أقام أرسطو حدوداً بين الإنسان والحيوان مستنداً إلى محددات مختلفة، منها أن للإنسان – بخلاف الحيوان – ميلاً متوطناً في طبعه يقوده، منذ الطفولة، إلى طلب التمثيل (représentation)، وإلى التمتع بالتمثيلات (présentations) نفسها. وهو ما يمكن مراقبته في أفعال الطفل، منذ خروجه من البيت إلى المجتمع، إذ يهوى تمثيل أو محاكاة بيته نفسه، فـ"يبني" بيتاً غير بيته، ويؤدي دوراً عائلياً غير دوره، ويعمل في مهنة لم يعرفها بعد، مقيماً بذلك الازدواج في شخصه، في نفسه، مازجاً ذلك كله باللعب، بالمتعة. كما يتمتع الطفل أيضاً بما يعرض له أو لغيره، إذ يتفرج ويفرح لما يصيب غيره، ويتعين في عروض وخلافها، سواء حزينة أو مسلية أو مأسوية وغيرها. وهو ما يسوق عنه أرسطو الدليل إذ يقول بأن الإنسان يتمتع بمرأى الحيوانات البشعة أو الجثث وغيرها. هذا التمييز يعني أن الإنسان لاعب ومتفرج، من جهة، وأن ما يلعبه ويتفرج عليه يؤدي إلى متعة، من جهة ثانية (1).
ما يصيب الإنسان منذ طفولته، يمكن للدارس أن يتحقق منه في حضارات وثقافات وتجارب مختلفة ترقى إلى عهود بشرية سحيقة في القدم، وتشير إلى ميل متقادم ومتعاظم إلى الظهور، إلى الازدواج، إلى بناء خشبة للذات وللآخرين. هذا ما يتعين في المسرح خصوصاً، إلا أنه ينتقل كذلك إلى فنون أخرى، وبكيفيات أخرى، كأن يوظف الفنان المحترِف خبراته وقدراته لمسرحة غيره، لبناء صورة عنه – ربما مزيدة، أو منقحة أو محسنة. هذا ما أطلب درسه في إنتاج التمثيلات، ما يتعين – في هذه المحاضرة – في التمثيلات الفنية-السياسية، في ما أسميه: صورة الحاكم "المأذونة".
1 . هيئة السلطان: من العملة إلى اللوحة
أعود منذ نهايات العقد العاشر في القرن الماضي إلى مصطلح: "الجسد الثاني"، مستعيداً إياه من كتاب الدارس أرنست كنتوروفيتش (Ernest Kantorowich)، الذي وضع كتاباً بعنوان: "دراسة في اللاهوت السياسي القروسطي" (A study on medieval political theology)، ما يحتاج إلى توضيح لازم: ينطلق الدارس، في كتابه الموضوع في العام 1957، من وقائع حياة وسلوكات أعداد من الملوك الأوروبيين، سواء في فرنسا أو في أسرة تيدور (Tudor) البريطانية أو في مسرحية "ريشار الثاني" لشكسبير، لكي يدرس كيف نظر المؤرخون واللاهوتيون وواضعو القوانين الكنسية في القرون الوسطى إلى جسد الملك، إلى شخصه كما إلى مسؤولياته الملكية. هذا ما قاده إلى التمييز بين جسدين واقعاً: أرضي وميت، من جهة، وتجسيدي للهيئة السياسية والخالدة، أي الرعية المتشكلة في المملكة، من جهة ثانية (2). لا يبتعد تصور كنتوروفيتش (بمعنى من المعاني) عن البناء الثنائي للسيد المسيح (بشري-إلهي)، وإن يتخذ في التجربة السياسية الملكية البريطانية معنى محدداً، بل نزاعياً أحياناً، يتمثل في أن الملك قد يخالف نفسه أحياناً، بين ما يعتقده وما يتوجب عليه فعله، إلى غير ذلك من الأحوال. وهو تمييز لازمٌ إذ يخفف – حتى لا أقول: يبطل – من الحكم التحكمي، أو الإطلاقي، الذي لا يمكن فيه التمييز بين شخص الملك (أو الملكة) وبين سياسته.
غير أنني استعملت هذا المصطلح – لأول مرة - وفق معنى مختلف بعض الشيء، إذ ميزت بين الجسد الطبيعي والجسد "المزيَّن"، ما يظهر حكماً عند الملك، كما عند غيره، مما يندرج تحت مفهوم "فن المكانة" أو "الأُبَّهة" أو "الجاه" وغيرها. وأردت من الجسد "المزيَّن" الحديثَ عن المعالجات المختلفة التي يقوم بها المرء (بنفسه أو بواسطة غيره) لإظهار هيئته، سواء أكان رجلاً أم امرأة، ما اجتمع في كتابي ("مذاهب الحسن..."، 1999، ص 306) في اللفظ العربي القديم: "الشارة"، التي تعني: "الهيئة واللباس الحسن"، حسب الخليل بن أحمد الفراهيدي في "كتاب العين".
وما لبثتُ، في بحثين آخرين (واحد بالفرنسية عن: "التعدد في القصيدة"، وآخر بالعربية عن: "الشاعر، المتكلم والصوت")، أن عدتُ إلى المصطلح عينه وفق معنى مختلف، منطلقاً هذه المرة من التقاليد البريطانية في الحكم، حيث "يتلفظ" الملك (أو الملكة) في "مجلس العموم" ما يكون رئيس (أو رئيسة) الوزراء قد كتبه. هذا ساعدني في التمييز (الذي أجريتُه في درس القصيدة) بين الشاعر (الجسد الطبيعي، إذا جاز القول)، والمتكلم (أو المتكلمون) في القصيدة (أي الجسد الثاني)، وبين المتكلم (أو المتكلمون) و"أصوات" القصيدة.
كما عدتُ إلى المصطلح من جديد، وفق فهم آخر (في كتابي: "العربية والتمدن..."، 2008، ص 159-162)، مستعيناً به لدرس كيف أن الحاكم العربي-الإسلامي (مثل الأمير بشير الشهابي أو أحمد باشا الجزار وغيرهما) يطابق بين جسده الطبيعي وبين جسده السياسي في نوع من التلازم المحكم بينهما؛ فلا يميز الحاكم بين شخصه وبين حكمه، وهو "صاحب الدولة" بمعنى ما، أي هي ملكه، ما أسميته: جسد السلطان "الممتد".
كما أقوم، في هذه المحاضرة، باستعمال جديد للمصطلح نفسه، إذ أنتقل به إلى حيز آخر، وهو التمييز بين الجسد الطبيعي والجسد "الظهوري" فوق حامل مادي، إن أمكن القول، ما سأسميه: الصورة "المأذونة". فكيف ذلك؟ وماذا عنها؟
1 . أ . النزاع على الصورة
لم تُدرس كفاية أسباب ظهور صورة السلطان فوق حوامل مادية مختلفة، بما فيها حوامل الفنون البصرية نفسها، خاصة وأن بعض الكتب والدراسات ينساق، في تفسير هذا الأمر، إلى خطاب احتفالي بالصورة وبسيرتها الظافرة (كما آلت إليه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بلوغاً إلى عهدنا الحالي)، من دون فحص الأسباب التاريخية الموجبة لتغير العلاقة العثمانية مع الصورة عما كانت عليه في العهود الإسلامية المتعاقبة: استعاد السلطان لقب "خليفة المؤمنين"، لكنه خرج على التقاليد الفنية لدى الخلفاء المسلمين السابقين. كيف ذلك؟ ولماذا؟
هذا ما يمكن تتبعه في عدد من اللحظات والسياسات، ما أجمله في هذه الملاحظات:
أ : سبق أن توقفت في أحد كتبي ("مذاهب الحسن..."، صص 242-257) عند المعاني والدلالات التي تعين "الصورة" في القرآن كما في الأحاديث النبوية، وخلصت منها إلى أنها لا تشير أبداً إلى الصورة الفنية: في هذه الآيات القرآنية استعمالات عديدة للفعل «صور»، واستعمال واحد للفاعل «المصور»، ولكن من دون أن تكون لهذه الاستعمالات دلالات متباينة، تبعاً للسياقات اللفظية التي تندرج فيها. فالفعل «صور» مخصوص بالخالق وحده - هو «المصور» -؛ كما يعين الفعلُ تصورَ الخالق للمخلوق، أي صورته قبل الخلق، عدا أن صورة المخلوق السابقة على الخلق، والموضوعة من الخالق، لا تخضع لأي صورة، ولأي أصل، بل هو «المصور» يصورها وحده، و«كيف يشاء».
المصور هو الخالق، إذاً، والصورة هي هيئة الإنسان، قبل خلقه وبعده، والخالق هو الذي يضعها بنفسه من دون إيعاز أو سابق صورة أو مثال (3).
وهو ما يصح أيضاً في الأحاديث النبوية، بعد أن تحققت من أنها تتوزع في نوعين (4):
- نوع يتحدث عن النهي، وعن حضور الصور والتماثيل والصلبان في البيوت: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير»؛ و«لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضَه»؛ وقالت عائشة: «قَدِمَ النبي - صلعم - من سفر، وعلقت درنوكاً فيه تماثيل، فأمرني أن أنزعه فنزعته. وكنتُ أغتسلُ أنا والنبي - صلعم - من إناء واحد» وغيرها؛
- ونوع يتحدث عن العقوبات اللاحقة بالمصورين، فيما لو استمروا في التصوير: «إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون»؛ و«إن الذين يصنعون هذه الصور يُعذبون يوم القيامة، يُقال لهم أَحيوا ما خلقتم»؛ و«ومَن أظلمُ ممن ذهبَ يخلق كخلقي، فليخلقوا حبَّةً، وليخلقوا ذرةً»؛ و«أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُضاهون خلق الله»؛ و«من صورَ صورةً في الدنيا كُلِّفَ يوم القيامة أن ينفخ فيها الروحَ وليس بنافخٍ» وغيرها.
يتضح، في هذه الأحاديث كما في غيرها، صعوبة الوثوق بها من ناحية ألفاظها: هل تتحدث العقوبات عن المصورين حصراً، أم عمن "يضاهون خلق الله"؟ أياً كان الجواب عن هذا السؤال، يتضح أن المعنى المقصود يشير إلى عقوبة لاحقة بمن يظنون أنهم قادرون على "مضاهاة" عمل الله. وينطلق هذا النهي مما حاربته الدعوة الإسلامية من معتقدات وثنية بأن للأنصاب قدرة على "الخلق". ولا يخفى أن جانباً من تعريفات الأحاديث يشتمل على اجتهادات تقوم على استخلاص مبدإ فقهي أو ديني يقول بجواز تصوير ما ليس فيه "روح" بالتالي...
ب : هذا ما يمكن تتبعه في السياسات الإسلامية الباكرة في مسألة الصورة، ولا سيما صورة الخليفة، فوق النقود تحديداً. فخلفاء مسلمون مختلفون تعاملوا مع نقود متوافرة في زمنهم، على الرغم من وجود صور فوقها، ولحكام غير خليفة المسلمين، مثل النقود البيزنطية والفارسية والحميرية. هكذا أجاز الخلفاء الراشدون، من أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب، استعمال هذه العملات المتوافرة، مضيفين عليها أحياناً عبارة: "لا إله إلا الله"، أو: "بسم الله"، أو: "لا حكم إلا الله" (التي طلبها "الخارجي" قطري بن الفجاءة فوق المسكوكات التي سكها). إلا أن الوضع يختلف مع تسلم الأمويين الحكم الإسلامي: يفيد المقريزي أن معاوية (661 م.-680 م.) هو أول من ضرب دنانير عليها صورته متقلداً سيفه (من دون أن تتوافر حتى تاريخه نماذج منها)؛ وهو ما اتبعه فيه خلفاء وولاة مختلفون، مثل: الحجاج بن يوسف، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وقد بلغتنا نقود مما ضربوه. إلا أن هذه السياسات المختلفة قامت على مماشاة السياسات المحيطة بهم، مع مقادير خفيفة من التعديلات؛ وهو ما اتبعه الخليفة عبد الملك بن مروان (685 م.-705 م.)، إذ ضرب دنانير على طراز السكة البيزنطية لهرقل وولديه، لكنه بدَّل أشكال الصلبان فجعلها في هيئة مدرج يعلوه عامود عليه كرة أحاطها بعبارات التوحيد بالخط الكوفي. ثم عمد إلى تبديل العملة فأزال الصورة السابقة وأنزل مكانها صورته هو، تحيط بها البسملة وشهادتا التوحيد والرسالة... ويفيد المقريزي أن العملة الجديدة أثارت تحفظ بعض الصحابة في المدينة، ولكنهم لم ينكروا فيها "سوى نقوشها"، و"أن فيها صورة". وكانت صورته قد جاءت وهو واقف وقابض على سيفه، ورأسه مغطى بكوفية، مع لحية طويلة. هذا ما استمر العمل به بين العام 74 للهجرة (693 م.) والعام 77 للهجرة (696 م.)، وهو العام الذي سكَّ فيه الخليفة عملة إسلامية "خالصة" (كما يسميها بعض دارسي المسكوكات الإسلامية)، أي التي يقوم رسمها على اجتهادات وسياسات خاصة بالخلفاء، من دون أي صورة آدمية. هذا ما تنبه إليه ابن خلدون في ما فعله خلفاء وخلفاء في سك العملة، مشيراً، على سبيل المثال، إلى أن أحدهم "اتخذ فيه (الدرهم) كلمات لا صوراً"، مشدداً على أن "العرب كان الكلام والبلاغة أقربَ مناحيهم وأظهرَها"، مستدركاً: "مع أن الشرع ينهي عن الصور" (5). ويتضح، في كلامه، أن هذه السياسة خضعت لمقتضيات ناشئة في الحكم: لزوم العملة للحكم الإسلامي، كما في الثقافة: اعتياد العرب على الكلمة حاملة للقيمة، والتي حددت سياسة الخليفة أكثر من مقتضيات الشرع نفسه.
ج : في إمكان الدارس أن يتوسع في درس هذا السياق التاريخي، النزاعي-التبادلي، بين الحكم الإسلامي والحكومات المحيطة به، وأن يتوقف تحديداً عند "النزاع على الصورة" المتمثل كذلك في الخلاف المسيحي حول الأيقونة: دار الخلاف في القسطنطينية خصوصاً، ودام من العام 762 م. إلى العام 787 م.، ثم من العام 814 م. إلى العام 843 م.، في تواز تاريخي مع النزاع العسكري نفسه بين البيزنطيين والمسلمين: أجرى الأمبراطور يوستنيانوس الثاني تبديلات في نقوش العملة، فصار الأمبراطور يَظهر بلحية قصيرة (بعد أن كان حليق الخدين في صوره السابقة)، واختفت صورة الأمبراطور (في الوجه الآخر) وحلت مكانها عبارات دينية، مثل :"ملك الملوك" (Rex regnatum)، و"عبد المسيح" (Servus christi).
دارت خلافات، وارتسمت سياسات، تعينت واقعاً، وراء مسألة الغلبة، في ما أسميه: صورة الحاكم "المأذونة"، أي ما يطلبه الحاكم لنفسه من سلطان متعين في هيئة مادية ورمزية و"فنية" وغيرها. وما يمكن قوله هو أن اختفاء صورة الخليفة عن النقود الإسلامية سيدوم، وستكون له مترتبات واسعة، منها وليس أقلها قيمة هو أن الخليفة بات محكوماً بمعايير ومرجعية يحتكم إليها ويتقيد بها. ستكون لهذه السياسات الناشئة مترتبات، إذاً، منها وجوب تقيد الخليفة بسياسات وتدابير تخص "ظهوره" العلني، في عملة أو في مكان عمومي، بل حتى في المكان الخاص نفسه.
هذا ما أجد بعض تجلياته في "كتاب التاج" (للجاحظ، على ما يرجح البعض)؛ وهو كتاب يتناول "أخلاق" الملوك (ولا سيما الفرس)، والخلفاء المسلمين (ولا سيما العباسيين)، فيما قامت عليه تدابيرهم في الظهور، في التعامل مع غيرهم في بلاطهم، أو في أكلهم وغيرها. ويتنبه الدارس، من متابعة الأخبار المتفرقة، أن بعض الخلفاء انتهج سياسة "اختفاء" متعمدة، طلبوا منها توفير نطاق خصوصي بهم، لا يشاركهم فيه حتى المغني (أو المغنية) الذي ينشد لهم، في حضورهم، ولكن من دون أن يرى المغني (أو المغنية) الخليفة نفسه (6). لم يطلب هذا الخليفة أو ذاك من الاختفاء "حماية" حميميته نفسها (وهو وجه خفي لإخفاء عدم تقيدهم أحياناً بمحددات الشرع)، وإنما طلب الخليفة من ذلك إعلاء مكانته "الرمزية"، ما بات يتعين في الاختفاء، لا في الظهور نفسه. ذلك أن صورة الحاكم "المأذونة"، التي يجيزها بنفسه عن نفسه ولنفسه، هي في عهدة الخليفة، لكنه يديرها بما يوافق الصورة التي "يأذن" بها، وهي صورة باتت تتعين في الخفاء، في الاحتجاب، ما يشير إلى ظهورات وتكيفات مختلفة مع موقف إسلامي قديم ومتجدد من الصورة، بمعانيها ودلالاتها المختلفة المذكورة سابقاً.
وقد يكون مناسباً التعرف المزيد على هذه السياسات، وقد أفاض ابن خلدون في عرضها وفهمها في ما أطلق عليه: "في شارات الملك والسلطان الخاصة به" (م. س.، صص 257-270). فماذا عنها؟
"إعلمْْ أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأُبهة والبذخ، فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته"؛ ويستعرض لهذه الغاية الشارات التالية:
-"الآلة"، وتشير إلى الألوية والرايات وغيرها التي تُستعمل في الحرب، ويُقصد بها "التهويل، لا أكثر"؛
-"السرير"، ويضاف إليها أيضاً: "المنبر" و"التخت" و"الكرسي"، وهي "أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه"؛
-"السكة"، وهي الختم على الدراهم والدنانير "المتعامل بها بين الناس بطابع جديد يُنقش فيه صور أو كلمات مقلوبة"؛
-"الخاتم"، ويشير إلى ما تُختم به الرسائل والصكوك عند السلاطين والملوك؛
-"الطراز"، ويشير إلى ما تحتاجه أبهة السلطان كأن "تُرسم أسماؤهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم"؛
-"الفساطيط والسياج"، أي الأخبية والفساطيط التي يحتاجها السلطان في أسفاره للإقامة فيها بما يُظهر مكانته وترفه؛
-"المقصورة" للصلاة في المسجد، وقد اتخذها الخليفة معاوية لأول مرة، والدعاء للخليفة في الصلاة، وقد اتخذها الخليفة علي بن أبي طالب لأول مرة.
1 . ب . "ظهور" السلطان
يذهب الدارس ربيع حامد خليفة إلى الإبانة أن تقاليد تركية، سابقة على الحقبة العثمانية، استساغت بناء الصورة الشخصية (7). هذا ما كشفته تنقيبات أثرية متأخرة، أي وجود مثل هذه الإنتاجات الفنية المختلفة، في القرن الميلادي الثامن وبعده. هل يؤكد ظهورها أن سلطاناً مثل محمد الفاتح عمل وفق سياسات القدماء أم أنه استجاب إلى حاجات ناشئة في الحكم خصوصاً، في صورتهما معاً؟
لم يكن غريباً على سلطان بيزنطية، من جهة، و"قرين" حكام البندقية، من جهة ثانية، أن يَظهر بمظهر الحاكم على البلاد التي لم "يفتحها" الحكم الإسلامي سابقاً، والتي كانت ذات تقاليد يتعين بعضها في "صورة فنية" للحاكم. ويذهب الدارس بيتر براون (Peter Brown) إلى تفسير الأيقونة بأسباب دينية وأخرى ناشئة في التجربة الإغريقية، حيث كانت ترتفع صورة الحاكم في الساحات العمومية والميادين وغيرها (8). كما أظهرت مراسلات أن المعاملات الدبلوماسية بين الدول بلغت في تلك القرون تحديدات جديدة، لم يعد قوامها – كما في السابق – إرسال المبعوثين أو الرسل فقط، أو كتابة "رسائل" (كما يمكن أن نلقى ذك، على سبيل المثال، في سلوكات الرسول مع عدد من الحكام المحيطين بالجزيرة العربية في عهده)، وإنما باتت تتحدد أيضاً في صورة الحاكم الفنية، بل "المأذونة"، بعد صورته فوق العملات النقدية.
يصف الرحالة الفرنسي جان-باتيست تافرنييه لقاءه بالملك الفارسي في هذه الكلمات: "بعد أن أكلنا بعض الشيء، نادى الملكُ الأبَ رفائيل، وطلبَ منه الجلوس إلى جانبه، ثم دعاني باسمي وطلبَ مني الجلوس بدوري. ثم شرع في الاستفسار عن أسفاري، وسألني ما إذا كنت أتوصل، بعد أن عرفتُ ما عرفت من ملوك وأمراء في بلاد الهند، إلى التعرف عليهم من خلال صورهم الوجهية (...). ثم أتى (الملك) بعدد من الصور المصغَّرة وغيرها، كانت موضبة في إضبارة كبيرة، ثم راح يعرضها عليَّ صورةً بعد صورة" (9).
زار الرحالة تافرنييه بلاد فارس تسع مرات بين العام 1630 والعام 1668، كما زار البلاد العثمانية والهندية، ودوَّنَ ملاحظاته في خمسة كتب. وتُشكِّل رحلاته هذه مدونة ثمينة عاد إليها الكثير من النصوص الاستشراقية أو من النصوص النقدية عن الفن الإسلامي وعن عادات المسلمين من الصورة، كما في كتابات الرحالة: جان تيفنو وإينياس مورادغا دوسون وغيرهما. وحفلَ الكتاب بمعاينات وأخبار تتناول "كراهية المسلم" للصورة (كما راجت فيها العبارة)، كما فتحَ هذا الكتاب نقاشاً حول "تقبل الإسلام" للصورة بالمعنى الفقهي للكلمة. إلا أن ما يتضح، في الشاهد الذي ذكره تافرنييه، هو أن الملك الفارسي كان معتاداً على وجود صورة للملك، بل كان يمتلك "إضبارة كبيرة" تضم صور ملوك مختلفين.
كانت تتلاقي وتتعاكس، إذاً، نظرتان مختلفتان للصورة في المجتمعات الإسلامية: في نطاق المُلك، من جهة، وفي النطاق العمومي، بين المسلمين أنفسهم، من جهة ثانية. اختلفت، إذاً، سياسات الحكام المسلمين لجهة وجود صور "فنية" تمثلهم، سواء في بلاد فارس أو في البلاد المحيطة بهم. لماذا؟ وكيف ذلك؟
لا يغيب، في تعداد الدواعي التي أدت إلى اعتماد السلطان العثماني للصورة الشخصية، ما كانت عليه العلاقات الناشئة بين استانبول والبندقية خصوصاً، وما باتت تعرفه المدينة الإيطالية الذائعة الصيت، والقوية الانتشار بتجارتها خصوصاً، من تقاليد فنية ناشئة، متمثلة في رفع الأمراء والنبلاء لصورهم الشخصية فوق جدران قصورهم (بعد التماثيل في الساحات العمومية، والتصوير الديني المتخيل في الكنائس والكاتدرائيات). هذا ما يتتبعُه بالدرس كتاب ربيع حامد خليفة، المذكور أعلاه، إذ استعرضَ فيه ودرس هذه الصور في العصور العثمانية المتتابعة، منذ القرن الخامس عشر الميلادي. ويتضح أن السلطان العثماني، منذ محمد الفاتح، استقدم فنانين إيطاليين للتصوير في بلاطه؛ كما تشير سجلات ووثائق محفوظة في "متحف طوبقابي سراي" إلى وجود "مرسم سلطاني" في العام 1525؛ وتشير وثيقة أخرى، وهي كتب الحرفيين، إلى أسماء عدد من الرسامين الذين عملوا في بلاطه في استانبول، ومنهم: سنان (بك)، وبابا نقاش، وحسام زاده... هذا ما يرد في وثائق أخرى، وعن سلاطين آخرين، مثل مراد الثاني وبايزيد الثاني وغيرهما، فضلاً عن أسماء فنانين آخرين.
لم يقتصر عملُ السلطان محمد الفاتح على استقدام الفنانين، وإنما أرسل أحدَهم، سنان الشهير، لكي يتعلم في إيطاليا (على ما يذكر كتاب تركي موضوع في القرن السادس عشر للمؤرخ مصطفى علي)، إذ يقول: "إن سنان (بك)، الذي كان معاصراً للسلطان محمد خان (...)، تتلمذَ في البندقية على يد أساتذة الإفرنج، وصار رئيساً للنقاشين، وهو تلميذ الرسام الإفرنجي المسمى الأستاذ بولو، والذي كان تلميذاً ومساعداً للرسام دميان المعروف بالمهارة؛ والمذكور سنان (بك) له تلميذ يدعى أحمد بن جلبي من بورصه، وهو أفضل نقّاشي الروم في رسم الصور" (نقلاً عن كتاب خليفة، م. س. ص 61). وهو ما ورد عن سنان فوق شاهدة قبره بالعربية: "نقاش سلطان محمد سنان بك". ما يمكن أن يلاحظه الدارس هو أن سنان – وإن احتفظ بتقنيات التصوير التي تعلمها في البندقية – فإنه ابتعد عن تصوير القسم العلوي أو الوجهي من السلطان لصالح رسمه كاملاً؛ وهو ما سيستمر في التصوير العثماني السلطاني. هذا ما يقترب من بناء اللوحة، لا من بناء صورة العملة، أو الصورة على الميدالية وغيرها.
ما بدأ به محمد الفاتح سيتأكد ويتسع في القرن السادس عشر لجهة المرسم السلطاني ("نقش خانه")، حيث سيلتحق به فنانون فرس ومصريون وسوريون وشراكسة وغيرهم، فضلاً عن فنانين أوروبيين، بعد زيادة الصلات الدبلوماسية بين السلطنة ودول أوروبية مختلفة إثر اتفاقيات "الامتيازات" (10).
ما كان يخص السلطان تحديداً سينتقل ليشمل غيره، من قادة عسكريين وكبار رجال الدولة، عدا أنه ستتعايش مدرستان: واحدة خاصة بفن المخطوطات، وأخرى خاصة بالفنون الوافدة من إيطاليا. كما إن الصور الوجهية ستتسع لجهة موضوعاتها، إذ ستقوم لوحات برسم مظاهر من الحياة العامة والخاصة، فضلاً عن الصور الطوبوغرافية والتاريخية والحربية. كما لن يتأخر المصورون، ولا سيما الإيراني الأصل ولي جان التبريزي، عن رسم الدراويش والزهاد والمغنين والمغنيات وضاربات الدف وغيرهم (11). وإذا كان معروفاً عن الفنانين الإيطاليين إدراج أسمائهم فوق العمل الفني، فإننا نلحظ في المتبقيات الفنية لعدد من مصوري البلاط العثماني من المحليين وضعَ تواقيعهم بدورهم، مثل "العبد حيدر" (أي المصور حيدر ريس، المعروف بنجاري، المتوفى في العام 1573)، وإقدامهم على تصوير أنفسهم في "ألبوماتهم"، كما تُظهر بعض الأعمال الفنية جلوس المصور في حضرة السلطان ما يعد رفعاً من مكانته. كما ظهرت في مخطوطات الاحتفالات العثمانية "طوائف الحرف"، وهي تعرض إنتاجها على السلطان، بما فيها الرسامون، بينما يقوم بعضهم بحمل أعماله الفنية بين يديه.
تعينت الصور السلطانية في صور نصفية، في وضعية جانبية، أو في صور كاملة، فضلاً عن أن بعض السلاطين ظهروا ممتطين صهوات جيادهم. كما يتضح وجود تصاوير أخرى، منها رسوم على الورق ولوحات زيتية وغيرها. يقوى الدارس – لو رغب في ذلك – إجراء تحاليل مدققة للرسوم إذ يَظهر فيها - بعيداً عن قدرات المحليين على تعلم وتنفيذ التقنيات الإيطالية في رسم الوجوه والجسم عموماً – تباينٌ بين متبقيات من المدرسة المحلية (التي تميل إلى الزخرفة والتسطيح وغيرها) وأسسِ المدرسة الإيطالية (التي تميل إلى التظليل والثنيات الدقيقة وتعبيرات الوجه والنِّسَب التشريحية والتدرُّج في الألوان وغيرها).
لا يسع الدارس تتبع التغيرات في صورة وافية في هذه المحاضرة، تبعاً لإنتاجات الفنانين المختلفة أو لسياسات السلاطين المختلفة بدورها. ما يمكن التأكيد عليه هو أن ما بدا حماسة من سلطان في البداية، وما تراجع عنه سلطان آخر بعد عقود قليلة (12)، لن يتوانى عن التأكد والرسوخ في القرن الثامن عشر، بل يمكن القول إن تزويق المخطوطات بالصور سيتأثر بتقنيات اللوحة بشكل أكيد؛ كما إن خط مجيء الفنانين الأوروبيين، لا الإيطاليين وحسب، إلى استانبول سيزداد ويقوى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
إذا كان السلطان يَظهر في جميع هذه الأعمال مرتدياً العباءة، فإن السلطان محمود الثاني (1808-1839) سيظهر في لوحة زيتية مرتدياً اللباس الأوروبي، أي السترة والبنطلون، وجالساً على كرسي (fauteuil) خشبي مذهب (من طراز لويس السادس عشر) بدل العرش. ومن المعروف عنه أنه أول من غير العمامة الإسلامية، ولبس الطربوش، وجعله لباساً رسمياً لجميع الناس في الدولة، طالباً من ذلك عدم التمييز بين رعاياه، أو المساواة فيما بينهم؛ وهو ما لن يتغير بعده حتى سقوط السلطنة. هذا الزي ألقاه في لوحة زيتية، في نهايات القرن التاسع عشر، ويَظهر فيها السلطان مراد الخامس مرتدياً السترة والبنطلون ومعتمراً الطربوش الأحمر. وهو ما يبدو به السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1908) كذلك... رافقَ هذا الظهورَ الفني المستجد ظهورٌ آخر للسلطان تمثل بـ"الصورة الرسمية" للحاكم، بعد أن أمر السلطان محمود الثاني بوضع صورته في المؤسسات العامة ومعسكرات الجيش، وأن تؤدى لها التحية كما لشخصه؛ وهو السلطان الثاني، بعد محمد الثاني، الذي ضرب عملة نقدية تحمل صورته.
1 . ج . السلطان : هيئة "فنية"
وقعتُ، في تحقيقاتي، على كتاب نادر يستجمع صور السلاطين العثمانيين، وهو: "أبدع ما كان في صور سلاطين آل عثمان"، وقد اعتنى بجمعها وطبعها سليم (أفندي) فارس الشدياق، ابن الكاتب الشهير، وهو مدير "الجوائب"، كما يعرف عن نفسه منذ عنوان الكتاب، من دون أن يذكر تاريخ الطبع (13). ويشتمل الكتاب، بعد الغلاف، على فهرس أسماء السلاطين بالعربية والفرنسية، ثم صور السلاطين وفق ترتيبها الزمني، وهي تعود إلى 33 سلطاناً منذ عثمان خان حتى مراد خان الخامس، ويتصدرها اسم السلطان: عبد الحميد خان الثاني (1876-1909)، ما يشير إلى صدور الكتاب إثر نهاية عهده، أي بعد العام 1909 تحديداً. يمكن للدارس الوقوف عليها لمتابعة التغيرات الداخلة في الهيئة المظهرية، كما تتجلى في اللوحات "المأذونة".
قد يكون التوقف عند بعض صور العهد العثماني الأول مفيداً في التعرف على نموذج التصوير الإيطالي "النهضوي"، من جهة، وعلى تشكُّلاته الأولى، فناً وترميزاً، من جهة أخرى. يمكن الوقوف عند صورة نصفية للسلطان محمد الفاتح قام بها المصور والنحات كوستانزا، وهي – حسب البعض – باكورة أعمال الفنانين الإيطاليين في استانبول: يَظهر فيها السلطان معتمرأً عمامة كبيرة، ويلتف شالها عدة مرات حول طاقية مضلعة، مرتدياً قفطاناًً وجبة وعباءة، ومتمنطقاً سيفه. كما تبدو لحيته مشذبة، وكذلك شاربه البهلواني الذي يتداخل معها. ويَظهر على الوجه الآخر من الصورة السلطان ممتطياً جواده، ممسكاً بيده اليسرى بعنانه، وصولجانه باليد اليمنى، كما تظهر خلفه تلال وأشجار مصورة بأسلوب واقعي، فضلاً عن توقيع الفنان. وهو ما يمكن قوله في تصوير "تعابير" وجه السلطان، حيث أن الفنان رآه عياناً قبل أن يصوره...
وقد تكون تصاوير سنان الشهير النموذجَ الظاهر في هذه التجارب: يُقدم على تصوير السلطان جالساً، ما يمكن أن يُطلق عليه تسمية: "الجلوس السلطاني"، وهو ما يستمر في جلسات السلاطين والحكام، بدلاً من الوقوف الأميري أو الأمبراطوري بعد وقت. كما يتضح أن سنان يعتني (كما يشرح ذلك كتاب "نظرية التصوير" لليوناردو دافنتشي) برسم طيات الثياب والظلال وغيرها.
غير أن فحص صور السلاطين يكشف عن جانب آخر، وهو تغيُّر أساليب الفن ذاتها، ما يحتاج إلى مقادير من التتبع والدرس. فلقد وجد السلطان سليمان الأول، المعروف بـ"القانوني"، وباسم (magnificent) في الكتابات الأوروبية، في سلفه، محمد الفاتح، خيرَ مثال على رعاية الفنون العثمانية وتطويرها خصوصاً، خاصة وأنه أتيح له أن يحكم لفترة طويلة (ما يقرب من خمسين سنة). فقد عُرف في عهده إنتاج غزير ومتنوع للكتب المصورة، المعروفة بـ"الشهنامات"؛ وهي عبارة عن قصائد مطولة تروي مآثر السلطان وتصورُها كذلك، وفق أسلوب واقعي ينقل المشاهد والأمكنة والوجوه والهيئات بتعبيرات واقعية للغاية، ما يختلف عن أسلوب المزوقة المعروف والمتوارث. ويقف وراء انتشار هذا الأدب الفني (حسب الأرشيف العثماني) فنانان كبيران، هما: حيدر رئيس، وكان يوقع أعماله باسم "نكاري" (1492؟-1572)، السابق ذكره، وباسم نصوح (توفي على الأرجح في العام 1564). وهو ما يبلور لأول مرة صورة جديدة للفنون العثمانية: صورة تسمح بتعبيرات فنية واقعية، للوجوه والمناظر، فضلاً عن تبلور أنماط فنية جديدة، مثل الصورة السلطانية والمناظر الطوبوغرافية وغيرها.
يحتفظ الأرشيف العثماني بـ"سليمانامه" شهيرة، أي بكتاب شعري مصوَّر عن عهد السلطان سليمان الأول، يعود إلى العام 1558، ويَظهر فيه عمل رسامي السراي، فضلاً عن تعاونهم مع فنانين من خارح السراي: "يتبين لنا أنهم كانوا يكلفون رسَاماً من أصل أوروبي شرقي لمرافقة الحملات الغربية لرسم أحداثها، بينما يكلفون آخر، ممن يسيرون على تقاليد الفنون الإيرانية، لمرافقة الحملات المتجهة إلى الشرق. كما يُفهم أن قسماً كبيراً من المناظر الموجودة في الكتاب قام بها فنان مبدع، هو الذي كان يتولى تنظيم أعمال المجموعة، ويقوم بتصميم التراكيب والتوليفات النموذجية للفنانين من بعده، مثل احتفالات الجلوس على تخت العرش في السراي، ومناظر الاجتماعات، والاستقبالات، وحصار المدن وغير ذلك" (14).
يتجلى في صور هذا الكتاب الشهير دخولُ البعد الزمني، الوقائعي، في التصوير، كما يَتضح ذلك في ورقتين متقابلتين خاصتين بحصار بلغراد في العام 1521، حيث يَظهر على يسار الصورة السلطان نفسه وكبار قواده ووزراؤه وحاشيته، متابعين للهجوم، ويَظهر على يمين الصورة الانهيارات العسكرية المختلفة (مثل احتراق البرج، ودكِّ الأسوار الخارجية للمدينة، فضلاً عن لجوء السكان إلى الكنيسة). بل تبدو، في هاتين الورقتين، تعبيرات على وجوه بعض المرسومين، مثل تعبيرات القلق على وجوه الجنود المدافعين عن المدينة. كما يتضح، في صورة جلية، اعتماد الفنان على البعد المنظوري (أي: البعد الثالث) في تصوير المشهد، حيث تتقدم الأشجار في مقدمة الصورة، وتقع الكنيسة خلفها، ثم غيرها، ما يُقرِّب صورة المزوقة الإسلامية من صورة اللوحة "النهضوية".
لا يسعني، في هذا الكلام عن التصوير العثماني، الإطالة والإفاضة في عرض سياسات السلاطين الفنية فيه، ولا التوقف عند إنجازات كبار فنانيه (وقد عرفنا عدداً واسعاً من أسمائهم وسِيَرهم أحياناً)، لأن ذلك يتعدى مخطط هذه المحاضرة. وما يعنيني، في المقام الأول، هو التعرف على المسار الجديد الذي اتخذه الفن العثماني منذ عهوده الأولى؛ وهو مسار أفاد من فنون وخبرات أوروبية (فضلاً عن الإسلامية، العربية كما الفارسية)، وجعل فن الصورة يتعين في نمطين:
- نمط المزوقة المعروف والتقليدي، ولكن المعدَّل وفق تقنيات اللوحة الزيتية "النهضوية"؛
- نمط اللوحة الزيتية، المتمثل خصوصاً في اللوحة الوجهية (البورتريه).
اتضح أعلاه أن فن اللوحة الوجهية دخل البلاط العثماني منذ عهد سلاطينه الأوائل، كما جرى كذلك تعديل فن تزويق المخطوطات بما يناسب التأريخ الزمني لمآثر السلطان، وهو ما طلب تعديلات واضحة في طريقة الرسم.
لو جرى التوقف، على سبيل المثال، عند ألبوم مصور، هو آخر ما أُنتج في السراي، في العام 1793، في عهد السلطان سليم الثالث (1789)، وهو "خوبان نامه وزنان نامه"، لتحققَ الدارس من تغيرات عديدة باتت تصيب آداب الحكم، أي ما يستحسنه السلطان ويطلبه في المجال الفني. فهذا الألبوم يبتعد عن تصوير مآثر الحاكم، ويعرض صورة فنية جديدة، بل مغايرة للثقافة الفنية البلاطية ولوسائلها التقنية كذلك: يعرض الألبوم، في قسمه الأول، أربعاً وأربعين صورة تعكس سمات الرجال في بلدان مختلفة، والتصرفات التي تميزهم؛ ويشتمل القسم الثاني من الألبوم على ثلاثة وثلاثين منظراً لنساء مختلفات. ومن يتابع عدداً من كتب الرحالة المستشرقين الأوروبيين، التي كانت تتضمن صوراً محفورة لأزياء مختلفة، للرجال وخصوصاً للنساء، يلاحظ شيئاً من التشابه بين هذه الكتب والألبوم المذكور. ومن يقترب أكثر من طريقة التصوير في هذا الألبوم يلاحظ بأن أسلوب المزوقة تغير وأصابته دينامية داخلية، إن صح التشبيه. فالقسم الثاني من الألبوم عبارة عن صور مناظر تَظهر فيها النساء في وضعيات مختلفة، مثل خروجهن للمتعة في أحد المنتزهات. كما ينتبه الدارس إلى أن الصورة المرسومة فوق ورق المخطوط تحتل صفحة الكتاب بالكامل، أشبه ببناء اللوحة؛ وهو أمرٌ نادر في المزوقات، حيث كانت تظهر دائماً بوصفها سنداً للمخطوط، فلا تمثل الصورة فيها وفق هذه المقاسات. إلى هذا، يلحظ الدارس في هذه الصور حركات بادية، ومرحة، للشخوص، بخلاف الوضعية "الجامدة" و"العابسة" في أحيان عديدة، التي كانت تظهر عليها الهيئات الإنسانية في المخطوطات السابقة. كما تتجلى في صور هذا الألبوم تقنيات التصوير الأوروبي في صورة جلية، مثل عمليات التظليل، ولا سيما بروز البعد المنظوري الذي يُظهر للناظر عمقَ المنظر المصوَّر، وتباعد الشخوص فيما بينها فيه. هذا ما تكتمل صورته الأخيرة في قيام آخر سلاطين بني عثمان بالتصوير بنفسه، بما فيها تصوير الوجوه والمناظر الطبيعية، وهو عبد المجيد (1868-1944).
2 . اللحظة العربية : من القصر إلى الجدار
قام الكاتب الفرنسي جيرار دو نرفال (Gérard de Nerval)، في العام 1843، برحلة "شرقية"، وشملت جولاته ومعايناته جوانب مختلفة من حياة المجتمعات، ما جمعه في كتاب بعنوان: "رحلة إلى الشرق"، وضمَّنه مقالات تناولت الفن أحياناً، منها: "فنون لدى الشرقيين" و"تصوير الأتراك" (15).
إذا كان دو نرفال ينحو منحى سابقيه من الرحالة بالحديث عن "كراهية الإسلام" للتصوير، فإنه لا يلبث أن يعدِّل ويصوِّب هذه النظرة، متنبهاً إلى أحوال ظاهرة للصورة في النطاق العثماني، سواء في استانبول أو القاهرة أو بيروت... هذا ما لخَّصه في القول: "لدينا مواقف مسبقة تُظهر الأمم الشرقية عدوةًٍ للوحات والتماثيل (...) فيما نشاهد، في إحدى صالات السراي، في القسطنطينية (استانبول)، مجموعة من الصور الوجهية للسلاطين" (في: "فنون لدى الشرقيين"، م. ن.، ص 825). وهو ما يكرره في كلامه عن الصور في القاهرة: "حللت في القاهرة (معززاً) بموقف أوروبي مسبق، (قوامه) أن المسلمين لا يُقرُّون بتصوير أي كائن حي، فأصابتني الدهشة، بداية، إذ وقعت في مقاهٍ على فهود مصورة في جداريات، وعلى درجة موفقة من الشبه. وزادت دهشتي إثر دخولي إلى قصر محمد علي، فوقعتُ، بداية، على صورة لحفيده معلقة على جدار، ومصورة بـ(ألوان) زيتية، ومنفذة حسب الفن الأوروبي (...). ولقد علمتُ منذ ذلك الوقت (بوجود) مجموعة من صور السلاطين في القسطينطينية (استانبول)" (م. ن.، ص 870). وهو ما يلحظه من صور وجهية في صالات أخرى في قصور أخرى لمحمد علي... كما يذكر معرضاً في استانبول تعدَّت الأعمال الفنية المعروضة فيه الخمس مئة عملاً، وآخر في القاهرة أيضاً بلغت معروضاته المئات بدورها...
ما يلحظه دو نرفال لا يقتصر فقط على القصر ومعروضاته، وإنما يتعدّاه إلى الشارع، بل إلى محلات باتت معنية بالأعمال الفنية: يتحدث عن معرض لوحات في منطقة "غالاتا" في استانبول، وعن "ساحة سيراسكين" ومحلاتها، التي يرتادها سكان استانبول لشراء لوحة، وربما لتصوير هيئاتهم الشخصية؛ كما يذكر أحد الملاهي في "بيرا" (ضاحية استانبول) المزيَّن بأعمال فنية... وكان قد انتبه إلى وجود الصور في أحد المقاهي في بيروت؛ وهو ما تحدث عنه لاحقاً مستشرقان آخران، آزايس ودومرغ (Azais et Domergue)، في العام 1844، في معرض حديثهما عن جدرانيات فنية في غرف "فندق بيل فو" (Belle vue) في بيروت.
2 . أ . بين الجلسة والوقفة
يكفي، للتدليل على ما أقول، الوقوف عند كتاب عربي (صادر قبل العام 1916، تاريخ مقدمته، وقد غاب عنه تاريخ طبعه) بعنوان: "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر"، ويشتمل على عشرات الصور الفنية، التي تعود إلى محمد علي وإلى عدد من السلاطين العثمانيين، فضلاً عن صور للوحات أخرى. ما يستوقف في المعلومات المثبتة في هذا الكتاب هو ورود اسم المصور، علي (أفندي) يوسف، وورود مكان وجود هذه اللوحات: "دار الكتب السلطانية". لم أتوصل في تحقيقاتي الخاصة إلى معرفة شيء من سيرة هذا المصور، المصري على الأرجح؛ إلا أنني تحققت بالمقابل من أن غالب هذه الصور معروف، وتمَّ بالتالي تصويرها من جديد (16). ومع ذلك، أطرح السؤال: ألا نملك – عدا هذه المعلومات القليلة والقيَّمة في آن – أخباراً أوفى عن سلوك الحكام، ولا سيما في الولايات العربية، وخصوصاً في مصادر عربية؟
أقع على أخبار تفيد أن الحاكم الجزائري علي بن أحمد طلبَ، في العام 1846، من الفنان المستشرق المعروف تيودور شيسيريو (Théodore Chésseriau)، الإقامة في قصره، في قسطنطينة، وتنفيذ رسمه الشخصي (وهو ما قام به الفنان الفرنسي، ونفذ الرسم في شهرين). وهذا ما سعى إليه الأمير بشير الشهابي الثاني (1767-1850)، حين طلب من المصور الإيطالي المعروف قسطنطين غويستي (C. Guisti)، أن يكون – حسب بعض الأخبار – "رسام القصر" (17).
اللوحة تنتقل بيُسر أقوى مما سبق، حتى لا أقول عنها إنها "تتوطن"، إذ باتت مستساغة الحضور بعض الشيء، ما يلاحظه دو نرفال في معايناته بالقول: "اليوم، لا توجد سوى قلة من الأتراك تطلب تصوير هيئاتها، (إلا أننا ننتبه، بالمقابل، إلى) أنه لا يوجد واحد منهم يمتنع عن أن تكون هيئته، أو زيُّه موضعَ تصوير (في حال طلبَ منهم أحد الفنانين ذلك)، بل (نراه) يحافظ على جلسته بصبر كامل (عند قيام الفنان بتصويره)، وبنوع من التباهي" (م. س.، ص 870).
لا يجد الزائر أو الدارس، اليوم، في متحف أو في كتاب، ما يجمع هذه الصور السلطانية، كما لا يجد متحفاً يستجمع صور أعداد من العرب في القرن التاسع عشر: يقع على لوحات متفرقة تخص محمد علي، أو ابراهيم باشا، أو الأمير بشير الشهابي، أو أحد الحكام الجزائريين، أو أحد سلاطين المغرب وغيرها من الصور واللوحات المتفرقة لهذا أو ذاك. هذا الحضور متفرق لا يرسم سياسات بينة بالضرورة كما عند السلطان العثماني، ذلك أن عدداً من الحكام في الولايات العربية انشغلوا – على ما درستُ – بأمور أخرى غير الصورة الفنية، مثل تثبيت حكمهم المضطرب، عدا أن غالبهم ما كان يتمتع بالثقافة الفنية اللازمة. وإذا قيل أن الأمير بشير الشهابي (1867-1850) اعتمد بعض المظاهر السلطانية في الحكم، كاعتماد شاعر للأمير، أو مصوِّر له (كما ذكرت)، فإن هذه السياسة حاكت غيرها، ولم تثمر إلا لوحات معدودة... بل يمكن القول إن ظهور لوحة الحاكم وافقَ سياسات الفنانين أكثر من الحكام أنفسهم، حيث أن الفنانين المستشرقين والرحالة راحوا يتجولون ويعرضون "خدماتهم" على هذا الحاكم أو ذاك، على ما نعرفه من أخبار بعضهم، أكثر مما كان الحكام يستدعونهم أو يطلبونهم.
أقع على أكثر من لوحة، في المحفوظات الفنية المصرية، يظهر فيها محمد علي وفق النموذج العثماني المعتمد من قبل السلاطين، أي الحاكم فوق تخته، من دون أن يفارقه الطربوش، والسيف، وتعبيره المتجهم؛ بينما تظهر في خلفية إحدى اللوحات منارة أحد المساجد، وهو ما ظهر في فن نهايات القرن الثامن عشر، أي لزوم إبراز منظر طبيعي أو عمائر في خلفية الصورة الشخصية، ما سيستمر في تصوير السلاطين في مطالع القرن التاسع عشر. إلا أن محمد علي يتخفف من سيفه في لوحة أخرى، ويبرز فيها مستريحاً، أي في وضعية أقل رسمية من اللوحات "الرسمية"، إذا جاز القول.
يمكن الوقوع على عدد من صور محمد علي، وابنه: ابراهيم باشا، منشورة في كتاب: "ذكرى البطل الفاتح ابراهيم باشا، 1884-1948" (18)؛ منها لوحة تُظهر ابراهيم جالساً على كرسي، وهي غير صوره الأخرى الوجهية، عدا أنه يبدو فيها في "جلسة تصوير" لا في هيئة ووضعية "رسميتين"؛ كما يَظهر في لوحة أخرى متقدماً جيشه، من دون أن يتضح تاريخ رسمها، أو اسم الفنان الذي رسمها.
من يتابع اللوحات عن محمد علي يتحقق من انبناءاتها وفق نمطين سبق الحديث عنهما، وهما: "الجلسة" العثمانية، و"الوقفة" الأوروبية. ففي غير لوحة يَظهر محمد علي جالساً بل ممدداً فوق أريكة أو تخت أو سرير، بلباسه الإسلامي (إذا جاز القول)، وهو ما ظهر عليه السلطان العثماني سابقاً وتحدث عنه ابن خلدون أعلاه؛ كما يَظهر في لوحات أخرى واقفاً بلباس أوروبي، حاملاً سيفه، وفق تقاليد أوروبية في ظهور الحاكم، على ما تحققت. هذا ما وجدتُ أثراً ظريفا ودالاً عليه في مراسلات محمد علي مع ابنه ابراهيم باشا: لا يوافق محمد علي، في رسالة منه إلى ابنه ابراهيم باشا في العام 1832، على "تقلُّد السيف الذي وردَ من أوروبة، ولا على ارتداء الكسوة الجديدة، لأن شكلهما لا يتوافق ونصوص الشرع الشريف" (19)؛ وهو اللباس الأوروبي الخاص بالحكام، كما يظهر في عدد من لوحات ذلك العهد، ولا سيما مع نابوليون الثالث وغيره، ممن جرى تصويرهم، وهم يحملون واقفين سيوفهم. إلا أن هذا لا يمنع محمد علي في مراسلة أخرى إلى ابنه ابراهيم، في العام 1835، من تنبيهه إلى أنه كان يتوجب عليه الوقوف لتحية المارشال مرمون، فيقول له: "إن الزمان تبدَّلَ، والعهد تحوَّل. وقد اضطررتُ أن أستقبل هذا الشخص في وسط الغرفة"؛ ثم يذكِّر ابنه بما جرى من تغيير في بلاط السلطنة عند استقبال السفراء، حتى أن السلطان ما عاد يدري كيف يكرمهم: "تارة يكون واقفاً قبل شخوصهم (ظهورهم)، وطوراً يحاول اكتساب قلوبهم بتواضعه، فيقوم لهم خصيصاً" (م. ن. مجلد 3، ص 67-68.).
2 . ب . بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة
انساقت الكتابات الفنية صوب اللوحة، صوب الفنان، لسؤالها عن تاريخ الفن في الولايات العربية (العثمانية) المختلفة، ولم تُعنَ في الغالب بدرس سياق وأحوال المجتمعات المختلفة المعنية، ولا سيما ظهور المطبعة بإنتاجاتها المختلفة (الجريدة، الكتاب، المنشور...)، من جهة، وظهور آلة التصوير الفوتوغرافي بحاجاتها المختلفة (الصحفية، الثبوتية، المظهرية...)، من جهة ثانية. ويحتاج دخول آلة التصوير الفوتوغرافي إلى هذه المجتمعات وعاداتها وطلباتها إلى درس غير متوافر بعد، للتعرف على أشكال الدخول والقائمين به، وعلى قبوله (أو رفضه) من قبل الأفراد والجماعات، وعلى مترتبات هذا الدخول في أكثر من صعيد، ولا سيما على مستوى القيم والسلوكات الاجتماعية المختلفة. وما يجده الدارس يقتصر في الغالب على معلومات متفرقة، هنا وهناك، ولا سيما على أسماء بعض المصورين الفوتوغرافيين. كتب المصور الفوتوغرافي الفرنسي إدمون دوتي (Edmond Doutté ): "لقد فرحنا شديد الفرح إذ تمكنّا من التقاط بعض الصور. وإذا كنا قد استطعنا التقاطها فذلك لأن المتفرجين يجهلون كل شيء عن آلة التصوير (الفوتوغرافي)" (20).
آلة التصوير الفوتوغرافي تُخفي ما تَعرضُه يد الرسام أو المصور الزيتي من خطوط وألوان وهيئات، إلا أن الأكيد أيضاً هو أن رفض الأهل لدخول الآلة "البصّاصة" على عالمهم بات أقل عداوة من السابق، أو أكثر تقبلاً ربما. إلا أن أخباراً متفرقة ومختلفة تفيد عن مجيء، أو عن توطن، أجانب في عدد من المدن العربية، لا سيما في القاهرة وبيروت، بل عن فتحِهم محلات للتصوير الفوتوغرافي. هذا ما كان يلبي حاجات أوروبية في المقام الأول، وتتعين في تلبية طلبات مستجدة عند فئات مختلفة منهم، ممن لا يسافرون بالضرورة خارج بلدانهم، ولكنهم يحلمون بها، عبر بطاقات سياحية وغيرها، مما يشكل لهم "نوافذ مصغَّرة"، و"بصّاصة" بدورها، على هذا العالم القريب والغريب والمختلف والمثير في بعض أوجهه. هذا ما كشفته كتب ودراسات متأخرة عن "البطاقة السياحية" واستعمالاتها المختلفة، بما يُظهر أوجهاً وأحوالاً ووجوهاً "نمطية" عنهم، بما فيه إظهار عالم "الحريم" الإسلامي...
كما كشفَ البحث عن أسماء بعض هؤلاء المصورين الفوتوغرافيين، أو عن رحلاتهم، أو توطنهم في مدن عربية: هذا ما نعرفه عن مجيء فيليكس بونفيس وزوجته ليديا وابنتهما أدريان إلى بيروت في العام 1877، وعن إقامتهم الممتدة فيها، وفتحِهم لإستديو للتصوير الفوتوغرافي، وعن تصويرهم الكثير الذي امتدت نماذجه في أكثر من مدينة عربية. وهو ما نعرفه، في بيروت أيضاً، عن اضطلاع عائلتين من أصل أرمني بهذا التصوير، وهما عائلتا: صرافيان وصابونجي (21). وهو ما قام به بدوره الفنان الفلسطيني خليل رعد، الذي افتتح محلاً للتصوير الفوتوغرافي في القدس في العام 1895، بعد عودته من بازل (سويسرا)، التي اطلع فيها على تقنيات هذا الفن...
بات وجود التصوير الفوتوغرافي ميسَّراً أكثر من اللوحة الزيتية، فما عاد السكان يرشقون هذا الفنان أو ذاك بالحجارة أو يطلقون عليه الرصاص، مثلما حصل لدولاكروا (E . Delacroix) بعد 14 يوماً على وصوله إلى طنجة في سنة 1832. اختلفتْ الأيام، إذاً، عدا أن دخول التصوير الفوتوغرافي يبقى أخفى من الحمّالة المسندية نفسها، وباتت ترافقه "أذونات" دينية لا تحرمه أبداً، مثل فتوى جواز هذا التصوير التي أطلقها أحد رجال الدين المغاربة (22)، أو مثل إقدام السلطان المغربي المولى عبد العزيز على ممارسة التصوير الفوتوغرافي (كما السينمائي)، وعن تصويره حتى بعض نساء القصر (23).
جرى هذا في الوقت الذي تشكَّلت فيه، في أوساط متأثرة بسبل الحياة الأوروبية وعلاماتها، سلوكات ناشئة، مثل شراء نسخ من البطاقات السياحية، أو التزود ببطاقة الزيارة (visit card) التي كانت تشتمل على صورة صاحبها، أو الاعتياد على تصوير الهيئة لأسباب ثبوتية (في جواز السفر الذي سيبصر النور)، والذي بلغ ببعضهم تكبيرَ صورته ورفعَها فوق جدران البيت. هذا ما تنقله كتابات مختلفة، عربية وأجنبية، تتحدث عن هذه العادة الناشئة في البيوت العربية؛ وهو ما بلغَ رفعَ صورة الميت كذلك.
هذا ما يمكن التعرف عليه في لوحات وصور فوتوغرافية نادرة عن مصر في كتاب عبد الرحمن الرافعي: "عصر اسماعيل"، الصادر في العام 1932؛ ويمكن الوقوف فيها على اللوحات الخاصة بمباهج افتتاح قناة السويس في العام 1869، وهي للفنان ريو (Riou)، والتي كانت قد ظهرت في كتاب خاص بالمناسبة: "افتتاح قناة السويس" (Inauguration du Canal de Suez) للكاتب نيكول (Nicole). ويمكن العودة إلى صور أخرى كثيرة في كتاب زكي فهمي: "صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر من عهد ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير، متوَّجاً برسم صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر والسودان..."، مستكملاً ذكر أسماء بل فئات المذكورين مع صورهم، من: رؤساء وزراء حاليين وسابقين ورؤساء أحزاب ووزراء ووكلاء وزارات وسفراء ومستشارين ومدراء ونواب وأعضاء مجالس شيوخ ورؤساء روحيين وشعراء وصحفيين وأطباء وأعيان وتجار، و"كل ذي حيثية ومقام من أبناء وادي النيل" (24).
هكذا أمكن التعرف في كتاب "صفوة العصر..." على صور فوتوغرافية نادرة، مثل صورة سعد زغلول وهو يقرأ خطبة العرش أمام الملك ونواب الأمة، وهي من تصوير: المسيو أنطون أنتيبا (شارع كامل نمرة 8)؛ وهناك صورة فوتوغرافية ثانية لزغلول من تصوير: هنزلمان، وثالثة من تصوير: المسيو شارل...
ويمكن العودة كذلك إلى كتاب "تاريخ الصحافة العربية"، لفيليب دو طرازي، للوقوف على صور أعداد من الملوك والأباطرة والأمراء ورجال الدين والأدباء والشعراء والصحفيين وغيرهم من "وجوه" القرن التاسع عشر خصوصاً. وهو ما يرد منذ عنوان الكتاب: "يحتوي على أخبار كل جريدة ومجلة عربية ظهرت في العالم شرقاً وغرباً مع رسوم أصحابها والمحررين فيها وتراجم مشاهيرهم" (25). ويرد في الكتاب رسم لمحمد علي، وورد توقيع فيه: مخائيل فرح نقاش في بيروت. وترد في بعض الصور أسماء مصورين فوتوغرافيين، مثل: خوري (Khouri) الذي يرد في توقيع آخر (C. F. Khouri)، وله صور مختلفة تعود إلى: خليل سركيس (في العام 1912) ونقولا نقاش وأديب اسحاق وسليمان البستاني ورامز سركيس وأمين الخوري ورجل الدين يوسف داود؛ وهناك صور تعود إلى صابونجي (Sabonji) الذي صور الأديبة مريانا مراش، على سبيل المثال؛ وإلى جدعون (بالعربية، كما ورد اسمه في أحد تواقيعه، مرفقاً بأنه يعمل في بيروت)، الذي التقط صورة لويس صابونجي والبطريرك غريغوريوس الرابع وغيرهما. وهي صور تتعدى اللقطة الوجهية أحياناً، إذ نتعرف على جمال الدين الأفغاني في سريره، "في مرضه الأخير"، أو على أحد الصحفيين في مكتب جريدته...
يَظهر الشيخ ناصيف اليازجي بعمامته وجبته جالساً إلى جانب طاولة، فيما يبرز الكثيرون من أقرانه بلباس "الأفندية" (أي مثقفي العلوم "العصرية")، وممن وقف أمام آلة التصوير الفوتوغرافي: يبقى الطربوش ماثلاً فوق الرؤوس، فيما تظهر علامات الزي الأوروبي، من سترة وصدرية، وسلسلة للساعة معلقة في أحد أزرار الصدرية، فضلاً عن ربطة العنق، والمنديل الأبيض في الجيب العلوي من السترة، والنياشين وغيرها... فيما يمثل حفيد محمد علي، الأمير محمد علي، أمام آلة التصوير الفوتوغرافي، في زيه الماسوني بوصفه رئيس المحفل الأكبر الوطني المصري. وهو ما يتحدث عنه عبد الرحمن (بك) سامي إذ يكتب، في كتابه المذكور، أن البعض أخذ "في التسرول، أو لبس البنطلون، وأخصُّ من يلبس البنطلون خَدَمَة الحكومة" (م. س.، ص 79). ويتحقق العائد إلى صور كتاب "صفوة العصر..."، المذكور أعلاه، من ورود 39 اسماً في قائمة "أعلام الأدب في عصر اسماعيل"، فلا يظهر سوى 13 منهم مع صورهم، فيما ترد غالبيتهم المتبقية من دونها. وهذا ما يصح في قائمة علماء الهندسة والرياضيات في العصر نفسه: 7 مع صورهم من أصل 81 عالماً؛ وفي قائمة علماء الطب والجراحة: 4 مع صورهم من أصل 15 عالماً...
2 . ج . اللوحة "الوجهية" الفنية
يرد في كتاب "عصر اسماعيل" لعبد الرحمن الرافعي كلام مقتضب عن "النهضة الفنية" (26): "إن النهضة الفنية تشتمل على الظواهر المعروفة بالفنون الجميلة، وهي الفنون التي تستثير في النفس إحساس الجمال، وتنمي فيها ملكته (م. ن.، ص 298). و"الكلام عن الفنون الجميلة يتناول الموسيقى أو الغناء، والتمثيل، والرسم والتصوير، والنقش والزخرفة والعمارة. أما الرسم فقد بدأت المدارس الهندسية والصناعية والبعثات تعنى به من عهد محمد علي، فتخرج فيها طائفة من الرسامين تولوا تدريس الرسم في المدارس العالية والثانوية والابتدائية، ولكن نهضة الرسم والتصوير لم تنل حظاً من الازدهار في ذلك العهد" (م. ن.، ص 299). ويتبين الدارس في "المدارس الصناعية" أن الخديوي اسماعيل أسس عدداً منها، مثل: "مدرسة الفنون والصنائع"، التي عُرفت بمدرسة "العمليات"، في العام 1868، لتخريج الصناع الفنيين؛ ومن جملة مواد التدريس فيها: الرسم وفن العمارة (في السنة الأولى)، ورسم الآلات البخارية (في السنة الثالثة)، كما يوجد في المدرسة "قسم لتعليم التلوين بالألوان المختلفة".
أمكن التعرف، في هذه السِّيَر، على وجوه قد يكون بعضها مغموراً أو غير معروف كفاية في عداد من كان لهم دور في تنمية الفنون في مصر، مثل:
-عمر سلطان (باشا)، ابن محمد سلطان (باشا)، الرئيس المصري الأول لأول برلمان مصري، ممن عرفوا بتجميعهم مواد الفن الإسلامي؛
-أحمد (باشا) كمال، "أمين شرف" المتحف المصري، فضلاً عن نجاحه في العام 1910 في تأسيس قسم لتعليم فن الآثار المصرية في مدرسة المعلمين العليا، وعن مؤلفاته الكثيرة (بالفرنسية) عن الآثار المصرية، وعن عمله على تأسيس سلسلة متاحف في المدن المصرية المختلفة؛
-شفيق (بك) شاروبيم، الذي مارس التصوير، وتعلَّم على أيدي الأستاذ نييسستون كول والأستاذ سر جوفس في مصر، ثم سافر إلى إيطاليا في العام 1921 ودرَس فيها الفنون الجميلة، وكان أول مصري يفوز بشهادة المعهد الفني العالي، وشارك في معارض التصوير المختلفة في القاهرة (ويظهر في صورة مرافقة لسيرته صورة افتتاح الملك فؤاد لهذا المعرض إلى جانب الفنان المذكور)؛ كما ظهرت في المادة الخاصة به صورة لافتة يَظهر فيها أمام حمّالته المسندية ماسكاً بريشة التصوير، ومما ورد في النبذة عنه: "قد يمتاز الأستاذ شفيق (بك) شاروبيم على غيره من المشتغلين بالفنون الجميلة بمصر بعمل "البورتريا"، أي صور الأشخاص. فهو تلميذ للأستاذ كورمالدي الإيطالي الشهير، والأخصائي في هذا النوع من التصوير. ولقد زرنا محلَّ عمله، وسررنا كثيراً من رؤية صور بعض الأشخاص الذين لنا بهم سابق معرفة، والذي يسهل بمجرد النظر إليهم من رؤية محياهم بما فيه من خصائص طبيعية وأخلاقية. وهذه مقدرة لم يصل إليها إلا كبار المصورين الذين بلغوا شأواً عظيماً من الفن" (م. ن.، ص 612-613).
يتحقق العائد إلى كتب مختلفة من أن تاريخ البدايات التشكيلية في البيئات العربية لا يزال يفتقر إلى مصادر ووثائق تُعرِّف به، فيما يقوى الدارس على العثور علي بعضها حيث لا يتوقعه، كما في سيرة عدد من أدباء العربية. هذا ما جمعتُ أخباره في سِيَر أعداد منهم، في نهايات القرن التاسع عشر أو في العقود الأولى من القرن العشرين؛ وقد يكون أبرز هذه الوجوه هو ابراهيم اليازجي. فماذا عنه؟
هذا ما يقوله عنه دو طرازي: "أظهرُ قرائحه (ابراهيم اليازجي) الإتقان الفني. فإنه كان متأنقاً في إتقان ما يتعاطاه من صناعة أو أدب أو شعر، سواء اصطنعه بيده، أو أنشأه بقلمه، أو نظمه بقريحته، بما يعبر عنه الإفرنج بقولهم (artist). فكنت ترى التأنق والإتقان ظاهرين في كل عمل يعمله، حتى في لباسه وجلوسه ومشيه وكلامه وطعامه. وكل ذلك فرعٌ من تأنقه في الصناعة اليدوية، فكان حفاراً ماهراً ومصوراً متقناً (...). وكثيراً ما كان يحفر الأختام على سبيل الغية، ثم حفرَ الصور والنقوش (...). على أن تأنقه ظهرَ في خط يده، فكان جميل الخط من حداثته (...). ومن هذا القبيل تأنقه في التصوير باليد، حتى صوَّرَ نفسه عن المرآة صورةً ناطقة، رأيناها معلَّقة في منزله" (م. س.، ص 93).
هذا ما يرد أيضاً، في تاريخ دو طرازي، عن علم آخر من أعلام "عصر النهضة"، وإن في مثل فني وحيد، وهو لويس صابونجي، الذي عرفت عائلته (كما سبق الذكر) التصوير الفوتوغرافي في بيروت: "من مآثره، التي تستحق الذكر، أنه رسم صورة طولها أربعة أمتار، وعلوها ثلاثة أمتار بألوان الزيت. وهي تمثل تسلسل جميع الأديان من عهد آدم إلى يومنا هذا. وفيها 660 شخصاً، من جملتها تصاوير جميع الذين أنشأوا ديناً أو مذهباً مع طريق عبادتهم ورموز عقائدهم وطقوسهم. وكلها منقول عن آثار قديمة اكتشفها الحفارون في بلاد مختلفة. وهذه الصورة التي ليس لها نظير في كل الدنيا قد اشتغل الأستاذ صابونجي في أمرها منذ كان في أميركا سنة 1872 حتى أكملها سنة 1909، فجاءت فريدة في نوعها. وقد ألَّف رسالة باللسان الإنكليزي هي بمثابة دليل أو مفتاح للصورة المذكورة، وما فيها من الرسوم، مع ذكر تاريخ تلك الأديان، وزمان اكتشاف الآثار الدالة عليها، والأماكن التي كانت مطمورة فيها، إلى غير ذلك من الأمور المهمة" (م. ن.، ص 78).
قد يكون مثال جبران خليل جبران هو الأظهر والأعرف في سِيَر هؤلاء الأدباء الذين تعاطوا التصوير (ما لا حاجة لعرضه هنا)، إلا أن البحث يقتضي الحديث عن زملائه، مثل: أمين الريحاني وميخائيل نعيمة، على ما انتهيت إلى التحقيق والدرس. فقد وقعتُ، في أحد كتب الريحاني، على رسوم أنجزها بنفسه؛ كما تحققتُ مما هو أقوى دلالة على هذا المنحى، وهو أن كتابته، لا سيما في الرحلة، تقوم وتشدد على المعاينة البصرية تحديداً. كما لا يمكن تغافل الأمر التالي وهو أن أمين الريحاني يمكن أن يعد من أوائل الأدباء الذي اعتنوا بنقد الأعمال الفنية، فضلاً عن أنهم "نحتوا" العديد من ألفاظ هذا النقد في العربية (27). وهو ما يمكن التعرف عليه كذلك في أعمال فنية لميخائيل نعيمة: يمكن الوقوع في كتابه الشعري "همس الجفون" (28) على لوحات، وقَّعها باسم: "نعيمه"، من دون أن أعرف تاريخها؛ وتبدو الأعمال أقرب إلى طريقة رسم جبران، لجهة أنها تقوم على تخطيط الشكل خصوصاً، كما تقوم على رسم وجوه في الغالب، من دون أن نعلم ما إذا كانت مرسومة بالقلم الرصاص أو غيره، أم ملونة.
هذا ما يمكن معرفته أيضاً عن سيرة الشاعر جبرائيل الدلال (1836-1892)، من حلب، إذ "درس قليلاً فن التصوير، فأصاب شيئاً منه" (29). وكذلك الشاعر التونسي سعيد أبو بكر، الذي كان هاوياً للتصوير والتصوير الفوتوغرافي... وهو ما يقوم به أمين وخليل الخوري في "الجامعة"، إذ يشيران إلى عدد من أعلام بيروت، فيذكران في "مصوري الهيئة باليد": داود القرم، وفي "مصوري الهيئة بالشمس": بونفيس وديماس، وفي "كتبة الخطوط العربية": الشيخ ابراهيم البربير والمعلم علام وغيرهم (30). كما يذكر محمد بهجة الأثري، في: "أعلام العراق"، في ختام كتابه، أن له كتابين معدين للطبع، أحدهما هو: "أشهر مشاهير العراق"، بما فيهم "مشاهير الفنون الجميلة" (حسب لفظه) منذ القرن الثالث عشر (الهجري، أي التاسع عشر الميلادي)، وكان قد نشر – على ما يذكر – نماذج منه في مجلة "لغة العرب" وفي "المعرض" في بغداد؛ كما يذكر أن قائمة المشاهير ستشمل "أهل الفنون الجميلة، أعني الخطاطين والرسامين"، وهم: سفيان (أفندي)، وعبد الوهاب نيازي، وخلفه نعمان الذكائي، وعبد القادر الرسام، ومحمود الثنائي، وبكر (أفندي)، وميرزا موسى، وميرزا هادي، وعلي صابر" (31).
عدوى الفنون التشكيلية، التي أصابت أعداداً من الشعراء، لم تكن بغريبة بعد أن سارع النقاد كما الشعراء إلى نسبة الشعر إلى "الفنون الجميلة"، ما يجد صداه في كثير من الكتب والمقالات، سواء عند شعراء المجهر، أو عند شعراء رومنسيين (مثل أبي القاسم الشابي)، أو عند شعراء مجدِّدين مثل معروف الرصافي الذي يقول بأن الرسم والنحت والموسيقى "تشارك الشعر في كونها منعكَساً لصور الطبيعة، ولكن لا بواسطة الألفاظ، بل بواسطة الخطوط والألوان في الرسم، والأشكال البارزة في النحت والألحان والأنغام في الموسيقى". ويتابع القول: "فقولُنا بواسطة الألفاظ قيدٌ احترازي يخرج به قسماء الشعر من الفنون الجميلة المسماة عند القوم بالآداب الرفيعة كالرسم والنحت والموسيقى" (32).
2 . د . الفن مدونة زمنية
يفيد عبد الرحمن (بك) سامي في كتابه: "القول الحق في بيروت ودمشق"، إثر رحلته في العقد الأول من القرن العشرين، أن أهل دمشق كانوا "يُعلِّقون على الجدران المرايا، أو القطع الجميلة الخط، أو الصور إن كانوا غير مسلمين" (م. س. ص 82). وهو ما يقوله الفنان العراقي عطا صبري واصفاً حال بغداد في مطالع القرن العشرين، إثر احتكاك أهلها بالإنكليز: "تولدت لدى الأسر عادةُ تعليق صور الأجداد على الجدران، وهي معمولة بطريقة التصوير الفوتوغرافي"، ثم تطورَ الأمر إلى تحميل غرف الاستقبال "بالصور المنقولة من مناظر طبيعية أوروبية على العموم" (33). وهو ما يدل في حد ذاته إلى صلة أكثر من تكوينية بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة، حتى أن الدارس لا يقوى على التمييز بينهما في فحصه لصور مطبوعة بالأسود والأبيض في عدد من الإصدارات العربية. وقد يكون التشابه أوسع في عدد من الأمثلة إذ يشير إلى "جلسة" متشابهة للتصوير بين هذا وذاك؛ أو قد يعمد التشكيلي أحياناً إلى صنع شبه للصورة الفوتوغرافية في لوحة زيتية، كما في أعمال فنانين فلسطينيين عديدين، مثل: داوود زلاطيمو وزلفة السعدي وغيرهما (34)؛ وهو ما فعله بدوره العراقي عبد القادر الرسام وغيره.
ذلك أن من يتابع اللوحات الوجهية الأولى (المتوافرة)، ويفحصها، يتحقق من أن الفنانين العرب الأوائل تقيدوا بمعنى من المعاني بموجبات ومقتضيات الصورة السلطانية "المأذونة"، أي بما يأذن به المصوَّر ويسمح به. ويمكن الترجيح أن أعداداً ممن يَظهرون فوق أقمشة اللوحات هم الذين طلبوا ذلك، واستدعوا الفنان إلى دورهم، وربما طلبوا منه هذه الجلسة أو تلك. وقد يكون الوقوف عند أعمال المحترِف العربي الأول في التصوير الزيتي، وهو اللبناني داوود القرم (1852-1930)، مناسباً لملاحظة التشابه بين بناء الصورتين، حيث لا تعدو اللوحة الوجهية أن تكون شبهاً للصورة الفوتوغرافية (35). وهي صورُ الأعيان، بمن فيهم زوجاتهم أحياناً، من دون أن تفارق صورتهم الماثلة فوق الحامل ما يكون عليه جلوسهم أمام آلة التصوير الفوتوغرافي: صورة وجهية ووجاهية، مثل صورة جواز السفر (كما يُقال اليوم)، ولكنها مزينة بعلامات القوة أو الجمال (من حلى ونياشين وغيرها)، والمكانة في جميع الأحوال. هكذا تحدثتُ في أحد كتبي عن اللوحات الوجهية العربية الأولى عند فنانين مثل: القرم المذكور، واللبنانيين الآخرين حبيب سرور وخليل صليبي، والتونسي أحمد عصمان، والمصري أحمد صبري وغيرهم، واجداً في أعمالهم ما أسميته: "سجل نفوس" لعدد من الأعيان (36). ولا يلبث الدارس المدقق أن يلحظ تحولاً في عمل صبري، حيث تتنوع الجلسات، وتصبح أكثر "صالونية" (37)، إذا جاز القول، وهو "مجتمع الهوانم والأفندية والأغاوات، مجتمع الصالونات والندوات والزيارات الأسبوعية" (م. ن. ص 10)، حسب الناقد عينه.
هذا ما كان على فنان شاب، مثل مصطفى فروخ، أن يجرِّبه ويمارسه في بيروت، إذ يَطلب منه (على ما يَذكر في مذكراته) عددٌ من الأعيان المحليين، من طوائف مختلفة، تصويرَ هيئاتهم. هذا كان يتعين في أعمال وجهية، وأخرى "على طولها" (أي لكامل الجسم)، وفق لفظه، مشدداً على أنه مارس "تصوير هيئة الأشخاص لأنها هي التي تُثمر في بيئتنا" (38).
هذا ما يتذمر منه فنانٌ طالبٌ للتجديد، مثل العراقي جواد سليم، إذ يقول في محاضرة شهيرة له في بغداد: "ترفع رأسك للجدران، ماذا ترى؟ إن لم تكن الجدران عارية، فهي مُحلاّة بصورة كبيرة للجد. صورة أكبر لرب العائلة في شبابه. صورُ الأولاد في إطارات جميلة. صورُ الأحفاد... صورٌ كثيرة. هذا يكفي" (39).
هذا ما يمكن اختصاره بالقول: انبثق الوجه – أخيراً - في الصورة العربية الفنية وغيرها. وقد يجد البعض في هذا الانبثاق ظهوراً لغلبة قيمية أوروبية في غير مجالها الحضاري – وهو كذلك في نوع من التكيُّف الشبيه بتكيُّفات العولمة الجارية. إلا أن ظهور الوجه عنى أولَ ظهور لتشكُّل الفن البصري، ولما هو أبعد منه، وهو كونُ الفن مدونة زمنية وإنسانية. فمن اللافت للانتباه أن أصحاب مال ونفوذ متعاظمين في العالم العربي، وفي أوساط محافظة وربما متشدِّدة، لا يتورعون عن شراء واقتناء وحفظ وعرض مقتنيات فنية، استشراقية وغيرها، مما كانت لا تجيزه القيم في هذه المجتمعات، ما يتمثل في أكثر من متحف ومجموعة خليجية للفن الاستشراقي. وهو ما يصح أيضاً في تعويل دراسات مختلفة، في العلوم الإنسانية، على الصورة مدونة قابلة للإخبار والتعيين والتعريف مثل أخبار التاريخ الكتابية.
(محاضرة في برلين، حزيران 2012، في مؤتمر حول "لغات الحوار في الفضاء المتوسطي").
الهوامش
1 . Aristote : Poétique, 4, 1448b, Seuil, 1990, p 43.
2 . Ernest Kantorowich : A study on medieval political theology
3 . ترد ألفاظ عديدة مشتقة من «صور» في عدد من سور القرآن:
{اللهُ الذي جَعلَ لكم الأرضَ قراراً والسماءَ بناءً وصَوَّرَكم فأحسنَ صُوَرَكم ورَزَقَكم من الطيِّبات ذلكمُ الله ربُّكم فتبارك الله ربُّ العالمين} (سورة غافر، 64)؛
{خلقَ السموات والأرض بالحق وصَوَّرَكم فأحسنَ صُوَرَكم وإليه المصير} (سورة التغابن، 3).
{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} (سورة الأعراف، 11)؛
{هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (سورة آل عمران، 6);
{هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يُسبحُ له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (سورة الحشر، 24).
4 . راجع: «صحيح البخاري»، تقديم: أحمد محمد شاكر، دار الجيل، بيروت، مجلد 3، جزء 7، صص 214-217.
5 . ابن خلدون : "المقدمة"، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى، 1978، ص 262.
6 . يذكر الكتاب أنه كان بين الخلفاء (معاوية، ومروان، وعبد الملك، والوليد، وسليمان، وهشام، ومروان بن محمد) والندماء "ستارة"، و"كان لا يَظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة (...)، حيث لا يراه إلا خواص جواريه. إلا أنه كان، إذا ارتفع من خلف الستار، صوتٌ أو نعيرُ طرب أو رقص أو حركة بزفير تجاوزَ المقدار، قال صاحب الستارة: "حسبكِ يا جارية! كفي! انتهي! أقصري!" يُوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعضُ الجواري. فأما الباقون من خلفاء بني أمية، فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا أو يتجردوا، ويحضروا عراة بحضرة الندماء والمغنين" (ص 39): الجاحظ: "كتاب التاج في أخلاق الملوك" (تحقيق: فوزي عطوي، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت، 1970). بينما امتنع خلفاء عباسيون، مثل أبي العباس والمنصور وغيرهم، عن الظهور على ندمائهم.
7 . ربيع حامد خليفة : "فن الصور الشخصية في مدرسة التصوير العثماني"، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2003: "أوضحتْ الحفريات المختلفة، التي جرت في بعض المدن والمواقع الأويغورية القديمة، أن فن التصوير، وعلى وجه الخصوص الصور الشخصية، قد وصل عند الأتراك الأويغور إلى درجة كبيرة من التقدم والازدهار"، بعد العام 750 م. (ص 297).
8 . يُفسر هذا الكاتب، في "المجتمع والمقدس في الفترة المتأخرة من العصور القديمة"، الحاجةَ المتزايدة إلى الأيقونة بميلٍ إلى وجود عالم توسطي بين السماء والأرض، من جهة، وبميل سياسي يقوم على احتياج الأمبراطورية إلى وسيط يقوم بدور "الرعاية المدنية والبلدية"، من جهة ثانية:
Peter Brown ; Society and the holy in late antiquity, London, 1982.
9 . Jean-Baptiste Tavernier : Les six voyages de J . B. Tavernier (…) qu’il a fait en Turquie, en Perse et aux Indes … avec les figures, le poids et la valeur des monnoyes qui y ont cours, Paris, G . Clouzier et C. Barbin , 2 vol, 1676 , p 10 .
10 . توفر الدراسة المذكورة أدناه معلومات واسعة ومدققة عن جوانب ثقافية و"فنية" في سياسات هذا السلطان، بما فيها علاقاته بالبندقية؛ كما تشدد الدراسة على أن الفنان الإيطالي جنتيلي بليني (Gentile Bellini) هو الفنان الوحيد الذي تأكدت إقامته وعملُه في استانبول:
Anna Akasoy : « L’adaptation des savoirs byzantins à la cour ottomane après la conquête de Constantinople », Trivium, 812011, U R L : http : //trivium .revues .org /3940.
11 . يتوجب لفت الانتباه إلى وجود تقليد تصويري فارسي، سابق على الإسلام (منذ ماني على الأقل)، ولاحق عليه في العهود الإسلامية المختلفة، وإلى أن هذا التقليد جدَّد التصوير السلطاني، ولا سيما في كتب الملوك، أو أحدثَ جديداً مع بروز تصوير ديني حول الإمام علي بن أي طالب تحديداً وحول موقعة كربلاء.
إلا أن ما قام به محمد الفاتح لن يتبعه ابنه، السلطان بايزيد الثاني، الذي عرف عنه تفضيله التصوير الفارسي، فقام بإخراج صور أبيه من القصر، وعرضها للبيع في السوق، ما جعل بعضها ينتقل من جديد إلى المدن الإيطالية.
12 . "أبدع ما كان في صور سلاطين آل عثمان"، اعتنى بجمعها وطبعها سليم (أفندي) فارس الشدياق، مدير "الجوائب"، من دون تاريخ.
ووجب القول إن هناك صورة "كتابية" صاحبت السلاطين أيضاً، منها أن وجود السلطان يضمن "نظام العالم" (كما تقول التركية نقلاً عن العربية)، ما يعزز صورة "الجسد الممتد" التي تجد إحدى تجلياتها في قول كبير الوزراء عند معرفته بمجيء السلطان سليم الثاني: "بفضل الله - الحمد له – عادت الحياة إلى جسمنا الميت": ورد في دراسة نيقولا فاتين: "جسد السلطان العثماني"، التي تعالج جسده الجسماني في صورة "تقديسية"، من دون الجانب الفني:
Nicolas Vatin : « Le corps du sultan ottoman », Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, novembre 2006.
13 . (إشراف) إكمل الدين إحسان أوغلي : "الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة"، ترجمه من التركية إلى العربية: صالح سعداوي: "الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة"، مجلدان، استانبول، 1999، يمكن العودة إلى الصفحتين التاليتين، في المجلد الثاني: صص 707-708.
14 . Gûnsel Renda : 'La peinture traditionnelle turque et le début des influences occidentales', in: "Histoire de la peinture turque", Palasar sa, Genève, 1988, pp. 15-86..
15 . Gérard de Nerval : Œuvres complètes, T 2, Gallimard, Paris, 1984 .
16 . عمر الإسكندري وسليم حسن : "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر"، راجعه: الكبتن أ. ج. سفدج، من دون ذكر سنة الطبع، ولا مكان الطبع: نسخة مصورة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1990.
17 . حلَّ في جبل لبنان بتدبير من الرهبانية اليسوعية، وعملَ على مدى أربعين سنة في التصوير في لبنان، وأقام مَرسماً له في بيروت، ونفذ العديد من "الطلبيات" الفنية، كتصوير لوحات دينية في كنائس، أو بعض وجوه الأعيان وغيرها.
18 . "ذكرى البطل الفاتح ابراهيم باشا، 1884-1948"، من إعداد: الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1948.
19 . عدتُ إليها منشورة في أربعة مجلدات، تحت عنوان: "المحفوظات الملكية المصرية"، قام بجمعها وتحقيقها: أسد رستم، وصدرت عن منشورات المكتبة البولسية، مجلد 2، ص 138-139.
20 . Edmond Doutté : En tribu, Comité du Maroc, Paris, 1905, p 66.
21 . هذا ما يمكن الاطلاع عليه في مقالة: لويس صابونجي: "تقدم الصنايع في بيروت"، مجلة "النحلة"، العدد 16، 1879؛ كما يمكن العودة إلى: جرجس طنوس عون: "الرد المكنون في الصنايع والفنون"، استانبول، مطبعة الجوائب، 1883.
كما يَذكر عبد الرحمن (بك) سامي : جرجي (أفندي) صابنجي، "المصور المشهور"، في عداد المتميزين من صناع بيروت: عبد الرحمن (بك) سامي : "القول الحق في بيروت ودمشق"، دار الرائد العربي، بيروت، ص 28.
22 . يمكن العودة إلى: محمد المنوني : "مواقف مغربية وأعمال في مبادرات المرحلة الأولى بعد الحماية"، مجلة "الموقف"، عدد 4، دجنبر-كانون الثاني-يناير 1977، 64.
23 . ترد أخباره في: فريد الزاهي : "العين والمرآة: الصورة والحداثة البصرية"، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2005، ص 75.
24 . كتاب زكي فهمي : "صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر من عهد ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير، متوجاً برسم صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر والسودان..."، عدت إليه في طبعة جديدة: مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995.
25 . فيليب دو طرازي : "تاريخ الصحافة العربية" (مجلدان)، بيروت، المطبعة الأدبية، 1913.
26 . عبد الرحمن الرافعي : "عصر اسماعيل"، القاهرة، 1932، صص 298-299.
27 . أمين الريحاني : "النقد الأدبي: أدب وفن"، دار الجيل، بيروت، طبعة سادسة، 1989.
28 . ميخائيل نعيمة : "همس الجفون"، مكتبة صادر، بيروت، 1943.
29 . قسطاكي الحمصي : "أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر"، حلب، المطبعة المارونية، 1925، ص 12.
30 . عدتُ إلى الكتاب في : هيام جورج ملاط : "قصة أول دليل مطبوع في العالم العربي: دليل بيروت لعام 1888"، جريدة "النهار"، بيروت، 17 أيلول-سبتمبر 2009.
31 . محمد بهجة الأثري : "أعلام العراق"، المطبعة السلفية، القاهرة، 1345 هـ (1926)، صص 274-284.
ووجب التنبيه إلى أن أحد المذكورِين، عبد القادر الرسام، يُعدُّ، حسب المعلومات الفنية المتوافرة، "أولَ" المصورين التشكيليين العراقيين؛ وكان قد مارسَه بعد خروجه من الجيش العثماني، وبعد تعلُّمه، في إعداد الضباط العثمانيين، على بعض تقنيات الرسم. وهي حال أكثر من ضابط (عثماني) عراقي في أعداد المصورين العراقيين الأوائل.
32 . معروف الرصافي : "الشعر"، في: الجزء الثالث، المجلد الأول، مجلة "الناشئة"، بغداد، منشوراً في "سحر الشعر" لرفائيل بطي، المطبعة الرحمانية، 1922، كما ورد في: "نظرية الشعر: 3 – مرحلة الإحياء والديوان"، القسم الأول: المقالات، تحرير وتقديم: محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1997، ص 329.
يمكن العودة المزيدة لدرس هذا الجانب من اندراج فن الشعر في نظام "الفنون الجميلة"، في كتاب شربل داغر : "الشعر العربي الحديث : القصيدة العصرية"، منتدى المعارف، بيروت، 2012، صص 222-227.
33 . مجلة "المثقف"، عدد 27، تموز-يوليو 1954، ورد في: شاكر حسن آل سعيد: "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق"، الجزء الأول، دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد، 1983، ص 66.
34 . هذا ما تابعَه بالدرس كمال بلاطة في أعمال عدد من الفنانين الفلسطينيين في كتاب: "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر"، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 2000.
35 . نادين ح. محاسب : "داوود القرم : ولادة فن الرسم المحترِف في لبنان"، على نفقة المؤلفة، من دون ذكر مكان الطبع، 1998.
36 . شربل داغر : "العين واللوحة: المحترفات العربية"، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2006، ص 167.
37 . أطلقَ الفنان والناقد المصري حسين بيكار على أعمال هذا الفنان صفة: "فن الصالونات"، في الكتيب الفني: "أحمد صبري"، في سلسلة "وصف مصر المعاصرة من خلال الفنون التشكيلية"، الهيئة العامة للاستعمالات، القاهرة، دون تاريخ، ص 20.
38 . مصطفى فروخ : "طريقي إلى الفن"، مؤسسة نوفل، بيروت، 1986، ص 45.
39 . ورد في : جبرا ابراهيم جبرا : "جواد سليم ونصب الحرية"، وزارة الإعلام، مديرية الثقافة العامة، بغداد، 1974، ص 193-194.