وضعتُ في تقديم هذا الكتاب جملة لنيتشه: "بأقوى ما في الحاضر من قوة علينا أن نفسر الماضي"، ويحلو لي العودة إليها، لتقديم هذا الكتاب في طبعته الثانية، التي توافق تماماً الطبعة الأولى من دون أي تعديل فيها.
ذلك أنه قد يبدو للبعض أن وضع كتاب مثل "مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية" اشتغالٌ في الماضي المحض، فيما هو ينطلق كذلك من أسئلة متجددة، ويعمل في نطاق رهاناتها كذلك. بل يمكن نسبة هذا العمل إلى نقد خطاب المثاقفة، إذ يعيد النظر في حاضر الكتابة العربية (والأجنبية) عن الفنون. وهو نقد يطاول وجهاً من أوجه ثقافة "النهضة" المستمرة حتى أيامنا هذه؛ وهي ثقافة لم تقرّْ وحسب بنظام المعارف والفنون والعلوم ذي الأساس الأوروبي، بل عملتْ كذلك على "استدخال" مترتبات الجدولة والتبويب (والتفسير أحياناً) التي خص بها هذا النظامُ ثقافةَ العرب (والمسلمين) الماضية.
يكفي للدلالة على هذا التغير الوقوف عند لفظين-عمادين في الثقافة العربية المعاصرة: لفظُ "الأدب" يعني حالياً إنتاجات اللغة، ولا سيما الشعر والنثر، فيما كان يعني قبل القرن التاسع عشر التربية والتعليم خصوصاً. هذا ما يمكن قوله في لفظ "الفن" أيضاً، إذ كان يعني الغصن والفرع من الشيء أو من العلم أو من الكتاب، قبل أن يعني في الثقافة العربية الراهنة الإنتاجات البصرية المستحسنة (الجميلة) تحديداً.
هذا ما تقوله الألفاظ بوصفها حافظة، لا للمعاني والدلالات وحسب، وإنما كذلك للتغيرات الحادثة في التداولات والتعيينات الكلامية في الجماعة اللسانية الواحدة، ما يعني أن مساءلة اللغة عن حمولاتها - وهي في أساس بناء الكتاب منهجياً - تأريخ مخصوص عن إنتاجات المجتمع، في جيدها ورديئها، وعن الصفات التي يلحقها بهذه أو يحجبها عن تلك.
كانت العودة إلى اللغة لازمة، إن صح التعبير، إذ أن متبقيات الفنون وكتابات التاريخ لم تحفظ دوماً ما يكفي لدراسة هذه الفنون. هذا ما يمكن قوله كذلك في "تصنيف" الفنون، أو ترتيبها في منظومة، إذ لم تعرف العربية ما عرفه الدارسون الأوروبيون، في تمييزاتهم القديمة بين فنون "حرة" وأخرى "يدوية"، وبين فنون "عظمى" وأخرى "دنيا"، ثم الحديث في الأزمنة الحديثة عن "فنون جميلة"، ثم "تشكيلية"، وعن "الفن السابع" (أي السينما) وغيره مما أُلحق بالفنون هذه.
العودة إلى متون الكتب والتصنيفات القديمة لم تنعم علينا بنظام خصوصي للفنون، ولا بمذاهب الحسن، أو تقويمات الجمال ومعاييره وقيمه: قد نقع على اجتماع الموسيقى بالهندسة، أو الخط بالتزويق؛ إلا أن هذه الاجتماعات لم تبلور نظاماً مخصوصاً ضمن الثقافة القديمة، من دون أن يعني هذا أن الأفراد ما كانوا يُجمعون على استحسان (أو استقباح) هذا الصنيع، أو هذا السلوك، أو تلك الصفة... ذلك أن انشغالات الفكر - ومنها الانشغال بالحسن، في معاييره وقيمه - قد تُعنى بأمور دون أمور، وأن ما تعنى به قد لا يوافق عنايات الجماعة بالضرورة.
المفكرون القدامى توقفوا طويلاً عند الموسيقى، إلا أنها ما عنت في حسابهم، في غالب الأحيان، أداء المغنية جميلة أو العازف عطرد أو الموسيقي زرياب وغيرهم الكثيرين، بل توافقات النجوم والكواكب في حركات الكون. وهذا ما يمكن قوله في الهندسة أيضاً، إذ عنت غالباً حركة الأفلاك، وبناء الاسطقسات والعناصر والهيولى والصورة وغيرها.
اللافت في أمر الحسن في انشغالات الفكر، فقهاً وكلاماً وفلسفة، هو أن الكُتاب انصرفوا إلى دراسة العلويات، ومنها الروحانيات والإلهيات، وإلى "تصعيدها"، على حساب الدنيويات، بما فيها المصنوعات والإنتاجات البشرية على اختلافها. وهو نهجٌ في السعي الفكري، نتحقق منه منذ أمبيدوكل (القرن الرابع قبل المسيح) في الفكر الإغريقي، وأدى إلى تمييز الأرضي عن العلوي، بل إلى التعرف على العالم الأصيل والحقيقي في "عالم المُثل" (مثلما قال أفلاطون)، على أن صور العالم الأرضي "متدهورة" عنه. وهو سعيٌ في الفكر بلغ مع الفكر المسيحي، ولا سيما في نسقه البيزنطي، حدوداً توسطية بين العالمين، إذ جرى التعامل مع الأيقونة بوصفها من طبيعتين، إلهية وإنسانية في آن، وهو ما انتهى مع السعي الإسلامي إلى فصل تام بين العالمين، وإلى جعل الحُسن ممكناً في صفات الله.
هذا ما واجهه الدارسون الأوروبيون كذلك عند "تصنيف" الفنون العربية-الإسلامية القديمة، إذ لم يجدوا في المتون ما يُعيِّن هذا النظام، أو يكفله، إلا أنهم غفلوا بالمقابل عما تَحدَّثَ عنه "إخوان الصفاء" في "الرسائل" عن "صناعة الزينة والجمال". كما لم تتبين قراءاتهم لهذه المتون التباين بين انشغالات الفكر وسلوكات الذوق في هذه الجماعات؛ وهو ما يمكن تسميته بـ"تاريخية المعرفة"، إذ أنها تتباين أحياناً بين ثقافة المختصين ومعتقدات الجماعات، كما تختلف المعرفة كذلك بين عهد وآخر ضمن الثقافة الواحدة.
هكذا أجرى الدارسون الأوروبيون على الفنون القديمة تصنيفات وترتيبات، غير مستندة إلى الثقافة والصناعات المحلية، كما لم يستندوا، لا إلى علوم القدامى وتصنيفاتهم، ولا إلى سلوكات الجماعات وأذواقها، ولا إلى نظام جمعي بين هذين الأساسين. بل أجروا على هذه الفنون جداول استقوها من ثقافتهم المخصوصة، فخصوا العمارة والخط والصورة بفنون (وهي كانت على هذه الصورة في ثقافتهم)، وجعلوا الفنون الأخرى في مرتبة "دنيا"، أو "تطبيقية"، وصنفوها وفق أسس الجنس أو الصنف (فن المعادن، فن الحلي...).
لهذا يمكن القول إن النظام السداسي الذي ينتهي إليه كتاب "مذاهب الحسن..." - أي الحديث عن ستة مجاميع، هي: الدارة (العمارة)، الشارة (اللباس والهيئة الحسنة)، الصوت (الغناء)، الشعر، الكتابة والدمية (التصوير والتمثيل) - قديم ومستحدث في آن. أي أنه نظام يستند إلى ما كانت تقره شواغل الفكر في أعمالها، وإلى تقويمات مبثوثة في الجماعة وسلوكاتها، كما تتبدى في مطالعات ومعاينات تاريخية واجتماعية لسلوكات الذوق في البيئات العربية-الإسلامية.
هذا المقترح يبتعد عما اختطه دارسو الفنون القديمة من الأوروبيين والغربيين، إذ أنهم وضعوا جانباً المتون المحيطة والمفسرة لهذه الفنون، وتعاملوا معها على أنها أشبه بالآثار القديمة، بل بالـ"لقى"، أي "متبقيات" وحسب، من دون الثقافة والتفسيرات التي لها أن تعينها وتفسرها في آن. هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه الفنون موجودة ومستمرة ومتطورة (ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) في عدد كبير من البيئات العربية والإسلامية، عدا أنهم تجاهلوا في الغالب نصوص الثقافة العربية-الإسلامية التي تفسر جوانب من هذه الفنون.
تحتاج قراءة الماضي إلى مصادره، إلى مواده المادية أو الكتابية، إلا أنها ليست فتح ملف مغلق، وإنما قد تتحقق على الرغم من هذه المصادر. إذ أنها ما حفظت دوماً من المواد والكلام ما يكفل النهوض بتفسيرها، أو ما يدعم توثيق هذا الإنتاج أو ذاك. ذلك أن المصادر انشغلت بأمور دون أمور، وأعلت من شؤون وحطت من شؤون، عدا أنها تقيدت باشتراطات عامة أو خاصة، مفروضة أو معتمدة، ما يشكل سدوداً دون بلوغ معرفة وافية ومتوازنة عن شواغل الجماعات والأفراد في العهود المدروسة. هذا يعني أن قراءة الماضي يمكن أن تتحول، في بعض الأحوال، إلى قراءة مضادة، أو محولة أو معدلة له. لهذا تعينت خطة الكتاب في مسعيين:
- نقد المدونة الراهنة لـ"الفن الإسلامي": النقد مستور أو ضمني في الكتاب، إلا أنه هو الذي أتاح بناء المسعى الثاني، غرض الكتاب؛
- نقد وإعادة بناء "مذاهب الحسن"، في ألفاظها وإنتاجاتها وقيمها واستهدافاتها، كما تتجلى في الحقبة الأموية، وفق حدود الدراسة.
وطى حوب، 6-7-2012


(مقدمة جديدة، في مناسبة صدور الطبعة الثانية للكتاب، بمبادرة من وزارة الثقافة الأردنية، عَمان، 2012).