لا يسعني، في هذه الخاتمة، استعادة ما أجريته من درس طاول: الاسم، والبيت، والسكان، والقوت والكفاية، وما صاحبها من صراعات وتنافسات وتخلعات اقتصادية وسياسية واجتماعية، أفضت إلى خروج جبل لبنان من الإمارة الدرزية صوب تمثيل سياسي له بناء طائفي، حافظ على "المراتبية" المقاطعجية ولكن في أطر إدارية وتمثيلية ناشئة. وهو ما شمل فئات مختلفة من المجموع السكاني، بين شيخ الجباية وشيخ الصلح، وبين الفلاح و"الخواجا" و"المأمور" والمحامي والطبيب وغيرهم، وبين الكاهن والراهب والآباتي والبطريرك، في مخاضات البروز والتصدر والتزعم وغيرها. وهو ما اتخذ سلوكات ومبادرات ومشروعات بعينها، وتعينَ في قيم ومرتجيات، لم يخفف وهجُ "التعليم العصري" وأنوار "تمدن الخواجات" من مناعة الإرث المقاطعجي في طلب المكانة والتمثل (...).
ظل السلطان
يشير هذا التركيب اللفظي إلى ازدواج مطلوب بين السلطان، من جهة، وبين ظله، أي رعاياه، من جهة ثانية. وهو ازدواج، يشير إلى ثنائية بينة (يحكم فيها الأولُ الثاني، بل يتحكم به ككل حكم "تملكي")، لكنه يشير كذلك إلى تلازم تكويني بينهما، بل إلى ما هو أكثر من ذلك، وهو تشبُّه المحكوم بالحاكم. إلا أنها علاقة تحتاج إلى قدر من التبين والدرس، بما يكشف عن أوجهها المختلفة. منها، بل أولها، أن الحديث عن "ظل السلطان" عنى، في التجربة والخطاب، بروز السلطان واختفاء الظل. وهو ما شرعَ في التغير منذ نهايات القرن الثامن عشر، وتأكدَ بقوةٍ "بريةٍ" و"ضاجةٍ" في مدى القرن التاسع عشر، الذي اتخذ في جبل لبنان وجهات بينة: منها التعرض العنيف لقوى السلطان (العثماني أو المصري مع حملة ابراهيم باشا)، أو للقوة الشهابية (والدرزية عموماً)، أو لقوى المقاطعجية (ما ظهر بقوة أكبر في كسروان منها في بلاد البترون وغيرها).
هكذا بات يتكشف "الظل"، وتَظهر بعض ملامحه الخافية أو المعتمة، ما اتخذ شكلَ حراكٍ واسع رفدته أسباب اقتصادية (وتقلبات العملات والأسعار)، إن لم تكن قد أحدثته أحياناً. وهو انكشاف اتخذ، في تجاربه ووقائعه، شكلَ تجلياتٍ متناقضة أو محورة، كأن يصير المقاطعجي قائد تمرد عامي، أو يتشبَّهُ فيها "القبضاي" العامي بعادات وسلوكات من يتمرد عليهم. يطول البحث في فشل العاميات، من جهة، كما يحتاج درسها إلى التخفيف (مثلما جرى في هذا الكتاب) من "كمونها الثوري"، من جهة ثانية، بعد أن تبين في الدرس أن مثل هذه العاميات افتقرت لأكثر من سبب يجعل منها نقلة سياسية "ثورية" (مثلما دبَّج الكثيرون حولها).
إن التعالق السلطاني - العامي، بين تباين ولزوم، وبين اختلاف وتشبُّه، يمكن أن يكون نموذجاً نظرياً لدرس أكثر من علاقة في مدى التاريخ الذي تناوله هذا الكتاب: بين السلطان العثماني والوالي، وبين الوالي والأمير، وبين الأمير والمقاطعجيين، وبين المقاطعجيين وطالبي التصدر الجدد... وهو ما يمكن نقله، كإطار دراسي، لفهم العلاقة بين قوى الخارج (الأوروبي) وقوى الداخل (العثماني، اللبناني). وهو ما وسمَ كثيراً من الدراسات والكتب (العربية أو الأجنبية) عن القرن التاسع عشر اللبناني، إذ توزعت بين مَن مَحض قوى الخارج القدرة على التحكم بالداخل، وبين مَن مَحض قوى الداخل (ولاسيما الصراعات المحلية) الصدارة في رسم وجهات التاريخ ودروبه. وهو ما تَعيَّن في نصابين، على الأقل: نصاب الاقتصاد، ونصاب السياسة، على تفاعل وتمايز بينهما. (...).
لا يسع الدارس إغفال هذين المنحيين الدراسيين، ولا تغليب واحد على آخر، أو إسقاط واحد على حساب الآخر، طالما أنهما جاريان في العمليات التاريخية، على أن الدرس يحبذ – بوعي أو من دون وعي، وفق تخطيط مسبق أو بتلقائية – هذا المنحى أو ذاك في فهم الوقائع وحاصلها (بما تمليه على الدرس خيارات إيديولوجية، أو منهجية وغيرها)، بل يعمل على حصر هذا المنحى وحده، وإلى قصرِ الدرس عليه. ولقد أبان الدرس، في هذا الكتاب، وجود لحظات ودلالات مختلفة يُستحسن التوقف عندها في هذا المسار، منها:
- اختلاف أو اختلال العلاقة بين السلطنة، من جهة، والقوى الأوروبية، من جهة ثانية، بين ما كانت عليه (تبعاً لموضوع الكتاب) من "حماية" فرنسا للطائفة المارونية في عهد، وما انتهت إليه من تدخلات مباشرة (لفرنسا كما لغيرها) في سياسات السلطنة، أو في وقائع السياسة في جبل لبنان، أو في الطوائف، في عهد لاحق. وهو اختلاف واختلال يصحان كذلك في فحص العلاقة بين السلطان (والوالي) والأمير الشهابي، من جهة، وبين الأمير والمقاطعجية، من جهة ثانية، قبل الدخول "الضاج" للعامة، وللكنيسة المارونية قبلها، في عمليات الخروج من العهد السلطاني.
- تباينٌ ثم تلاقٍٍ بين الخطاب التاريخي عن الموارنة، من جهة، ومجريات السياسات نفسها، من جهة ثانية، إذ ما كان يبدو خطابَ فئة لنفسها (خطاب المؤرخين ذوي الأصول الإكليريكية)، كما لغيرها، وفق منزع تثاقفي مع السلطة البابوية والخطاب الإرسالي، سينتقل إلى خطاب معني بالجماعة، بحفظِ أخبارها وعراكها، ما يجعله مدونتها الخاصة والمندرجة في وقائع التاريخ نفسه (خطاب المؤرخين ذوي الأصول المقاطعجية). يتجلى هذا التلاقي بين الخطابين في كتاب البطريرك بولس مسعد: "الدر المنظوم" (1863)، ثم عند خير الله خير الله وأوغست (باشا) أديب وصولاً إلى البطريرك الياس الحويك، في الحديث عن استعادة "الحدود التاريخية والجغرافية" للبنان.
- مناعة المنابت التقليدية، المتعينة في أشكال تمايز وصراع أهلية، إزاء كل ما كان يعلوها، وما يهددها، أو ما يسعى إلى إصلاحها أو تحديثها، من أي جهة كانت: مناعتها إزاء تدابير روما، أو تحويرها لها، أو تبرمها منها، على سبيل المثال؛ أو تظلمُها من قرارات سلطانية أو أميرية، بل العصيان عليها... هذا ما كان يَظهر عند سداد ضريبة؛ وهو ما تلحظه "الزيارات الرعائية" عن مدى تقيد الكاهن أو الرعية بإجراءات مطلوبة، أو عند استجرارِ رهبانٍ لانشداداتِ ما قبل الدخول إلى الرهبانية إلى الدير نفسه في لحظة الانتخاب... هذا ما جعل الصراع (الطبيعي) يتحول إلى نزاع مكشوف ومتجدد، وما جعل الانتخاب يقوم على محددات قبْلية، لا على الاختيار الحر. وهو نفسه ما لا تقوى الجماعة، ضمن حدودها كجماعة، على إدارته، فكيف مع جماعات أخرى!؟ لهذا بدت القرارات التي "علت" مجتمع الأهل أكثر تقدماً مما كان عليه هذا المجتمع في مجريات حياته ودورته، في العلاقات الناظمة له. ولهذا بدت السياسات عموماً مفروضة من الخارج، ويتعامل الأهل معها بتبرم، سعياً للتخلص منها، أو لتحويرها في أحسن الأحوال. هذه كلها إشارات، بل علامات على مصاعب الانتقال، لا من السلطنة العثمانية وحدها، بل من عهود وحقبات سابقة، سلالية، مفروضة على الأهل من خارجهم؛ وهي أيضاً مصاعب انتقال الذمي إلى إدارة مجتمعه بنفسه.
هذا الانتقال دبرتْه السياسة، وتحولاتها وتغيراتها وانقلاباتها، في المقام الأول، إذ لم يَحدث هذا الانتقال من جراء تغيرات اقتصادية - اجتماعية أملتْ شروط انتظام السياسة بكيفيات مختلفة. هذا ما يُفسر تصدر الشأن السياسي لغيره في حياة المجتمع ودورته، وهو ما يغذي التدافع فوق دروب السياسة ووراء المكانات والمناصب: أن تمتلك موقعاًُ سياسياً يعني أن تمتلك حظوة ذات مترتبات في المال والجاه وغيرها؛ وهو ما يَجتمع في السعي إلى إدامة الإفادة من السياسة، وإلى بناء العلامة المشعة التي للمكانة.
بين الإقطاعي والوطني
(...) إن الخروج من حكم الأمراء والإقطاعيين والمقاطعجيين ما عنى بالضرورة القطيعة مع سلوكاتهم وقيمهم، ولاسيما عند طالبي التصدر. فقد استوقفتْ الدارس، في متابعات مختلفة (في التشكل السياسي، أو في الرتب والمكانات الدينية، بين إكليروس ورهبان)، تجليات متنوعة لما يمكن تسميته: السياسة بوصفها ملكية.
فما عرفتْه العامة من السياسة ما تعدى (في عهود السلطنة العثمانية والإمارتين، المعنية والشهابية، وفي تعاقب المقاطعجيين) الملكية نفسها، والوراثة بالتالي، للسياسة، والمنصب، والمكانة. وهي تجليات أمكنت متابعتها في سياسات الاسم، وفي حفظ الثروة، وفي شروط الزواج، وفي الطلب خصوصاً على الألقاب . يكتب ناصيف اليازجي: "في هذه البلاد حفظٌ شديد لمراتب الناس باعتبار الأصول، فلا تزول الكرامة عن أهلها بسبب الفقر، ولا تنزل في غير موضعها بسبب الغنى" .
هذا ما جعل من التمثيل السياسي، من بلوغ الوظيفة الحكومية نفسها، رتبةً قائمة بنفسها، ويتم الاحتفاظ بها "مدى الحياة"، إن أمكن. وهو ما وسَّعَ، من نطاق العمل به، موظفون كبار، أوائل، في المتصرفية، حيث لم يتأخر بعضهم عن جعل وظيفته "حقاً مذهبياً" (كما نعلم من سِيَر بعضهم). فلا يحتاج الدارس إلى معلومات مزيدة ليتحقق من انتظام "الزبائنية السياسية" منذ تشكل نواة الإدارة الجديدة، ومن تحول أي وظيفة إلى موقع جالب لمكاسب انتفاعية، عينية ورمزية: لكلٍّ نطاقُ انتفاعِه، ويمارس فيه نفوذه، ويُبرز مكانته، من الحاجب إلى المتصرف.
هذا ما أظهر كيف أن المحامي استبدل المقاطعجي بمعنى ما، وحلَّ الطبيب محل العناية الربانية، وبات "المأمور" منافساً لـ"الشيخ"، ومالكاً لبقعة نفوذ مقتطعة من الإدارة. هكذا ما أتيح لهذه، ولا للدولة المرشحة للقيام، أن تقوم إلا بعد "اقتطاع" بُقع فيها، بحيث إن العلاقات التقليدية جرَّت أثقالها، وتمكنت من أسباب قيام التشكيلات الجديدة، و"استوطنتْها". هذا ما أفرغَ الدولة الناشئة بالتالي مما كان لها أن تجلبه، وأن تقيمه: قيام هيئات وسيطة وتوسطية بين الإدارة والأهل، وبتفويض منها، لكي تحكم وتفصل في منازعاتهم.
هذا ما أمكنت متابعته في السلك الكهنوتي، من البطريرك حتى الخوري، وفي السلك الرهباني، من الآباتي حتى جمهور الأديرة، حيث برزت في تقاطيع الانتخابات والتعيينات تشكيلاتُ الانقسامات الأهلية، الواقعة خارج المؤسسات. هذا ما جرتْ ملاحظته في أكثر من عهد، في أكثر من مؤسسة، بين سلطة روما وسلطة البطريرك، وبين سلطة البطريرك وسلطة المطران، إلى آخر السلسلة. وهو ما كان يتجلى أحياناً في الرفض والتوتر والتحوير التي كانت تصيب قرارات "خارجية"، كان لها أن تحمل بعداً تغييرياً أو تنظيمياً، فيما لا يتم العمل بها تماماً، أو يجري تحويلها أو تخفيفها.
لهذا لم يكن مجتمع الأهل راكداً، أو هادئاً، وما كان يقتصر وجوده على دفع "الميرة"، أو التظلم منها (حيث إن دراسات تاريخية تختصر هذا الوجود بهذه العلاقة)، وإنما عرف حراكاً واسعاً، بل عنفياً أحياناً، ولكن من دون أن يستجمع منه حاصلاً إيجابياً بالضرورة. فالنخب الناشئة سعت، بعد المقاطعجيين، إلى أن تتحكم بدهاء وحنكة و"حجج قانونية" (لم يكن يدركها مجتمعٌ ضعيف القراءة، وبعيدٌ عن الإدارة، وغير ملمٍّ بالقوانين والإجراءات)، بالأهل وبمقدراتهم، وأن تديمَ نفوذها ومكانتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. فأولاد الأمراء والمشايخ والمقاطعجيين والخوارنة أقبلوا قبل غيرهم على المحاماة والطب والإدارة وغيرها، وكونوا نواة إدارات الدولة الناشئة، ولكن بعد أن "طبَّعوها" وفق عادات قديمة محورة ومجدَّدة (...).
جرى الكلام في الكتاب عن "أفق سياسي مفتوح"، وهو انكشاف أكيد للنطاق السلطاني، بما اَظهرَ تشكيلات جديدة، وأتاح فرصاً جديدة للعيش والترقي والعمل (...).
جرى الخروج من السلطان، كشخص وكحكم، من دون أن يتم الخروج إلى عهد مختلف، يختفي فيه جسد السلطان، ويتحول حكمه أو سلطانه إلى إرادة المجموع الحرة، عدا أن الممثل المنتخَب احتفظ أو استعاد أو تملكَ بعض ما كانت عليه عادات السلطان القديمة.
الأفق مفتوح، لكنه كان يشير إلى ما بات متاحاً، لا إلى ما قام. يشير إلى ما يحتاج إلى بناء، إلى "إرادة عامة"، على ما قال جان - جاك روسو عن تطلع الشعب لإدارة نفسه بنفسه عبر "وكالة" وتفويضٍ لممثليه. هذا ما حورتْه وطوعته نخب متحدرة من الإرث المقاطعجي، فأفرغته من محتواه (التغييري) الممكن، (...).
(أجزاء من خاتمة كتاب شربل داغر: "بين السلطان والمقاطعجيين والعوام: الحراك والأفق"، الصادر حديثاً عن "دار سائر المشرق"، 2013).