أمتار معدودة تفصل بين دير حوب ومحبسة مار جرجس. وهي المسافة عينها التي تفصل بين دير مار مارون عنايا ومحبسته. وهو ما يدعو إلى التساؤل: لماذا احتاج بعض الرهبان إلى الانعزال، إلى الانفصال عن بقية الرهبان؟
وهو سؤال – على ما أعتقد - واجه الرهبان الأوائل، الذي أسسوا في العام 1695 "الرهبانية" المارونية. ومن يزور دير مار إليشاع، في وادي قاديشا، يتحقق من أن الرهبان المؤسسين طلبوا الإقامة فيه، بعيداً عن أهلهم، بل عن العالم، لا هرباً من بطش الحاكمين وحده، وإنما انصرافاً وتجديداً لتقليد مشرقي، بل ماروني، منذ مار مارون ورهبانه، ومار أنطونيوس الكبير وغيرهم ممن أسسوا تقاليد النسك الرهباني المشرقي.
وقد يكون أهالي إهدن هم أول من عدَّلوا هذه الوجهة إذ طالبوا الرهبان منذ العام 1696 بالخروج من الدير، والاعتناء بتعليم أولادهم، وهو ما قام به عبد الله قراعلي في جانب من دير مرتا موره. وهو ما تكرر في زغرتا. وهو ما سيطالبهم به البطريرك إسطفان الدويهي بدوره. وهو ما كانت تحتاجه الجماعة المارونية المبعدة عن التعليم. وهو ما طالب به أهالي تنورين، منذ لحظة التفكير بتأسيس دير في حوب في العام 1700، إذ اشترط ممثلو العائلات في عموم تنورين مقابل التنازل عن وقفيتهم قيام مدرسة لأولادهم في تنورين.
لهذا كان للرهبانية – فضلاً عن دورها "النسكي" – دور رعوي بل وطني، جعلها تتفاعل مع مجريات تاريخ جماعتها وتصنعه أحياناً. إلى هذ التاريخ ينتسب الأباتي إغناطيوس داغر، فمن هو؟
طلبت في كلمتي هذه – ابتداء من كتاب المطران محفوظ – أن أتحدث عن الوجه "العلماني" لفقيدنا الكبير. فمن هو؟
هو جرجس بن عساف ابن فيصل داغر، ووالدته نوف داغر، وعمته هي زوجة الخوري يوسف حبيب حرب، وزوج خالته هو الخوري طوبيا حرب (من مراح الحاج)، وهو من مواليد تنورين الفوقا في العام 1869. تألفت عائلته من ستة أفراد، هم: أخوه طنوس وأخواته البنات: هدلا واستير وزمرد وفوتين. غير أنه لن يبقى من هذه العائلة سوى اثنين: جرجس نفسه، وفوتين، حيث مات أربعة أخوة، ووالدته (وهو في السابعة من عمره)، وبعدها بقليل والدُه. ولم يبقَ له من العائلة سوى فوتين، التي درس معها في دير الراهبات اللعازريات في طرابلس، والتي لن تلبث أن تتزوج بعد سنوات على ترهب جرجس من المحامي مفلح داغر، وهي بالتالي والدة أسعد وبطرس داغر المعروفَين.
جرجس اليتيم لن يتردد طويلاً في ما له أن يفعله، كما لم يتردد اليتيم الآخر، يوسف ابن انطون مخلوف من بقاعكفرا: الانتساب إلى عائلة الرهبانية.
ينقل الأب ليباوس داغر في كتابه "المحترم التنوري" (1980) عن إغناطيوس قوله: "خرجتُ من وطني (أي من تنورين)، ومن أيدي بعض أقاربي"، وهو في الخامسة عشرة من عمره. وسيقوم بخطوة لافتة قبل ترهبه، وهي مجيئه إلى هذا الدير، لزيارة قريبه الراهب برنردوس داغر، وأخ هذا الراهب مرقص داغر، الحبيس في محبسة مار جرجس: كان يريد أن يتأكد من "دعوته"، فلجأ إلى الأقربين.
يفيد ليباوس داغر، في كتابه المذكور، أن جرجس مشى على قدميه ما يزيد على يومين قبل الوصول إلى دير مار الياس الراس، دير الابتداء، ثم تابع السير بعد لقاء الرئيس العام إلى دير مار جرجس في الناعمة. في هذه المسافة المديدة، في لياليها الموحشة، مضى جرجس إلى قدره بثبات من يقوى على تخطي الصعاب وهو في فتوة العمر وريعانه؛ كان قد اتخذ قراره منذ وقت، إلا أنه امتحن من دون شك في هذه المسافة – وحده مع قدره - مقدرته على تحمل قراره الصعب ولكن الخلاصي في حسابه. خرج من العائلة الصغيرة لكي يهب نفسه إلى ما هو أكبر منها، وإلى ما هو أسمى من أي ارتباط ضيق.
ولكن كيف يمكن الوقوف على سيرة "علمانية" لمن قضى حياته طالباً التخفي في العبادة، وفي الخدمة العامة؟ تساءلت مثل هذا السؤال، وأنا أقلِّب صفحات كتاب المطران يوسف محفوظ، الذي أضاف إلى ما نعرفه عن إغناطيوس شهادات ووثائق جديدة تثبت وتسلط أضواء مزيدة على دوره "التاريخي" فعلاً.
قد يسارع المؤرخ إلى ربط سيرة داغر بسيرة رهبان عديدين من تنورين، سابقين له، وقدماء، ممن بقيت أسماؤهم في بعض الكتب: مثل الناسخ الشماس بطرس الذي ذكر الدويهي أعماله النسخية في العام 1523، أو "الحبيس التنوري" الذي اشتهر بأعمال غيرته في السنة 1607 (الخورأسقف يوسف داغر، "بطاركة الموارنة"، 1957، ص 50)، أو الأب بطرس مطر، "رئيس الرهبان العباد في دير سيدة حوب" (وهي سيدة العفصة، المعروفة في وطى حوب)، الذي يعود له فضل وضع أول تأريخ لعائلات تنورين، ويرقى إلى العام 1650 .
قرار جرجس بدخول الرهبنة "فردي" بطبيعة الحال، وإن ساعده فيه قريباه في دير حوب، إلا أن قراره يندرج في ما كان مطلوباً ومرسوماً من "خيارات" في زمنه. وهي خيارات تبدت واضطلع بها بعض الموارنة منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. فالإقبال على الرهبنة ظاهر في هذا العهد، بعد عقود وعقود كان الطلب الديني فيها شديداً على الرتبة الكهنوتية. ومن يعود إلى أرقام المنتسبين إلى الرهبانية – وهو ما درستُه في كتابي "تنورين في الحقبة العثمانية" – يتحقق من هذه الزيادة الكبيرة، التي جعلتني أحصي وفاة ما يزيد على 63 راهباً من تنورين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي في الفترة عينها التي قرر فيها جرجس الدخول إلى الرهبنة.
ولا يسع الدارس، في كلمة مقتضبة مثل هذه، أن يتبين أو أن يعرض مجمل الظروف التي أودت بعائلات وبأفراد منها إلى التخلي عن عائلاتهم، وعن الاحتياج إليهم كقوة عمل وغيرها، والانصراف إلى العبادة أو للعمل في غير حقول الأهل، أي في حقول الرهبانية نفسها. وهي أسباب عديدة ومتنوعة، إلا أنها ترسم من دون شك مقادير من التبلور في التشكل الاجتماعي للجماعة التنورية، حيث بات الابتعاد عن البيت ممكناً، بل مستساغاً مثل شرط من شروط الترقي - صوب السماء هذه المرة: الترقي في معارج الروح والله، بعد أن كان أجداد هؤلاء يفضلون الانتساب إلى السلك الكهنوتي من دون أن ينفصلوا عن الدنيا، ولا عن الجاه، ولا عن المنافع (خاصة وأنني درست أن بيوت النفوذ السياسي في عموم عائلات تنورين تشكلت في بيوت يقف على رأسها كاهن).
إن هذه الخيارات والأفعال تنتسب وتندرج في حراك ماروني شديد الوضوح في القرن التاسع عشر، ولم يكن إقله إسهام تنورين اللافت في "عامية لحفد" (1820)، حيث سقط من أبنائها أكثر من شهيد، منهم: بورشوان حرب، وجرجس دومط شلهوب حرب، ويوسف بطرس رعيدي، وجرجس نوهرا حرب، ومنصور رعد مراد. مثلما سقط الشيخ بشارة طربية، "شيخ تنورين"، في العام 1840، في بيصور، ما مهد إلى إلحاق تنورين بـ "قائمقامية النصارى". كما سقط الشيخ مخايل فارس طربيه في "ثورة" يوسف (بك) كرم، وهو ابن عم أنطون (بك) طربيه، في "معركة الرصيف" قرب المعاملتين، وغيرهم قبلهم وبعدهم.
إلى مثل هذا التاريخ ينتسب إغناطيوس التنوري، ولا سيما في قراره الوطني الشهير برهن أملاك الرهبانية لفرنسا في الحرب الأولى. وهو قرار نادر واستثنائي في هذا التاريخ، ولا سيما ممن نذر الفقر في حياته الرهبانية وجمع أكبر الملكيات في لبنان، على الأرجح. هذا ما يفعله الراعي، "القائد" بلغة السياسة، حين تكون الجماعة في خطر. وهو ما فعله، باستقامته، بحسه الوطني العالي، وبتشدده في العمل، على أن "الرحمة" هي أعلى أشكال الوطنية.
ليأذن لي الرهبان، وعلى رأسهم قدس الأباتي خليفة، أن أورد هذه الملاحظات الأربع عن داغر وعن الرهبانية:
- الملاحظة الأولى تتعلق باختيار داغر رئيساً عاماً: يفيد البند الأول في المراسيم الصادرة عن مجمع الكرادلة المنعقد في 11 آب من سنة 1913، والتي استلمها أعضاء "الزيارة الرسولية" في 19 منه، وتبلغها الرئيس العام الجديد مع مدبريه بعد انتخابه في 18 أيلول من السنة عينها، ما يلي: "الزيارة الرسولية تبقى إلى أجل غير مسمى مع كامل صلاحياتها"؛ كما يؤكد البند السادس: "إن مدة أصحاب المناصب الذين تعينوا هي غير محدودة، وبقاءها مرهون بإرادة المجمع المقدس".
يضيق بي المجال، هنا، لاستجلاء معاني هذه الخطوة ومضمراتها؛ وما يتضح هو أن انتخاب داغر استجاب لها، وبفضل مجموعة من الشروط المساعدة: منها رضا البطريرك الحويك، ابن حلتا القريبة من تنورين، ومنها "سمعة" داغر العطرة بين الرهبان في المسلكية والتعليم والإرشاد، ومنها تنبه المرجعية البابوية إلى بعض مظاهر وسلوكات لا توافق الصورة المثلى للرهبانية؛ وهو ما يقوله ليباوس داغر في هذه العبارات: "لقد سلطت (الزيارة الرسولية) الأضواء في تفكيرها واختيارها العملي في هذا التعيين، على الرهبان الذين يستطيعون أن يفرضوا وجودهم الرهباني باسم القانون وعيشه، وباسم القدوة الصالحة، على أخوتهم، وعيشهم في أديارهم" (ص 80).
- الملاحظة الثانية تتصل بهذه وتكملها: سيرة داغر التقت مع سيرة اثنين آخرين "دخلوا" بدورهم "إلى التاريخ"، وهما: القديس شربل مخلوف، والقديس نعمة الله الحرديني، الذين كان لهم، ومع الراهب نعمة الله الكفري، أن يلتقوا - وإن على تباعد قليل - في دير كفيفان، ويذيعوا سيرة صالحة، بل قدوة مثالية للرهبان وللموارنة معهم، غير ناسين طبعاً أن الراهب شربل مخلوف كان المرشد الروحي للراهب إغناطيوس داغر.
- وهذا ما يقودني إلى الملاحظة الثالثة، وهي أن الجماعة الرهبانية انبثقت من الجماعة المارونية وانفصلت عنها بطبيعة الحال، لكي تحتكم إلى قوانينها الخاصة، وإلى مسلكياتها ومثالاتها ومرجعياتها. وهو ما لم يكن بالهين دوماًً، حيث أنها عرفت بشكل طبيعي، وفي فترات من تاريخها، مراحل تجاذب كانت تقود بعض أفرادها إلى أن يكونوا أقرب إلى ما اعتادوه خارجها، من سلوكات أهلية، فيما كانت تطلب منهم الرهبانية سلوكات أخرى أكثر تشدداً وتركيباً وتبلوراً.
إن اختيار إغناطيوس داغر رئيساً عاماً استجاب لمثل هذه الحال، كما أن سيرة الأربعة المذكورين قامت بتنشيط مثال رهباني للرهبان كما للجماعة.
- الملاحظة الرابعة والأخيرة تتصل بعلاقة الأباتي إغناطيوس داغر بالبطريرك إلياس الحويك: لم أجد في ما وقعت عليه من مصادر أي صورة فوتوغرافية تجمع بينهما، ولقد تحققت من أن الصورة المتوافرة - والمنشورة في كتاب ليباوس داغر (ص 64) - لا تعدو كونها لوحة زيتية، قام بها أحد المصورين، ومن دون علم إغناطيوس داغر نفسه. إلا أن ما قام به الفنان لم يكن من رسم الخيال، بل مما كانت تتداوله الجماعة المارونية من أخبار عن دور هذين الكبيرين: الأول فتح باب "دولة لبنان الكبير"، والثاني صان ديمومة عيش هذه الجماعة لكي تقوى على تأسيس هذا الكيان. كتب إغناطيوس في "أوراقه" التي نشر ليباوس داغر بعضها: "إن العناية الإلهية التي سلمتها ذاتي تسليماً كاملاً، سهرت علي وعلى الرهبانية سهرَ الأم على وحيدها وصغيرها. وأرشدتني إلى إدارة شؤون الرهبانية الروحية، والزمنية، والسياسية، في الحرب الكونية وبعدها، ونجتني من المشنقة... ولولا هذه العناية لكان قضي علي، وعلى بعض من أولاد الرهبانية، وعلى قسم كبير من أملاكها" (ص 124).
كنت أقرأ قبل أيام رواية "الجهل"، الأخيرة للروائي التشيكي ميلان كونديرا، ويقول فيها: "أن تكون مستعداً دائماً لمنح حياتك لبلادك: جميع الأمم لها مثل هذا الاستعداد، مثل هذه الرغبة في التضحية (...) إلا أن وطنية الشعوب الكبيرة مختلفة: إنهم متقدون بأمجادهم، بأهميتهم، برسالتهم العالمية. أما التشيكيون – وهم من "الشعوب الصغيرة"، حسب كونديرا – فإنهم يحبون وطنهم، لا لأنه مجيد وإنما لأنه مجهول، لا لأنه عظيم وإنما لأنه صغير، وفي خطر دائم. إن شعورهم بالوطنية هو نوع كبير من الحنو على بلدهم".
إنها أيضاً وطنية إغناطيوس التنوري، وهو حنو أهل هذه الجبال على ما يخرجهم من واديهم، من عزلتهم المكانية إلى رحاب أوسع. وهذا الحنو هو سهر الحريص على الوديعة حتى حدود الزود عنها بأغلى ما في الحياة، وهو الحياة نفسها.
قال له البابا بيوس الحادي عشر، في زيارته الأولى إلى روما، في العام 1925: "عرفناك قبل أن نراك". وهو ما يحلو لي أن أستعيده في التكلم عنه، على أن مقادير الكبار – واعذروني على استعمال هذا التعبير - لا تقوم على "الركوب على جماعتهم"، وإنما على الاعتناء بها عناية الراعي بقطيعه.
اسمحوا لي، ختاماً، أن أقول إن عائلتي، داغر، لا يضيرها أبداً أن ابنها الأشهر، إغناطيوس، عمل خارج النطاق العائلي، في رحاب الوطن الأوسع، بل هي تفخر أنها وهبت قضايا كبرى مثل هذه أخيرَ أبنائها وأقومَهم مسلكاً.
ابتعد عنا جرجس لكننا ما لبثنا أن تحققنا من أن إغناطيوس أيقونة، نجم، في فضاء الحنو علينا مثل غيرنا، وقبل سماء القداسة.
(كلمة في كتاب: "دخلوا التاريخ من بابه الواسع" للمطران يوسف محفوظ، في دير حوب، 5 أيلول 2009).