مشقة السرد بين الحميمي والعمومي
لا يتردد غير ناقد، عند الحديث عن توفيق الحكيم، عن الذهاب مباشرة إلى "عصفور من الشرق", من دون وسائط أو احترازات, آخذين منه مادة السيرة الذاتية للحكيم، أثناء مقامه الدراسي في باريس, أو مادة مواقفه في "الصراع" بين الشرق والغرب, أو بين الرجولة والأنوثة, أو تمثيلها الرمزي، أو بين "وعي الغرب ووعي الذات", على الرغم من أن توفيق الحكيم لم يذهب هذا المذهب, بل جمع، في غير حديث من أحاديثه, بين كون الكتاب رواية, من جهة, وبين اشتماله, من جهة ثانية, على بعض عناصر السيرة الذاتية. ومع ذللك نقول, أو نتساءل: أهي سيرته الذاتية فعلاً؟
لو وضعنا جانباً هذه المدّونات "المحيطة" بالنص, وذهبنا مباشرة إلى "عصفور من الشرق", لبدا لنا الأمر مختلفاً, وأمرُ السيرة الذاتية موجوداً ولكن في صيغ مبّطنة تتطلّب تأويلاً, وتتعدى آثار حياة الحكيم نفسها واعتقاداته فيها. ونسوق هذا الكلام من باب التحوّط اللساني, ذلك أن الكتاب لا ينطق بلسان متكلم ينسب القول والسرد، وما يحيل عليهما، إليه؛ ونسوقه أيضاً من باب التحوّط في التفريق (كما في التصوير والرسم) بين تصوير الشخوص عموماً وبين تصوير الفنان لنفسه.
فنحن نتحقق, عند قراءة "عصفور من الشرق"، من حصول تباين بين الكتاب كسرد, له مبناه التأليفي وكيفياته في تعيين مواده والإحالة على "خارجه", وبين التعامل معه على أنه سيرة الحكيم أثناء إقامته الدراسية في باريس. وهو تباين ينشأ من عدم التلازم بين ما يقوله السرد في بنيته وبين المدّونات "المحيطة به"، ذلك أن للسرد، في الإخبار والتعيين، منطقاً تأليفياً, يستجمع ويفرق, ويقوم على عرض رواية في نهاية المطاف, فيما جرى اعتبار الرواية هذه, من دون برهان نصّي كاف, سيرة ذاتية.
إلاّ أن التباين هذا لا يمنعنا, بل يقودنا إلى سبيل آخر مجرّب في بعض السير الذاتية (الغربية), وهو أنها تتعامل مع السرد الذاتي تعاملات لا يمليها سردٌ بلسان المتكلم الفردي بل بـ"حيل" لغوية وأسلوبية أخرى, منها: جعلُ الكلام عن الذات يتعيّن في سرد منزوع التعيين الشخصي (فيكتب الروائي سيرته ولكن بضمير "الغائب")، ومنها جعلُ الكاتب يتكلم عن نفسه ولكن بلسان "القرين". إلا إن ما يقوم به الحكيم مختلف عن هذين النوعين المجربين والمعروفين, وهو أنه - باختصار-كتب غير راوية ("عودة الروح", "يوميات نائب في الأرياف", "عصفور من الشرق"....), وما لبث أن تبنّاها على أن فيها شيئاً من سيرته الذاتية؛ وهي "حيلة" أسلوبية تبتعد عن النوعين المذكورين, إذ تلصق بالشخص المروّية حقبة من حياته اسماً ونسباً, فيما يتم إغفال ذلك في النوعين المذكورين.
لهذا نقول إنه ما جرى اعتبار هذه الرواية سيرة ذاتية إلاّ من قبيل معاينة ما تتضمنه مع وقائع معروفة عن الحكيم, أو بناء لتأكيدات لاحقة له, تفيد أنه قصد منها كتابة القسم الأول, أو المتوسط, أو الأخير, من حياته. وتبدو عمليات التثبّت هذه أو الملاحقة أشبه بالتحقيق البوليسي, لا بالدراسة النقدية, على أي حال, إذ تستعير المواد الكتابية وتسوقها سوقاً "اعترافياً" ليس إلاّ, لتفيد شيئاً واقعاً خارجها؛ كما ترى في بعض هذه المناحي التفسيرية توظيفاً إيديولوجياً شديداً لوقائع السرد, نتحقق فيه من أن مدوّنات النقد هذا هي أقرب إلى ساح لصراع "الحرب الباردة"، ويصبح فيها محسن جبّاراً وقوياً "يصارع" الغرب, فيما هو راجف واقعاً, لا يقوى على الحراك فيه! وإذا كان لعمليات التثبت هذه, أو لاعترافات الكاتب نفسه, أن تحقق التلازم, وتسقط الفواصل بين الرواية والسيرة الذاتية, فإن ذلك يفيدنا في وقائع حياة الحكيم نفسها, أي خارج الأدب, لا فيه.
ومن يعود إلى المدوّنات النقدية – الكثيرة - التي عالجت هذا الكتاب, يتحقق من أنها تعاملت معه, على اختلافها التفسيرية الشديدة (سيرية, إيديولوجية, حضارية, نفسية...), بوصفه نصاً خادماً لغيره، إذا جاز القول, فلا تقرأ فيه رواية "محسن", الطالب المصري, في باريس الأربعينات, بل حججاً وشواهد وإثباتات عن عمليات واقعة خارجه, وتتعداه بالتالي. ومع ذلك نقول بأن قراءة "عصفور من الشرق" كرواية, مشروع مفتوح, وأن بين محسن وسوزي وإيفان وباريس والسيدة زينب وغيرها علاقات تفصح في أحداثها ودلالاتها عن مشقّة السرد، سواء أكان روائياً أم سيرياً, حميمياً أم عمومياً. فهل نجري قراءة نسقيّة للرواية؟
صورة المكان، صورة الهوية
لسنا في وارد القيام بذلك, لأن هذا يتعدّى مرادنا؛ ما نقترح القيام به هو الوقوف على العلاقات التي يقيمها فعل السرد في الرواية بين الفاعل فيها والحدث نفسه, وهو السؤال, واقعاً, عما يؤسس السرد. ممَّ ينشأ السرد؟ من أي أحداث؟ أو ما يجعل الحدث حاصلاً؟ ما الذي يجعل الرواية تتنقل من حال إلى حال؟
ذلك أن "عصفور من الشرق" تمثل للناظر إليها مثل مسار, له تعييناته الزمنية كما المكانية, وتندرج فيه شخوص تقوم بينها, وبينها وبين التعيينات المذكورة, علاقات لنا أن نتبين طبيعتها, أي طبيعة ما يشغلها. واخترنا لهذا الغرض الوقوف عند جانب وحسب من هذه العلاقات, وهي العلاقات بين الشخوص والأمكنة؛ بل وجدنا أن العلاقات هذه تقوم في أساس السرد. فللرواية مسار سردي ينشأ واقعاً, من طلب قربى أو دنو, بعد تجاور, بين مكانين.
وهو ما يدعونا إلى تبين العلاقات في الرواية بوصفها تستبطن في مبناها (في شخصياتها, وعلاقاتها بزمانها, ومكانها, وغيرها) ما كان لها أن تفصح عنه بلسان المتكلم: ما العلاقات بالتالي بين الاستبطان وعدم الإفصاح؟ وهو السؤال كذلك عن العلاقات التي تتعين فيها مقادير استحواذ الكاتب الروائي (توفيق الحكيم) على الشخصية الروائية (محسن) من خلال معرفة مقادير استحواذ هذه الشخصية على المكان الذي تعيش فيه, والزمان الذي ينقضي أمام ناظريها, لكي يكون لها فيه ما تقوله, عنها وعنه, وفي آن.
وهذا المسار ينطلق, أو يقوم في عدد من تحققاته، على وجود تداخل بين مكانين, أو بين نسقين من الأمكنة, منها ما يقع في مصر ومنها ما يقع في باريس: وهو ما يثبته الروائي منذ الصفحة الأولى في الرواية, إذ تجد التداخل حاصلاً بين ميدان "الكوميدي فرنسيز" وبين ميدان "السيدة زينب". ونتحقق في تتابع السرد من استمرار التباين والتداخل بين نسقي الأمكنة: بين الكنيسة, مكان الصلاة المسيحي, والمسجد, مكان صلاة الإسلامي, وغيرها.
يبدو لنا محسن في بدايات "عصفور من الشرق" مجروراً جراً للقيام بما يفعله (إذ أن صديقه الفرنسي هو الذي يقوده, غصباًُ لا طوعاً, للدخول إلى الكنيسة), وننتبه إلى أن أول فعل يقوم به, ويباشر به الأحداث التي تتتالى, هو فعل الجلوس في مقهى مقابلٍ لشباك التذاكر الذي تعمل فيه سوزي؛ وهو فعل سابق على بداية السرد, ويتكرر بعد ذلك, بل يتوسع ويمتد هذا الفعل – الذي يعيّن وجهة الأحداث وفق ما يطلبها – في مسار تتابعي من دون القدرة, بل من دون طلب استحياز مكاني في عمومية الأمكنة.
لكن المسافة الفاصلة بين كرسي المقهى وكرسي شباك التذاكر تبقى "تحت النظر" كما يقال, وفاصلة في آن, من دون أن يبادر محسن إلى قطعها لسبب أو لآخر. وإذا ما فعل ذلك, فهو كما تقول عنه سوزي: "اعتاد أن يأتي كل يوم إلى هذا الشباك, فينتظر حتى ينفضّ الناس ويخلو المكان, فيقدم قائلاً: "بونجور مدموازيل!..." فأرد عليه التحية, فيقف يطيل إليّ النظر صامتاً, ثم يتحرك قائلاً: "أورفوار مدموازيل!", ويمضي لشأنه" ( ص 46). وحين يقرر محسن, ذات مساء, وبعد إلحاحات من صديقه الفرنسي, مبادرة أو مفاتحة سوزي بما يكنّه لها من مشاعر, فإنه لا يقترب من شباكها, بل يلحق بها, كمن يطارد صبية وقع نظره عليها في الشارع, طالباً "المعاكسةً" (كما يقال بالمصرية). لا بل يتبعها من شارع إلى مترو, من دون أن ينجح باللحاق بها في المرة الأولى, ولا في المرة الثانية, في محاولة إثر محاولة, إلى أن ينجح, لا في مبادرتها الحديث بل في العثور على مكانها البيتي, وهو فندق واقعاً. وهو لا ينتظرها عند الخروج منه, أو عند الدخول إليه, بل يأتي بحقيبته ويسكن تماماً فوقها, في الغرفة التي تعلو غرفتها. ألا يقول عنها: "إنه راضٍ بالقليل؛ يكفيه منها مجرّد الشعور في كل حين, أنها هي جارته" (ص 56). هكذا على محسن أن يعيد سوزي "بنت جيران"، بنت الحارة, قبل أن يقوى على "معاكستها"، وطلب الغرام معها.
نقع في غير رواية للحكيم على القعدة "التربصية" نفسها التي يقوم بها محسن أمام شباك التذاكر في "الأوديون" ناظراً إلى سوزي, بل نجد أصلاً للقعدة هذه في غير مكان في رواية الحكيم الأولى, "عودة الروح". ففي إحدى الحركات الأولى نجد اليوزباشي سليم يجلس في المقهى "متلصصاً" على بيت الدكتور حلمي, بيت سنيه, ويجلس خلفه مصطفى "متلصصاً" عليه إذ "كان يسرّ ويلتذ ويضحك في نفسه لما يرى, كأنما هو يشاهد قصة مسلية", ولا يلبث هذا الأخير أن ينتبه إلى وجود امرأة في بيت سليم "تتلصص" هي الأخرى, منذ عشرين دقيقة على القهوة التي يجلس فيها.
ونرى الرواية "تتقدم" تبعاً للعلاقات "التلصصية" الأولى التي نقع عليها في هذا المشهد التأسيسي لعلاقات شخوص الرواية بعضها ببعض: نكتشف بعد وقت أن السيدة الناظرة في بيت سليم إلى المقهى تحدق بمصطفى, وأن نظرات سليم "تتلصص" على سنيه, وأن محسن نفسه يخشى الدنو من سنيه, رغم اجتماعه بها غير مرة.
وهي علاقات ترسم لنا طلب الدنو وصعوبته, حيث أن النظرة قناة اتصال وتركيز, وأداة عبور وتبليغ, وحدها دون غيرها, أي قبل حصول لقاء كاشف لمكنون العلاقات. هكذا نرى زنوبة تقوم بتوجيه نظرات من دون أن ينتبه إليها مصطفى, ولا يتحقق منها موجهّة إليه, .بل تقوم بحركات خروج, بمبادرات أولى غير نافعة؛ هكذا تخرج من بيتها وتقف "لحظة ساكنة جامدة, تنظر إلى القهوة نظرات مسددة طويلة, من عينين تبرقان إلى جانبي قصبة البرقع النحاسية, ثم في حركة فجائية تدّل على السأم والغضب أدارت ظهرها للقهوة ومشت" (ص1\53-54).
هذا ما ستفعله مرة ثانية, أثناء جلوس مصطفى في القهوة, من دون جدوى. هذا ما يعايشه محسن, حتى في باريس, وخارج نظر الجماعة في الحي: فهو يخشى الاقتراب من سوزي, ذلك أن الدنو منها لا يقاس بالأمتار الفاصلة بينهما: "إنه يعرف نفسه, فهو كصندوق مقفل غير مطعّم بذهب ولا بفضة, وغير موشى بألوان ولا برسم, ولا تبهر هيئته ولا تغر... ولكن طول الجوار قد يحمل الصادف منه, على النظر إليه واستطلاع ما فيه, وهو غير قدير على أن يذهب إليها الآن ليقرئها السلام, وكيف يجد قرب الوساد وطول السواد مع هذه؟" (ص55 ).
وما يسعى إليه محسن في باريس لا يختلف في حركاته الأولى عما فعلته زنوبه مع مصطفى (في "عودة الروح"), أي الإخطار بالوجود وبطلب الصلة. هكذا تقر بوجود المجال المكاني– الاجتماعي العام, وتسعى إلى إبلاغ رسائل "سرية" فيه, وهو ما تؤديه الحركات المفاجئة, أو إبلاغات العيون الشديدة التي يصفها الحكيم في "عودة الروح" على هذه الصورة وفق كلام تقريري مباشر, وهو النظرة الواحدة من وقع التأثير!... لذا هي لا تنظر إلى محادثها كثيراً ولا تبخس نظراتها ولا تقبلها جزافاً كما تفعل الفرنجية الجريئة النزقة, بل إنها تحفظ بنظراتها وتحفظها بين أهدابها المرخاة, كما يحفظ السيف في الغمد, إلى أن تحين الساعة المطلوبة فترفع رأسها وترشق نظرة واحدة... تكون هي كل شيء" (ص1\37).
ذللك أن محسن في باريس يخلط بين المكان هذا والقاهرة, فلا يتصرف فيه إلا بمقتضى ما أملته عليه عادات المكان الأول: فما يراه في ميدان "الكوميدي فرانسيز" يستدعي صورة ميدان المسجد في حي السيدة زينب, ويتحقق في الكنيسة من أنه يعرف الخشوع عينه, والشعور عينه "الذي كان يهز نفسه كلما دخل في القاهرة مسجد السيدة زينب!... وأيضاً عين السكون, وعين النور الضئيل الهائم كالأرواح في جو المكان!" (ص10).
ومحسن في باريس لا يقوى على فعل ما يقوم به الحبيبان على مقربة منه على أن المكان مشترك وفردي, له ولسوزي ولغيرهما, ويضمّها معاً أو منفصلين, ومع غيرهما. يحدثنا محسن عن اختلاء حبيبين ببعض فيما هو ناظر إليهما, فلا يبدر ما يفيد عن اعتراضهما, أو عن خشيتهما من الآخرين. فيما هو لا يقوى على ذلك, ولا يسعى إليه, ذلك أن المكان الخارجي عمومي من دون أن يكون قابلاً لممارسة فردية خارجة على العمومية هذه وقوية بها: "ولم يقطع عليه تأمله غير حركة فتى وفتاة أهل باريس, يتعانقان خلفه, ويقبل أحدهما الآخر علانية, كما اعتاد الباريسيون أن يفعلوا غير حافلين بعاذل أو رقيب!... فازورّ محسن عنهما برأسه, غير راض أن تعرض العواطف هذا العرض, في الشوارع والطرقات, فتبتذل وهي التي ينبغي لها أن تحفظ في الصدور كما تحفظ اللآلىء في الأصداف" (ص48-49). وهو لا يقوى, واقعاً, على الاقتراب من سوزي علناً, في صورة متمادية, إلاّ في بيت جماعي, يتيح, كما في الحي أو الحار, مبادرة الرغبة, المحكومة بطول الجوار, والسامحة بها.
وهو ما يفعله محسن بعد انتهاء العلاقة معها, إذ لا ينصرف إلى حياته, حيث هو, من دونها, بل يغادر المكان الذي جمعه بها, وهو أشبه بخروج آدم من الجنة, على ما يقول في الرواية.
وفي ذلك لا يكون المكان بنائياً, بل اجتماعياً في المقام الأول, ولا يدخل إليه محسن, أو يجلس فيه, أو يستحوذه كما هو, مثلما تعيشه سوزي أو أندريه أو الحبيبان, بل وفق ما اعتادت عليه سلوكاته في المكان الآخر. بل أكثر من ذلك, إذ أن السكنى قرب بيت الجارة الحسناء, لا ينهي المشكلة, إذ جاز القول, بل يضع محسن في الوضعية المكانية (الاجتماعية, واقعاً) التي يأمن لها, بل التي توقد حواسه واقعاً: ذللك أن الرغبة بها سابقة على السكن المجاور لها, إلا أن ما يوقدها ويثيرها هو هذه المشاعر التي تعتمل فيه: هي المشتهاة والقريبة التناول في آن. فهو يصف في الرواية مشاعره وهو يستمع إلى وقع أقدامها, أو إلى صورة المصعد, أو انبعاث النور من حجرتها إلى الخارج.
يقول الحكيم في رسالة لم تنشر إلاّ بعد نيف وخمسين سنة (في كتاب "توفيق الحكيم: الجيل والطبقة والرؤيا" لغالي شكري) موّجهة إلى سوزي بعد انفصالها عنه: "منذ تلك الليلة الحاسمة في المطعم إلى اليوم, وأنا لا أنام قبل أن أسمع صوت المصعد, يقف على "طابقك الرابع", وأصغي إلى صوت قدميك الصغيرتين تخطوان في ذلك الممر الطويل, إلى أن يفتح باب ويغلق, فأعلم أنّك قد عدت فأسرع إلى نافذتي أنظر إلى الضوء المنبعث من زجاج حجرتك, وأظلّ على تلك الحال ساهراً حتى تطفأ أنوارك وتنامين, وعندئذ تنام عيني كأنما أنت التي تأذنين لها بالنوم... لا تحسبي ما أقوله مبالغة مني... لا, إن كثرة الترقّب واعتياد التربّص قد أكسبا لأذني مراناً غريباً على سماع أصوات المصعد والخطوات والأبواب (في الفندق) مهما دقت ومهما اختلطت... إني بأذني أستطيع الآن أن أميّز وقع خطواتك من بين مئات".
ثم يؤكد الحكيم لشكري: "فلما تحقق لها ذلك (أي عودتها من جديد إلى حبيبها السابق) لم يعد لي مكان, وانتهى دوري" (ص 48). وهذه الصورة المكانية يستعيدها الحكيم لتشبيه مكانته في قلب سوزي في موضع آخر من الرسالة نفسها: "كان ينبغي أن أعلم أن المكان المعدّ لي هو "الموقد" وأن هذا الوقود "الحي" ينبغي أن بيقى حتى يحترق بأكمله. ويصبح رماداً وتنتهي مهمتي فتكنس ذراته وتطرح في الهواء" (الصفحة نفسها).
ينعدم المكان بمجرّد انتفاء ما سبب البقاء فيه, وهو بقاء طلب القربى والذي يعين واقعاً طلب الاحتكاك بين الجنسين ضمن نطاق المحظور الاجتماعي, أي بالأقرباء والجيران المباشرين.
وهو ما يتأكد في صورة أخرى, مكانية كذلك, وإن اتخذت من صعوبة التكالم تمثيلاً لها: محسن يقترب من سوزي, يتعشّى معها, يصبح جاراً لها, إلاّ أن الفواصل أو المسافات لا تزال واقعة بينهما: يحتاج إلى ببغاء لكي يحادثها بدلاً عنه, وقبله. وهي خشية أخرى من الدنو, من قطع المسافات المكانية - على أنها اجتماعية - بينهما. لا يقوى محسن على قول الحب لها, بل يسمي الببغاء باسمه (محسن): "لست أطلب شبئاً إلاّ أن أكون مثله (الببغاء) بالضبط" (ص97)؛ وفي مرة أخرى يؤكد لها: "دعيني أبعث غداً برسول عني يحسن الكلام" (ص103)؛ وهو لا يعلم الببغاء غير القول كلمة وحيدة: "أحبك".
وهو ما يعرفه محسن مع سنيه, إذ أن الاقتراب منها, أو البقاء إلى جانبها في غرفة واحدة, من دون وجود غيرهما, لا يلغي أساس المشكلة, بل نراه بمجرد أن وقف خلفها "جعل يختلس النظر عليها اختلاساً" (ص139).
2- الحب–الكناية
نميّز بين الرواية والسيرة الذاتية في مبنى "عصفور من الشرق" ذلك أن العلاقة عينها نجدها بين ما كانت عليه حياة الحكيم الفعلية وبين ما كان عليه سرده لها, وهي الخشية من استحياز مكان خصوصي في المجال العمومي طبقاً لعلاقة مخصوصة, غير آبهة بما تقول الجماعة عنها (أو لا تقوله). ففي أخبار توفيق الحكيم لغالي شكري يروي لنا الحكيم فروقات واقعة بين سيرة سوزي ومحسن وسيرة إيمّا وتوفيق, ونتحقق فيها من أن الحكيم كان أكثر ظرفاً واحتيالاً في الواقع مما بدت عليه تصرفاته "الببغائية" في الرواية: فهو في الحياة كتب حواراً مسرحياً عن قصته معها, ودعاها فيه إلى العشاء, فيما بدا في الرواية ضعيف المبادرة, لا يقوى على الافصاح – ولو الظريف – عن رغبته هذه. فكيف يحدث أنه, في الحياة, أكثر تميزاً وتعييناً لحياته ولما يريده منها, من الصورة التي عرضها عن نفسه, عن حياته, في الرواية؟
شهوة القربى, إذن وهي "تمصير" صورة الفرنسية على انها سنيه, حب الحكيم الأولى في مصر, والتي روى قصته معها في "عودة الروح", إلاّ أنهما عاشا القصة عينها في صورة مختلفة: الحكيم لسوزي قصة عابرة دامت أسبوعين, وما لبث أن لفظته من حياتها عائدة إلى حبيبها الأول, أما سوزي للحكيم فهي الجرح النرسيسي الأول, خدشت شعوره بذاته, وقوته الجنسية, قبل حبه لها, وهو ما نلتمس حرقته في أحاديث الحكيم قبل موته, إذ هو حب "غير مفطوم", إذ جاز القول أو غير مشبع كفاية: فهو يخبر شكري في أحاديثه الأخيرة عن النساء في حياته في صورة تكاد أن تكون تقريرية, بل يمل من الحديث عنها, من ساشا إلى زوجته (التي اختارها من دون حب, وفي الثانية والأربعين من عمره, وفق تدبير إجرائي ليس إلاّ), إلاّ أنه يتحدث بشهوة ومرارة عن سوزي وحدها, حتى أنه يتباسط في الحديث عنها من دون طلب. يروي لنا في هذه الأحاديث كيف أنه أمضى أكثر من ثلاثة شهور مع ساشا, في السرير عينه, ويصف لنا ثدييها وهما بارزان من بيجامته التي أعارها لها, كما أخبرنا عن تبرّمه منها, وعن تبريره أسباب الهرب منها, فيما يمتنع تماماً عن عرض أي شيء يخص سوزي, فيما خلا الشعر الكستنائي المقصوص القصير: يحدثنا عن خطواتها, لا عن ساقيها, وعن غنائها, لا عن رقبتها, وعن شعرها, ولا عن عينيها, كما لو أنه يمتنع عن إدخالنا إلى ما هو حميمي فعلاً في حياته, وإن كان موضوع السرد روائياً أو سيرياً, خشية أن تعرى أمام ناظرنا مثلما هي أمام ناظريه...
هذا يعني أن ما يشمل الكاتب في الكتابة لا يقع, لا في صدق النقل (سيرياً)، ولا في جدة التأليف (روائياً), وإنما في ما يجيزه الإنسان, بل صورته الاجتماعية, للكاتب في أن يجعل قسماً من حياته مادة معروضة أو محجوبة في السرد. وهي إجازة تتقيد بما هو متاح ومقبول عن الذات في نظر الجماعة واعتباراتها (حتى لو اتصلت ببائعة هوى, أو بعلاقة عابرة وغيرها, طالما أنها لا تعين موقع الكاتب في صورته الاجتماعية "المستقرة"), من جهة, وتحتفظ لنفسها بحميميتها, من جهة ثانية, فلا تخرج سرهما إلى العلن الفردي أو الجماعي.
يصف الحكيم في "عودة الروح" حقيقة النظرة الأولى التي يرسلها الزوج إلى زوجته, وهو يتعرف عليها للمرة الأولى, في حفل الزواج وقبل "الدخلة": "وما كادت العروس تستقر حتى ظهر من يعلن قدوم العريس, وبدا العريس بالباب يتقدم في خجل بعد أن ابتسم لمشيّعيه من الرجال الواقفين في باب الحريم, يتطلّعون هم كذلك لرؤية العروس, دون أن يشغلهم ذلك عن النظر إلى الجميلات من المدعوات والابتسام لهن!... وشق العريس طريقه بين السيدات اللاتي يفترسنه بأعينهن, ويتهامسن عن رأيهن فيه... حتى وصل إلى الكوشة فوقف متردداً, ثم تجلد ورفع بيمينه القناع الأبيض الحريري المتصل بالدواق, والذي يخفي وجه العروس... وهنا اشرأبت الأعناق ووقف الحاضرون على قدم وساق... ينظرون في صمت رهيب, ويكادون يحبسون الأنفاس, كانما هم ينتظرون حكماً لا يقبل النقص ولإبرام... حتي التخت وهو يغني ويضرب على الآلات في حماسة وقوة, لم يفت أفراده أن يسددوا عيونهم في أنتباه شديد إلى وجه العريس... وانتابت العريس بغتة دهشة خفيفة عند كشف القناع... لكنه عاد فابتسم وانحنى على يد العروس, ورفعها إلى فمه ولثمها, ثم صعد إلى الكوشة وجلس بجانبها" (ص1-170). وما يستوقفنا في هذا الوصف, وما يقع خلفه, هو أن جميع الحاضرين يبدون كما لو أنهم يعرفون وجه هذا وتلك, بخلاف العروسين المعنيين والمقصودين بذلك.
فالحب كناية اجتماعية (وجنسية طبعاً) عن طلب القربى, والاحتكاك بين الجنسين, وهو اكتشاف المكانات الاجتماعية الأخرى والأجساد, وهو تحقيق اجتماعية الفرد, إذا جاز القول. إذ أن عدم التلصّص, وعدم المبادرة الحذرة في إرسال إشارات أو "غمزات" كما يقال, وهو القبول, واقعاً بما تدبره علاقات الجماعة التقليدية (الزواج المرتّب أو زواج الأقرباء), لا الخروج اللطيف عليها.
ونتحقق من أن طلب الخروج والاختلاط يتعيّن أو يستجلب معه الحاجة المعاكسة له, أي الاختلاء بالنفس. هذا ما يصيب محسن في "عودة الروح" إذ يطلب الخلود إلى النفس, بل يشعر بضيق المكان, وضرورة انفصاله عن "الشعب" (حسب تعبيره): "خلع محسن ثيابه, وانزوى بين أرجاء الناموسية المسدلة عليه ينشد الوحدة والحرية التي لا يحسمهما إلاّ من كانت له حجرة خاصة!... ولأول مرة شعر محسن بسوء تلك المعيشة: خمسة أشخاص في حجرة واحدة!... لأول مرة أحس بالحنق على تلك المعيشة المشتركة, التي كانت دائماً منبع هناء وصفاء وغبطة للجميع (...) أي لـ"الشعب" حسب كلمتهم المتعارف عليها"(ص1\101-102). وهي المشاعر عينها التي تنتاب سليم بمجرد أن يعرف للمرة الأولى بالانتباه الذي تخصه به سنيه: "نظر (سليم) إلى غرفة النوم والأسرة الأربعة المصفوفة أحدها بجانب الآخر... وأبدى بشفتيه علامة الاحتقار, وأحس لأول مرة غرابة هذه المعيشة, ودهش كيف أنه استطاع حتى الآن أن يحيا مع أربعة أو خمسة في حجرة واحدة" (ص1\219).
هكذا يقترن الحب - الكناية, كما اسلفنا القول -, بالمجال الفردي, بخلوة النفس, بأنواع من المسّرات والآلام التي تكون عالماً للفرد - عالماً شخصياً, يحقق خروج الإنسان من الشرنقة التقليدية. هكذا تشترط العلاقات هذه تحقيق الشخص أو تعيينه في الاختلاء بالنفس لا في الإقامة العمومية, إذا جاز القول. لكنه يختلي بنفسه عند الفرح غلباً, وأحياناً في بعض لحظات الألم (مثلما حصل بعد فراق سوزي لمحسن), ولا يخفف من حدة الألم سوى شعور محسن بأن الأرض أوسع من ضيق المكان الذي يتوّجع فيه, وهو ما يتمثل في صورة السيدة زينب التي لا تفارقه في حلّه وترحاله: "إن محسن ليشعر دائماً أنه لا يسكن الأرض وحدها, إن حياته ممتدة أيضاً في السماء, وأن له أصدقاء أحبّاء وحماة من القديسين أهل السماء (...) ويعتقد أنها (السيدة زينب) في السماء بردائها الأبيض إنما تنظر إليه دائماً وترعاه وتجعله من شأنها... كأن هذا هو كل عملها" (ص92).
إلى هذا فإن علاقة الساكن أو المقيم في المكان لا يستوي ميزانها فيه وحده, قواماً على نفسه فيها: "لو شعر محسن لحظة أنه في وحدة مطلقة, وأن السماء ليس لها وجود, وأنها جرداء وجدباء, غير عامرة بكائنات عليا تتصل حياته بحياتها, وأنه قد خليّ بينه وبين هذه الأرض إلى الأبد - لما عرف كيف يستطيع تحمّل الأرض يوماً واحداً" (ص93).
نتحدث عن علاقات متداخلة في السرد, في وجهيه الروائي والذاتي, من دون أن يعني هذا, في حسابنا, عدم التزام الحكيم بواحد من الوجهين هذين في هذا الكتاب أو ذاك من كتبه الوفيرة. وإذا كان "عصفور من الشرق" رواية ذات تضمينات من السيرة الذاتية, فإن غيره, مثل "زهرة العمر"، ينتسب صراحة إلى السيرة الذاتية. وهي تفيدنا في ذاتها, إذا جاز القول, وهي أشبه بالنص "المحيط" لـ"عصفور من الشرق", إذ أنها تشتمل على أخبار ومعلومات تفيدنا في تأكيد أو "تصحيح" ما ورد فيه: نتحقق من قراءة هذه الرسائل من أن شخوص أندريه, وجرمين, وجانو منقولة من الحياة إلى السرد, ونتعرف على بعض صلة توفيق (على أنه محسن) بإيما (على أنها سوزي) ونتعرف في صورة ضمنية على أسباب ترك سوزي له, وهي أنها عادت إلى حبيبها السابق, ونقع على هذه الجملة الرهيبة التي أرسلتها سوزي له بعد انفصالها عنه: "أتمنى أني ما عشت قط هذين الاسبوعين".
ولو شئنا الوقوف المطوّل عند هذا الجرح النرسيسي, لوجدنا أنه سابق على هذه الواقعة, يتصل بما عرفه الحكيم مع طفلة (على ما قال في "سجن العمر"), أو في فترة المراهقة مع سنيه (كما في "عودة الروح"), إلا أن "الصدود" هذا يبلغ في "عصفور من الشرق" حداً عالياً, إذ يضع القوة (والصورة عن الذات) الجنسية قيد التحقق, والاخفاق واقعاً.
ولعلنا نجد أحياناً "تجميلاً" تعويضياً أو تخفيفياً, عن هذا الوجع في ما قاله الحكيم عن إرواء الحاجة الجنسية: "في رأيي أن تصوير حالة الشبع العاطفي عملية ممجوجة ثقيلة الدم, أشبه بمن يحدثك عن تفصيلات وجبة دسمة أكلها. في حين أن من يحدثك عن جوعه وحرمانه أنبل وأقرب لنفسك ومشاركتك".
ونتساءل: أين تبدأ السيرة الذاتية وأين تنتهي؟ أين ينتهي خط الحياة وأين يبدأ خط السرد؟ ما العلاقات المركبّة بين الحياة والسرد, بين الإفصاح والإحجام عنه؟ ما تمليه اقتضاءات الحياة أو السرد نفسه, سواء على الحياة أو على السرد, أو عليهما في آن؟
ولو طرحنا هذه الاسئلة على توفيق الحكيم, حياةً وسرداً, لوجدنا الإجابات ممكنة عنها - وهذا ما سعينا إليه في مدى هذه الورقة – طالما أن الكاتب أقام علاقة تبليغ وإيصال ميسرة بين الحياة والسرد, لا تقوم على تبعيد, أو تخييل, أو تصعيد, أو تركيب لما هو مطروح في نثر الحياة نفسها, واقتصر جهده, واقعاً, على لعبة إفصاح وإحجام وتحويل قليل في بعض الأحيان. إلاّ أننا توّصلنا إلى شيء آخر, وأهم في هذه الورقة, وهو أن قراءة السرد, والاستناد فيها إلى مدونات "محيطة" بها, يتطلب تفكيكاً أشد, لما هو واقع في المبادرة الاجتماعية خلف الحدث السردي, لما هو واقع في السلوكيات والاعتقادات خلف التحققات الرمزية.
ولقد بدا لنا، بالتالي, أن الإنسان كاتباً متضّمن في السرد من حيث لا يدري, وأنه ينتهي إلى الإفصاح حين يحجم عنه, وان الإخبار عن الفرد والجماعة واقعلإ في مساحة قول غير مجلّوة اجتماعياً, وقبل إمكانات السرد.
(ورقة عمل في مؤتمر تكريمي عن توفيق الحكيم في القاهرة، بين 28 تشرين الثاني-نوفمير و2 كانون الأول-ديسمبر، 1998: نشرت في مجلة "الطريق"، بيروت، العدد الأول، السنة الثامنة والخمسون، 1999، صص 136-144).