ملاحظة : ما كان لهذه الدراسة أن تقوم لولا عمل الفنان ضياء العزاوي – مشكوراً – على إصدار طبعة "وفق الاصل" لمخطوط الواسطي، مثلما هو محفوظ في "المكتبة الوطنية "بباريس؛ وتقوم هذه الدراسة على مقارنة بين "مقامات الحريري" (عدت إليها في طبعة صادرة عن دار بيروت للطباعة والنشر، 1985، وقدمها: عيسى سابا)، وبين "المقامات الحريرية" التي خطها وصورها يحيى الواسطي (بعد أن قامت دار "تاتش آر" بإصدارها وفق الاصل).
يعترف أولغ غرابار في أحد كتبه الأخيرة بأن كتابة "تاريخ" للفن الإسلامي لا تزال "مهمة مستحيلة"، ويفيدنا أيضاً أن إحدى دور النشر العالمية قررت، في حينه، كتابة مادة تعريفية بالفن الإسلامي من دون تاريخه. هذا ما يطرح السؤال: لماذا ما يصح في كثير من الفنون في العالم لا يصح في الفن الإسلامي؟ ويزيد من جدوى هذا السؤال أن من يطرحه يُعد من كبار دارسيه. إذاً، هناك مشكلة أكيدة، وتتعدى مجهودات باحث أو مؤرخ وآخر. لماذا؟
لا يسعني، في هذه الكلمة، الإجابة عن هذا السؤال وغيره، وإنما يعنيني، بعد طرحه، الوقوف عند بعض أسبابه. وهو ما أختصر الكلام عنه بالحديث عن هذا الفن بين الدين والتاريخ. فماذا أريد أن أقول؟
بين الدين والتاريخ
إن العائد إلى كتب التاريخ المتوافرة عن الفن الإسلامي يتحقق من أنها تستند إلى تاريخ التقنيات والمواد والأساليب، مع مقادير متفاوتة من النظر التاريخي. فهي كتب ودراسات عالجت مواد الفن لجهة توثيقها، ووصفها، ودرس أساليبها، من دون أن تعنى إلا بالقليل بجوانب التاريخ نفسها، السياسية والاجتماعية والجمالية.
ذلك أن ما استوقف الدارسين، ولا سيما الأوروبيين، بين القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، تعين في:
- توثيق مواد الفن، ما خدم حاجات الجامعين والحافظين وغيرهم؛
- درس صلة هذا الفن بالدين الإسلامي (: ما سمح به، ما طلبه، وما منعه من هذا الفن)؛
- درس صلة هذا الفن بالشعوب التي أنتجته، ما حدد هويته بالتالي بين عربي وفارسي وإسلامي وغيره.
طبعاً، لم يغب المنظور التاريخي والآثاري عن هذه المساعي، إلا أن هذا الخطاب بقي محدداً بحاجات أخرى لم يكن في أولها وضعُ تاريخ له. يضاف إلى ذلك، أن وضع هذا التاريخ يحتاج إلى مواد ومساع تحليلية أخرى ما كانت متوافرة أو مطلوبة في ذلك العهد. وهو ما اختصره بالحديث عن أن الخطاب عن الفن الإسلامي تقيد بمنظور آثاري، كما لو أن هذا الفن لا يشتمل على ثقافة محيطة به، ومفسرة له. فماذا أريد القول؟
من يَعُد إلى كثير من الكتب والدراسات عن الفن الإسلامي يتحقق من أنها قلما تعود إلى كتب الثقافة العربية، بين سياسية وفلسفية وكلامية واقتصادية واجتماعية وبلاغية وغيرها. فتاريخ الفن الإسلامي لا يمكن أن يدرس من دون كتب التاريخ العام، أو كتب الحسبة، وأخبار الخلفاء والظرفاء والصناع والمقتنين وغيرهم في العهود الإسلامية المختلفة. كما لا يمكن وضع خطاب جمالي وفني مناسب لهذا الفن من دون درس ما قالته الفرق الإسلامية، بين كلامية وغيرها، وما قاله خطاب الفلاسفة والبلاغيين ونقاد الشعر وغيرهم عن الشعر والمحاكاة والتنزيه والحسن وغيرها.
هذا يقود إلى طرح السؤال الأساسي: هل لبى الفن الإسلامي حاجات الدين تحديداً أم لبى كذلك حاجات في التاريخ (في الحُكم، في الثقافة، في الذوق...)؟ وإذا كان هذا الفن قد تقيد بضوابط الدين (ما يجعله فناً واحداً) فهل تفاعل مع تجارب الشعوب الإسلامية وثقافاتها وحقباتها التاريخية المختلفة (بما يجعله فناً متعدداً ومختلفاً)؟
هذا ما أثيره في عدة مسائل:
- لا يختلف اثنان في أن علاقة الفن الإسلامي بالدين، من جهة الشعائر والمساجد وغيرها، لم تختلف في الغالب في مختلف العصور، وفي المذاهب الإسلامية المختلفة؛
- يتبين، من خلال متابعة أعمال فنية إسلامية مختلفة، وجود خلافات وممارسات في تصوير الهيئة، ومنها هيئة الخلفاء، بين مذهب إسلامي وغيره، وبين عصر وآخر؛
- يمكن ملاحظة اختلافات بين الحاجات الفنية للبلاطات الإسلامية المختلفة بين عصر وآخر، وبين بلد وآخر؛
- يتضح أيضاً أن الفن الإسلامي لم يلب حاجات الدين والشعائر وحسب، وإنما لبى حاجات واقعة في الحكم، في التميز السلطاني والاجتماعي، وفي بناء منظومة فنية وجمالية، ما أجمله بالقول: الفن بين الدين والترف.
وهو ما يقودني إلى القول بأن كتابة تاريخ للفن الإسلامي لا يمكن قيامها من دون منظورين متلازمين ومتكاملين له: منظور واحد و"عابر للتاريخ"، من جهة، ومنظور متعدد ومختلف تبعاً للعصور والبلدان المختلفة، من جهة ثانية.
بين "القرآن" والكتاب الأدبي والعلمي وغيره
شكلتْ علاقة الصورة بالفن الإسلامي مسألة إشكالية، وأنا لا أطلب معالجتها في هذه المحاضرة، وإنما أريد طرحها كمثل أتبين فيه المشاكل التي طرحتها أعلاه. فكيف ذلك؟ ذلك أن درس علاقة الصورة بالكتاب تتيح معرفة الموقف الديني من الفن، من جهة، والموقف من التاريخ، من جهة ثانية. ما أثيره في عدة أسئلة: هل تقيد فن الكتاب بالقيود الدينية أم تخلص منها أم حولها؟ هل تفاعل الفنان في الكتاب مع حاجات الزمن والتاريخ والسياسة وغيرها؟
طلبت، في هذا المجال، الوقوف عند مخطوط شهير، بل قد يكون أشهر مخطوط مصور وضعه عربي، وهو مخطوط الواسطي، إذ قام بالعمل على "مقامات الحريري" (في العام 1237 م.). وقد طلبت الوقوف عنده واجداً أنه يستحق دراسات مزيدة تفيد في معرفته، وفي معرفة هذا الفن عموماً.
منمنمة (miniature) : الاسم المختلق
سأبداً، أولاً، بالتسمية نفسها: أطلق الدارسون الفرنسيون على هذا العمل الفني وغيره اسم: (MINIATURE)؛ وهو ما احتفظت به أكثر من لغة في أكثر من بلد إسلامي، مثل إيران التي تتحدث بدورها عن "مينياتور". أما في الدرس العربي فقد اقترح بشر فارس في خمسينيات القرن الماضي تسمية هذه الأعمال بـ"المنمنمة"، وقد علل ذلك أمام "المجمع العلمي" في القاهرة. وما انتهيت إليه، في التدقيق اللغوي والتاريخي، هو أن التسميتين، الفرنسية ثم العربية، تسميتان "مقترحتان"، من جهة، ولا تستندان إلى سند قديم في الكتابة العربية، من جهة ثانية. فكيف ذلك؟
لنبدأ بالتسمية الفرنسية المقترحة: لا يحتاج الدارس إلى علم كثير لكي يلحظ بأن هذه التسمية مستقاة من التجربة الفنية الإيطالية (ثم الأوروبية)، وتدل على أعمال فنية بعينها، ما يمكن ترجمته (في العربية) بالأعمال التصغيرية. أي أنها أعمال فنية تقوم على تصوير مشهد أو غيره في قياسات مصغرة فوق حامله المادي. وهو ما لا يناسب مخطوط الواسطي، حيث أن أكثر من صورة فيه تحتل صفحة بكاملها، أو صفحتين أحياناً، عدا أنها تحفل بكثير من "تفاصيل" المشهد أو الهيئة الذي تصوره وتتمثله. وقد يكون منشأ هذا الالتباس في التسمية الفرنسية (وغيرها في أوروبا) يعود إلى ارتباط الصورة بالمخطوط، وهو ما كان معروفاً عن الفن التصغيري في الكتب الفنية الأوروبية، ولا سيما المسيحية بداية. وماذا عن التسمية العربية، أي ما اقترحه بشر فارس؟ لماذا اقترح تسميةً، وعمل واقعاً على ترجمة اللفظ الفرنسي؟ أما كان في مقدوره العودة إلى ما قالته العربية عن هذه الأعمال الفنية؟
عاد بشر فارس (كما يشرح ذلك) إلى جذر: "نمنم" في العربية، وهو يشير إلى الخط الدقيق والصغير بالتالي، ما يبدو، من جهته، تقريباً من اللفظ الفرنسي، في مسعى تحل فيه الترجمة محل الاسم الموضوع لهذا النوع الفني. ولقد وجدت بالعودة إلى مدونة عربية قديمة وجود لفظين لهذه الأعمال: واحد مذكور في مخطوط الواسطي، يتحدث فيه عن أنه "صور" مقامات الحريري، ما يشير، في استعماله إلى عدم وجود لفظ مخصوص بهذا النوع، وهو ما يجعل عمله يندرج – إن جاز الاستنتاج – تحت مسمى: الصور الكتابية (وهو اللفظ الأول الذي استعملته الكتابات الفرنسية عند الكشف لأول مرة عن هذا المخطوط). إلا أنني وجدت ابن المقفع يلجأ، قبل ذلك، في مطلع كتاب "كليلة ودمنة" إلى لفظ آخر، وهو "التزويق" للحديث عن الطرق الفنية المختلفة التي تم بواسطتها إخراج الكتاب ومعالجته بشكل فني مناسب. ولقد وجدت في ما كتبه المقريزي بعد وقت ذكراً للكتاب التالي: "ضوء النبراس في أخبار المزوقين من الناس"، إلا أن الكتاب لم يصلنا – للأسف -، لكن عنوانه يشير – ولو بشكل غير حاسم – إلى عمل المصورين على الأرجح، وهو ما كان يتعين في الكتب خصوصاً. لهذه الأسباب وغيرها اقترحت تسمية أخرى، مستندة إلى هذه الحجج وغيرها، وهي: "المزوقة"، أو "الصور الكتابية".
صلة الصورة بالكتاب
لنتوقف، الآن، عند المخطوط نفسه. أول ما يستوقف، في ما قرأت من كتب ودراسات عن عمل الواسطي، هو أن الدارسين أسقطوا من تحليلهم كون العمل كتاباً في صنعه وأساسه. وهو ما تمثل في أول مرة جرى فيها عرض المخطوط، في باريس، في العام 1928، حيث لجأ العارضون إلى عرض أجزاء منه، أي في صور متفرقة... وهو ما يمكن تتبعه في أمثلة تاريخية أخرى، بما فيها درس وعرض هذا المخطوط في مجلات وكتب وغيرها، حيث جرى "فرط" المخطوط (إذا جاز القول)، وتمَّ العمل معه كما لو أنه مجموعة من الصور الشبيهة بنسق اللوحة الزيتية المعروضة فوق جدار.
وهو ما يمكن التحقق منه أيضاً في الكتابات التي درست المخطوط، إذ يشير الدارسون إلى مؤلف المقامات، وربما يذكرون بعض المعلومات عن "المقامة"، عن هذا الفن السردي المميز في الأدب العربي القديم، إلا أنهم لا يتعدون ذلك لمعرفة أسباب الوصل والفصل بين الكتاب (أو المقامة) والصورة. قد يشير بعضهم إلى الراوي في المقامة (الحرث بن همام)، وإلى شخصيتها الأساسية (أبو زيد السروجي)، أو إلى أساليب "الكيدية" السارية في الحكايات، وقد ينصرف بعضهم إلى الحديث عن حكاية هذه المقامة أو تلك، إلا أنهم لا يدرسون كيف "تنزل" وأين "تنزل" الصورة في المقامة، ولا يتساءلون عن أسباب نزولها وشكل نزولها، وغيرها من الأسئلة الواقعة في عمل المصور، وفي تدبيره لصنيعه الفني.
قام عدد من الدارسين بإدراج صنيع الواسطي مع غيره من المخطوطات ذات الصور، مثل "كتاب الحيل" أو "عجائب المخلوقات" أو كتب الطب والميكانيكا وغيرها. كما جرى جمعه بالصور الكتابية في الفن المسيحي القديم، وبالفن الفارسي القديم، وهو جمعٌ يخفف من تميز عمل الواسطي، على ما انتهيت إلى التحقق. وهو ما يمكن قوله أيضاً في تنسيب عمله إلى فن المزوقات، من دون تمييز دقيق بين عمله وعملها. وهو ما أدرجه في عدد من الملاحظات:
مشهدية تاريخية
يختلف عمل الواسطي عن غيره في أنه لا يعتمد البناء الفني المعروف في صور المخطوطات، وهو "البناء الاصطلاحي" على ما أسميه، الذي يقوم على توزيع الصفحة إلى أشكال هندسية - معمارية يتم إنزال مفردات التصوير أو هيئاته فيها، وهو شكل بنائي معروف منذ العهد البيزنطي في تصوير المخطوطات. وهو ما نجده في الصور الكتابية في المخطوطات الفارسية كذلك (...).
أما في عمل الواسطي فالأمر مختلف تماماً، وهو ما أدلل عليه بعدد من الملاحظات المستندة إلى صور مختلفة: لا يؤلف المشهد المصور في المخطوطات الفارسية، على سبيل المثال، مشهداً "واقعياً"، إن جازت التسمية، متتابعَ الفقرات ومربوط الصلة بين أجزاء الصورة. بينما نجد الصور عند الواسطي تصور "لقطة" من مشهد، إن جاز القول، بكل ما تشتمله من عناصر قابلة للتصديق. فالشخوص المصورة تحتاج دوماً إلى ما تقف عليه، ولا تطير في فضاء أثيري غير محدد: تحتاج صور الواسطي إلى أرض، أو إلى بحر، لكي يستقيم حضورها التصويري. بل يمكن الحديث عن أن بناء الصورة يتوافر فيه أكثر من مستوى (أول، أو ثان، أو أبعد، كما يقال في التصوير الأوروبي ذي البعد المنظوري)، بحيث أن أشياء أو هيئات تتقدم على غيرها، أو تقع خلف غيرها، بتناوبٍ وتعاكسٍ لونيين في الغالب. ويكفي (في ملاحظة بسيطة) أن نحصي أعداد الجِّمال في صورة، وأعداد رؤوسها لكي نتحقق من أن عدد القوائم أكبر، ما يعني أن الواسطي يصور ما للعين أن تراه عياناً، أمامه، إذا جاز القول؛ بل يعني هذا أن عينه المبصرة تصور ما لها أن تراه إذ تقوى على رؤية القوائم (وهي تقع في أمام الصورة) فيما لا تقوى على رؤية أجسامها وربما وجوهها (لأنها تقع في خلفية أو وراء ما يصوره).
وهو ما يناسب أيضاً في الحديث عن البناء الإطاري، الهندسي - المعماري، الذي تتخذه بعض صور الواسطي إطاراً جامعاً لها: فالعلاقات بين هذا الشكل أو ذاك في البناء العام للصورة مترابطة، وترسم مشهداً واقعياً، حيث يقف هذا أو ينام فعلاً فوق ذاك، أو يقف هذا تحت الخطيب الذي يعلو الدرج وغيرها من الصلات المترابطة في كلية المشهد بالتالي. كما أمكن التحقق من وجود صور كثيرة لا تحتاج إلى أي إطار (مستطيل طولياً) كما في غالب الصور الفارسية، وإنما هي تكتفي في بنائها المصور بجالسَين وحسب (...).
مشهدية اجتماعية
لو طلب الدارس التدقيق المزيد في بناء المصور وأسلوبه لأمكنه التحقق من أن "الواقعية" التي أتحدث عنها تشمل وجوهاً عديدة في العمل المصور: قلما يتخيل الواسطي وإنما يورد عناصر من مشاهد معروفة في بيئته: النخيل، والأشجار المثمرة، والجمال، والزي الرجالي أو النسائي، والسفن، والبيارق، والستائر، والخيم، والكتب، والبيوت، والقصور وغيرها. كما ترد الوجوه بين نسائية وذكورية، ذات ألوان مختلفة في السحنة، فضلاً عن الحيوانات والأسماك وخلافها. كما أمكن ملاحظة أن للشخوص المصورة حركات تقوم بها، بأيديها وأقدامها، ما يبعد عنها الجمود في كثير من المخطوطات المصورة القديمة. وهو ما يمكن تبينه أيضاً في "تعابير" الوجوه حيث أنها تشارك في التعبير عما يحصل في المقامات...
ما يتوجب الوقوف عنده بشكل أوسع، هو مواقع الشخوص المختلفة في البناء السردي المصور، إذ تبدو أحياناً مجتمعة على بعضها ملتفة وفق الوجهة عينها، وصوب الراوي على سبيل المثال؛ أو نرى بعضهم يتشاركون في وجهة النظر، فيما تختلف وجهة نظر غيرهم، ما يرسم مشهداً متباين وموحد الاجتماع السردي والتصويري (...).
"خيارات" المصور
لم يكن الواسطي مزيناً أو شارحاً بالصورة للمقامات، وإنما كان شريكاً في صنعها. فهو فنان له لغته في التعبير، وله خياراته كذلك. وهو ما نتج (في تحليلي) من تتبعي للعلاقات بين اللغوي والتصويري، فأمكنني ملاحظة أن الواسطي وجد للشخص الأساسي في المقامة، أبي زيد السروجي، هيئة تخصه، تتكرر في صورة أكثر من مقامة؛ وهو في ذلك يستبق ما عرف لاحقاً في التصوير من شخصيات هي عماد الكتاب أو الكتاب المصور، كما في فن "الشرائط المصورة".
كما تمَّ التنبه إلى أن الواسطي يختار "وضعيات" بعينها للتصوير، بل يستحسنها لسبب واقع في خيارات المصور نفسها: يختار أقدام الجمال، أو البيارق المرفوعة، أو تكويرات العباءات في أزياء الجالسين، أو أغصان الأشجار المثمرة وغيرها، بوصفها عناصر قابلة للتشكيل، ولإحداث متعة فنية وجمالية متأتية منها، من تشكلها أمام عين الناظر (...).
تستوقف في إحدى الصور الكتابية كيف أن الواسطي لا يتورع عن رسم امرأة عارية البطن والفخذين في عملية الوضع، بل تعرض جسدها في وضعية غير مستساغة في الإظهار الاجتماعي للمرأة وللصورة. كيف ذلك؟ كيف سمح الواسطي لنفسه بمثل هذا الأمر؟ هل بلغ به المنزع "الواقعي" هذا الحد؟
يمكن إثارة أسئلة مزيدة من ناحية تصوير الوجوه والأجسام وغيرها، ما كان لا يقبله الفقهاء في العهد الأموي حين أنبوا أحد الخلفاء على إظهار صورته فوق قطعة نقدية: كيف تغير الأمر؟ ما هي محددات الفن بين الدين والتاريخ؟ وما هي محددات الفن بين الحاجة إلى الصورة والحاجة إلى الكتاب؟
الصورة والسرد
يختلف المؤرخون في تعيين تاريخ هذه الأعمال الكتبية المصورة، وإن وجد الكثير من الدارسين مخطوطات منها ابتداء من القرن الثاني عشر. وما يعنيني طرح السؤال عنه هو التالي: في مخطوطات مصورة عديدة (الطب، الميكانيكا وغيرها) يتضح المقصد الشرحي للصورة، إذ تخدم غيرها وتساهم في عرضه، وهو ما بلغ أحياناً حدود وضع الأسماء بالعربية فوق أجزاء من الصور لتوجيه القارىء في مطالعته. لهذا السبب وغيره وجب التنبه إلى أن الحاجة إلى تصوير "مقالب" أبي زيد السروجي في المقامات، وقبلها - وإن في صورة أقل – في تمثيل "أسرار" عالم الحيوان في "كليلة ودمنة"، تختلف عما طلبه المقصد التوضيحي المذكور. لماذا الحاجة إلى التصوير في هذه المخطوطات، وهي تختلف تماماً عما كان معمولاً به، في التقاليد التصويرية عند ماني (القرن الميلادي الثالث)، أو في التصوير المسيحي (البيزنطي وغيره)؟ ألهذا صلة بكون هذه العمل الأدبي المقصود يتعين في السرد؟ بل يمكن توجيه السؤال وجهة أشد دقة: ألا تكون صلة الصورة بالنص السردي ذات علاقة بكون المقامة أساساً تسجل وتدون وقائع وأفعالاً متعينة في مجريات الزمن التاريخي والاجتماعي؟ ألا تكون احتياجات المقامة إلى مرجع حكائي زمني هي التي أفضت إلى أن تكون للصور بدورها تطلبات زمنية (تاريخية واجتماعية وغيرها)؟ ذلك أن الدارس المدقق يتحقق من وجود أعمال تصويرية عديدة لـ"مقامات" الحريري (منها أكثر من مخطوط معروف، بما فيها مخطوط جديد كشفتُ عنه مؤخراً في اليمن)، ما يُظهر عناية مزيدة من المصورين كما من مقتني المخطوطات المصورة أو طالبيها (...).
الأسئلة عديدة، وتحتاج إلى درس مزيد، إلا أن في الإجابات عنها ما يقود الدارس إلى تبين قيام كيان كتابي وتصويري له صلة بالزمن الجاري. هذا ما يخفف من العتمة التي يقيم فيها (...): متى لا يعود الواسطي مجهولاً؟
هكذا نظروا إلى صور الواسطي وفق إنتاجات الفن الأوروبي، التصغيري، من جهة، والشارح للكتب، من جهة ثانية، ما أبعدهم عن رؤية هذا العمل الفني رؤية موافقة لطبيعته، ولما طلبه الفنان فيه.
أمكنني، من خلال هذه الملاحظات والمعاينات المقربة لمخطوط الواسطي، إظهار أن فهم فن الواسطي وغيره يحتاج إلى درس مزيد، وإلى تصويب تاريخي وفني وجمالي في النظر إليه وفي فهمه الفهم المناسب. فدرس الواسطي وغيره يقتضي، بداية، النظر إليه وفق فهم متجدد لعلاقة الصورة بالكتاب، حبث أنها باتت تبتعد عما كان معروفاً في الصور الكتابية في الفن المسيحي القديم، وفي الفن الفارسي القديم. وهي تغيرات تتأتى من احتياجات جديدة في التصوير، في "آداب الحكم"، كما تقول اللغة العثمانية في العهود العثمانية وسلوكات الحكم. وهي احتياجات تترافق كذلك مع صلة باتت متاحة، بل مطلوبة ومستحسنة مع الزمن، ما بات يستدعي مقداراً كبيراً من "الواقعية" في التصوير. وهو ما يَظهر كذلك في تبلور مكانة جديدة للفنان تتيح له مقادير من التدبير في معالجات فنه، فيبتعد أو يخرج عما هو معهود ومتبع.
(محاضرة في "مهرجان مسقط للفنون"، مسقط، 6 شباط 2013).