يطيب للبعض الوقوف عند كتابات إلياس أبي شبكة (1903 - 1947) المختلفة، ناظرين إليها تبعاً لتقلبات حياة الشاعر الغرامية أو السياسية، بعد أن توافرت لنا، من معارفه وأفراد عائلته، شهادات وشهادات يَنظر إليها النقد غالباً على أنها الأدلة الدامغة عن حياة، بل عن نتاج أدبي، متناسين أو غافلين عما يؤلف ويميز بالأحرى تجربته، وهي أنها «خشبة» موصولة المسارات بين الحياة وبين الشعر من دون شك، وفي ذلك شيء من تجديد أبي شبكة الأكيد، إلا أن الأدوار فوق الخشبة ليست موزعة دوماً، بل يتبادل الممثلون في أحيان عديدة نصوص بعضهم البعض.
هكذا نقع في دواوينه المتتالية على إبلاغات، على نوايا، لا نلبــث أن نتحقق من عدم حصولها في الحياة نفسها، مثل حديثه المتكرر في غير قصيدة عن ترحاله القريب إلى مصر تحديداً، فيما نكتشف لاحقاً أنه كان يضطر إلى المشي، في حال تأخر الوقت، لكي يعود إلى بيته في زوق مكايل (كسروان) وينام فيه. ما العلاقة بين تمني السفر والخشية من النوم خارج المنزل العائلي؟ أيعني طلب السفر تبرماً وشعوراً بالضيق من حاضر معاش، وسعياً وأملاً بغد مرغوب وبعيد في آن؟ وكيف يحدث أن الشاعر ضمَّن أبياته مثل هذه الدعوات البينة إلى السفر والرغبة وغيرهما، فلا يأتي كلامه مثل وثيقة أو تعهد أقامه بينه وبين غيره، علناً، وفي صورة ملزمة؟ أللكلام وظيفة متقلبة، لا تتبدل بين الشاعر والقارئ، بل بين الشاعر ونفـسه، بين «أصواته» المختلفة، بين الخشبة الظاهرة وخشبة «المسرح الآخر» (مثلما يشبه فرويد اللاوعي)؟
يمكننا أن نتحقق من وجود اعتوارات دائمة ومتكررة بين ما يقوله أبو شبكة في شعره عن نفسه وعن حياته، وبين ما كانت عليه حياته نفسها، حتى إن أحد النقاد ذهب إلى إبانة أن ما يقوله في شعره عن حادثة غرامية لم يحصل ربما، وأن الحادثة ما وقعت على الأرجح، أو أنها حصلت بين أطراف آخرين، خلافاً لما يقوله في القصيدة. كيف يكون ذلك، وهو الشاعر الذي ما توانى عن القول إن الصدق في التعبير هو طلبُه الأدبي والجمالي الأول، وأن حياته هي مسرح شعره؟ أتكون للمسرح «لعبة» هي أشبه بلعبة الأقنعة، التي تتداخل فيها الرغبات بالوقائع تداخلاتٍ ملتبسة، وفق حركات تلبي «مسرحة الذات» من دون أن تكون حركاتها وأقوالها مضبوطة أو مدبرة أو موجهة؟
غير ناقد يفصل بين عهد أبي شبكة الشعري الأول في «القيثارة» (1926) ودواوينه اللاحقة، أو يضع جانباً ديوانه الآخر «الألحان» (1941) على أنه أقل جودة من غيره، ومع ذلك يفاجئنا الشاعر في ثباته على قولٍ ما، منذ أبياته الأولى حتى موته المبكر. وهو قول غير مبرم، وغير معين سلفاً، وإنما هو واقع أو صادر عن ذات شاكية مما تعانيه، ولا تتوانى عن إبلاغ غربتها. يقول أبو شبكة في إهداء ديوان «القيثارة»، وقد توفي والده في الغربة، وهو في العاشرة من عمره: «أفتش في بلادي فلا أجد لي نصيراً، ولا أجد من يدرك مبادىء نفسي وما طُبعت عليه إلا فئة قليلة هي مثلي في آلامها وبلاياها». ويتابع: «يا أبي، لقد توالت الأيام العديدة وهي أشد سواداً من ظلمة قبرك، وأنا ثابت في مبادئي كالأرزة في وجه العاصفة، أود شكاة فلا أجد من يصغي إليَّ غير روحك المرفرفة فوق رأسي». فمنذ هذا الديوان نتحقق من انصراف الأنا المتكلمة في النص إلى قولٍ يقيم صلة بين ما تعايشه وما تقوله، من دون خشية من القارىء المتنصتِ إلى هذا الحوار، وغير آبهة بتقاليد ومراسيم كانت تخص الشعر باتفاقات وموضوعات ومناسبات معينة، سابقة على فعل الكتابة نفسه، ومستقلة أيضاً عن أغراض الشاعر الخصوصية في القول.
نجد في ديوانه الأول، كما في عدد من دواوينه الأخرى، شيئاً مما كان عليه الشعر قبله وفي زمانه، مثل «المعارضات» الشعرية، أو نقل قصائد أو مقطوعات نثرية شعراً من متون فرنسية خصوصاً (لامرتين وجول لومتر وغيرهما)، أو «المناسبات» الشعرية التي شارك فيها في تكريم خليل مطران أو أحمد شوقي أو فيلكس فارس وغيرهم. إلا أننا نجد أيضاً، منذ أبياته الأولى، وهو في ميعان الشباب، شيئاً مغايراً لا نتحقق منه في المبنى العروضي لقصائده، ولا في سجلات معجمه وقضاياه، وإنما في التعايش النزاعي المقيم في الذات، وفي تقلبات القول والدوران بين أقاليم النفس ومطاويها.
بإمكاننا الوقوف قليلاً أمام تنويعاته العروضية، ولا سيما في «الألحان»، أو الانتباه إلى تقطيعات وتوزيعات يُجريها الشاعر على مبنى القصيدة، فتبدو تأليفاً وتركيباً يقتضيهما الموضوع في تتابعه وانتقالاته، وفي «اللقطات» التي يستدعيها. إلا أن هذه التجديدات الشكلية تبقى طفيفة، ولا تشير إلى المواضع التي غرف منها الشاعر بقدر ما حفر فيها. وأشد ما يستوقفنا في تجربة أبي شبكة هو انطلاقه الهين والثابت من موضع شعري لن يفارقه أبداً، ولن يبرح فيه يستنطق ويراود نفــساً يفــصح عنها بقدر ما يسـتجليها.
فهو هو منذ الديوان الأول، الذي كُتبت قصائده في السنوات الأولى من العقد الثاني، يعبر عن تعايش لافت بين الأنا الشاكية والرقيقة وبين أنا العظمة والزهو بالنفس (أو الفخار)، وعن تعايش آخر بين الحس الأخلاقي وضوابطه (الأنا العليا، «مكارم الأخلاق») وبين الرغبة الحيية أو الصارخة، وبين الحس التحرري الوطني و«التطرفي» و«العمالي» (بل اللينيني، على ما يقول في إحدى القصائد) وبين دلالات مسيحية هانئة وتائبة في آن. تعايش نزاعي، لا نتحقق فيه دوماً من هويات المتكلمين ولا المخاطَبين، طالما أن المتكلم في النص ملتبس التعيين، وإن يميل إلى المناداة كما في هذه الأبيات الأربعة الأولى من القصيدة الأولى في الديوان الأول:
أيها الظلم والخنا والغرور
يا خداعاً تعف عنه الشرورُ
يا كنوداً، ويا محاباة قومي
يا صدوراً، يدب فيها النفور
يا خصاماً، يا منكرات بلادي
يا رياء، يا حِطَّة، يا فجور
اقربي ما استطعتِ من كُبر نفسي
أنا صدري رحب وقلبي كبير.
كأنه المتنبي في «الحمى» يستقبل الهموم والأمراض وضِعَة الدهر الذي يعيش فيه. ولكن كيف يتاح للشعر أن ينحو، منذ البيت الأول، صوب مناجاة وتخاطبية هي أقرب إلى الصراخ (10 مرات «يا» المنادى في الأبيات الأربعة)؟ أهو موت الأب المبكر والشعور بالوحشة؟ أليس الصوت امتداداً للجسد في خلاء الكون بعد أن فرغ مما كان يشغره؟ أم هو النفور وعدم الرضا مما يجري في «البلاد»؟ ولكن أي نفس هذه التي تتألم وتتلقى مقدار ما تسع أرجاؤها الفسيحة؟
منذ الأبيات الأولى نتحقق من الشكوى، من نزعة اجتماعية ناقمة تشوبها دلالات أخلاقية، ترى الآفات في الخداع والشرور والغرور والمحاباة والنفور والخصام والرياء والحطة والفجور وغيرها. وقد تشوب النزعة هذه دلالات ثورية، وإن خفيفة الأثر والمدى في شعره، تدعو إلى رفع الظلم والرد على أسباب الشكوى، بوحدة العمال وائتلافهم وكفاحهم. واللافت في النزعة هذه الجمعُ بين نسق سياسي «تطرفي» (كما يحلو له أن يقول في إحدى قصائده) ونسق أخلاقي شديد المحافظة والتقليدية، يحيل في مواضع بينة وصريحة على تضمينات مسيحية، ولا سيما في شأن الرغبة: كيف لا وهو يجمع في قصيدة بين لينين والمسيح! وتبدو قصائده مثل خشبة صراعية بين دلالات متأتية من سجل شريف (صدق، استقامة، كرامة...) وآخر دنيء (فجور، نذل، العاتي، الجحود...)، على أن الصراع هذا يتخذ أحياناً أشكالاً ملتبسة بين التقرب من اللذة والتنكر لها في آن.
الشعر مناجاة، شكوى، مباهاة بالنفس وبقولها وعراكها، من دون أن يقع في منزع وعظي أو إرشادي، ولا في منزع إنشادي. ذلك أن الشعر يبقى موصولاً بما يجري، وبما يصيب الشاعر من أحوال. فإذا كانت قصيدة «المساء» لخليل مطران تبدو فاتحة لغيرها في تناول العالم تناولاً ذاتياً، يُفصح فيه الشاعر عن تحسسه ورؤيته إلى ما يحيط به، فإن هذا المنحى يبدو أكيداً في شعر أبي شبكة حتى حين يُقبل، بعد مطران وغيره، على طَرق موضوعات، مثل الشعر القصصي، هي أبعد ما تكون عن التناول الذاتي. فمَن المتكلم في قصيدة «شمشوم» الذي يوجِّه حديثه إلى دليلة:
مَلِّقيهِ بحُسنكِ المأجورِ
وادفعيهِ للانتقام الكبيرِ
إن في الحُسن، يا دليلة، أفعى
كم سمعنا فحيحَها في سريرِ.
من هو هذا الذي يورد كلام شمشوم بين هلالين، مثلما عليه الأمر في الشعر القصصي، ولا يتأخر عن العبث بمحتويات القصص الديني القديم، ولا يمتنع، كما في هذين البيتين، عن توجيه الكلام إليها، من فرط التماهي معها، نفوراً واشتياقاً في آن؟ ونتحقق في هذا المجال من أنه انتقى من القصص الديني ما يَرِدُ في أخبار تضع المرأة في مسألة جنسية مأزقية، في وضعية منتهِكة للقيم، وهو ما نجده في قصيدة «شمشوم»، وفي «المجدلية والمسيح» و«سدوم» وغيرها.
وإذا كان أبو شبكة، في عدد من القصائد، يُذكِّرنا بتصاوير دينية إيطالية، وأشعار فرنسية أخلاقية المنزع (فيكتور هيغو في قصيدة «الضمير» عن قايين وهابيل وغيرها)، فإن هذه الأصداء تجلب في صخبها ما اصطرع كذلك في حياة الشاعر، وبين نزوعاته المختلفة. ألا يٌطلق على إحدى قصائده العنوان التالي: «العفاف المُغْوِي»؟
فأبو شبكة لم يكتب قصائد الغزل مثل غيره، بل ارتجف أمام لجج الرغبة، ودخلتُ معه القصيدة، بعد امرىء القيس وعمر بن أبي ربيعة، إلى المخدع الجنسي، مثلما تبينتْ كذلك أحوالاً مضطربة في النفس، في نزوعاتها ومحرضاتها، بقيت ممنوعة على الشعر قبله.
في غير قصة دينية تناولَها في شعره، يعمد أبو شبكة إلى إنزال القصيدة في زمانه، بعد فقراتها القديمة، في حركة تحـويلية لافتة لما كان عليه فن القصص الشعري في زمـنه. هو لا يتصرف بأخبار الماضي والسالفين، وإنما يتبين أحوال عصره في صراعات الإنسان الأبدية. وهذا ما يبدو في صورة أبين في قصـص انتقاها أحياناً مما يعايشه، مما يتـسقط أخباره في الصحف، مثل قصة السيدة مرغريت فهمي التي قاضتْها المحكمة في زمانه وبرأتْها (في ثلاث قصائد)، أو مما تسمعه أذنه وتبصره مقلته:
هذه القصة لا شأن لها
بأقاصيص عجوز خطلِ
فهي نطقٌ سمعته أذني
وبيانٌ أبصرته مُقَلي.
ذلك أن الشعر عنده، كما يقول، «وحي حقيقة»، ينطلق من المعايشة، من المعاينة، متنكباً بالتالي عن طرق القدماء في النظر إلى دور الشعر. ألا يقول:
كم في ربى لبنان من متشاعر
نامي الفساد، مفاخرٍ بفساده
يملي الذي أملاه غير يراعه
ويقول ذا شعري ووحيُ رشاده
أيعيش في الماضي ويترك غيره
يبني الجديد على رسوم بلاده».
والتفاتاته هذه لا تخلو أحياناً من وقفات طريفة، مثل قصيدته في التلفون، «ألو! ألو!»، أو قصيدته «في صائدة سمك حسناء»:
«أترى جاءت لكي تصطاد في البحر السمك
أم أتت تصطاد قلبي بلحاظ كالشبك.
أو في قصيدته «نرجيلتي» اللافتة في واقعيتها وسرديتها الجميلة:
أجابت أنا الآن في نعمة
لأن حبيبي في نعمةِ
ولكنني بعد وقت قصير
أغادر وحدي في خلوتي
فيبعد عني ثغر محبي
ويسلو الذي كان من لوعتي
لذلك تراني أبكي زماناً
سأصبح فيه بلا زهوة.
حتى النارجيلة لا تسلم، كما نرى، من نزعة الشكوى، من فقدان الزهو، وهي بدورها، مثل الشاعر، متروكة، وحيدة، لا يؤانسها أحد في وحشتها. هكذا نراه يترك لغيره فرصة الكلام، لا لمن يشبهونه فحسب بل لمن يخاصمونه العداء، أو لمن لا يشاركونه في الموقع أو في القيم. وهو يتشكك غالباً مما يقوله الناس عنه، من الصورة التي يحفظونها عنه، من دون أن يأبه لها، ذلك أن تصدُّع النفس لا يؤدي أبداً إلى جعلها موضع نقد أو تبين، بل إلى مباهاة هي بعض مباهاة الحداثة العربية بنفسها، أو فخارها، حتى أيامنا هذه:
يقولون عني إنني متطرف
ولي مبدأ أعمى جعلتُ به فخري
ولا أنظم الأشعار إلا لأنني
أؤَملُ بالأشعار أن يرتقي قدري
ألا أين ما يدعون مني تطرفاً
ورائدُ فكري الصدق في السر والجهر.
لهذه الأسباب كلها نراه يتنكب عن اعتماد المذاهب والنظريات في الشعر، ذلك أنها «لا تصح في شعر يعبر عن الحياة». واللافت في هذا الشأن، بعيداً عن معرفة أبي شبكة وتتبعِه لمناقشات الشعر بين رواده الفرنسيين، هو أن الشاعر يتنكب عن اتباع الفرنسيين في نظراتهم، أو في مذاهبهم عن الشعر، ذلك أن اللحظة التي يُعبر عنها وينطلق منها، بعيداً عن مدى تقدم (أو عدم تقدم) هذه النظرية، هي «لحظة الحياة»، كما يمكن لنا أن نقول نقلاً عما قاله وعبَّر عنه، ولا سيـما «في حديث الشعر»، أي مقدمة «أفاعي الفردوس»، التي تبدو مثل دعوة لأن يكون الشعر حراً، طليقاً من كل قيد، بعد طول قيد في العربية. فهو يقول في المقدمة هذه: «كيف نستطيع إدراك ما لا يُدرك بل يُُحس، لنقيده في دائرة ضيقة من اصطلاحاتنا البيانية، ثم نوزعه مذاهب وطبقات هي سياسة الشعر، لا طبيعته؟ أليس من الخرق أن نحاول بلغة وضــعية تحديد لغة المجاز والكناية، لغة الروح، لغة الحس الوجداني العميق؟».
فاللحظة ليست هي نفسها، بين ما كان يَطَّلع عليه من نظريات فرنسية وبين ما كان يرى ضرورة للخروج عليه، أي قيود الشعر العربي. وهو في خروجه هذا تخلى عن المثاقفة لصالح الحياة والتجربة نفسها: في ذلك قوة أبي شبكة الدائمة، وهي أنه انحاز إلى الزمن، إلى صراع الرغبات، إلى جعل الشعر مقيماً في منطقة جديدة تستقيم في هشاشة الشرط الإنساني، لا في مواضعات ومناسبات خانقة وضاغطة، سابقة على تحققه. في شعره أسباب عالقة بما كان عليه شعر سابقيه، إلا أنه اتجه إلى مناطق محظورة، بل مضطربة، في القول الشعري تجعل منه جمعاً لصورة متشظية، من سابقيه ولاحقيه في آن، لنا أن نرى فيها شيئاً من صراع الخلق عند هيغو، ومن سوداوية بودلير وجماليته المضادة، ومن الشعور بالتوحش والانزواء عند بدر شاكر السياب، ومن شهوانية أنسي الحاج المتوقدة.
(جريدة "الحياة"، لندن، 3 شباط-فبراير 1997).