اعتدتُ، بعد غيري، أن أطلق أسماء على الأشجار المحيطة بي. أشجار أليفة، أكثر قرباً من أشياء كثيرة تعيش معنا وتحيط بنا، فلا يبقى لنا منها غير الاستعمال والتلف. أشجار ثابتة، فيما يزول غيرها. تنمو معنا، وتتخطانا. أبقى منا، وأبعد منا رؤية وتطلعاً.
الشجرة وفية، تحنو علينا، منتصبة دوماً مثل شريكة في حفل راقص. نقف أمامها، ندور حولها، ونمضي، فيما تبقى شاخصة إلينا، إلى هياكلنا وظلالنا وأخيلتنا، في عطفها الأبدي.
الشجرة لا تخون إذ تَعِد. ماثلة مثل أيقونة، مثل وعد، مثل أصابع تنتظر أصابعنا، مثل أفق عامر بالثمار، مثل جدار من رجاء أو هتاف.
الأشجار قليلة في القاهرة، نادرة، والحدائق كذلك. هذا ما لا يَخفى على عين فنان يرصد، يتفقد، ويعمل على استجلاء الشكل من عتمته. هذا ما استوقف محمد أبو النجا، هو الذي لا يتوانى عن المجيء من الإسكندرية إلى القاهرة، أو من الدوحة إلى القاهرة... مثل "شخصيات" عديدة عبرت السرد المصري الحديث ورافقته وحددته، في أمكنة القاهرة وعلاماتها، من أحياء وحارات وشوارع وقصور ودور... لطالما رفعَتْ الكتابة فوق حمالات الحروف والكلمات أنفاسَ المصريين إلى العيش، إلى إدامة الحياة.
شوارع القاهرة تضيق بأحلام المصريين، لكن "أم الدنيا" تسعُ كلَّ ساعٍ فيها، كلَّ رغبة متوثبة فيها. لهذا تُولد القاهرة في كل لحظة، وكلُّ لحظة فيها حياة متوقدة.
لطالما انكب دارسون، للعمارة والمجتمع وغيره، على فحص القاهرة، الفاطمية أو الحديثة، من جهة عمائرها أو ناسها، أو امتداداتها أو تشكلاتها المتحولة. منهم من درسها بوصفها مدينة، بل مجتمعاً-عالَماً، ما هو أوسع من عاصمة، من بلد: هذا الدفق الدائم إليها، أسرع من النيل الجاري بين جنباتها، طلباً للاستقرار، للثبات، مثل توطن أكيد ومفتوح في آن. لهذا يسمي المصريون القاهرة: "مصر".
لطالما استوقفتني في تاريخ القاهرة لحظة مضت قبل مئتي عام، بعد أن وجدتُ فيها لحظة دالة على سيرة جديدة: سيرة خروج المصري إلى الشارع.
يحفل كتاب عبد الرحمن الجبرتي الشهير بأخبار القاهرة والقاهريين أثناء "غزوة الفرنسيس"، ومنها أخبار خروجهم إلى الشوارع، وبناء الخنادق، ومقاومة الغزاة. هذا الخروج اقتنصَه – باختصار - محمد علي، فجعلَ نفسه ممثلاً للمصريين، "متمصراً" هو وعائلته لهذه الأسباب.
هذا الخروج لا يتوانى المصريون عن فعله في تاريخهم المتأخر، حيث أن نزولهم إلى الشوارع عنى دوماً خروجاً إلى ميادين التاريخ، وصنعاً له. كما في أيام القاهرة الجارية أمام عيوننا، وعيون أبي النجا.
ما استوقف محمد أبو النجا في أيام القاهرة: أربع شجرات في "ميدان التحرير". استوقفته مثل لوحة في متحف، مثل شجرة فوق علم وطني (كما في علم لبنان أو كندا)، أو مثل شجرة "البونزاي" التي فتنتْه إذ رآها في حدائق كيوتو (اليابانية): صغيرة المقاس، كبيرة القدر، مثل الفن إذ يصير بديلَ الحياة، أو مثل شجرة الحياة بأغصان الفن القصيرة.
استوقفتْه إذ انتبهَ إلى ما تعلنه، إلى ما تدعو إليه، إلى ما ترفعه مثل نشيد، إلى ما تخفيه أو تحجبه مثل وصية. إلى ما تلمح إليه مثل غمزة عين، أو دعوة للقاء.
قد يسعى البعض إلى التعرف على الشجرات: أهي شجرة جميز أم نخيل؟ أهي مما قدَّسَه المصريون القدامى، أم التي "لا شرقية ولا غربية"؟ أهي الشجرات التي تفضي إليها شوارع طلعت حرب ومحمد محمود والشيخ ريحان والقصر العيني أم هي شجرات أبي النجا؟
الفن شجرة جذورها في الفضاء، فضاء التجدد. هذا ما يميل إليه أبو النجا، هذا ما يعمل عليه، في بحثه الأكاديمي الرصين والمتميز، كما في فنه المتألق بعد عشرات المعارض والجوائز. بقدر ما درسَ وفحص الخط العربي، تعلمَ وخبرَ صُنعَ الورق على الطريقة اليابانية. بقدر ما تمرسَ بتقنيات التصوير الزيتي والحفر (بأنواعه المختلفة) والتصوير الفوتوغرافي والسينمائي، أخذ عن "الصنايعة" المصريين خبراتهم في العجن والتدليك والتمليس والتوليف واللصق والصباغة وغيرها. جمعَ في مسار واحد أبعدَ الأطراف والجهات، تقوده الرغبة في الحضور، في الفعل، في الإمساك بالفن هويةً أولى وأخيرة لما يريد أن يكون عليه. وما يُدهش فيه هو هذا الجمع المتين والمَرِن بين الحرفة وأشد التقنيات العصرية، ما يختصر تاريخ الفن بضربة يد واحدة. وهو ما يجمعه بعيون من شوق، وبأيادٍ ذات أصابع متوثبة. ذلك أنه يعيش اللحظة، ويريد أن يثبتها مثل أثر منقوش. حتى أنه رأى في الأسدين المعدنيين الرابضين فوق أحد جسور القاهرة أسديَن يزمجران في قفص طلباً للخروج، للانعتاق.
رصينٌ وطفولي. يلهو، إلا أن في عينيه تصميمَ الجسورين، وبين يديه ما يحيل التراب والأصباغ إلى عمارات من ضوء، في شوارع يتجدد عابروها مثل أحلامهم ورغباتهم.
الهواء يلامس الشجرة، وعابرَ الشارع، والجالسَ على الرصيف، ووهجَ الأفكار تحت القبعات والمظلات، إلا أن الفن - وحده – هو من يمتزج بالهواء، ومن يجعل منه نَفسَ حياة، وصورةً متبقية عن الحياة. ذلك أن الفن يحتفظ بالشجرة، بما علقوه عليها من تعاويذ، من ألوان بهيجة، من رقى، من مطالب، من فضاءات رحبة، من آمال، من أمنيات، من أنغام دفينة بل مكبوتة...
الفن يحمل أكثر من الشجرة: يحمل ماضيها وأفقها.
يوحي المعرض الحالي، بما توزع في فسحاته وأقسامه من أشكال فنية، بأنه تجسيم، أو إعادة بناء، بمعنى ما لشجرات "ميدان التحرير". هذا ما يصل الفن بالوثيقة، ويصل العمل الفني بما يقع خارجه. إلا أن هذه الشجرات هي شجرات أبي النجا، وتقيم أبداً في ميدان الفن. ندور حول العمل الفني، كأننا ندور حول شجرة. نرى إليه كما نرى إليها: من زوايا مختلفة. نرى ما يتقدم إلى العين وما يمتنع عليها.
شجرة أبي النجا تَعرض بقدر ما تخفي. تجلو بقدر ما تمحو. تضيف بقدر ما تبدد. هي شجرةُ ظهور الفن، وديمومته. شجرة ذات ألوان داكنة، ترابية، مثل طمي النيل، أو اعتكار الزمن الجاري. شجرة في زرقة القاهرة المغبرة.
أبو النجا يعايش ما يجري بعقله كما بعينيه، مدركاً أن السابح في النهر – كما درسََ عند هيراقليطس – لا يغتسل في الماء مرتين، ولا يلمس نقطة الماء إلا مرة واحدة، في لحظة واحدة. وهو ما يعايشه نقطة تلو نقطة، ولا سيما حين يطفو النهر بأحماله واندفاعاته.
يقول أحد الشعارات في "ميدان التحرير": "البنت زي الولد"، وهو ما يقوم به أبو النجا: "الفن زي الحياة"، أو: "الفن زي التاريخ". غيره نزل إلى الشارع بعد أن أعدَّ هتافاً، أو كتبَ يافطة، أما هو فكان لنزوله أكثر من محطة: صوَّرَ الشجرة فوتوغرافياً أكثر من مرة، ثم عالجها معالجات مختلفة بما جعلها عريضة مشرعة أمام أعين العالم.
إنها الشجرة المشعة في ليل صاخب وداكن.
(دليل معرض الفنان محمد أبو النجا، الدوحة، تشرين الأول-أكتوبر 2012).