لا يزال البعض يتساءل: أهذه صور "صحيحة" ما نراه على الشاشات المختلفة؟ أهو دم فعلاً هذا الذي يبقع عيوننا أم هو سائل اصطناعي شبيه به؟ كما لا يزال بعض الإعلام يسوق أخباراً تقول بأن المتظاهرين ليسوا بمتظاهرين، وأن ما نراه لا يعدو كونه صورة مختلقة، مفتعلة، مدبرة بأيدٍ ووفق خطط و"مؤامرات"... الإنكار متماد، إذاً، كما لو أن القاتل يقول: رجاءً، اغمضوا عيونكم، صموا آذانكم، سنقتل لبعض الوقت إلى أن تعود الصورة إلى صحتها الراسخة.
هذا ما أنكره التشكيلي فيصل السمرة منذ عدة سنوات إذ أنتج أعمالاً فنية، بالأسود والأبيض، أسماها: "اللحم العربي"، في إشارة بينة إلى "سمفونية الحلم العربي"، التي جمعت – أتذكرون ؟ - مجموعة من المغنين والمغنيات العرب في نشيد جماعي تفاؤلي... قلبَ السمرة "الحلم" إلى "لحم"، طالباً من ذلك فضح ما يقوله بعض الفن في تصويره وإنشاده وحديثه عن واقعنا، مطلقاً تسمية: "واقع محرَّف" على هذه الأعمال وغيرها من إنتاجه الفني اللاحق. كان الفنان يتبين أن ما يتلقاه عبر الشاشة من صور وكلمات وإيقاعات يختلف مع ما يعايشه، ما يراه بأم العين، ما يسمعه همساً ووشوشة. كان يرى وراء الطاعة المطلوبة في كل لحظة، وراء صور الشوارع الهادئة والشقق الوادعة، صوراً أخرى لا تقل تعبيراً عن حقيقة ما يبدو مثل "كابوس"، لا مثل "حلم عربي".
صورُ السمرة صدمتني عندما تعرفت إليها في مشغله، في البحرين، حيث يقيم ويعمل، من دون أن يخطر على بالي – حينها - أن ما أراه في ثلاث صور سألقاه في صور أكثر إبلاغاً بعد عدة سنوات: صور بالملايين فوق شاشات الدنيا. ما كان يبدو مثل همس وراء حجاب، في العتمة، بات صراخاً ضاجاً في شوارع فقدت سكينتها الوهمية...
هكذا احتل الجسد العربي، بل اللحم العربي، سعة المشهد منذ عام ونيف: الجسد المشوه، المقطَّع، المحترق، الذي انتزعوا حنجرته، وكسروا أصابعه، وانتهكوه بغير طريقة وطريقة، لم يبقَ له سوى شيء وحيد: بلاغة صورة الشهيد.
وهي صورة، بل صور، تحتاج إلى درس، إلى تأريخ أيضاً، إلى معرفة أسبابها، عند القاتل كما عند القتيل، عند من يخفيها أو ينكرها وعندما من يعرضها... إذ أن في هذه الصور، وفي السلوكات المؤدية إليها، ما يضيء أحوال السياسة، وهي أنها لا تميز بعد بين الجسد الطبيعي والجسد الرمزي (السياسي طبعاً). فإن غضب الحاكم من الخطاط قطع يده، وإن غضب المرء من حاكمه اغتاله... وهو ما يجعل السياسة تتعين في مُلكية حصرية، لا تقبل الشراكة أو الوكالة أو التمثيل وغيرها. وهو ما تجلوه ألفاظ العربية إذ تختلف الحركة فقط، بين الفتحة والضمة، في لفظي: المَلك، والمُلك، وهو ما يتعين أساساً في: المُلكية.
هذا يقيم السياسة عند حدود الجسم، فوق الرقاب. هكذا لا يتم إحصاء الأصوات في صناديق الاقتراع، أو التعرف على "ميول" المستفتين في استقصاءات الرأي، وإنما يتم إحصاء الأنفاس، وضبط السكنات والحركات. هذا ما يجعل السياسة نزالاً، حرباً مستمرة، مستورة أو معلنة، أو تمريناً على الخضوع والطاعة من جديد.
الجسد يخرج على مكبوتاته، إذاً، ولكن متى يعيش حقاً؟
(نشرت في "دبي الثقافية"، ربيع 2012).