المفاجأة تصاحب ظهور فن المليحي، سنة بعد سنة، معرضاً تلو معرض، ولا سيما في السنوات الأخيرة. لا تزداد معارضه وحسب، ولا تتنوع فقط بين مدينة وأخرى خارج المغرب، وإنما تزداد تغيراً بين لوحة وأخرى، ما يشير إلى حيوية وفعالية مزيدتين. وهو، في ذلك، يصاحب، على طريقته، مشهد الفن المتغير في العالم. يصاحبه، واجداً في ما اختطه لفنه، منذ ما يزيد على الخمسين سنة، ينبوعاً لمتعة دائمة، ولإبهار العين الشاخصة.
لهذا تحار أمام أعماله، بين كونها سابقة أم جديدة، من دون أن تقوى على تعيين علاقتها بالزمن. ذلك أن ما يعنيه، ما يستوقفه، يستحضره في محترفه، فلا يخرج إليه، أو ينصاع لمشيئته، وإنما يعالجه وفق حسابات وتدبيرات تنشأ في لعبة الفن، ومنها. ذلك أن المليحي أدرك، منذ زمن بعيد، أن عالم الفن عالم فردي، وأن اللوحة عالم بذاتها. أدرك أن للوحة حدوداً مخصوصة، وأن لها لغة فردية، هي مثل لغة الشاعر إذ يجدد اللغة فيما هو يستعملها. بل أدرك ما هو أهم من ذلك وهو أن للفن لغته، بين شكل ولون وعلامات، مثل الموسيقى التي لها لغتها الصوتية والإيقاعية.
إنه الذهاب الأبعد في تقصي عالم الفن، وفي جلاء صوره. فالفن، في نظر المليحي، لا يقوم على "الببغائية"، أو المحاكاة الساذجة لما هو موجود، وإنما على توليده، على تجديد النظر إليه في شكل مخالف، مفاجىء، وقد تمسكَ بالدرس الأمثل، وهو أن الفن "مسألة ثقافية" في المقام الأول. وهو، في ذلك، يتحاور أو يساجل نقدياً مع موجة عارمة في التصوير الحالي، تكتفي بلعبة الحنين الاستهلاكية، بإعادة صورة أم كلثوم وغيرها بعد مارلين مونرو، مما تستسيغه عين لم تألف أو لم تعاشر جمالياً وبصرياً إنجازات التصوير في تاريخ الفن.
فللفن زمنه، الذي هو زمن استقلال الفن عن محدداته الخارجية الموجبة له، والتي لا تعدو كونها محددات السادة القادرين على التحكم به، ليس في السوق فقط وإنما في صوره أيضاً. فالفنان، في نظر المليحي، صانع ثقافي، صاحب مقترحات جمالية، وليس عاملاً في محترف السلطان، أو في دورة السوق، مما يدغدغ ذوقاً استهلاكياً يكتفي من اللوحة بطرفتها، بحكايتها الخارجية، ظاناً أنه – بلعبة نرجسية – بات ضليعاً وراسخاُ في تذوق عالم الفن.
لهذا يُستحسن بمن يطلب فحصَ فن المليحي، بين مرحلة وأخرى، أن ينظر إليها، في سياقها، في تتابعاتها وانقطاعاتها وانطلاقاتها المستجدة، في معجمها المخصوص، في دلالاتها المتولدة فيها، وهو، في ذلك، كمن ينشىء كلاسيكيته الخاصة. لهذا يصعب إحالة المليحي إلى غير المليحي، وإن كانت لبداياته الفنية أثرها المتمادي في فنه – البدايات المتفاعلة مع يقظة الفنون الحديثة في المغرب، ومع فورة التجريد الغربي العارمة.
---
أنظر إلى أعمال محمد المليحي الأخيرة بدهشة من يتعرف عليه لأول مرة. كما أنظر إليها بدهشة من يعرف فنه منذ ثلاثين سنة. وهي الدهشة مما يستطيعه فنان بين بداياته وتحولاته، إذ يشدد على التجديد فيما يحافظ على سابقه، ويحرص على قديمه فيما يجرب ولادات جديدة له. هذا يناسب ما تقوله جملة وقعتُ عليها في كتاب عربي قديم: "خُيِّل أنه ساكن وهو يتحرك". وهو قول يناسب كل لوحة له، إذ يشير بناؤها البصري إلى حراك ساكن، أو سكون متحرك، وهو لا يختصر بأي حال البناء الشديد الوضوح والتركيب في آن الذي تقوم عليه لوحته.
الوقوف أمام لوحته مدعاة للسؤال: أهي لعبة لونية تستند إلى شكل؟ أم هي بناء شكلي يستند إلى لون؟ ذلك أنه يبني لوحته بثقة الداعي إلى بناء مخصوص، لا يحيل على خارجه، وإن ظهرت في بعض أعماله، في بعض السنوات، حروف عربية أو قمر أو موجة أو غيرها. وهو يبتعد في ذلك حتى عن أعمال بعض التجريديين، الهندسيين وغيرهم، إذ أن ما يصوره ليس مسطحاً مثل طبقة لونية أو شكلية فوق جدار أو ورقة، وإنما يمتاز أحياناً بشيء من العمق الداخلي، من البعد المنظوري، مثل "عالَم" فعلاً، وإن من خطوط وعلامات وألوان.
----
تحتاج النافذة في التصوير الكلاسيكي إلى أن تكون مادة لمعرض يُظهر للمتفرج كما للناقد كيف أن المصور جعل من اللوحة نافذة تفضي على الخارج، فضلاً عن النافذة التي في المشهد، التي تفضي بدورها على فضاء آخر. كما تحتاج المرآة أيضاً، في التصوير الكلاسيكي وبعده، إلى أن تكون مادة لمعرض، طالما أن المصور سعى في أحوال كثيرة إلى نقل هيئته أو ما يحيط به من أحواله الحميمة وإقامته وبيته وغيرها.
تكاد النافذة والمرآة أن تختصرا، في أحوال كثيرة، سيرة اللوحة الزيتية نفسها، فيما اتجه المليحي منذ نيف وخمسين سنة، ويتجه حتى أيامنا هذه، صوب وجهة أخرى تجعل اللوحة عالماً قائماً بذاته، لا يحتاج إلى غيره، ولا يندرج في غيره، فهو ليس جزءاً من كل، كما أنه ليس عيناً بصاصة أو نرجسية. ذلك أن للفن عالمه، ويصدر عنده من تصور آخر للفنان واللوحة والعالم نفسه.
يتسرع البعض – على ما أعتقد - إذ ينسبون أعماله إلى تقليد الزخرفة المغربية (الإسلامية)، أو إلى التجريدية الهندسية (الغربية)، أو إلى "المدرسة الأميركية"، غافلين عن أن ما يفعله يقوم على بناء عالمه الفني، مثل كيان قائم بنفسه. وهو ما يعاينه المتفرج بنفسه ما أن يرى عملاً له، إذ يتعرف عليه من دون أي جهد، حتى أنه يلحظ أي تغيرات طارئة عليه. هذا ما يعود إلى شيء يتعدى الخبرة، أو مهارتها، إذ ينتج عن اجتماع عوامل تنتهي أو تجد حاصلها في منتهى يد الفنان.
أصابع الفنان موصولة بالعين، تختصر طرقاً في الفن وتشتق غيرها، مدركة ما يحيط بها (في المغرب وخارجه)، وتطلب نزولاً مختلفاً فيه. هذه القدرة على التموقع، وعلى الاختيار القائم على التجديد، لا تتم من دون متابعة (بمختلف معاني الكلمة) للفن والعالم في آن، هنا وهناك، مشفوعة بنظرة ثقافية وجمالية. حتى أن المليحي يبدو مثل "معلمي" الفن الكلاسيكي، ولكن وفق التقنيات الحديثة، في إتقانه لأكثر من فن، من الحرفة نفسها وصولاً إلى التصوير والحفر الطباعي والتصوير الفوتوغرافي، فضلاً عن أعماله في قيام المشهد الثقافي والتشكيلي والكتابي.
هذا ما يلحظه الدارس بمجرد متابعة سيرته، منذ بداياتها. فلم يتقيد، مثل غيره، بمدرسة تشكيلية، أو بتقاليد إحدى الثقافات، بأساليبها وقيمها، وإنما تجول وتعرف في أكثر من مدينة وثقافة على حراك الفن: بدأ في تطوان، جارة أصيلة، موطنه الأول، وانتقل إلى إشبيلية، ومدريد، وروما (في العام 1957)، وباريس (1960-1961)، ونيويورك (1962-1964) وغيرها.
ذلك أن ما حرَّك الشاب المغربي، منذ اندفاعته الأولى صوب الفن، هو: الاستقلال؛ وهو ما عرفه بلده في السنوات عينها. هذا ما طلبَه في الحياة، كما في الفن. قال لي في حوار معه: "إن نشأة التجريدية في المغرب استجابت لحالة مغربية عرفناها بعد الاستقلال في العام 1956. لم يكن هذا الاستقلال ناجزاً، على المستوى التشكيلي على الأقل. أردنا القطع الجازم مع المدرسة الكولونيالية وآثارها، حتى أننا، طلباً لذلك، قمنا بأنواع من الرقابة الذاتية، أي أننا حرمنا أنفسنا طوعياً من رسم كل ما كنا نريد رسمه. أنهينا بهذه الطريقة، وبسرعة كبيرة، كل محاولة لنشأة فن "فولكلوري"، فنٍ محاذ للتجربة الاستشراقية في التصوير".
هذه النزعة الاستقلالية دفعته إلى أن يبتعد عن مدرسة بعينها، وأن يستقل بممارسة تشكيلية تخصه وتعرِّف به. كما دفعتْه في وجهة أخرى خارج التشكيل نفسه، وهو أن يكون فاعلاً بل مؤسساً في الحياة الثقافية المغربية. هكذا كان له، مع فنانين مغاربة رواد، أكثر من دور في بناء الدرس الأكاديمي الجديد لطلاب الفنون التشكيلية: جرى وضع السجادة المغربية في محترف الطلبة-الفنانين بدل صورة المصلوب... كما عملَ معهم على تسهيل وتسريع وصول اللوحة إلى المتفرج المغربي: نقلَ معهم اللوحة إلى الساحات العمومية (في ساحة "جامع الفناء" في مراكش، في العام 1969). وهو ما فعلَه مع فنانين كثر، مغاربة وأجانب، ابتداء من العام 1978، إذ أطلق "موسم أصيلة الثقافي" مع مثقفين في بلدته، وجعل من جدران البؤس والإهمال لوحةً للفن، مبسوطةً أمام دهشة المارة. كما عمل المليحي على إشاعة ذائقة مغربية جديدة، في الصورة الفوتوغرافية والملصق (بأنواعه المختلفة) والعمارة وغيرها. وهو ما قام به في بناء أكثر من مؤسسة: مثل مجلة "أنتكرال" (Intégral) التشكيلية والثقافية، أو دار نشر "شوف"، أو في تأسيس ورئاسة "جمعية التشكيليين المغاربة"، وقيام صلات قربى وتفاعل بينه وفناني المغرب العربي، من جهة، ومع فنانين المشرق العربي (منذ "مهرجان الواسطي" في بغداد في مطالع السبعينيات)، من جهة ثانية.
---
اقتنى "مركز جورج بومبيدو" (باريس)، قبل سنتين، عملاً لمحمد المليحي، يضاف إلى غيره الكثير، هنا وهناك في المتاحف وصالات العرض والمقتنين من الأفراد. ذلك أنه باتت له "علامة"، أو "ماركة"، إذا جاز القول، معروفة ومقرة ومستساغة، وهي علامة التميز الأكيد. فهو ينتج لوحة مغرية للعين، تخاطبها بلغة الفن وحدها، تسافر وتحط أينما كان في العالم، وتجعل من مكانها الجديد بيتها الأليف، من دون حاجة إلى تقديم أو تبرير.
ذلك أن لوحته تستند إلى ثقافة فنية وجمالية متينة وحيوية، وتتابع مجرياتها وتغيراتها في العالم، فتتفاعل معها من دون أن تفقد تكوينها الخصوصي. إلا أنها، قبل هذا وذاك، حفظتْ الدرس الأول في الجمالية، وهو أن الفن يستثير الانفعال ويولده، ويبعث على البهجة. وهو ما فعله معولاً على لغة الفن الأولى والبسيطة، على لغة الشكل واللون، بانبهار الطفل وتصميمه. وهي الشراكة التي يدعونا إليها: الشراكة في الحلم، في اغتسال العين، في تجديد الألق المتصاعد من رغباتنا وأسفارنا. وهو ما يجعل التشكيل شريك الموسيقى - الموسيقى المحضة -، في أنه يتخلص من "الزوائد"، ويذهب إلى الينبوع: ينبوع المتعة.
(المعرض الاستعادي، المركز الثقافي الفرنسي، طنجة، 2013).