(صدر كتاب: "الفن الإسلامي بين اللغة والصورة"، لشربل داغر، عن دائرة الثقافة، في الشارقة، 2018، في 336 صفحة، في مناسبة معرض الشارقة الدولي للكتاب، وفيما يلي، أدناه، "توطئة" الكتاب).

 

يعنيني، في هذه التوطئة، أن أُبرز باختصار ما قام عليه درسي في ميدان الفن الإسلامي، ولا سيما اشتغالي في فلسفة هذا الفن. ويعود هذا إلى أن كتبي وبحوثي ليست موصولة مسبقًا بهذا السبيل الدراسي أو غيره، وإنما تتعيَّن في خطة بحثية مخصوصة. هذا ما يثير السؤال حكمًا : ما صلة هذه الخطة بسبيلَين معروفَين في درس الفن تحديدًا : فلسفة الفن، وتاريخ الفن ؟

أوضحُ، بداية، أن درسي لم يقمْ، ولا يتنزل في صورة مسبقة في أي من السبيلَين المذكورين. فلم أنطلق في مسعاي، لا من نظر فلسفي على حدة، ولا من نظر تاريخي قائم بنفسه، وإن كانت تتقاطع، في كتبي وبحوثي، شواغل الفلسفة والتاريخ وغيرها. هذا عنى، في عملي، بداية مخالفة، ما تأتَّتْ من لزوم التقيد أو اتباعِ واحدٍ من السبيلَين، أو من جمعِهما، وإنما مما يمكن تسميته بـ"المعاينة التكوينية" لما أطلقتُ عليه : متن الفن الإسلامي.

لم يقمْ درسي على تناول فلسفي – محض، إذا جاز القول – لا لفلسفة الفن عمومًا، ولا للفن الإسلامي خصوصًا، إذ اعتبرتُ أن خطابًا سائدًا في هذا الميدان يتحكم به نسق "المدارس" و"العقائد" الفلسفية، وهو ما قد يناسب البعض في "توجيه" الفن وأساليبه، لا في درسه الوضعي. كما اعتبرتُ أيضًا أن خطابًا آخر صاحبَ الخطاب "العقيدي" المذكور، وهو الخطاب الفلسفي "المجرَّد"، الذي جعل الفن متعيِّنًا في "ماهيات" ماورائية، أو في "علامات" ماثلة في العمل الفني (دالةٍ على "عبقرية" الفنان الفجائية والمحيلة على صنيعه نفسه). هذا الخطاب يُخفي، في الحالَين المذكورَين، وجود الفن الإسلامي، وهو أن له تكوينَين مختلفَين، وإن متعالقَين، بل أن له "وجودَين" :

- وجود متعيِّن في بيئات إنتاج هذا الفن، أي الإسلامية،

- وجود ثان، لاحق زمنًا على الوجود الأول، وهو الوجود الذي انبنى فيه لهذا الفن متن جديد، آخر، في المجتمعات الأوروبية، ثم الغربية.

هذه "المعاينة التكوينية" – وقد توصلتُ إلى تحديدها بوصفها موضوعًا بحثيًّا – هي التي تحكمتْ بمسار الدرس، من جهة، وهي التي استدعتْ (بمعنى ما)، من جهة ثانية، المنهج الذي له أن يعالج هذا الموضوع البحثي. ويعني هذا أن المنهج الدراسي المتَّبع في كتبي وبحوثي ليس فلسفيًّا، أو تاريخيًّا، مثلما هي متاحة، أو مطروحة، في السبل الدراسية السارية. وهو ما أخلصُ منه إلى النتيجة التالية : لا يستقيم الدرس في الفن الإسلامي، لا في فلسفته، ولا في تاريخه، من دون استخلاص هذا المتن، بين قديمه ومتأخره، من تاريخه، من خطابه، هنا وهناك.

هذا ما قادني إلى جعل "التداول" نسقًا فلسفيًّا عامًا لهذا الدرس، إذ توصلتُ إلى بنائه بما يناسب مهمات "الاستخلاص" المذكور. ففي "التداول" انبنتْ علاقات بين هذين الوجودَين، وانتهت إلى أكثر من عملية "نقل" من بيئات إسلامية إلى أخرى خارجها؛ كما انتهت هذه العلاقات إلى "إسقاط" الخطاب المتعالق مع هذا المتن المادي (أي خطابه  المخصوص في بيئته، في ثقافته)، بينما كان يجري "تأليف" خطاب مستلحَق له، إن جاز القول، في البيئات التي حلَّ فيها. وعنى هذا، في حسابي، أن ما حصَّلَه هذا المتن، بقديمه أو متأخره، من قيمة أو شرعية أو معنى أو مكانة، في تاريخ الفن أو فلسفته، متولدٌ في هذا التداول، ومحكومٌ به، فيصدر عنه، ويصبُّ فيه. فماذا عن التداول (pragmatisme) ؟ 

لهذا اللفظ الاصطلاحي ترجمات متعددة في العربية : التداولي، الاستعمالي، النفعي، إلا أن ما درج في الاستعمال هو : التداولي. يتحدر اللفظ من الإغريقية ويعني في جذره (pragma) : حاصل "البراكسيس"، أي العمل. إلا أن الحديث عن التداولي، بوصفه منظورًا فلسفيًّا، لا يسلم من الاختلاف والاجتهاد في النظر : منه ما يصل التداول بنظرية اللغة، ومنه ما يصله بالفلسفة، والجمالية. هذا ما ظهر في القرن التاسع عشر، في الولايات المتحدة الأميركية، وبلغ تطورًا ملحوظًا بعد الحرب العالمية الثانية في أكثر من بيئة ومسعى دراسي.

عنى التداول، كمنظور فلسفي، الاقتراب من الملموس، من العيني، من الخصوصي، من العمل، وعنى الابتعادَ عما هو "ثقافي" و"عقلاني" بصورة مسبقة. وهو منظور "أمبيريقي" في المقام الأول، يُعنى بمعاينة المجريات، والوقائع، والأعمال، والسلوكات، ويُعنى بفهمِها، ما يمكن اختصاره في القول التالي : ليس هناك من صحيح إلا ما له نتائج فعلية في العالم. هذا ما جعل التداولية تبتعد، بل تعارض، الفلسفات المبنية على المعرفة، لتقيم العمل الفلسفي في علاقةِ معاينةٍ للجاري، وتوجيهِ طاقات الإنسان، ولا سيما الذكاء، لبناء قدراته على التصرف في الواقع. وهذا عنى الابتعاد عن الفكر الديكارتي وعن العقلانية، من دون التخلي عن المنطق. ذلك أن التفكير في الشيء يعني التعرف إلى مجمل مفاعيله العملية، لأن هذه هي التي تحدِّد معنى الشيء المفكَّر فيه. هكذا تصبح "الأفكار" أدوات تفكير، أما الحقيقة فلا وجود لها في صورة مسبقة، بل تتكشف تدريجًا في التجربة.

هي، في ذلك، فلسفة عملية، نشطة، تناهض المنظورات الماورائية القائمة على مبدإ "التأسيس"؛ وهو المبدأ الذي حكمَ الفلسفة بين أرسطو وديكارت (Descartes) وجون لوك (John Lock) وديفيد هيوم (David Hume)، وانبنى عمليًّا على : الحدس، والمعطيات الحسية، و"الأوائل" المؤسِّسة.

نشأ هذا المنظور مع الفيلسوف الأميركي : شارل ساندرز بيرس (Charles Sanders Pierce)، (من مواليد العام 1878)، وهو ما تابعَه معه على اتفاق واختلاف بينهم : ويليام جايمس (William James) وجون ديوي (John Dewey) وغيرهما. وعنى المنظور، في إجماله، أن لا وجود لـ"حقيقة موضوعية"، ما دام أننا لا نقوى على فصل الفكرة عن شروط إنتاجها الإنسانية. هذا ما جعل ديوي، على سبيل المثال، يتعامل مع التداولية بوصفها أقرب إلى "فلسفة اجتماعية". وهي، وفق هذا المنظور، لا تنظر إلى الإنسان، مثل ديكارت، بوصفه "ذرة" بل إلى كونه متفاعلًا مع غيره؛ وأنه، بذلك، محدَّدٌ بما يحيط به.

ومن فلاسفة هذا المنظور أيضًا : ألكسندر باين (Alexander Bain)، الذي اعتبر "الاعتقاد" مثل "عادة في العمل"؛ وهو ما كان بيرس قد عملَ عليه، أي "كيف يتم تثبيت الاعتقاد". هكذا فهمَ بيرس الاعتقاد أو الرأي بأنه لا يعدو كونه شيئًا يَبني عليه أيُّ إنسان ما يؤهِّله للقيام بفعلٍ، أي هو عادةٌ بالتالي؛ وهو ما جعل جان-بيار كوميتي (Jean-Pierre Cometti) ينظر إلى التداولية بوصفها "فلسفة الاعتقاد".

هكذا قام منظور بيرس ومن تبعَه على قناعة مفادها أن البشر يتبعون اعتقادات، وهي تستجرُّ عادات، ما يفضي إلى أعمال بعينها. لذلك نظر بيرس إلى الاعتقادات، ليس بوصفها مبادىء أولى مؤدية إلى المعرفة (كما في الفلسفة الكلاسيكية)، وإنما بوصفها فرضيات لها أن تخضع للنقد. هكذا يكون بيرس قد جعل من النظر إلى الأشياء محلَّ الفكر؛ وهكذا لا يكون الفكر أكثر من معرفة عملية.

كما شكَّلتْ التداولية أيضًا فرعًا من اللسانية، واعتنتْ بعلامات اللغة، وجُملِها وتراكيبها، على أن معانيها مرتبطة بسياق استعمالها. فهي تدرس اللغة من ناحية العلاقات التي يصوغها مستعملو اللغة في الجُّمل والتراكيب اللغوية، وهي، إذًا، نظرية "استعماليةِ" اللغة. تقيم هذه النظرية اللسانية التمييز بين جملة أمور : الفعل اللساني (الذي بموجبه نتلفظ ملفوظًا أو قولًا)، والملفوظ نفسه (أي ما يُقال)، وتفهُّم المَلفوظ، والمُتلفِّظِ الذي ينتج القول، ومتلقي الملفوظ.

يتعالق الحديث عن "التداول" حكمًا مع منهجَين معروفَين، بل بين دلالتَين متباينتَين للفظ عينه : بين "التداولية" وفق الاقتصاد السياسي، وبينها وفق المنظور اللساني لـ"استعمالية" اللغة. فقد عنت "التداولية"، عند كارل ماركس وعدد آخر من الاقتصاديين، البحثَ في "قيمة" اللوحة (على سبيل المثال)، يوصفها "سلعة" أو "بضاعة"، ما جعلَها في نطاق "قطاعي" وضيق، ولم يدرجْها في الوجود الاجتماعي الكلي، مثلما تنبهَ إلى ذلك علماء أناسة، مثل مارسيل موس (Marcel Mauss) وغيره. فالأعمال الفنية، مثل مصنوعاتٍ غيرها، تنتقل بين عيون البشر وأيديهم، مثل "الأشياء الاجتماعية (التي هي) قيد الحركة"، ما يجعل قيمتها بالتالي تتعدى الشأن المالي الصرف، وعلاقات الاستهلاك والحاجة. كما عنت "التداولية" معنى مختلفًا في اللسانيات، وفي الجماليات أيضًا، إذ أشارت إلى منهج متبع، موسوم بـ"الفلسفة التحليلية" (ابتداء من إنكلترا)، ويقوم على فحص المسائل الجمالية بوصفها مسائل لغوية في المقام الأول، كما يكتب أحد منظريها هارولد أوسبورن (Harold Osborne) : "إن إضاءة (أو "إراءة") المفاهيم تتحقق في صورة أساسية في الانتباه إلى الممارسة اللغوية، ذلك أن عدة اشتغالنا المفهومية تَظهر في اللغة، والمفاهيم لا تعدو كونها "متحجِّرة" في أشكال الكلام التي نقوى بواسطتها على التحاور" [1]. وإذا كنتُ قد تعاملت مع مفاهيم هذه المدرسة، إلا أنني ابتعدتُ عن منحاها "المنطقي الخالص"، ما دام أنها "لا تلتفت إلى تحقق القول في وضعية اجتماعية مخصوصة، ولا ضمن إطار ثقافة تاريخية، هي غير الثقافة الأوروبية بالضرورة" [2].

أخذتُ، إذًا، بهذَين المنهجَين الفلسفيَّين، من دون أن أتقيد بهما، بل قام اتكالي عليهما وفق قراءة نقدية، ليس طمعًا بالجدل الفلسفي، وإنما تلبية لما يستوجبه البحث ويطلبه في حاصل "المعاينة التكوينية". كما لم أقصر المنهج على فهم لغوي محض، وإنما عاملتُ الأبنية اللغوية بوصفها "حاملة" معان ودلالات متعيِّنة في الاستعمالات والقيم التاريخية-الاجتماعية.

هكذا وجدتُ أن أعمال الفن هي، قبل أي تعريف، "أعمال يتمُّ تناقلها"، وإن ينتهي بعضها إلى "الحفظ الختامي" (في المتحف)؛ وهي مصنوعات بالتالي تشترط، في المنهج، مقاربات تأخذ بأسباب النظر الأناسي والاقتصادي السياسي وغيرها. وقمتُ لهذا الغرض ببناء سبيل دراسي تعيَّن في مسارَين : مسار الملكية، ومسار المعنى. وإذا كان الحديث ورد عند بيار بورديو (Pierre Bourdieu) في عمليتَين متباينتَين فإنه اتخذ في درسي سبيلَين متباينَين ومتعالقَين، فضلاً عن أنني تبينتُ وأقمتُ ثلاث محطات في كل مسار منهما.

هكذا يكون "الفن" – بعيدًا عن تعريفاته المجردة أو "التقنية" – هو ما يبلغه من "صفة"، وفي التداول حكمًا [3].

إن التوصل إلى بناء هذا المنهج لم يستقم بالتالي من دون قراءة نقدية (وتاريخية ضمنًا) للخطاب الفلسفي في الفن، وللخطاب التاريخي في الفن؛ وهو ما أدى إلى بناء خطة بحثية وفق حاصل "المعاينة التكوينية" تمثلت في ثلاثة استهدافات :

  • إعادة النظر : تقوم على نقد تكوين المتن والخطاب الغربيين عن الفنون القديمة، الإسلامية وغيرها، على أنه البداية اللازمة لهذه الخطة البحثية؛
  • توسعة النظر : درسُ الفن والخطاب القديمَين ضمن إطارهما الاجتماعي والفلسفي المخصوص، من دون قصره على الجانب التقني وحسب؛
  • قلبُ النظر : درسُ الفن والخطاب القديمَين بما يتعدى نطاقاتهما وتعريفاتهما المتأخرة بلوغًا إلى ما كانه الفن، أو الخطاب عنه قديمًا، ما يقيم البحث في حدوده القديمة، لا الظاهرة وحسب، وإنما الخافية أيضًا.

 

هذه الاستهدافات تتعالق مع الخطاب الفلسفي (وتعالج مسائله)، ومع الخطاب التاريخي (وتعالج مسائله) في درس الفن، ما يجعل الاستهدافات ترسم بناءها الخصوصي في النظر، وتخرج بالتالي على أنظمة الخطاب المقرَّة في العلوم الإنسانية، فتنتقدها ولا تتقيد بها، بل تقترح سبيلًا آخر لدرس قضاياها.

لهذا يمكن القول إن وجهتي في درس الفن الإسلامي تشترط قراءة "تكوينية" له، تُظهر العمليات التي "أنتجتْه من جديد"، بما يخالف وجوده الأول، سواء في متنه المادي أو في خطابه المناسب له. وهذا يعني أن للمنهج الدارس ألا يتناول متن الفن الإسلامي كما هو مصنَّف في متحف، أو مدروس في خطاب، وإنما أن يتبين ما كان عليه وما آل إليه. وهو ما يعني منهجيًا عدم التسليم المسبق بحاصل الخطاب في الفن الإسلامي، والعمل على فحصه وفق مقاربة تتحقق من "تكوين" المتن، ما يجتمع في منهج "التداول". فـ"حقيقة" الوجود الأول للفن الإسلامي مضتْ؛ وأقصى ما يطمح إليه الدارس هو الاقتراب التاريخي والفلسفي والمادي منه، آخذًا في عين الاعتبار أن "حقيقته" خضعت للتداول وانبنت فيه، ولا سيما في المتحف والخطاب الأوروبيين. ولا يقوم هذا "الاقتراب" بالخروج على علوم ومناهج في الإنسانيات، وإنما على البناء معها وبها، ولكن وفق استهدافات بحثية تناسب طبيعة الموضوع البحثي نفسه.   

لا يسع الدارس بالتالي - إن طلب الأمانة بالمعنى البحثي – أن يُسقط من درسه هذا التكوين المزدوج للخطاب الفلسفي في الفن (في مكوِّنيه الأوروبي، ثم العربي، تبعًا لما ندرس)، ولا أن ينتقل إلى محاججة أو اقتراح فلسفيَّين بهناءة الباني على أرض أكيدة. وهو تشكيكٌ لازمٌ أيضًا في الخطاب العربي، إذ قام على القبول والاتباع، وعلى "الاستقراض" واقعًا، ما يجعل السؤال ضروريًّا في نطاقه : أهناك قولٌ فلسفي ممكن في العربية في نطاق الفن بالاتكال على خطاب الغير ؟ وهو سؤال لا يقوم على مخاطبة "عنصرية" أو "ماهوية"، وإنما يطلب التحقق المزدوج، لأن في هذا ما يبني "شرعية" القول الفلسفي و"صحتَه". ويزيد من الحاجة إلى نقد هذا الخطاب الفلسفي كونه "قُبل" في الخطاب العربي، من دون مساءلة في أحوال كثيرة؛ وهي مساءلة لازمة ما دام أن الخطاب المذكور نشأ في ثقافة، وفي سياق، وفي تداول، ما يحتاج إلى تبينٍٍ وفحصٍ من ناحية تكونه وانتظامه واشتغاله، من جهة، وإلى درسٍ من جهة تناسبه مع فنون الغير، بما فيها "الفن الإسلامي"، من جهة أخرى.

إن غياب هذا التحقيق قد يعني، في أحوال، "تدبيج" القول الفلسفي ليس إلا، أي انتظامه الشرحي أو التفكري المجرد، من دون انتظام علاقة لازمة بين "الفن" (متعينًا في وجودَيه التاريخي والاجتماعي) وبين "الخطاب" عنه. بل كشفَ درسي عن وجود ما أسميته بـ"مستور الفن"، أي ما يخفيه العمل الفني والخطاب الفني من عمليات جارية فيه، وسابقة عليه، و"تستقبلُه"، ما يمحضه قيمته، أو أساس قيمته؛ وهو "المستور" الذي يخفيه الخطاب عن الفن إذ ينسب هذه القيمة إلى "التولدات الانبثاقية" لدى الفنان، أو إلى "ولع" المقتني بما يشتريه ويراكمه...

لهذا اتجهَ مسعاي في الدرس إلى فحصِ تاريخِ تشكُّلِ "متنٍ" للفن الإسلامي؛ وهو ما جرى تاريخيًّا في بلدان أوروبية مختلفة؛ ويعود إلى جامعيها ومقتنيها وكُتابها دورُ بناء هذا المتن، المادي والخطابي، بين القرن الخامس عشر ومطالع القرن العشرين (على ما درستُ). فتسمية هذا الفن ( : "الفن الإسلامي")، والإقدام على تجميع مواده وفرزِها وعرضِها وحفظِها، قاما وفق مبادرات وسياسات ومقترحات متعينة لدى مقتنيها ودارسيها المذكورين.

 

يطلبُ هذا الكتاب وجهة دراسية تقوم على توسعة النظر التاريخي وتقويته إلى الفن الإسلامي؛ وهو أحوجُ ما يحتاجه درسُ هذا الفن. ويعني النظر التاريخي، في هذا المجال، الكشف عن مصادر للتاريخ أن ينهل منها، وأن يضعها في منظور موافق.

هذا ما عنى منذ كتابي الأول، "مذاهب الحُسن : قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية"، الانصرافَ إلى مواد اللغة والأدب، إلى جانب مواد الفن نفسها، لاستجلاء ما تشتمله من معطيات مناسبة لإقامة أسباب هذا النظر. ويزيد من هذه الحاجة كون الخطاب الغربي انصرف، في أحواله الغالبة، إلى منهج تتنازعه نزعتان : آثارية وتفسيرية، على حساب النظر التاريخي (ما سيتمُّ تناوله أيضًا في هذا الكتاب).

يقيم أكثر من فصل في هذا الكتاب علاقات غير مسبوقة في الدرس الغربي تحديدًا للفن الإسلامي بين : الصورة والأدب، حيث إن هذا الخطاب "استقبل" مواد الفن الإسلامي وفق سياقه الدراسي الخاص، وجعله فنًا "تطبيقيًّا" لما كان يتعيَّن في "عالي" البناء الفني في تجاربه، وهو : فن الرسم (وما انتهى إليه بعد ذلك في "الفنون التشكيلية"، ثم حاليًّا في "الفنون البصرية"). وما هو جدير بالانتباه في هذا المجال – بعيدًا عن صحةِ أو خطإِ التقابل بين فنَّين مختلفَي التكوين والمنظور – هو أن الخطاب الغربي راح يتعامل مع المادة الفنية الإسلامية حسب طرقٍ دراسية مشابهة لدرسه فن اللوحة (أو التمثال وغيره)، طمعًا بإنزال الفن الإسلامي في "تاريخ الفنون العام" ابتداء من اللحظة التي بلغتها تجارب "الفن" في أوروبا تحديدًا.

حصَّل "الفن الإسلامي"، في ذلك، رتبة ومكانة أكيدتَين، إذ جرى تعيينه مثل فن "وسيط" و"انتقالي" بين فنون الحضارات القديمة وفنون أوروبا، أو بين فنون الشرق الأقصى وفنون المتوسط. كسب الفن الإسلامي في هذه العملية، إذ أُدخل (بمعنى ما) إلى "عالمية الفن"، وبات في عداد "الحضارات الكبرى"، التي باتت تتعين (منذ القرن الثامن عشر) في "فنونها" التصويرية خصوصًا (والتي تناسب سياسات الإظهار والعرض والقيمة، سواء في القصر أو في المتحف الناشىء). هكذا جرى الإقرار - بعد جدل مديد – بأن هذه المواد المتفرقة المجلوبة من البيئات الإسلامية ليست مواد طريفة وغريبة ومخالفة لما هو معروف في البلاط الأوروبي وحسب، وإنما باتت تتحدد في "متن" جامع لها، وأنها ترتقي إلى "الصنيع الفني" (objet d’art). بات هذا "الفن" بالتالي دالًا أو تعبيرًا عن "مجموع حضاري"، ممتدٍ  وفق امتداد النفوذ الإسلامي في أربعة قرون، بين المغرب العربي والشرق الأقصى، بلوغًا إلى آسيا الوسطى. هكذا "نزل" الفن الإسلامي في منظومة، و"استقبلتْه"، في أمور تصنيفه ودرسه، مناهج وقيم وأساليب متأتية من تبلور التجربة الأوروبية نفسها، في إنتاج الفن وتصنيفه ودرسه. هذا ما جعل الفن الإسلامي يتعيَّن في فن "دوني"، ثم "تطبيقي"، فأصبح بالتالي "ظلاً لغيره"، وعلى الرغم منه.

هكذا أختصرُ بجُمل قليلة ما سبق لي أن درستُه في كتب وبحوث، لكي أخلص منه إلى تبيان الناتج التالي، وهو أن ترتيب الفن الإسلامي، ولا سيما فهمَه، لم ينعما دومًا بما يناسبه ويحتاجه من درس موافقٍ لسياقه التاريخي.

مع ذلك، نقع في الخطاب الغربي الدارس للفن الإسلامي على مساع قامت على تدبير "تاريخ" له، لكن ما قامت به لم يتعدَ ما قام به مؤرخو الأدب العربي من الأوروبيين، وهو إيجادُ "تقابلٍ مُلزم" بين العهد السياسي وبين العهد الأدبي : هذا ما نجده في كثير من المساعي التاريخية في فهم هذا الفن، ما يمكن أن نشير إليه في هذا التحديد اللافت للمؤرخ الفني الفرنسي جورج مارثيه (Georges Marçais)، إذ يكتب في مستهل كتابه : "الفن المسلم" (L’art musulman) : "إن تتبُّع هذا التطور الفني (للفن المسلم، حسب لفظه) يجد نسقه في التاريخ السياسي للعالم المسلم" [4]. هذا "التناسب" أوجدَ أسباب صلة في عالي العلاقة (إذا جاز الوصف) بين الفن والتاريخ، لكنه أقام عمليَّا نظامًا توضيبيًا في الخصوص، وأبعدَ الفن عن جاري الحراك البشري : كما لو أن الدارس الأوروبي كان يُقدِّم للملك مرآة فنية يرى فيها إلى نفسه في صورة الغير (الملوك الآخرين)، وهو ما التقى مع مرآة أخرى، هي مرآة النخب المتعلمة والفنية كذلك.

لستُ، في هذه الكلمة التمهيدية، في موضع كتابةِ نقدٍ للنزعة التاريخية الأوروبية (ثم الغربية) في درس الفن الإسلامي، وإنما كنتُ أريد من تناولها – السريع بالطبع – أن أشير إلى أن المناحي التاريخية المناسبة بقيتْ محدودة، واكتفتْ في الغالب بالمصادر المادية لهذا الفن، من دون المصادر الكتابية. هذا ما شدَّدتُ عليه في أكثر من كتاب وبحث، وهو أن الخطاب الغربي الدارس للفن الإسلامي قلما اعتنى باستبيان تاريخ الفن الإسلامي ابتداء من مصادر الثقافة العربية، ومن كتبها، بمن فيهم الفلاسفة المسلمون أنفسهم.

يمكن القول إن مجموع فصول الكتاب انبنى وفق منظور تاريخي، واجتماعي ضمنًا، يتنبه إلى مكوِّنَي هذا الفن : النص والترف؛ وإذا كان المكوِّن الأول قد حظي باهتمام دارسين، فإن المكوِّن الثاني بقي خارج دائرة البحث في أحوال كثيرة. والجمع بين هذين المكوِّنين مسعى مزيد لوضع هذا الفن في سياقه التاريخي كما الاجتماعي المناسب.

لقد طاول الدرسُ في الكتاب نطاقات وتجارب وإنتاجات مختلفة في هذا الفن، ولا سيما في الخط والتصوير والمخطوط، ابتداء من مصادر كتابية عربية (إضافة إلى مخطوط صيني قديم ونادر)، فضلًا عن معاينة أعمال من الفن الإسلامي، ومنها مخطوط يمني يُكشف عنه للمرة الأولى. فيعمل غالب فصول الكتاب على إقامة علاقة درسٍ بين الأدب والفن : بين المَقامة والصورة، بين الحكاية والصورة، بين القصيدة والصورة؛ بل تنبهَ الدرسُ إلى وجود علاقات أعمق بين اللغة والفن، ما جعلني أتحدث عن "أساس لغوي" لهذا الفن، وأتبين وجود علاقات أعقد بين اللغة والوجود نفسه، حيث إن درس اللغة العربية نفسها في الخطاب (الفلسفي، الصوفي...)، قد يكون "العوض" أو "البديل" عن درس الوجود نفسه، كما هو عليه عادةً في الخطاب الفلسفي، ولاسيما الإغريقي، ثم الأوروبي.

كما توقف الدرس كذلك عند فنٍّ قلما انصرف إليه الدارسون وهو "خيال الظل"، لمعرفة أسباب اتصاله (أو عدمها) مع تجارب الفن الإسلامي الأخرى. إلا أن الدرس لم يكتفِ بتناول مواد هذا الفن، بل توقف كذلك عند الخطاب الذي عملَ على تفسيره، وعلى إدراجه في أنظمة التفكير والاعتقاد. ولقد نشرتُ في نهاية الكتاب ثلاث مقابلات صحفية متوسعة معي حول مسائل هذا الفن، بعد أن اعتبرتُها مكمِّلة ومحيطة بالقول الخاص في هذا الكتاب.

 

 

 

[1]Harold Osborne : The concept of creativity in art, The british journal of aesthetics, N 19, 1979, p 224-231.

[2] شربل داغر : "مذاهب الحسن : قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية"، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، بالتعاون مع الجمعية الملكية للفنون الجميلة، عَمان، 1998، ص 407.

[3] يمكن العودة، للتعرف المزيد والمدقق إلى هذا المنظور في درس الفن، ولا سيما الإسلامي منه، إلى كتابي : "الفن والشرق : الملكية والمعنى في التداول"، في جزئه الأول، وفي بابه الأول.

[4]Georges Marçais : L’art musulman, Quadrige - P U F, 2 édition 1981, (1962), Paris, p 9.