نازك الملائكة ذَوَتْ قبل أن تنطفئ

ذوى نجم نازك الملائكة قبل أن ينطفئ. حتى أن أحد النقاد (لندن) نعاها قبل أن تموت. وهي سلكت، في كتابات عديدين، سبيل التقويم "النهائي" قبل أن تنقطع عن الكتابة، وإن أقام أحد النقاد (السعودية) حملة لإحياء "ريادتها" (التي انتقص من قيمتها الخطاب "الذكوري") من دون أن يكون لحملته صدى مديد.
لعل اجتماعها بالسياب أضر بها، بعد أن غاب السياب مبكراً واحتل لهذا السبب وغيره سريعاً مكانة "الرائد". وما زاد الظلم اللاحق بها هو أنها طلبت "التقعيد" لتجربة شعرية كانت تنبني في ممارسة كتابية يتضح فيها التفلت أكثر من البناء، التجريب أكثر من التنميط. لهذا بدت الملائكة لغيرها "قاضية" محافظة أكثر منها "ملعونة"، إذا جازت التسمية والتشبيه. كما إن تجربة "الشعر الحر" بدت معها "ظاهرة عروضية محدثة"، فيما كانت الممارسة الشعرية لغيرها تتفنن في تمرينات وانبناءات مخالفة. هكذا قال أدونيس في "الكوليرا": "إن أي شخص يُعنى عميقاً بالشعر أو يمتلك خبرة في التذوّق والنقد، لا يسقط هذا النص من إطار الشعر الحديث وحسب، وإنما يسقطه أيضاً من إطار الشعر".
سقطت "ريادة" الملائكة لهذا الشعر الجديد، منذ بداياتها، حتى أن ريادة السياب بالمعنى العروضي "المحدث" سقطت هي الأخرى، بعد القيام بتحقيقات ميدانية عديدة في عدد من البلدان العربية الأخرى أثبتت بروز التنويع العروضي الجديد عند شعراء عديدين، مثل باكثير وعوض في مصر أو "جماعة أبولو" في تجريبها لـ"مجمع البحور" (أي الجمع بين بحور مختلفة في القصيدة الواحدة)، أو "عرار" الأردني، أو "الشعر المهجري" أو تجارب خليل مطران وغيرهم ممن ظل مجهولاً أو غير معروف إلا في مواقع ضيقة. إلا أن النقد حفظ لها مكانة أضمن وأوثق، منذ زمن بعيد، ولا سيما في دراساتها التي ضمها كتابها الذائع الصيت، والذي يعتبر من أفضل المساعي في درس الشعر الحر، في عروضه، وعلاقاته التعبيرية مع الشروط الاجتماعية والتاريخية. لهذا قد يكون من الأنسب البحث في طبيعة هذا التجديد، أو في "أوجهه" المختلفة. ذلك أن النظر النقدي جعل التجديد ظاهرة عروضية مستحدثة ليس إلا، وهو فهمٌ يستدعي عدة تدقيقات. منها النظر إلى مسألة العروض خارج المنظور القالبي الذي حكم نظرات العديدين من النقاد والشعراء إلى التجديدات هذه: فلقد جرى الكلام عن "كسر" العروض، أو عن تنويع القوافي وحسب (وهو ما أسميه النظر إلى الشأن القالبي فقط)، من دون النظر إلى مفاعيل هذا التغير العروضي على المستويات المختلفة في كل قصيدة. ذلك أننا وجدنا أن تغير المبنى العروضي - وإن بدا عند بعضهم تنويعات وتشطيرات أتاحها الشعر العربي في عهديه، الأندلسي والعثماني - غيّر أسساً في الصنيع الشعري، ووجد صيغاً تركيبية ودلالية، منوعة ومختلفة، في السطر الواحد، كما في علاقات الجمل والسطور الشعرية بعضها ببعض. وهي تغييرات أفاد منها الشاعر وجربها، وأتاحها التأليف نفسه (بما أن القصيدة لم تعد "نظماً" لأسباب الشعر كلها في قالب مضغوط، ووفق توظيفية ترشيدية لها، كما هو عليه الحال في القصيدة العمودية).
موعد العام 1947 العروضي تلغيه السوابق التجديدية له والسابقة عليه، ما يدعونا إلى تدبير تأريخي آخر يعيد إلى التجارب العربية المختلفة حظوظها المختلفة في "السبق" التجديدي. هو موعد "ساقط"، إلا انه يدعونا إلى التفكير بعوامل أخرى أدت إلى تجديد الشعر، غير التنويع العروضي، وهي عوامل موجودة قبل 1947، وإن حافظت القصائد فيها على العروض في صيغه القديمة. ذلك أننا عايشنا في مدى واسع من التجارب الشعرية تعايشاً نزاعياً، فيه عوامل تجديد وعوامل محافظة، في أشكال مختلفة في مستويات القصيدة: تمثل التجديد، بداية، في عوامل المعنى قبل أن يبلغ لاحقاً عوامل المبنى (وخاصة العروض)، على ما في التمييز هذا بين نوعي العوامل من تسرع والتباس وتداخل. وليس غريباً في هذا المسار الذي يعود، والحالة هذه، إلى منتصف القرن التاسع عشر، أن لا يتحقق الانفصال التام، أو تجديد مستويات القصيدة كلها، إلا بعد الخروج، ولو المخفف والتنويعي، من العروض، أعتى أبواب المحافظة الشعرية وخاتمتها. وعند ذلك تكون العودة إلى الوراء لازمة تاريخية لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في إطار "المثاقفة"، وفي ضلوع الشعر في تعايش (مختلفة الأوجه، التآلفية والنزاعية) مع مرجعيتين، عربية وأوروبية، وحتى أيامنا هذه. وهذا يدعونا إلى التعامل مع القصيدة لا على أنها نص منسجم ومتوافق، بل على أنها نص متفاوت وله مرجعيات متعددة، قبل أن تتوافر فيه أو تجتمع مستويات التجديد المختلفة. وقد يكون من الأنسب في هذه الحالة، النظر إلى أوجه التجديد في صورة منفردة أو متفرقة، فنتوقف عند كل وجه على حدة، فلا يغيب عنها، على سبيل المثال، لا حدوث التغيّرات العروضية كلها، ولا دخول القصيدة مضامين جديدة، ولا تجدد سبل الانبناء النحوي والتركيبي. ذلك أننا لو أقمنا مثل هذه المراجعة، لوجدنا حقيقة المصير "البائس" الذي فاز به الشعر الرومانسي في النقد العربي، إذ جرى التعامل معه بخفة وسرعة، أشبه بلحظة عديمة النفع في تاريخ الشعر بين التقليدية والحداثة، فيما هو بوابة الحداثة الأولى والعريضة، إذا جاز القول. ويعود ذلك إلى حسابات متأخرة، قوامها النظر إلى الشعر وفق ما انتهى إليه، أي تدبير تاريخ جديد له يجعل مما وصل إليه الشعر في ستينات القرن المنصرم أساس التقويم الشعري. إلى هذا فإن النقد نظر إلى الشعر وفق أساسه العروضي في المقام الأول، وأهمل عداه في مسألة التحقق المتفاوت من بلوغ أو دخول القصيدة في مسارات التجديد المختلفة.
المراجعة لازمة، إذن، وتدعونا إلى التأكد من وجود "مواعيد" مختلفة للتجديد: مواعيد مختلفة في كل بلد وبين البلدان العربية، ومواعيد مختلفة أو حظوظ متباينة من التجديد في هذا المستوى أو ذاك من مستويات القصيدة: لهذا نقول إن موعد 1947 نفسه، وهو الأقرب الينا، لا يمثل التجديد "الناجز"، على ما نعتقد، خاصة في قصيدة الملائكة الشهيرة، "الكوليرا"، الموضوعة في العام 1947، طالما انه لا يجرب سوى تغيرات عروضية، معروفة وسابقة عليه.

(جريدة "المستقبل"، بيروت، 24-6-2007).