرة إلى كتب مناسبة لدرس العربية، فأخذ في تأليف بعضها، ولا سيما مجلد من خمسة أجزاء، رتبه مع الأب أغسطينوس روده ومساعدة ابراهيم اليازجي، وهو "نخب الملح"، بين العام 1870 و1874 . وكما توجه "المعلم" بطرس البستاني إلى تلامذته وتلامذة غيره معداً للأساتذة أنفسهم ما يعينهم في عملهم، مثل: "مصباح الطالب في بحث المطالب" و"مفتاح المصباح" (في الصرف والنحو)، و"كشف الحجاب في علم الحساب"، و"روضة التاجر في مسك الدفاتر" وغيرها.
ولقد وجد هؤلاء، ولا سيما البستاني، في شخص الدكتور الأميركي، والمرسل الإنجيلي، كرنيليوس فان ديك (1818-1896) مثالاً اقتدوا به، سواء في خصال التدريس ومناقبه، أو في لزوم التأليف العلمي بالعربية. ومن يراجع قائمة مؤلفات فان ديك الوفيرة يتحقق من استعادة التأليف العربي في نطاق العلوم، وبأقلام غير عربية، هذه المرة.
وقام عمل هؤلاء المؤلفين أحياناً على التدريس، وعلى إعداد الكتب المدرسية، للمعلم كما للطالب، مثلما فعل "المعلم" رشيد الشرتوني (1864-1907)، بين بيروت والقاهرة، عدا أنه وضع كتباً مختلفة، منها: "تمرين الطلاب في التصريف والإعراب"، وهو قسم للتلميذ وقسم للمعلم في 8 أجزاء؛ كما وضع الكتب التالية: "نهج المراسلة"، و"مبادىء العربية" في الصرف والنحو "على طرق مستحدثة" في ثلاثة أجزاء، و"مفتاح القراءة والخط والحساب" وغيرها. وهو ما أجده في عمل نجيب حبيقه (1869-1906)، الذي ألف كتاب "درجات الإنشاء" في ستة أجزاء، ثلاثة للمعلم وثلاثة للتلميذ؛ وهي ما كان يعول عليه في تدريسه مادة "البيان" في الكلية اليسوعية، أو "مدرسة الحكمة" أو في "المدرسة العثمانية" وغيرها.
لا يسع هذه الفقرة، ولا غيرها، التوقف عند أنواع التآليف المدرسية، إذ أن مطلوب البحث يستوخي التعرف على تغيرات أصابت التأليف، ولا سيما في نطاق "الأدب". هذا ما يتمثل في تغيرات أصابت الثقافة عموماً، وما يحتاجه الكاتب بشكل خاص. وقد يكون من المفيد التنبه إلى تغيرات تأليفية أبرزت أنواع كتب جديدة، قد يكون لبعضها أسباب صلة بأنواع قديمة، إلا أنها باتت مستجدة أو محوَّرة.
فالدارس يتحقق، على سبيل المثال، من وجود مؤلفات قديمة في الطب، ولا سيما عند كبار العلماء، مثل ابن سينا وغيره، إلا أن الدارس ينتبه إلى انصراف كُتاب إلى إعداد كتب تتناول "الصحة"، ولتدبير نوع من الثقافة الصحية، التي يحتاجها رب العائلة أو المعلم، لا الطبيب في المقام الأول. وهو وجه من وجوه "الكتابة العمومية"، التي سبق الحديث عنها. وهذا النوع من الكتب يتناول "تربية" الإنسان (رجلاً، أم امرأة أم طفلاً وغيرهم)، أو "تهذيبه"، أو "صحته" وغيرها، مما يُبرز معالجات جديدة. وهو ما يَظهر منذ عناوين بعض كتب جرجي نقولا باز: "الإنسان ابن التربية والآداب"، و"شبان العصر والصحة"، و"آثار التهذيب" وغيرها. وهو ما أجده في كتب الدكتور اسكندر جريديني، الذي نشر في مصر كتاباً للعناية بالعين، وكتاباً لتدبير الأطفال في الصحة والمرض. وهو ما قام به الدكتور أمين جميل في كتبه المختلفة: "حفظ الصحة"، و"علم الصحة"، و"قانون الصحة: موجز للمدارس والجمهور". أو ما يدخل في العناية بالأسنان، مثل كتاب خليل حداد: "وصية بالإنسان في وقاية الأسنان". وهو ما يتسع ليشمل تربية البنات، مثل: "التدبير المنزلي الحديث" (في جزئين) و"التدبير المنزلي للبنات" لفرنسيس ميخائيل. وهذا ما دفع كُتاباً للتخصص في نوع وحسب من الكتب المدرسية، مثلما فعل جرجس الياس، وله: "المبدأ الراقي إلى المراقي"، و"الإسهاب في مراقي الحساب"، و"في حساب الكسور"، و"في العدد المركب"، و"الجاري في الحساب الجاري" وغيرها. وهي انشغالات كاتب آخر، سليم أمين حداد، الذي له: "الحساب التجاري" و"الرياضيات التجارية" وغيرها؛ وانشغالات منصور جرداق الذي أصدر: "الحساب الحديث" (في ثلاثة أجزاء)، و"الجبر الحديث"، كما وسع من كتاباته صوب الفلك إذ اعتنى بتقديم التعريفات "الحديثة" في النظام الشمسي، كما في الشمس والقمر.
وهو ما تَعيَّن في كتب أخرى يحتاجها المتعلم، مثل كتب "القواعد"، كما باتت تسمى، مثل: "الإعراب عن قواعد لغة الأعراب" لرشيد عطية، و"دروس القواعد العربية في الصرف والنحو" لوديع سركيس، و"الأجوبة الشافية في فني الصرف والنحو" و"مختصر في أصول الصرف والنحو" لسليم حسون، و"المباني الأساسية في اللغة العربية" في ثلاثة أجزاء و"دليل المباني" لرفائيل طرزي. وهي كتب قد تتناول صفاً بعينه، مثل: "السنة الابتدائية لدرس اللغة العربية" لبتراكي خياط، أو: "ترقي الصغار في دروس الاستظهار" ليوسف صادر. وقد تشمل كتاباً يصلح لأكثر من صف ومستوى دراسي، مثل: "المجموعة الأدبية في تعليم القراءة العربية" (في جزئين) لعبود راشد، أو "سلُّم القراءة" في "ثلاث درجات" لسليم صادر، و"كتاب القراءة للبنات" ليوسف صادر، أو "سلم القراءة الحديث" في "أربع درجات" لجرجس عبد الملك، أو "مدارج القراءة" (في أربعة أجزاء) لجرجس همام، و"الخدمة المدرسية في تسهيل صرف ونحو اللغة العربية" لأنيس الخوري المقدسي.
كما صدرتْ كتب في "التنشئة" الأدبية، ما اشتمل في المقام الأول على إعادة نشر كتب قديمة، بعد تحقيقها، وبعد اتباع ما سبق إليه عملُ المستشرقين قبل أكثر من قرن. وهو ما لا يحتاج إلى عرض وتبيان... إلا أن الأبين في هذا المجال هو تكفل كُتاب بإعداد كتب "تُساعد" الناثر أو الشاعر، بوصفهما قيد التعلم، مثل: "الهدية الأدبية إلى الناشئة العربية" لنقولا ظاهر، و"الخواطر الحسان في المعاني والبيان" لجبر ضومط، و"الدر المنتخب من كتب الأدب" ليوسف صفير، و"جواهر الأدب من خزائن العرب" (في خمسة أجزاء) لسليم صادر، و"المجموعة الأدبية في تعليم القراءة العربية" (في جزئين) لعبود أبي راشد، و"الصواب في مبادىء الآداب" لسليم كساب.
كتاب مدرسي، إذن، وفي العلوم والمقررات التدريسية التي باتت المدارس والكليات تطلبها، مثل: كتب الجغرافية ("الدليل المفيد على العالم الجديد")، والتاريخ، سواء "العام" أو الخصوصي، والفلسفة ("الخلاصة الدرية في الحقائق الفلسفية")، والحقوق ("أصول استماع الدعوى الحقوقية"، و"مقابلة الحقوق الرومانية والحقوق الإسلامية")، والاقتصاد ("حياة البلاد في علم الاقتصاد" لرفيق رزق سلوم)، و"دروس الأشياء" (كما هو عنوان كتاب ابراهيم زيدان) في جزئين، و"سلاسل الإنشاء" وغيرها.
وهو ما يشمل أيضاً الأساليب "المكتبية"، إن جاز القول، أي التي تصلح لمراسلات إدارية في المكاتب والإدارات والمؤسسات المختلفة، كما في كتاب: "أحسن الأساليب لإنشاء الصكوك والمكاتيب" لنعوم سحار، أو كتاب: "الفرائد السعدية في الاصطلاحات والرسائل التجارية" لخليل سعد، أو كتاب: "الرسائل التجارية باللغتين العربية والفرنسوية" ليوسف صادر، و"أقرب الوسائل إلى إنشاء الرسائل" لرشيد عطية، و"سلاسل الإنشاء" لابرهيم زيدان وغيرها.
لم تُعنَ هذه الكتب وغيرها بتعليم العلوم – كما باتت تصنف وتدرَّس في أوروبا -، في مختلف أنواع الاختصاصات والمهارات والمهن، وإنما باتت تتعداها لتعليم الأخلاق والتربية البدنية والعقلية وغيرها، ما يدخل تحت عنوان: "التهذيب"، كما في كتاب: "الدروس السعدية في تهذيب الفتى العصري والفتاة العصرية" لخليل سعد، أو في كتاب: "التربية في العائلة" لوديع رشيد شهاب.
ولم يتأخر المحامون والأطباء وغيرهم عن تعزيز نجاحاتهم المهنية، فوسعوها إلى نطاق القراء، مثلما فعل المحامي نجيب خلف في كتبه العديدة: "بين المحاماة والقضاء"، و"صرخة إلى القضاء"، وعدة تقارير دعاوى تولى الدفاع عنها.
ويتضح، منذ عناوين هذه الكتب، تأثرَها وتقيدَها بأسباب التأليف كما درجتْ عليه في التآليف الأوروبية، بدليل اشتمال العناوين على ألفاظ مثل هذه: "مختصر"، "دليل"، "موجز" وغيرها. وهو ما يَظهر بقوة أكبر في التعرف على محتويات الكتب، حيث هي مختصرات وترجمات لكتب معروفة، ومكرسة في المكتبة التعليمية الأوروبية.
لهذه الكتب وجهتا استعمال، إن جاز القول، ما أنقله من عنواني كتاب لنسيم الحلو، وهما: "رفيق التلميذ"، و"الحديث المفيد مع الأستاذ الجديد". هكذا بات للطالب "النظامي" أو العصامي كتبه الخاصة، التي ترافق دروسه، وتبعاً لدرجات "الارتقاء" فيها، أي الصفوف والشهادات المختلفة. بات الكتاب لازماً للتحصيل المدرسي، إلا أن عنايات الكُتاب تعدت هذه الفئة من المتعلمين لتتناول وتصيب فئات جديدة، هي ما يمكن تسميته بالطالب "العصامي"، الذي يدرس على نفسه، من دون أستاذ، بصحبة كتاب هو "دليله"، وهو ما اشتهر تحت تسمية تكاد أن تكون واحدة: ... "من دون معلم".
3 . ج . الكاتب "المنفرد"
لا يسع الدارس أن يختصر هذا المسار المعقد والملتوي والمتعثر بظهور الكتاب المدرسي، إلا أن صدور هذا النوع من الكتب، وبأثر من موجبات المسار كلها، يعني تغيرات باتت تتناول إعداد الطالب، والأستاذ، وباتت تبني في صورة جديدة الثقافة المدرسية، بل "الثقافة العامة"، إن جاز القول. وهو ما يمكن وصفه بالثقافة، أو بالدورة "المستجِدَّة"، التي باتت تَعِد كلَّ من له صلة بالكتابة والثقافة بكيفيات ووفق آليات جديدة. وإذا كان دخول المطبعة إلى عالم العربية أعاد النظر في "هيئتها"، فإنه عدَّل في الأساس مبانيَ الثقافة المعهودة، فأخرجَها من احتكامها الذاتي إلى منظور جديد بات يوجب الثقافة الأوروبية مثل أفق. ويحتاج الدارس إلى متابعات حاذقة لكي يُحسن تفكيك هذه المباني، وهي قيد الانبناء من جديد، ذلك أنها عمليات تقوم على القبول والتحوير والتعديل وغيرها من عمليات "لف" الكلام، إذا جاز التشبيه (عملاً بجملة مأثورة لأبي حيان التوحيدي).
وإذا كنتُ قد تبينت، في مسعى أول، بروز كتاب جديد، هو الكتاب المدرسي، أو كتاب التنشئة الثقافية العامة، فإنني أقوى كذلك على تبين مساع تأليفية جديدة، غير مسبوقة؛ وهو ما توقف عنده غير دارس، مثل ظهور المسرحية (ابتداءً من مارون النقاش)، والرواية (ابتداء من أحمد فارس الشدياق في السيرة الذاتية في "الساق على الساق..."، ومع خليل الخوري في الرواية في "وَي. إذن لستُ بإفرنجي")، أو المقالات الصحفية على أنواعها، أو "الشعر العصري" وغيرها. إلا أن ما يعنيني، في هذه اللحظة من تقدم البحث، يتعدى الوقوف عند هذا النوع الكتابي أو ذاك، ليطاول مباني الكتابة نفسها وتغيراتها الاجتماعية، إن جاز القول، سواء ما يَظهر في الكتابة نفسها، أو ما يَظهر في إقبال الكاتب على الكتابة.
فالكاتب جبران نحاس عقد، في كتاب، "مناظرة السيف والنجار"، بينما أقبلت هند رشيد خازن على نشر مفكراتها، ووضعَ جرجي نخلة السعد كتاباً بعنوان: "ما أحب وما أكره"، وانصرف حنا خباز إلى الكتابة عن أسفاره في العالم، ما ظهر في عنوان أول: "حول الكرة الأرضية" (ثم بدله في عنوان آخر: "لطائف أخباري في متاحف أسفاري")، وهو ما فعله نسيم خلاط في أسفاره في غربي أوروبا، وفؤاد صروف في: "سفير أميركاني في الأستانة" وفي "مشاهد العالم الجديد". وهي عينات متفرقة لِسُبل في الكتابة، جديدة في موضوعاتها، أو في ما تعلنه الكتابة نفسها من خيارات فردية، ما انتهيتُ إلى تعريفه بـ
"الكاتب المنفرد".
هذا ما بلغ عند أمين الحداد، الناثر والشاعر، حدود تجريب كتابة "اليوميات" (في: "منتخبات" من شعره ونثره صدرت بعد وفاته، في طبعة صدرت عن مطبعة جرجي غرزوزي، الاسكندرية، 1913). يبدأ الحداد "اليوميات" (كما يسميها بنفسه) بالحديث عن "وحي الضمير"، في إشارة إلى الدوافع الفردية، الخصوصية، التي تُملي على الكتابة ما تقوله: "اعتادَ جمهور من أولي الفضل، ولا سيما الملوك في أوروبا، أن يدونوا أخبار أيامهم، ويؤرخوا ذواتهم، قصدَ أن يكون كلامهم عن نفوسهم أصدقَ من كلام سواهم عنهم. وإنني قد قصدت أن أتبع طريقتهم، وإن لم يكن لتاريخي أهمية تواريخهم"، ما يجتمع "في هذا الدفتر، أو "اليومية"، كما يسميه الإفرنج". إلا أن فكرة كتابة "اليومية" سابقة على البدء بها، "حتى عاودني هذا الخاطر في ظهر هذا اليوم، وكنتُ في شارع شريف باشا، فملتُ إلى دكان ورّاق أو صحفي أو صحافي، لأنه يجمع كل هذا، واشتريتُ منه هذا الدفتر بغرشين صاغاً (...)، مع قلم من الرصاص بنصف غرش، وكأني قد استشعرتُ بأن يومية كهذه مما يحسن أن تبقى". وينهي يوميته هذه، الأولى، بالقول: "قد يبدو للقارىء من ضروب إفشائي عن نفسي ما لم يكن يخطر ببال، ولا سيما أن هذه اليومية قد تُكتب أو يُكتب أكثرها ساعة خلوتي في شرابي".
ومما يتضح أن الكاتب يُجري – احتفاء مزيداً بما يقوم به – عرضاً، أو مشهداً لما يبدأ به؛ بل يتبعه بما هو أصعب قبولاً من غيره، وهو أنه يكتب "أثناء الشراب"، ما له معنى مزدوج: التصريح بالشرب، وربط الكتابة الخصوصية بالشرب (وهي ربما إشارة خفية، إلى عادات "الشعراء الملاعين"، مثل رامبو وفارلين وغيرهم ممن اعتمدوا "المسكِّرات" للكتابة). وهو ما يستكمله بثانية، "حالي"، يفتتحها بالقول: "أنا الآن في نحو السابعة والثلاثين من عمري...". ويشرع، في اليوم التالي، في 11 تموز-يوليو من العام 1904، وهو عنوان اليومية الثالثة، بتأريخ كل يومية بتاريخها: "هذا هو اليوم الأول الذي تبدأ به هذه اليومية، وإنه مما يحسن أن تقدَّم بتاريخي فيه، فإنني في هذه الساعة لدى حانة أتردد عليها من سنوات". ثم يتابع في مقالة ثانية تحمل العنوان: "14": "منعني شاغل أن أدوِّن في يومَي 12 و13 شيئاً مما حدث. وقد كان أخص تكليف السيدة ألكسندرا (فيرينوه، صاحبة مجلة "أنيس الجليس"، التي كان يعمل فيها) بنظم مدحة إلى شاه الفرس، وقد نظمتُها فجاءت كأنها ليست مني (...). ولهذا فإنه إذا طُبع في ديوان فإنه يكون عشرَ الذي نظمته حقيقة، لأن التسعة الأعشار غير صادرة عن النفس". ثم مقالة أخرى بعنوان: "21"، يقول فيها: "امتنعتُ عن الكتابة منذ 14 الشهر، لأن كتابتي تكون ساعة شرابي في الظهر".
يتوقف في "مختارات" نشر هذه اليومية، من دون أن نعلم ما إذا توقف عنها فعلاً، أم أن حنا سركيس (جامع المختارات) قد اكتفى منها بهذه؛ ذلك أن ما يتبعها في "مختارات" يتعين في مقالات "عامة"، لها عناوين كهذه: "نساؤنا والقمار"، و"الحرب"، و"دولة المرأة"، و"الكبرياء والجمال"، و"آداب الكاتب" و"الشعر العصري" و"الاسكندرية ومتحفها" وغيرها. وهو ما يُخرج "اليوميات" من سياقها الفردي صوب سياق أكثر عمومية، ويخص تكفل الكاتب بمسائل الثقافة والمجتمع.
وقد يكون التوقف عند "مذكرات" الدكتور شبلي الشميل (1850-1917) مناسباً لمعرفة ما يبرز من إمساك الكاتب بموجبات التأليف إمساكاً فردياً. فقد كان الشميل يتوخى إصدار "المذكرات" تحت عنوان: "حوادث وخواطر"، ما ظهر متفرقاً في جرائد ومجلات قاهرية مختلفة ("الأهرام"، "الهلال"، "مصر الفتاة"، "الشفاء"...)، من دون أن يجمعها – قبل وفاته – في كتاب (وهو ما تصدى له الباحث أسعد رزوق، إذ جمعها من متونها المختلفة، وأصدرها في كتاب يحمل العنوان نفسه: "حوادث وخواطر"، دار الحمراء، بيروت، 1991). وعنوان الكتاب دالٌّ في حد ذاته على ما تباشره الكتابة، وتضطلع به. فالثنائية التي ينهض عليها تشير إلى رسم حدود واتصال: بين "الخارج" (وهي "الحوادث") وبين "الداخل" الإنساني (وهي "الخواطر").
وهو ما يوضحه الشميل في "مقدمة" مذكراته: "عُنيتُ في صيف عام 1912 بتقييد بعض حوادث مما مرَّ علي، وتعليق بعض خواطر مما يعنُّ علي، عساي أجد فيها ما أُشغل به أوقات الفراغ وأفرغ كرب العزلة. حتى إذا كاد الصيف ينقضي نشبت الحرب البلقانية، فوقفتُ في تلك حيث وقفت وعلقت على هذه ما علقت. ثم ضممت إلى ذلك بعض ما تيسر لي العثور عليه من مطوي لم يُنشر ومنثور مبعثر. وجمعت الكل في هذا الكتاب فجاء "من كل واد عصا"، أو من كل نبتة زهرة – على ذوق القارىء – وسميته: "حوادث وخواطر" ". غير أن الكتاب لم يصدر على حدة، وهو ما استدعى تحقيقه ونشره من قبل رزوق.
يعمل الشميل على إيضاح مقصده، فيقول في تعريف "الحوادث": "حوادث هي بعض مذكراتي في حياتي القليلة الاختلاط، الكثيرة الاعتزال (...). وإن أكثرتُ فيها المعلقات الخصوصية فلم أهمل من خلالها المرامي العمومية". ويقول في تعريف "الخواطر": "وخواطر هي بعض أفكاري، أُطلقها تجول في ما حولي، وتمرُّ بي حتى أعماق نفسي، وتنطق عن نظري الخاص، ولو خالفتْ أحكامي أحكام سواي". وهو ما لا يلبث، في مقالة أخرى، أن يوجزه في عبارة لافتة: "ما هي إلا حوادث يومي وأفكار ليلي".
يُخبر الشميل قارىءَ هذه "المقدمة" بأنه لم يتبع طريقة الإفرنج في كتابة مذكراتهم، أي تدوين اليوميات، بل انتهج سبيلاً مختلفاً، وهو "التعليق" بمختلف معاني الكلمة. فالتعليق يعني مادياً إسناد شيء إلى ما يثبت عليه (كما العلّاقة للثياب، على سبيل المثال)، وهو ما استند إليه "التعليق" الصحفي، إذ ينبني بالصلة مع حدث أو واقعة. لهذا أتت كتاباته هذه مجموعةً من "التعليقات"، أكثر مما رسمتْ مسار حياة بأيامها ومجرياتها وتعبيراتها؛ وهو ما اتخذ شكلاً مخصوصاً في تكوين الكتاب: المتفرق، بل "المبعثر"، كما يصفه. وهو يخالف في ذلك صورة تمامية للكتابة والكِتاب، على ما كانت عليه في عهدها السابق.
وما يستوقف في ما قاله الشميل عن نفسه، وعن كتابته، التباين التلازمي بينهما. فحياته "قليلة الاختلاط"، و"كثيرة الاعتزال"، من جهة، وما يكتبه لا يبتعد عن "المرامي العمومية"، من جهة ثانية. وهو وجه أول، أو صياغة أولى، لما سيكون عليه الكاتب، وكتابته. فالكاتب بات يستقل برأيه، بل يقوم رأيه على ما "يعنُّ على خاطره"، ما يباين ما كانت عليه موجبات التأليف السابقة: لم تعد كتابة الكاتب تصدر عن معرفة "مدفونة" في متونها، إذا جاز القول، ويطلب استخراجَها، وإفادةَ الناس منها، على أنه "عالِم" و"مفيد" في عمله، وإنما تصدر الكتابة عما يدور في عالمه الخصوصي من أفكار وميول وعواطف واعتقادات وآراء وغيرها.
هذا الوجه الأول يمكن استكماله بوجه آخر، ملازم له: ما يقوم به الكاتب (أي ما يصدر عنه) لا يعنيه فقط، وإنما يتوجه به إلى غيره، إلى "القارىء"، كما يسميه منذ مطلع المقدمة. وهو ما يتعيَّن في الأسلوب خصوصاً، حيث أن الشميل يريد "التقرُّب من العامة" في ما يكتب، فلا يبقى مستغلقاً عليها؛ وهو "الأسلوب الذي ينفتح للجميع".
إلا أن ما سقتُه عن الشميل ومقاصده في هذه "المذكرات" يندرج في ما يمكن تسميته بـ"مأمول" الكتابة، لا حاصلها بالضرورة. ذلك أن تفقُّد "الموضوعات" يشير إلى حوادث عمومية، وما يقوله فيها - وإن يصدر عن رأيه الخاص –، لا يحمل غموض "الليل" وتردداته، وإنما جلاء النهار وجولاته ونظراته "الصاحية"، إن جاز القول. فالشميل يكتب وقائع بعينها في رحلات إلى أوروبا، مما لا يندرج في الشخصي أو الفردي، وإنما يتحدث مثل صحفي مكلف بنقل ما يراه، ويتعرف عليه، ويفكر فيه، إلى قراء الجريدة، على أنه مما يدخل في التنشئة أو الذائقة العامة. أو يكتب عن "معرض باريس العالمي"، ووقائع ثقافية مختلفة، أو يعرض لنا أفكاره في "الاشتراكية الصحيحة"، أو يتتبع ويدقق في علاج أحد الأطباء في مرض بعينه، ما لا يشير إلى ما يعرض له وحده، في "كونه" الخصوصي.
يمكن للدارس أن يتلمس، من وراء هذا كله، رسماً جديداً للكاتب يختلف عن أسلافه، بطبيعة الحال، إلا أنه يقترب من رسم الصحفي، في المقام الأول، وإن يتخذ عند الشميل ملامح تقترب مما يقوله "الطبيب" و"المفكر" في آن. أي أنه رسمُ كاتبٍ "نافع" و"موجِّه" في الوقت عينه، ما يجتمع في "المرامي العمومية"، كما حدَّدها بنفسه. وهو ما يجمعه بالحديث عن "شغف في النفس"، وعن "مقاصد عامة نبيلة". وقد يكون وصفُ الشميل للأفغاني مرآةً لما يريد أن يصف نفسه به: "شجاعة في القول لا تصدر إلا عن نفوس مستقلة كريمة".
كان الشميل يعتقد تمام الاعتقاد بأنه "شجاع في قوله"، لما كان يختلف به عن أقرانه، ولا سيما الكتاب منهم، حيث أنه كان يعتقد بآراء (داروين في نظرية "الأنواع"، الاشتراكية...) تخالف الساري والمقبول في زمنه، مسلحاً في ذلك بما للطب من قناعات وتوصلات راسخة في ما تقوم وتضطلع به، وهو القائل في كتابه: "لا ينبغي للإنسان العاقل أن ينبذ حقيقةً لقلةِ نصرائها، وكثرةِ أعدائها. فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. فكم من حقيقة ضاعت لكثرة الجلبة، ثم كانت لها الغلبة بقوة الحق"؛ وهو ما ردَّده بعبارات أخرى في مقالات أخرى.
3 . د . المرأة و"علانيتها" الكتابية
هذا الاستقلال بالرأي، أو "اشتقاقُه" بناءً لعقيدة خصوصاً، يمهد من دون شك لقيام كاتبٍ حاملٍ وداعيةٍ لحقيقة اعتقادية (على ما اضطلعتْ به أدبيات "اليسار" خصوصاً في عقود لاحقة). إلا أن هذا يشير، في جانبه الاجتماعي، إلى انصراف الكاتب انصرافاتٍ جديدة، بعيدة عن الأصل والهوية الجمعية، ما يجعله يتدبر بنفسه اعتقاداً يُمسك به فردياً ويُديره بنفسه.
وقد يكون انصراف المرأة إلى الكتابة أشدَّ تعبيراً عن الحراك هذا، إذ أنه يضع المرأة، وتضع هي نفسها، في وضع مختلف، اجتماعي قبل أن يكون تعبيراً اعتقادياً أو كتابياً. وهو ما يجتمع في معان مختلفة لـ"العلانية". هذا ما سبق أن توقفت عنده (في كتابي: "العربية والتمدن..."، وفي دراسات لي عن تغيرات المشهد العمراني ابتداء من النصف الأول للقرن التاسع عشر، وبتفاوت واختلافات بين المدن العربية)، وأشرتُ فيه إلى خروج البيت العربي من صيغة "التحصن" و"الاحتماء"، المبنية على بناء عائلي "منغلق"، إلى صيغة "الانفتاح" على الخارج، ما أُشير إليه رمزياً ومادياً في بناء النافذة بدل "المشربية" و"الرواشن" و"الشناشيل" وخلافها، وفي بناء "الشرفة" وغيرها. وهو ما تعيَّن في التنظيم المُدني والاقتصادي في بناء مختلف للشارع (وأنواعه)، وفي بناء "واجهات" للدكاكين، ما كان له أن أفرز اعتيادات وسلوكات: هذا ما جعل التبضع مقروناً بالتنزه (ما اكتمل في إنارة الشوارع ليلاً، على ما يشير إليها أكثر من كاتب، مثل الشدياق وغيره): بات الشاري-المتنزه قادراً على التعرف على محتويات الدكان قبل الدخول إليه، وقد يتنزه أكثر مما يشتري بحجة أنه يتمشى ليشتري. وهو ما أَدخل "التنزه" في العادات اليومية لسكان المدن خصوصاً، على ما تذكره "تقارير" رحالة مستشرقين (عن خروج أهل بيروت لسماع العزف الموسيقي المخصوص الذي تجريه فرقة عثمانية عند الغروب، في "رأس بيروت").
إلا أن "العلانية" عنتْ كذلك خروج المرأة من البيت، للتبضع أو التنزه، على ما يذكر أكثر من رجل دين في "رحلاتهم"، في بيروت على سبيل المثال، مستنكرين ومنددين، على أساس أن "النظر بريد الزنى"، مثلما كتب الشيخ عبد الجواد القاياتي في رحلته. وهو ما ينتقده في وجه آخر، وهو إقبال بعض السيدات على "السفور" (ما سيبلغ طلباً علنياً في القاهرة في العقدين الأولين من القرن العشرين)، ما يُعدُّ وجهاً آخر من العلانية المذكورة: يقول عبد الفتاح عبادة: "وحدث في العائلات (المصرية، في السنين الأخيرة، أثناء التظاهرات السياسية التي شاركت فيها المرأة المصرية، وينشر عبادة صوراً لها في كتابه) بعض التغيير، فشاهدنا النساء يخرجن لقضاء حاجاتهن، ويترددن على المنتزهات وغيرها، ويتعاملن مع الرجال بأنفسهن" (عبد الفتاح عبادة: "نهضة المرأة المصرية والمرأة العربية في التاريخ"، مطبعة الهلال، 1919).
إلا أنه يتوجب، قبل ذلك، أو معه، الحديث عن علانية تعليمية تمثلتْ في فتح مدارس مخصصة للإناث: افتتحتْ الإرسالية الأميركية أول مدرسة لتعليم البنات في بيروت، في العام 1834، ثم افتتحت بعثة تبشيرية مدرسة ثانية، بعد عشر سنوات في القاهرة... وإذا كانت وردة ناصيف اليازجي تعلمتْ في كنف عائلتها، فإن مريانا مراش (المولودة في حلب في 1848) ذهبت إلى المدرسة المارونية، قبل أن تتابع دراستها في مدارس أخرى؛ وهو ما فعلتْه ملك ناصف (التي تُعد، في حساب بعضهم، من أوائل المتعلمات في مصر) إذ دخلت المدرسة في القاهرة، وحصَّلت الشهادة الابتدائية بلوغاً إلى الشهادة العالية (الدبلوم)، قبل أن تعمل في تعليم البنات... إلا أن مريانا هي بنت أبيها الضالع في العلم والكتب، فتح الله مراش، وأخت كاتبَين: فرنسيس وعبد الله؛ أما ملك ناصف، المعروفة باسم "باحثة البادية" (1886-1918)، فهي بنت اللغوي حفني ناصف (والذي كان مفتشاً للغة العربية في وزارة المعارف، ثم قاضياً)... وهو ما لخصتْه وردة اليازجي في قولها (في قصيدة) لكاتبة بنت موسى بسترس:
سميت كاتبة بكل لياقة وأنا كما تدرين بنت الكاتب.
كما وجب البحث أيضاً عن نطاق أو وجه جديد للعلانية، وهو العلانية الكتابية؛ وهو ما طلبتْ الكاتبة وردة اليازجي التدقيق فيه، فتوقفت في مقالة لها – هي الأولى في نوعها على الأرجح – عند الكاتبات العربيات "الرائدات" في التاريخ (راجع: "المرأة الشرقية"، منشورة في كتاب: وردة اليازجي: "حديقة الورد"، ويليه: "المرأة الشرقية")، فتحدثت عن عدد منهن: علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد، وفضل الشاعرة (من مولدات البصرة)، ومحبوبة الشاعرة (من جواري المتوكل)، وعائشة الباعونية بنت يوسف بن أحمد الباعوني، والشاعرة الغسانية البجانية، وحسانة التميمية بنت أبي الحسين الشاعر، وأمة العزيز الشريفة الحسنية، وعائشة بنت أحمد القرطبية، فضلاً عن شاعرات أندلسيات. كما تَذكر اليازجي أسماء عدد من الكاتبات في زمانها، وهن "لا يكدن يبلغن عدد أصابع اليد، كالمرحومة عائشة تيمور، والسيدة زينب فواز، والسيدة لبيبة هاشم وقليل غيرهن".
وقد يجد البعض في تنظيم بعض النساء لـ"صالونات" تضم الأدباء دلالةً على اضطلاع المرأة بدور أدبي وثقافي مؤثِّر، مثلما فعلت مريانا مراش في حلب، ونازلي فاضل ولبيبة هاشم وهدى شعراوي قبل مي زيادة في القاهرة، وماري عجمي في دمشق وغيرهن. بل قد يذهب البعض إلى جعل هذا التدبير تجديداً لتقليد قديم، أقدمتْ عليه، حسب البعض، سكينة بنت الحسين في الحجاز، وعائشة بنت طلحة وجميلة في العهد العباسي، أو فضل العبيدية في بغداد، وولادة بنت المستكفي وعائشة القرطبية في قرطبة، ونزهون الغرناطية، وغيرهن. إلا أن هذا الدور نشأ بفعل تأثر "المتأدبات" بتقليد فرنسي راسخ عشية "الثورة الفرنسية"، عدا أنه كان يوافق احتياج الدورة الثقافية والأدبية المستجدة إلى محلات تداول ونقاش ما كانت تتيحها "النوادي" أو "الجمعيات" وغيرها. وهو ما استطاعه عدد من "أقطاب" الرأي، مثل الكواكبي أو الأفغاني وغيرهما، ممن نجحوا في جمع مؤيدين ومريدين من حولهم؛ بل يذهب سليم عنحوري إلى القول إنه كان للأفغاني صالون "سيّار"، يتنقل بتنقله، فيتحلق حوله في "هيئة نصف دائرة".
إلا أن التحقق من علانية كتابية يتمثل في التعرف على نساء أقبلن على الكتابة، وهو ما تتبعَه ودرسَه جرجي نقولا باز في كتاب أَطلق عليه اسم: "النسائيات" (جرجي نقولا باز : "النسائيات"، منشور في جريدة "الحقيقة"، 1919). ولقد توقف باز عند بعض هذا التاريخ، فلحظ أنه بات للمواضيع النسائية "شأن" في الصحف، فما "أهملتها ولا صحيفة"؛ بل يفيد أن بعض الصحف ما عاد يكتفي بتخصيص "أبواب" للمرأة، وإنما يكرس لها مجلات بعينها، مثل: "الحسناء" و"العروس" و"فتاة لبنان" و"الفتاة" و"الفجر" و"الخدر"، وغيرها في مصر وأميركا.
ويعزز باز كتابته هذه بإيراد أبيات شعرية منتخبة لعشرين أديبة لبنانية وسورية، ما بلغ زهاء مئة وخمسين بيتاً؛ وهن الأديبات: وردة اليازجي، مريانا مراش، سلوى سلامة (1883-1949)، لبيبة هاشم، مريم خالد، وردة الترك، ماري عجمي (1888-1965)، لبيبة فريج، حنينه خوري، جوليا طعمة دمشقية (1883-1954)، حبوبة حداد، زينب فواز (1846-1914)، مريانا المر، لبيبة صدقه، هنا كوراني، سارة صبرا، عفيفة كلارجي، كرستين خوري وفريدة بستاني.
قام دور هذه الرائدات على "الجهاد النسائي" (مثلما كتب باز نفسه)، بدليل إقدامهن – فضلاً عن الكتابة الصحافية – بأدوار سياسية، تمثيلية للمرأة العربية، ولا سيما زينب فواز منهن، التي اشتركت في "مؤتمر النساء العالمي" في سانتياغو (التشيلي) في العام 1893 . إلا أن بعضهن انصرفن – إلى كتابة المقالات والروايات وغيرها – إلى الشعر، مثل: عائشة عصمت بنت اسماعيل تيمور، ووردة اليازجي، ومريانا المراش.
ومن يتتبع مجموعاتهن الشعرية يلاحظ أنها ما تعدت الكتاب الواحد لكل منهن؛ والأبين من ذلك كله، هو أن كل شاعرة تدبرت سبيلاً "حيياً" بطبيعة الحال للخروج إلى "العلانية" الشعرية. فالثلاثة المذكورات ينتسبن إلى عائلات أتاحت لهن مثل هذا الخروج، بالإضافة إلى البيئة الشعرية المناسبة لتوليد خبرتهن. ومع ذلك تحتاج عائشة – بما أنها من "القاصرات من ذوات القناع"، حسب لفظها – إلى عرض ديوانها على "بعض الأفاضل من نبلاء هذا الزمان"، ما جلب لها بعض "التقاريظ". وهو ما تحتاجه في صورة أبين إذ تُقدِّم كتابها، فتشير إلى إقدام غيرها قبلها على كتابة الشعر، مثل الولادة بنت المستكفي أو... وردة اليازجي نفسها: "فما منهن إلا من بدأت في الشعر، وأعادت وأجادت في مضمار البيان وأفادت. وقد كنت، وزهرة الشبيبة غضة، وجيوش الهموم عن فكرتي منفضة، أهصر من فنون الأدب كل فنن، وأصرف في نظم القريض، على سبيل التأدب، برهة من الزمن. فكنت أنظم الشعر باللغة الفارسية والتركية، وآونة في اللغة الشريفة العربية، متى اجتمعت عندي منه جملة كافية، ولصدر المحب شارحة شافية. وقد أحببتُ أن أجمع منه ما كان في اللغة العربية؛ وهيهات أن تُقاس بأفاضل الرجال القاصرات من ذوات القناع" (عائشة عصمت بنت اسماعيل تيمور (باشا) : "حلية الطراز"، المطبعة الشرقية، 1310 هـ).
وهو ما يتحقق منه الدارس عند مراجعة ديوان "حديقة الورد" لوردة اليازجي، التي "قرَّظت" الشاعرة عائشة في قصيدتين، بل توقفت في شعرها عند أكثر من كاتبة وشاعرة، مثل وردة بنت الشاعر نقولا الترك وغيرها. ويتضح في شعرها حديثُها عن خروج المرأة من الخدر إلى النور، فتقول في وردة الترك إنها "توارت عن الأبصار في الحجب"، قبل أن تبرز خير بروز بفنها الكتابي؛ وهي الاستعارة عينها التي تستخدمها لوصف صنيع عائشة، إذ تقول فيه إنها مثل البدر الذي "يلوح من الغدائر تحت حجب".
وهو ما تجد مريانا مراش ضرورة لفعله، في تقديم كتابها الدال في حد ذاته: "بنت فكر" (مريانا مراش : "بنت فكر"، 1893)، إذ يحفل التقديم بإشارات دالة على حياة "الخباء": "سادتي، إني دعوتها بهذا الاسم، لأنها نتيجة أفكار بديهية صادرة عن قريحة غريزية. بنتُ فكر قد خرجت من الخباء، وعلى وجهها برقع الحياء، تمشي الهوينا تحت ظل أهل الأدب، فلا حرج عليها، ولا عتب، تلتمس من مطالعيها أن يغضوا الطرف عن قصور معانيها، وأن يحيوها بالسلام، ويزيحوا عن محياها ذاك اللثام، لأنها فتاة عثمانية تروم التعاضد والتساعد مع بني جنسها، لتسرح وإياهن في هذا الميدان، للوصول إلى شجرة الفوائد، التي تحمل درراً، فيلتقطن منها الفرائد، وينظمنها ويحلين جيدهم وجيدها بها. فيا لها من عقود وقلائد! فتنجلي حينئذ تلك الخريدة كالعروس ما بين كواكب وشموس، تشرق من الشرق، فيمتد ظلها إلى الغرب، حيث مقرُّ النور ومركز الحور".
وفي إمكان الدارس أن يجد سنداً لمثل هذا التسويغ في أشعار هذه وتلك، حيث أن التيمورية تتحدث عن أن "خدرها" ما ساء إليها، وأنها "تركت الحب" في شعرها "لا عن عجز طول"، و"لا عن لوم واشٍ أو رقيب". ووجدتْ مريانا في موت أخيها فرنسيس ما سهَّل لها لبوس الشاعرة الراثية، مثل الخنساء.
4 . الأدب: التشكيل الجديد
سبق أن طرحتُ السؤال التالي: هل يوافق دخولُ الطباعة إلى ثقافة ما، مثل الثقافة العربية في القرن التاسع عشر، دخولَ منظور جديد إلى الكتابة نفسها، فلا يقتصر الانتقال من عهد نسخي إلى عهد طباعي على الشأن المادي الصرف، بل يطاول أيضاً مباني الثقافة وتعبيراتها؟
ما يمكن التنبه إليه هو أن ما ورد أعلاه من كلام عن "المجالس" و"اللطائف" بقي في الغالب منطوياً على فعله نفسه، إذ قلما يفيد هذا العالِم أو هذا الشاعر عما كان يدور بينهم في مداولاتهم، كما لو أن الأمر محصور بهم وحدهم من دون غيرهم. وقد يكون انتقال بعض هذه المداولات إلى الصحف والمجلات خروج أول على هذا التقليد الاجتماعي الذي بات يتنبه إلى وجود "القارىء"، أو "المثقف" في تجلياته الأولى في الدورة الثقافية العربية المستجدة في القرن التاسع عشر. إلا أن هذا الخروج عنى نقل الثقافة السابقة إلى حامل مادي جديد ليس إلا، مثل إقدام الشيخ ناصيف اليازجي، على سبيل المثال، على نشر ما تبادله مع أقرانه من الشعراء وغيرهم، في مصر والعراق وغيرها، من مراسلات وقصائد، كما سبق ذكره. وهو ما يبلغ، بعد وقت، عند الشاعر أبي الهدى الصيادي، الكلامَ عن انتقال من "مجالسة الأحباب" إلى "مجالسة الكتاب" (في تقديم كتابه الشعري، "روضة العارفين"، 1905). فماذا عن الكتاب؟
4 . أ . لحظة-دلالة أولى: "أدب العاقل"
"كتب الناس، لمدة خمسة وعشرين قرناً، أعمالاً نُطلق عليها اليوم أدباً، لكن المعنى الحديث للأدب لم يظهر إلا منذ قرنين فحسب. ويعني الأدبُ – أو المصطلحات المماثلة – في اللغات الأوروبية الأخرى، قبل عام 1800 أيَّ كتاب في المعرفة" (جوناثان كلر: "مدخل إلى النظرية الأدبية"). ما يتحدث عنه كلر "متأخر"، إذا جاز القول، ويشير إلى ما أصاب اللفظ اللاتيني الأصل (litterarius) من تغيرات دلالية، قبل العام 1800 مباشرة وبعده. وهو لا يتوقف عند المعنى الأول - بل الأقدم في الثقافة اللاتينية - لهذا اللفظ، والذي تعيَّن في تداخل دلالي بين القراءة والكتابة. ولهذا وجب اعتبار المعنى التالي (الأدب هو "أيُّ كتاب في المعرفة"، حسب كلر) نوعاً من "تخصيص" المعنى، ما كان يشير خصوصاً إلى الثقافة "العالِمة" تحديداً من دون غيرها. أما المعنى الثالث فتعيَّن في "تخصيص" مزيد أو ضيق للمعنى القديم، إذ جعله – مع التجربة الرومنسية خصوصاً – يشير إلى معنى "جمالي"، فاصلاً بين إنتاجات اللغة، وفيه بين إنتاجات المعرفة وإنتاجات "جمالية". ماذا يمكن القول في معاني "أدب" بالعربية؟
هذا ما يتعين – على ما تحققتُ ودرستُ – في ثلاث "لحظات":
طلبتُ الوقوف، في لحظة أولى – لا الأولى – ابتداءً من كتاب ابن المقفع الدال منذ عنوانه: "الأدب الصغير والأدب الكبير". يقول ابن المقفع: "للعقول سجيات وغرائز بها تَقبل الأدب، وبالأدب تنمي العقول وتزكو"، ما يشبِّهُه بعمل الحبة المدفونة في التراب، التي لا تَقدر أن تَخلع يبسها وتُظهر قوتها وتَطلع من الأرض إلا بمعونة الماء: "فكذلك سليقة العقل مكنونة في مَغرزها من القلب: لا قوة لها ولا حياة بها، ولا منفعة عندها، حتى يعتملها الأدب، الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها". ويشير هذا الكلام إلى أن "الأدب" ينمي العقول، وهو ما يقوى على السليقة، ويتحصل في التعلم: "وجلُّ الأدب بالمنطق، وجلُّ المنطق بالتعلم. ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي، مُتَعلم، مأخوذ من إمام سابق، من كلام أو كتاب". وما يطلبه ابن المقفع من أقواله هذه يتعدى التعريف الحصري، ويشمل ما يجتمع في استهدافات عقلية واجتماعية وتربوية، وهي: "أدب العاقل". فهو يتبين، في كتابه، سبلَ الخروج من "الجهل" ومن "الخطإ"، بلوغاً
إلى "العقل" و"الصواب". وهو ما يلتقي في فضائل وخصال مختلفة، مما يقوم في محاسبة النفس وذكر الموت والعزم، وفي تبني "الرأي" لا "الهوى"، لأنهما "عدُوّان": إنه تعليم النفس وتقويمها في السيرة والرأي واللفظ وغيرها.
يتبين من دلالات الألفاظ، ومن سياقاتها، بروز إضافات جديدة إلى معنى "أدب"، تبتعد عما كانت عليه في العهد الجاهلي، وتغتذي من التجربة الإسلامية تحديداً. فلو نظر الباحث المدقق إلى استعمالات "أدب" في الشعر الجاهلي، لوجد أن طرفة بن العبد يقول:
أدِّبْ وليدَكَ وانظرْ من يجالسُه ما دمتَ تملكُه أو من يماشيه.
وهو معنى دال على التربية التي يُحصِّلها الفتى في عائلته، ومن والده، ويشير إلى ما قد يهدد هذه التربية من معاشرات ومخالطات قد تفسد "أدبه" بالتالي.
كما نجد الشاعر الأعشى الكبير يقول في أحد أبيات قصيدة له في المدح:
جَروا على أدبٍ مني بلا نزقِ ولا غذا شمَّرتْ حربٌ بأغمارِ.
ويدل معنى "أدب" في البيت المذكور على معنى قريب من السابق، إذ يتحدث عما يُحصِّله الإنسان من أخلاق الناس، أي ما يتعلمونه من محامد وما ينهونه عنه من مقابح.
ولا يحتاج الدارس إلى تحليل شديد لكي يتوصل إلى معرفة أن المعاني الواردة في كلام ابن المقفع تختلف عما ورد في الأشعار الجاهلية: تختلف معها وإن تلتصق أو تضاف إليها. فمعاني "أدب" عند ابن المقفع تتحصل في تربية أوسع، تشمل "التعليم"، عدا أنها تتبدل في دلالاتها الاجتماعية كذلك. فمعاني "أدب" تناسب في كلام ابن المقفع "مجتمع الخاصة"، وتشتمل على ثقافة وسلوك وخصال وغيرها، أي ما للخاص أن يبلغه ويتعلمه ويتمرس به لكي يبلغ فئة "العاقلين". فابن المقفع يدعو العاقل إلى عدم الاندماج في بيئة الجاهلين، بل أن يحترز منهم ويخشاهم: "على العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبسَ لهم لباسَين مختلفَين. فطبقة من العامة يلبس لهم لباسَ انقباضٍ وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباسَ التشدد ويلبسُ لباس الأنَسة واللطفة والبذلة والمفاوضة. ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحداً من الألف، وكلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء". بل يدعو العاقلَ إلى شيء من النفاق الاجتماعي، أو المداهنة، فيمتنع عن تخطئة الجاهلين: "لا تجالسْ امرأ بغير طريقته، فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعيي بالبيان، لم تزد على أن تضيع علمك وتؤدي جليسك بحملك عليه ثقلَ ما لا يعرف وغمَّك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه عنه. واعلمْ أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عابوه، ونصبوا له ونقضوه عليك، وحرصوا على أن يجعلوه جهلاً، حتى أن كثيراً من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به". وهو ما يستكمل في شرحه والتشديد عليه، في إشارات ظاهرة وخفية إلى إقامة الحدود تبعاً للمجالس الاجتماعية و"الأدبية" بالتالي: "اعلمْ أنك ستسمع من جلسائك الرأي والحديث تنكره وتستجفيه وتستشنعه من المتحدث به عن نفسه أو غيره، فلا يكونن منك التكذيب ولا التسخيف لشيء مما يأتي جليسُك. ولا يجرئنك على ذلك أن تقول: إنما حدَّث عن غيره، فإن كل مردود عليه سيمتعض من الرد. وإن كان في القوم من تكره أن يستقر في قلبه ذلك القول، لخطإ تخاف أن يُعقد عليه (أي: أن يُبنى عليه)، أو مضرةٍ تخشاها على أحد فإنك قادرٌ على أن تنقض ذلك في ستر، فيكون ذلك أيسر للنقض وأبعد للبغضة".
وتحصيل "الأدب" يجعل من مريده "طالباً"، وهو ما يحصل في "معاشرة" الخاصة، ابتداء من السلطان وصولاً إلى الأصدقاء، وفي تجنب العامة. وهذا يتعين في مجموعة من الفضائل: طاعة، احتراز، صبر، تواضع، مرؤة وغيرها. إلا أن سلوك طالب الأدب يتحصل كذلك بالتعلم، وفي علوم له أن يعرف منها "الأصول من الفصول"، ما يصيب كتابات الشعر والنثر وغيرها من "المليح والرائع من الأحاديث".
4 . ب . لحظة-دلالة ثانية: "الأدب"، أو علوم العربية
طلبتُ الوقوف، في لحظة ثانية، عند دلالة جديدة، تنضاف إلى السابقة، ابتداء من عدد من الكتب، مثل كتاب ابن الأنباري: "نزهة الألباء في طبقات الأدباء"؛ بل يمكن الحديث عن لفظ جديد مشتق، ما عاد يكتفي بالحديث عن "طالب الأدب"، بل عن "الأدباء" (كما ألقاه أيضاً ابتداء من عنوان كتاب حازم القرطاجني: "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"). ومن يتصفح تراجم هؤلاء "الأدباء" يجد ما يفيد عن "الأدب"، وعن تعيين محتوياته: فالترجمة الأولى، عن نصر بن عاصم الليثي، تفيد أنه كان "عالماً بالعربية"، وهي الصفة عينها التي يُطلقها ابن الأنباري على عدد من التراجم اللاحقة. ويتضح من تتابع هذه التعريفات وثبوتها أن "العالِم بالعربية" هي الصفة الجامعة، وتُعَيِّن حمولات متعددة بالضرورة، ويُفرِّعُها كاتبُ الترجمات إلى اختصاصات مختلفة، فيقول في أبي داود – فضلاً عن أنه عالِم بالعربية – إنه "أعلمُ الناس بأنساب العرب"؛ وفي يحيى بن يعمر إنه "عالِم بالعربية والحديث"؛ وفي ابن أبي اسحق إنه كان "ملماً بالعربية والقراءة"؛ وفي عيسى بن عمر إنه كان "عالِماً بالعربية والنحو والقراءة"؛ وفي أبي عمرو بن العلاء إنه كان "العلم المشهور في علم القراءة واللغة العربية"؛ وفي أبي الخطاب الأخفش إنه كان "من أكابر علماء العربية ومتقدميهم"؛ وفي الخليل بن أحمد الفراهيدي إنه كان "سيد أهل الأدب قاطبة"؛ وفي اليزيدي أبي محمد يحيى إنه كان "عالِماً باللغة والنحو وأخبار الناس"؛ وفي أبي سعيد الأصمعي إنه كان "صاحبَ النحو واللغة والغريب والأخبار والملح"؛ ويقول في أبي حنيفة أحمد بن السكيت إنه كان "ذا علوم كثيرة، منها النحو واللغة والهندسة والحساب والهيئة".
ومن يتتبع صفات الأدباء هؤلاء يستخرج منها عدداً من العلوم، مثل: القراءة، وأنساب العرب، والحديث، والنحو، وأخبار الناس... وقد يفيد التوقف عند ترجمة هشام بن محمد بن السائب الكلبي، إذ يقول فيه ابن الأنباري: "كان عالِماً بالنسب، وهو أحد علوم الأدب، فلهذا ذكرناه في جملة الأدباء". كما يحدِّد ابن الأنباري في التراجم أن هذا الأديب أو ذاك "أخذَ الآداب عن..." (وفي صيغة أخرى: "أخذَ الأدب عن...")، ما يشير إلى التعلم؛ كما يقول في ترجمة أحدهم: "جالسَ الأدباءَ فأخذَ عنهم وتعلَّمَ". وأكثرُ ما يرد في تعريف أعمال هؤلاء أنهم وضعوا "مصنَّفات" في هذا العلم أو ذاك، مثل الحديث عن أن الجاحظ كان "مصنِّفاً في فنون العلوم". كما يَرِدُ عن بعضهم أنه كان "مؤدِّبَ" هذا أو ذاك من أولاد الأمراء، مثل أبي يوسف يعقوب بن السكيت الذي كان "مؤدِّبَ" ولد جعفر المتوكل على الله، أو مثل أبي جعفر محمد بن عمران الكوفي الذي كان "مؤدِّبَ" عبد الله المعتز بالله؛ أو مثل أبي البركات ابن السيبي، "مؤدِّبِ الخلفاء"؛ وهو ما كان يطلبه الخلفاء، بل كانوا يعمدون إلى إجراء "امتحانات"، مثلما فعل المتوكل، لاختيار مؤدبي ولدَيه، المنتصر والمعتز.
يذكر ابن الأنباري المتنبي في عداد الأدباء، إلا أنه من الأمثلة القليلة، حيث عنى الأدباء علماء في الغالب، فيذكر للمتنبي بعض مساجلاته اللغوية، فضلاً عن أخباره الشعرية. ويتحقق الدارس من أن بعض التراجم تزيد عن هذه الصفات، إذ يقال في يعقوب بن الربيع، أخ الفضل بن الربيع، إنه كان "أحد الأدباء الشعراء"؛ وهو ما يقال في غيره من مثل كونه "أديباً شاعراً". ويعدد ابن الأنباري "علوم الأدب"، وهي ثمانية: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم؛ كما ألحق بها علمَين "وضعناهما"، وهما: علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو. وهو ما لا يختلف عما يقوله ياقوت الحموي في مقدمة "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب"، وهو أنه جمعَ في كتابه أخبار النحويين واللغويين والنسّابين والقراء المشهورين، والإخباريين والمؤرخين، والوراقين المعروفين، والكتاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل "من صنف في الأدب تصنيفاً". إلا أنه يمكن التحقق من
توسعة حاصلة في فئات "الأدباء"، على ما يمكن ملاحظته في كلام الحموي، إذ باتت تضم – إلى المشتغلين بعلوم "العربية" - مساهمين آخرين، مثل الوراقين، والخطاطين، والقراء والآخرين، ما يندرج في ثقافة أوسع. وهو ما يجعل الدلالات هذه تلتقي مع المعنى الذي وقعتُ عليه في التجربة اللاتينية، التي أشارت إلى أن "الأدب" يعين عالَمَ الكتابة والكتاب، أي عالَم الثقافة العالِمة.
وهو ما يبلغ في "مقدمة" ابن خلدون حداً ناجزاً من التعيين والتبلور، إذ يعرِّف "الأدب" بقوله: "الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذُ من كل علم بطرف". يخصص ابن خلدون فصلاً لـ"علم الأدب" في "المقدمة"، نافياً وجود "موضوع" له: "هذا العلم لا موضوع له"، ذلك أنه ليس للأدب مضمون بعينه، "فينظر في إثبات عوارضه أو نفيها"، وإنما ينظر إليه من جهة "ثمرته"، أي "الإجادة في فنَّي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم". هكذا يُعرِّف ابن خلدون بـ"الأدب"، فهو: "حفظُ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف يريدون به، من علوم اللسان، أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث"؛ كما يضيف إليها "الغناء"، إذ أنه "تابعٌ للشعر". وهي تعريفات مختلفة تلتقي في كونها أبانت اشتقاقات جديدة للفظ "أدب" ("المؤدب"، "الأديب"...)، كما أظهرت دلالة جديدة، تنضاف إلى السابقة، وهي تدل على "علوم" مختصة بـ"العربية".
النقلة كبيرة، توازي ما أقامه أعداد من الكتاب والعلماء في الفترة الكلاسيكية من مجهودات في الدرس، وما تبلور في أبنية دراسية، أطلقوا عليها تسمية "العلوم". وهو ما ابتدأ بالقرآن، وتفرع في مقاربات اختصت به، واستقلت عنه إلى غيره، إلى متن العربية ومتن كاتبيها.
4 . ج . لحظة-دلالة ثالثة: "الآداب"، أو فنّا العربية
يحتاج الدارس إلى نقلات متأنية وفاحصة لكي يتحقق من بروز دلالة جديدة، ثالثة، لهذا اللفظ في العربية، ابتداءً من كتابات عدد من "النهضويين". فلفظ "الأدب"، بل "الآداب"، يبرز منذ عنوان محاضرة بطرس البستاني: "خطبة في آداب العرب" (بيروت، 1859)، ومنذ عنوان كتاب رفاعة الطهطاوي: "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية".
يقول البستاني منذ مدخل "خطبته": "الموضوع آداب العرب، وإن شيتم (شئتم) فقولوا علوم العرب أو فنون العرب أو معارف العرب"، ما يدل على تراخٍ في التعريف، ما هو مدعاة للتنبه إلى حال "التشكيل" الجديد الذي يصيب المفهومات والمعاني، بحيث تتداخل وتختلط، وتتشكل من جديد. إلا أن التردد هذا يخف أو يتراجع ما أن يدقق الدارس في محتويات هذه "الآداب"، إذ يلحظ أنها تشتمل على ما يمكن تسميته بـ"معارف" العرب، أو "علومهم". ويعددها البستاني كما يلي: العلوم اللغوية، المعاني والبيان، والمنطق، والعلوم التعليمية كالحساب والهندسة ومتعلقاتها، والفلك، والطب، والكيمياء، وصناعة الإنشاء، والخطب، والنبات، والزراعة، والتاريخ، والجغرافيا، والشعر.
ولو توقفتُ عند كتاب الطهطاوي (الذي يرقى إلى العام 1869) نتبين فيه أن للآداب معنى لا يبتعد عن المعنى القديم: فقد تحقق الطهطاوي من أنه كان للمصريين، في الأحقاب القديمة، واسطتان "مقومتان" لكمال التمدن والعمران: إحداهما "تهذيب الأخلاق بالآداب الدينية والفضائل الإنسانية"، والواسطة الثانية هي "المنافع العمومية" التي تعود بالثروة والغنى.
وهو لا يكتفي بالعودة إلى تاريخ مصر القديم، وإنما يعود إلى جملة واسعة من "أسانيد" التمدن، أو الدعوة إليها في متون ومرجعيات مختلفة، ابتداء من تاريخ مصر القديم مروراً بالآيات والأحاديث بلوغاً إلى كلام البلغاء وإلى مؤلفات الفرنسيين: فهو قام "بتصنيف نخبة جليلة وترصيف تحفة جميلة في المنافع العمومية التي بها للوطن توسيع دائرة التمدنية، اقتطفتُها من ثمار الكتب العربية اليانعة، واجتنيتها من مؤلفات الفرنساوية النافعة، مع ما سنح بالبال وأقبل على الخاطر أحسن إقبال، وعززتُها بالآيات البينات والأحاديث الصحيحة والدلائل المبينات، وضمنتُها الجمَّ الغفير من أمثال الحكماء وآداب البلغاء وكلام الشعراء". فالحديث عن "الآداب" يحتمل أكثر من معنى قديم: التربية والتعليم، الكتابات المختلفة التي تشمل مواد التربية والتعليم، والسلوكات والقيم المؤدية إلى تحسين الأخلاق والأعمال. كما يستعمل الطهطاوي في كتابه لفظ "المؤدِّب"، إذ يشير، في معرض حديثه عن "آداب" بطريك القبط، إلى أنه كان "المؤدِّب لنفسه" بهذه الآداب. غير أن التحقق من ثبات أو دوام المعنى القديم للآداب لا يخفي ما فيه من معنى جديد أو محول. فإذ يقر الطهطاوي بهذا، لا يمنعه الأمر من مجانبة الجديد وإن بحذر: فالمنفعة، في حسابه، تبقى المعيار الدال على حصول التمدن أو على عدمه: حاجة الوطن الحقيقية أشدُّ من حاجته إلى "تقليد العرف" الذي هو "منفعة ظاهرية"؛ ويتحقق من احتياجات الوطن حسب ما "تقتضيه الأوقات والأحوال".
لا يختلف كتاب الأب لويس شيخو، "كتاب علم الأدب" (1886)، في الجزء الأول، عن سابقيه في تعريف "الأدب". فهو أعدَّ كتابه في للتنشئة الكتابية، ولكي "ينهج لطلاب المدارس طرقَ الكتابة ومعاهدها، ويرشدهم إلى مصادرها ومواردها". وهو ما فعله عائداً إلى قسم كبير من "مصنفات جلة الأدباء المبرزين في إرشاد الكتاب إلى فنون الإنشاء، على مناحي البلغاء"، وهو ما انتهى إلى وضعه في كتاب شامل، في حسابه، لـ"أصول فنون الكتابة"، ومعزز (في صيغة السؤال والجواب) بأقوال الكتاب.
يجتهد شيخو في تدبير معنى واحد لتعريفات ومعان تولدت في سياقات تاريخية مختلفة، وهي المعاني الثلاثة للفظ "أدب"، واجداً لها أصلاً واحداً، وهو "الاحتراز" عن جميع أنواع الخطإ، سواء أكانت أخلاقية أم تعليمية. ويُظهر شيخو هذه المعاني الثلاثة، ولكن في سياقات يرتبها ويعرضها: منها أن الإنسان قد يحوز على أخلاق بالفطرة تقيه أو تحرزه عن الخطإ، مثل الأخلاق الحسنة والصفات المحمودة، كالحلم والكرم وغيرها؛ ومنها ما يكتسبه بالتعليم نفسه، وذلك "بالدرس والحفظ والنظر". ثم لا يلبث أن يضيف المعنى الثالث والجديد، وهو أن للأدب "علماً" كذلك، إذ هو "صناعة" (في طبعة 1886) و"علم صناعي" (في طبعتَي 1899 و1908) "تعرف بها أساليب الكلام البليغ في كل حال من أحواله".
وينطلق شيخو من هذا المعنى الأخير ليشدد على أن للأدب علمه، وأن الدارسين يختلفون في "قسمة" هذا العلم (أو العلوم في كتابات غيره): فمنهم من قسم علوم العربية إلى 12 قسماً (منها أصول ومنها فروع)، وهي: الصرف، والنحو، والاشتقاق، واللغة، والقافية والعروض، والمعاني، والبيان؛ أما الفروع فهي: الخط، والشعر، والإنشاء، والمحاضرات، والتاريخ، وجعلوا البديع ذيلاً لعلمَي البيان والمعاني؛ ومنهم من حصرها في عشرة علوم، هي: اللغة، التصريف، المعاني، البيان، البديع، العروض، القوافي، النحو، قوانين الكتابة وقوانين القراءة. أما شيخو فأخذ علم الأدب بمعنى علم الإنشاء والخطابة وفنونهما نثراً وشعراً، معولاً في ذلك - على ما يؤكد بنفسه - على الأقدمين، بل على السخاري تحديداً في كتابه "إرشاد المقاصد".
ولو عاد الدارس إلى "خطاب" ألقاه جرجي نقولا باز، في بيروت، في 3 كانون الثاني-يناير من السنة 1903، وأصدره في كتاب تحت عنوان: "الآداب" لوجد أن استعمال اللفظ لا يختلف عن سابقه، ولا يزيد عليه: "فإني محدثُكم (...) باحثٌ في نسمات إلهية تهب على الإنسان فتنتعش الإنسانية. هي ما يسمونها الآداب. الفضائل السامية التي هام في حبها الفلاسفةُ والحكماء من قديم الزمان، ونادى بها الكتبةُ والخطباء، وتغزل بأوصافها الشعراءُ والمنشئون". وهو ما يستكمل عرضَه وفق المعنى القديم عينه: "الآداب خير سجية ينشأ عليها الإنسان فتدفعه في وجهة الاستقامة، وتؤهلُه لأسمى المراكز. وأثمنُ حلية يتزين بها، فتجله في أعين رفاقه، وتفيض عليه أنوار المهابة والوقار"؛ و"الآداب منتهى فضائل يمتاز بها الإنسان وجلة محاسن يعتز بها ويفاخر بملاحتها".
ويحافظ جبر ضومط في مبحثه، "ما هو الشعر"، على المعنى القديم لـ "الأدب" المرتبط بـ"التهذيب": "أما العلوم الأدبية فالكلام فيها عن الأخلاق وتهذيبها وعن الواجبات ولزوم القيام بها (...) على أن قضاياها المسلمة والمألوفة، من حيث هي بهذه المنزلة، هي ركن من أركان الشعر، أو مادة من أجلِّ مواده لتعلقها بمدح الفضائل وذم الرذائل ترغيباً في الأولى وتنفيراً من الثانية".
يمكن إيراد شواهد أخرى تدل في الحقبة المدروسة على استمرار استعمالات لفظ "أدب" ومشتقاته ودلالاته السابقة (كما في كتاب حسين المرصفي: "الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية")، إلا أنه لا يخفى على الدارس ظهور مشتقات جديدة، مثل "آداب" و"أدبيات" في عناوين أكثر من كتاب: محمد دياب يرتبك في التعيين، في استعمال اللفظ بين جزئين من كتاب له: عمد إلى تبديل عنوان كتابه، بين جزء وآخر، وبين سنة وأخرى، فصدر الجزء الأول بعنوان "تاريخ آداب اللغة العربية"، في سنة 1899، وصدر الجزء الثاني بعنوان آخر: "تاريخ أدب اللغة العربية"، في سنة 1900؛ وهو ما ظهر أيضاً في عنوان كتاب عاطف بركات والشيخ محمد نصار وأحمد ابراهيم وعبد الجواد عبد المتعال: "أدبيات اللغة العربية".
جرجي زيدان اختار لفظ "آداب" عنواناً لكتابه المعروف، ويوضح فيه المقصود: "نعني بتاريخ آداب اللغة العربية تاريخ ما تحويه من العلوم والآداب. وهو معنى جديد، على ما يتضح، إذ باتت "الآداب" تُعيِّن شيئاً إضافياً على العلوم (التي كانت "تحتكر" وحدها هذه التسمية). وهو يجمع بالتالي بين المعنى القديم (في العهد الكلاسيكي)، ومعنى جديد مستقى من التصنيف الأوروبي (الرومنسي، كما سبق القول)، ويُعيِّن الإنتاجات اللغوية الجمالية، أي الشعر والنثر خصوصاً.
وكان كارل بروكلمان قد أفاد عن أن هذا الاستعمال للفظ "أدب" حديثٌ في العربية، يضاف إلى معنيين سابقين له، هما: "التأديب" العربي القديم (ويعني تقويم الشخص وتربيته)، و"الفن الجميل"، بعد أن أخذوا هذا المعنى عن الفرس.
وهو ما يتضح أيضاً في بعض كلام شيخو المذكور أعلاه، وفي معرض كلامه عن "فنون الكتابة"، حيث أنه يوزعها في نوعين: النثر والشعر. فهو يوضح قسمته لكتابه إلى جزئين: "أودعتُ الأول قواعدَ فن الكتابة من نظم ونثر"، و"الثاني قوانين فن الخطابة مردفة بعلم نقد الشعر، وأشفعهما إن شاء الله بكتاب ثالث يتضمن مقالات أشهر كتاب العرب في هذه الفنون". ويتضح في كلام شيخو – على اقتضابه – جملة من الأمور:
- استعمل لفظ "فن" وفق معنى مستحدث يدل على البراعة في النثر أو في الشعر، وما عاد يعني "الفرع" من غصن، أو كتاب أو علم وغيرها؛
- أبعدَ الخطابة عن فني الشعر والنثر، بينما كانت تندرج فيهما، في الثقافة العربية الكلاسيكية،
- جعلَ "الأدب" يَتعيَّن في قسمة جديدة (الأوروبية، التي سبق الكلام عنها أعلاه) بين النثر والشعر، أي "الجمالية".
---
من بلاغة الجميل إلى البلاغة الإلكترونية
لم يجر الحديث، في "المحاضرة"، عن البلاغة أبداً، ذلك أن ما طلبتُه فيها هو التوقف المديد والمتأني في القرن التاسع عشر لملاحظة التغيرات الحادثة فيه، وهو تغيرُ أطر نقل المعارف والآداب. هذا ما يجعل السؤال لازماً: ما أصاب خطابَ درس الأدب من تغييرات بدوره؟ وماذا عن البلاغة فيه؟
هذا ما يجتمع في الحديث عن "بلاغة الجميل". فماذا عنها؟
العائد إلى كتابات كثيرة في نهايات القرن التاسع عشر سيقع على مقالات كثيرة تتحدث عن "بلاغتنا" و"بلاغتهم"، في نوع من المقارنة – التي باتت لازمة - بين مرجعية الثقافة العربية القديمة ومرجعيتها المستجدة. بل يتحقق الدارس - بالعودة إلى هذا المتن – من أن الخطاب البلاغي العربي المستجد ضعيف، أو حاصل عمليات تحويرية بين القديم والوافد إليه. وقد يكون كتاب جبر ضومط، "فلسفة البلاغة"، من أهم المدونات الدالة على عمليات الاستعادة والاقتراح هذه. فماذا عنها؟
هذا يقتضي، قبل التعرض لكتاب ضومط، الوقوف السريع عند البلاغة العربية الكلاسيكية. هذا ما اجتمع في: "بلاغة الإفهام" (حسب الجاحظ)، بل في "بلاغة المقال بحسب المقام"، أي بناء سلطة المؤدِّب.
ما يعنيني التوقف عنده هو بروز خطاب بلاغي قريب من "بلاغة الجميل"، عند الجاحظ والتوحيدي والجرجاني: بلاغة القلم. يعرض الجاحظ في "البيان والتبيين" كيف أنهم – أي قبله – كانوا يصفون كلامهم، في شعرهم وخطابتهم، ببرود العّصب الموشاة وبالحلل والديباج والوشي وأشباه ذلك؛ ويقول التوحيدي: "البلاغة التي تكون بالقلم..."، ويقول عبد الرحمان بن كيسان: "استعمال القلم أجدر أن يحض الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام".
وما يمكن التنبيه إليه هو عدد من التوصلات المتأتية من التفكير في البلاغة العربية القديمة:
وأولها، هو أن البلاغة الإغريقية، ثم الكلاسيكية الأوروبية، قامت على درس إنتاج الخطاب وعلى تفسيره، فيما تجنبت البلاغة العربية الجانب الأول، واقتصر درسها على تفسير النص (ولا سيما الشعري منه). وهو ما يدل على مفارقة تأسيسية فيها، وهي أن الدرس البلاغي العربي جعل من القرآن عنوان "الإعجاز" وعينته، بينما تجنب الخوض في امتحان ودرس "بلاغية" القرآن؛ وهو إن تناول القرآن بلاغياً فإنه لم يقم بدرس بلاغي إجرائي عليه.
وثانيها، هو أن البلاغة العربية جعلت من النص اللغوي، من دون العمل البصري، أساساً للمعاينة والفحص، بخلاف الخطاب البلاغي الإغريقي، والكلاسيكي الأوروبي، الذي كان يجتمع في العبارة الشهيرة (منذ هوراس): "الشعر نظير التصوير"، بينما امتنع الخطاب البلاغي العربي القديم عن مثل هذه المقاربة، بأثر أكيد من منع التصوير في النطاق العبادي المسلم.
وثالث هذه التوصلات، هو أن الدارس يتحقق من قيام نظرات في "بلاغة الجميل" عند بعض النقاد البلاغيين، مثل الجاحظ والتوحيدي والجرجاني خصوصاً، الذين كانت لهم مقاربات تعاملت مع النص اللغوي في مقارنات جمعته بالخط والزخرفة والنسج وغيرها. وهو ما بلغ عند الجرجاني حداً أعلى في "النظم"، حيث أنه لا يستقيم كمبنى من دون النظر إلى المخطوط وما يتيحه من مقروئية تتابعية، وبصرية بالتالي، على غير ما كانت عليه بلاغة التواصل الخطابي-الشفوي. إلا أن وجود مثل هذه النظرات لم يبلغ حدود بناء "مذهب" في النظر البلاغي.
ورابع هذه التوصلات، هو أن البلاغة في فهمها العربي الكلاسيكي بقيت، في الغالب، خطاباً معيارياً، وأسلوبياً بمعنى ما: هكذا كانت البلاغة لجمال الخطاب ما كانته الفصاحة لصحة اللغة. هذا يرسم معالم التباس وتداخل بين الوصفي والمعياري، وبين التكويني والجمالي.
لهذا لم يكن الحديث (الذي سبق ذكره) عن "بلاغتنا" و"بلاغتهم" سوى رجعٍ متأخر لخطاب بلاغي قديم، وتجديدٍ له في الوقت نفسه، ذلك أن البلاغة ستختفي من النظام الدراسي العربي (إلا في مقررات هي أقرب إلى التعرف على خطاب قديم، وليس إلى تعلمه واستعماله المنهجي)، ومن التأليف والمباحث (لو وضعت جانباً بعض الكتب المدرسية الرتيبة والمكررة). وستحل مكانها مقاربات جديدة ("النقد" خصوصاً)، قبل تجليات القراءات اللسانية منذ سبعينيات القرن الماضي.
وهو ما حصل في النظام الدراسي الغربي، لا في تآليفه (التي حافظت على بعض المباحث، وإن ظلت هامشية ومحدودة الأثر): حل "النقد" و"التاريخ الأدبي"، ثم الدراسات اللسانية محل البلاغة، على الرغم من بقاء شاغل بلاغي، في هذه الثقافة الغربية أو تلك، حيث أنها لم تنقطع تماماً، لا في ألمانيا (Lausberg)، ولا في الولايات المتحدة الأميركية (quarterly journal of speech) وغيرها.
يتحدث جيرار جينيت عن "البلاغة المحصورة" (rhétorique restreinte)، وهو محق في وصف ما أصاب هذا الخطاب في الثقافة الغربية. هذا خفف، في الخطاب، من جوانب فلسفية وحجاجية لصالح جوانب فنية وأسلوبية: لن تعود البلاغة فن الخطاب، بل فن الأسلوب؛ بل سيتم نفيها في العهد الرومنسي من "الفنون الجميلة"؛ وستصبح "الإجادة" (elocutio) نقيضَ الشعر عند كنط.
الدراسات البلاغية لم تنقطع تماماً، حتى أنها استعادت "حيوية" ما في العقود الثلاثة الأخيرة: ما سبب ذلك؟ أتعود هذه الحيوية البادية إلى "انسدادات" اللسانية، والتجارب البنيوية عموماً؟
هذا ما ظهر في "الخروج من النص" من جديد، وما تمثل في مقاربات جديدة تعنى بالجمهور، بالقارىء وبدوره في "تلقي" النص، حتى أن الدرس بات أقرب إلى القارىء، لا إلى العالِم... باتت البلاغة تعييناً جديداً لدرس النص المنفتح على خارجه.
هذا ما ظهر في استعادة "المحاججة" و"الحجاج"، في النظريات الإرسالية والتداولية، في النظرية الأدبية وفي العلوم الاجتماعية والتاريخية.
وهو ما دعا البعض إلى الجمع اللازم بين البلاغة واللسانية، حتى أن "الفريق مو" (Groupe MU) دعا إلى "بلاغة لسانية" بشكل صريح. وهي دعوة وجدت مناصرين ودعاة لها بعد أن تنبهوا إلى أن المقاربة اللسانية تكتفي بالجملة، فيما تعنى البلاغة بدرس أقسام القول في الخطاب، ما يعد حلاً لمشكلة المقاربات اللسانية وحدودها.
وهذا ما اجتمع، من جديد أيضاً، بين البلاغة والجمالية، في نوع من الاستعادة لما كان يطلبه الحكم البلاغي الكلاسيكي من تحقق من "تأثير" الخطاب على متلقيه (وهو ما وجدته عند التوحيدي في "بلاغة الإطراب"، أو عند ضومط، كما سبق الشرح). إلا أن هذين الجمعَين – بين البلاغة واللسانية، وبين الجمالية والبلاغة – يبدو نوعاً من "الرتق" من دون إزالة مشاكل بينة في كل علم، وفي حد ذاته، فكيف في الجمع – الذي قد يكون خلاقاً – بين مقاربتين مختلفتين!
أهذا ما يمكن أن نبدأ به بالحديث عن "البلاغة الإلكترونية"؟
وجب الانتهاء بمثل هذا الحديث، إذ أن دخول الحاسوب إلى اللغة، وإلى حياة الإنسان، يوجب ويُحدث تعديلات بل تغييرات في إنتاج الخطاب كما في تلقيه، ولا نحسن قياسها بعد.
وهو ما أجرب تناوله ابتداء من تجربتي الكتابية نفسها، فضلاً عن تفكيري بها. ذلك أن دخول الحاسوب إلى الكتابة، وبالتالي إلى الفعل، لم يكن دخول أداة، أو تبديلاً لأداة بأخرى، ذلك أن تقنية القلم، باليد الواحدة، هي غير الكتابة بيدين، كما في الكتابة الإلكترونية: "بكلتا يدي"، كما أكتب منذ عنوان إحدى قصائدي. وهو دخول شمل التصور قبل الكتابة إذ أنه بات يفضي إلى تعاملات مختلفة مع الصفحة بوصفها شاشة، بل بوصفها مكاناً أليفاً على مقادير من الغربة، بحيث يُعرِّض "رهاب الصفحة البيضاء" إلى امتحانات غير معهودة.
وإذا كان الحاسوب، بمترتباته كلها، يفضي إلى التواصل الحيوي، فإنه يؤدي خصوصاً إلى خفاء الاسم العلم، العائلي وغيره، ويتيح "اللعب" بالهوية والموقع وغيرها. وهو ما انتهيت إليه في القصيدة بالحديث عن "الصوت"، وعن "الصوت المنفرد" وغيرها من التسميات.