الفن والحرية
تبدو صورة «الحدود» مناسبة للحديث عن «الفن والحرية»، أي عن علاقات الفن بما يحرمه، أو يهدده، أو يمنعه، أو يراقبه وغيرها من الممارسات المقيدة له. فما الحدود؟ هي خط مادي يعني، لغة وقانوناً واصطلاحاً، التمييز بين حيز وآخر، سواء بين البلدان والمقاطعات أو غيرها من المساحات مما يقع فيها الفصل. وتعني الحدود أيضاً التمييزَ بين حيزين مختلفَي الطبيعة، بين حيز عيني وآخر محجوب، أو بين حيزين مختلفَي القيمة والحجم، بين حيز الأقوى والأسمى والأعلى والأب وبين حيز الأضعف والأحط والأسفل والابن، إلى غير ذلك من صفات التمايز الذي يشكل موضوعاً لتراتبية مطلوبة بين البشر، ولو أنها تتوسل بقوى خفية أحياناً.
فالحدود تعين عادة خطاً قد يكن طبيعياً بين الدول على سبيل المثال، عند حدود جزيرة أو ممر نهر أو غيرها من الحواجز الطبيعية الفاصلة. وقد يكون الخط موضوع مفاوضات أو فرض، لا يجد أساسه في أي شأن طبيعي، بل في الفرض أو الاتفاق. والحدود تعين أيضاً فواصل بين مناطق في التصورات والاعتقادات والأفعال والأقوال، مما يجوز (أو لا يجوز) مسه أو التعرض إليه، أو تجاوزه، أو التلفظ به، أو إخراجه من الظن إلى الفعل. وفي ذلك نجد المعنى الثاني للفظ الحدود في العربية: بلوغُ النقطة الأبعد في حيز محدد. ذلك أن الفصل بين المناطق وتأكيد التراتبية بالتالي، لا يقوى على أن يكون فعلاً من دون قوة مادية وعنفية تحرسه وتثبته، ويؤديها حراس مولجون بتأكيده، بالاستناد أحياناً إلى أعراف واتفاقيات ومعاهدات وقوانين. فنحن لا ننتقل من حدود إلى أخرى من دون جواز سفر، من دون تأشيرة في غالب الأحيان. ونحن لا نقوى، بالمقابل، على التبضع والشراء في الأمكنة الواقعة ضمن الحدود الجديدة من دون تبديل العملات. عدا أن الحدود هذه تطلب وجود سفراء، أي وسطاء، يتم قبول (أو عدم قبول) أوراق اعتمادهم، واللجوء إليهم في حال خرق أحد المسافرين قانوناً قد لا يكون سارياً في بلده، وإنما في البلد الذي حل فيه. كيف لنا أن ننظر إلى الواقفين في الصف أمام شرطة الدخول عند الحدود؟ أنحتاج إلى جواز السفر لكي نكون موجودين؟ وماذا لو سرنا في شوارع إنكلترا وفق القوانين المتبعة في الطرق الفرنسية، أي وفق المسموح به والممنوع عنه فيها، لا في إنكلترا؟ هل يعني ذلك أننا على خطأ، وأي خطأ بالتالي؟ ما تعني التمايزات؟ ما قيمتها؟ ما تساوي في حساب الطبيعة الإنسانية، وفي حساب التدبيرات والقوانين المقرة ضمن حسابات مخصوصة؟ هل نسير بالمقلوب، أو لا نحسن السير، أو لا نعرف المشي إذا أخلينا بنظام السير في إنكلترا؟ ولكن كيف لنا أن ننتبه إلى وجود الحدود هذه؟ كيف لنا أن نعرفها؟ هذا ظاهر بين الدول، في خطوط مادية، ملونة أحياناً، تشير إلى الفصل بينها، ولكن كيف نتبين الحدود بين المناطق الرمزية، أي الواقعة في اعتقادات البشر وتمثلاتهم، ومنها الفنون؟
نتحدث، إذن، عن أمرين متلازمين، هما: الفصل بين مكانين طلباً لتمييز واحد عن الآخر، وتعيين المسموح بلوغه في حيز بعينه، أو منع اجتيازه إلى الحيز الآخر المطلوب تمييزه. وتكون الحدود بالتالي، والحالة هذه، صورة رمزية للإمكان والقبول، للتعين والاختلاف، للمسموح والممنوع، للحد والخرق، وللرغبة والقانون، وفي آن. فأين تقع الحدود في الفنون؟
أربع انتقالات لحدود
أُفضل الكلام عن حدود لأنني أرى أن ألفاظ الحرية أو الرقابة أو التحريم أو النهي أو غيرها تحدنا في نطاقات دلالية، وربما ثقافية واعتقادية، فيما يبقى لفظ الحدود مجرداً من دون حمولات أخلاقية ودينية، بعد تغير حمولاته عن معانيه الإسلامية القديمة. فلفظ الحدود صالح لتناول الحالات كلها، التي تطلب الفصل وتأكيد القوة بين المناطق الاعتقادية. كيف لا، ونحن لو تجولنا في عدد من المناطق الإنسانية التي وقعت فيها ممارسات ووقائع لفصل الحدود، لوجدنا أنها حافلة بالشواهد على انتقالات الحدود هذه، بين ثقافة وأخرى، بين طور تاريخي وآخر، وضمن الثقافة الواحدة. وقد انتهيت إلى رسم أربع انتقالات، أو أربع محاولات لرسم حدود في المعتقدات والفنون.
لو عدت إلى الكتابات القديمة، في الإغريقية والعربية، لوجدت أن لفظ «الجن» (GENIUS )، مشترك بينها، ولعله من أصل يوناني اعتمدته العربية (ثم اللغات الهندية-الأوروبية نقلاً عن اليونانية)، ويعني في هذه اللغة أو تلك «التابع»، قبل أن تتفرع منه دلالات قرنته بـ«العبقري» و«الجنون» و«التميز» وغيرها. هو «التابع» إلا أنه هو الذي يمد غيره، الشاعر تحديداً، بالكلام «البليغ» و«النفيس»، الذي يميزه عن الكلام «العادي» و«المشترك» بين البشر: كلام منفصل عن غيره، ومعين على أنه الأجمل والأسمى والأصح. كيف لا ونحن نعرف أن عدداً من الشعوب لم يتأخر عن قتل الشاعر، بل العراف، الذي كان يخطىء في أقواله، أي تنبؤاته. فنحن نتبين في هذا الطور تعايشاً وتنافساً ثم انفصالاً بين «الكاهن» (والعراف والساحر) وبين الشاعر، يؤدي إلى احتلال الثاني وظيفة الأول.
ما يعنيني قوله، والالتفات إليه، هو كون الشعراء القدامى طلبوا عبر الجن »اختراق« الحدود التي كانت تفصل بين عالم البشر وعالم الخفاء (حتى لا أطلق عليه تسميات أخرى): أن تقول شعراً متميزاً يعني أنك تجلبه من مكان لا يصله أحد («وادي عبقر» في الجاهلية العربية)، ولا يقوى على اجتياز حدود أي كان، بل توجد قوى وسيطة، هي «الجن» تحديداً، التي تنقل الكلام من الحيز الخفي إلى حيز البشر. كلام ممهور بقوة الخرق التي تسهله قوى غير بشرية، قد تكون مسموعة من دون أن تكون مرئية، مثل العديد من المخلوقات التي عرفتها أساطير الشعوب عن أنصاف الحيوانات-أنصاف البشر. هذا ما نعرفه عن الشعر، كما عن الغناء، في عدد من الأساطير القديمة (مثل أسطورة أورفيوس)، والتي تحدثنا عن أصوات لا مثيل لها، متميزة، أي من صنيع الجن، ما لا يقوى البشر على فعله. هذا ما أجد أخباره في العربية القديمة وأخبار الجاهلية واعتقاداتها، بين الشعر والجن، وبين الغناء والجن. وهذا يصح في الغناء كما في العزف: «العزيف: أصوات الجن ولعبهم، وكل لعب عزف» (في «كتاب العين» للفراهيدي). وأجد في كتاب المسعودي «مروج الذهب» أقوالاً وأوصافاً عديدة عن هذه الأصوات الخصوصية والمميزة: «أما الهواتف فقد كانت كثرت عند العرب، واتصلت بديارهم، وكان أكثرها أيام مولد النبي -صلعم- وفي أولية مبعثه. ومن حكم الهواتف أن تهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي (...). وقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام تقول: إن من الجن من هو على صورة نصف الإنسان، وإنه كان يظهر لها في أسفارها وحين خلواتها وتسميه شقاً».
هذا ما نتبينه في مجال الرؤية أيضاً، حيث أن الجن يُري البشر صوراً وأطيافاً لا يرونها عادة، بل قد تصيبهم «الخطفة» من جراء ذلك. إلى هذا فإن الجن، ومنها إبليس، تقدم على صنع أعمال، منها نحت الأنصاب وغيرها مما يعد أعمالاً متميزة ومجلبة للشر، طالما أنها تأتي بصور وهيئات من مناطق محظورة. ونتبين أن للجن مواضعها: لها موضع في البادية، هو »عبقر« (ويرد في القرآن)، ولها «منازل» أيضا «يُكره النزول بها» طبعاً. ونتبين أن الشعراء «يهيمون» في هذه المواضع: فالشيطان يستهوي الشاعر، بحيث يصبح «حيراناً هائماً»، ذلك أن الشيطان «فتان»، له قدرة على أن «يخبط» الإنسان، أي أن «يمسه بأذى»، و«يجنه»، و«يخيله»، عدا أنه «يخطر» في قلب الإنسان، أي يوصل إليه «وسواسه». ونعرف أن الجن، أي عدداً منها، يلازم عدداً من الشعراء: مثل أبليس لإمرىء القيس، ومسحل للأعشى وغيرها. والجن يسترق السمع، من جهة، أي «يقرب من السماء فيستمع ثم يذيع»، أي وساوسه. كما ان الشاعر يسترق السمع للجن، من جهة ثانية، أي يذهب إلى لقائهم، ويذيع، هو بالتالي، هذه الوساوس. وتسمي العربية هذه العملية بـ«الختل»، أو «الاستراق»؛ ونحن نجد في هذا الأمر الأسباب التي أدت إلى تشكيك الإسلام بالشعر. وهي أسباب تجد في «الاستراق» إلى عالم غير منظور انصرافاً إلى السوء واقتراف الخطأ. لقد طلب الإسلام القطيعة مع الشعر بوصفه منبعاً اعتقادياً، وعدم اعتباره بالتالي مصدراً للمعرفة. وهو ما نجده بيناً في قول مأثور لعمر بن الخطاب: «كان الشعر علمَ قوم لم يكن لهم علمٌ أصح منه». ولكن ما الذي يُبلغه الشيطان للشاعر؟ أو عما يبحث الشاعر في عبقر؟ كيف يتحقق الاتصال بين الطرفين؟
نجد في أخبار العرب القديمة أقوالاً تفيد عن العلاقات المحرمة أو الخاطئة التي أقامها أعداد من البشر، مثل الشعراء والمغنين والنحاتين والعازفين وغيرهم، مع الجن ولا سيما مع إبليس. وهي علاقات اجتياز، عبر وسيط، لمناطق يراد فصلها عن غيرها، أي عن عالم البشر، فلا تقع في متناولهم. كما لو أن العمل اختراق لمنطقة غير منظورة، وللشيطان وحده قدرة اجتيازها، هو الوسيط بين عالمين، بين العيني والخفي. كيف لا يكون وسيطاً متنقلاً، وهو طيف، أي إمكان صورةٍ لا تتحقق إلا بعد قبول الإنسان لها؟ كيف لا يملك هذه القدرة، ولعينه نفاذٌ سيءٌ على البشر! إبليس هو هذه القدرة على الإتيان بأعمال، بصور، ليست لكل البشر، بل لعدد منهم ممن أقاموا الحوار معه، ممن جعلوا أطيافه صوراً، ووساوسه أشعاراً. إلا أن هذه العلاقة تخيف بقدر ما تعجب. وهو ما ننتبه إليه في حمولات الخوف والفزع والروع التي تقترن بالجمال في العربية: «الروع: الفزع. راعني هذا الأمر يروعني، وارتعت له، وروعني فتروعت منه. وكذلك كل شيء يروعك منه جمال أو كثرة. تقول: راعني فهو رائع» (في «كتاب العين» للفراهيدي). وهو ما نجده أيضاً في تعريف «الهول» و«التهاويل» خصوصاً، التي تعني في آن زينة الوشي والتصوير والسلاح. ويجمع الشاعر في صفاته، في العربية القديمة، بين «العفرتة» و«الشيطنة» و«الخبث»؛ وهي صفات مستقبحة. وهو ما نقع عليه في دلالتي «السحر»: تعين، من جهة، «كل ما كانَ من الشيطانِ فيه معونة»، وتعين، من جهة ثانية، التوفق في الأمور القولية، أو «البيان في الفطنة». نقع، إذن، على تعريفات تقوم على حدود من التنازع والتشارك في آن، هي الحدود عينها التي تقضي بعبور الإنسان لحدود، لممنوعات، مخيفة بقدر ما هي مرغوبة، خافية بقدر ما هي ساحرة.
أقول ذلك لأفيد أن الجن كان الصيغة الأولى للفنان، هذا الوسيط بين عالمين، وهذا المخلوق الثنائي النسب. ونحن نجد في مسار انتقاله، مثل مسار انتقال دلالات هذا اللفظ (من الجن إلى العبقري المتميز) شيئاً من مسار البشر في اعتقاداتهم عن الفن، وعن سبل الوصول إليه. كان الجن يجلب الكلام (أو الأصوات، أو الصور) من أمكنة خفية لا يقع عليها النظر، ولا تبلغها الأدوات الصناعية (مثل الآلات، أو قرض الشعر وغيرها): المدهش والساحر يقعان في جهة غير منظورة. إن صور «التابع» و«الوسيط» و«ناقل الرؤى والأخبار» وغيرها، نلقاها في آداب ومعتقدات العديد من الشعوب، ما لا نحتاج لذكره الآن، وهي كلها تفيد عن طلب الفصل، عن طلب التمايز عما هي عليه حال الإنسانية. وهو طلب الفن الأول: طلبٌ يقوم على التميز، ويتوسله في الابتكار، أي الاختلاف مع السوي والاعتيادي من صنائع البشر.
«حدود» الإنسان الداخلية
أطلتُ الكلام عن الجن لأنها تمثل الصيغة الأولى لقيام الحدود في المعتقدات، خاصة وأن الفنانين سعوا في هذا الطور، وإلى غير رجعة في تاريخ البشرية، إلى تعيين كلامٍ غير الكلام، وصورٍ غير الصور، وأصواتٍ غير الأصوات المألوفة والاعتيادية، على أنها عبور، ولو عبر وسطاء في هذا الطور، لمناطق محظورة، ممنوع اجتيازها. وهو ما سنعرفه في انتقالة أخرى تليها، وأجد معالمها في مدى الفلسفة الإغريقية والأديان التوحيدية، وتقوم برسم حدود أخرى، وبتعيين «سبب واحد»، أو «علة أولى» للكون والظاهرات، أو الله الواحد في التفسير الديني. مع هذا التفسير سنتعرف، ولأول مرة ربما، على صورة طوبوغرافية للكون، وعلى وعي بحجمه إذا جاز القول، أي بحدوده بالتالي: كونٌ ينقسم إلى عالمين متباينين، هما: عالم المثل وعالم النسخ المتدهورة (حسب أفلاطون)، والسماء والأرض في الأديان التوحيدية. ستصبح الحدود في هذا الطور بين عالمين: علوي وسفلي، بل بين السماء والأرض. تتضح الحدود الجديدة من دون أن تنقطع أسباب الصلة بين العالمين، ما يتمثل في «المقايسة» و«المناسبة» بين العالمين، بين الكامل والجزئي، وبين المثالي والمنحط. هذا ما أقع على أخباره وشواهده في اجتهاد الفنانين في حُسنِ تصوير غضب زوش أو جمال فينوس، أو في طلبِ الفنانين للـ»أدلة« المتوافرة عن الوجود الأسمى. لم تعد الصور (والأصوات والكلمات وغيرها) موجودة في أمكنة خفية لا يصل إليها إلا الوسطاء، وإنما هي في أمكنة بعينها (السماء حصراً)، ولا نبلغها إلا في تتبع الكتب المقدسة والتمعن في معانيها.
سنقع في انتقالة ثالثة على حدود أخرى، تقع بين الفنانين والطبيعة، سواء الإنسانية أو الجامدة، مع احتفاظ بفكرة المقايسة والمناسبة. وهي انتقالة ستصبح فيها للفنون قواعدها الداخلية التي تحتكم إليها، أي محدداتها الخاصة، وهي ما تختلف فيه كل ثقافة وفن عن غيرها من الثقافات والفنون. كما ستصبح لها قوانينها، لا محرماتها، التي ستعين الحدود الواجب احترامها، أو التقيد بها. والقوانين هذه قد تكون أسلوبية (أسس النوع الفني، أو قواعده المقرة)، أو اجتماعية (عدم التعرض للأخلاق العامة)، أو سياسية (عدم التعرض للنظام القائم) وغيرها، مما بات في جزء منه خاضعاً للمحاكم، أي للأخذ والرد، والقبول والاستئناف، ومنها ما أصبح بمثابة اللامفكر به في ثقافة ما، أي أنويتها المخصوصة التي تجعلها ترى إلى فنونها وآدابها وأساليبها وقيمها الإبداعية على أنها قوانين العالم بأسره، أو قِبلة التطور فيه.
انتقلت الحدود، إذن، وباتت تقوم فوق الأرض، بين أيدي البشر خصوصاً: الحقيقة موجودة في الطبيعة، الإنسانية والجامدة، وما على الإنسان سوى تتبعها، والتنبه إلى قوانينها وظواهرها وأعراضها. ولم يعد الفن إخباراً وسرداً وتزييناً، بل بات محاكاة ونقلاً واستعادة وترتيباً لما يمكن أن يكون عليه العالم في صورته الطبيعية، على أنها الصورة الفنية: يتم هذا الانتقال في حدود واقعة على الأرض، هذه المرة، وبين الإنسان والموج