أسعد داغر، نجم في سماء تنورين. نجم بعيد. ظهر آخر مرة في العام 1974, في احتفال رسمي مع رئيس الوزراء الراحل تقي الدين الصلح. يظهر من جديد في هذه الأمسية في احتفال فكري حول كتاب عنه ومعه.
يَظهر بفضل كتاب د. انطوان داغر: يَظهر في ما لم يُعرف عنه سابق، وهي بعض الرسائل التي وجهها إليه أعلامُ فكر وسياسة عرب في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم. لكن أسعد لا يَظهر بنفسه، وإنما في مرآة
مقلوبة، إن جاز القول، من خلال حضوره الذي يتراءى في هذه الرسائل. سأترك لغيري الكلام عنه، بعد رحيله من تنورين إلى دنيا مصر والعروبة، إلى عالم الفكر والأدب والسياسة والصحافة.
سأتكلم عن أسعد داغر التنوري، إذ إنه حتى لعائلته، ولأهل تنورين، اسم مشع، ظهر لبعضهم أحيانا في بيته القريب، أو في نبع الفسيق، في وطى حوب،
أو تحت سنديانة حوب، مع ضيوفه العرب، أو مع أهله، قبل أن يعود في طائرة خاصة، مسجّى في العام 1958، إلى دفنه المهيب في تنورين.
أقرأ في كتاب إبراهيم الأسود "دليل لبنان" (1906) عن والده: مفلح داغر: "رفيق محرر مقاولات"، كما أقع على اسم والده في كثير من سجلات المحكمة في مدينة البترون. وهو: مفلح أنطون مخايل سركيس داغر.
مفلح تزوج من فوتين، أخت جرجس عساف فيصل داغر، أي أخت الأباتي إغناطيوس
داغر. ولمفلح ابنان: أسعد، وبطرس القاضي، المتوفى في العام 1955، وله أربع بنات، منهن: أدال، التي ستلتحق بالسلك الرهباني، وتصبح الأم تريز
مفلح داغر، أي الرئيسة العامة، والمتوفية في العام 1970.
تزوج أسعد من أليس، ابنة الصحفية اللامعة في مصر، لبيبة هاشم، الروائية والتي أصدرت مجلة "فتاة الشرق"، وكان له من زواجه – قبل أن ينفصل عن
زوجته – ابنة وحيدة: ندى توميش، أستاذتي في جامعة باريس الثالثة-السوربون
الجديدة، والتي توفيت قبل أيام معدودة.
ولأسعد ابنة عم: ألماظة جرجس أنطون مخايل سركيس داغر، التي ستشتهر باسم: آسيا، وسيرتب أسعد نفسه انتقالها إلى القاهرة، التي ستمثل فيها أفلاما وتنتجها.
وأسعد هو الذي سيرتب ايضا هجرة ابنة خالة آسيا، أي: ماري يونس، التي ستشتهر في مصر باسم: ماري كويني، الممثلة الفاتنة ووالدة المخرج المصري اللامع: نادر جلال.
كان لمفلح بيت أول قرب بيت ضوميط الخوري مراد، وهو جاره القريب ورفيقه في المحاماة بين تنورين ومدينة البترون. ثم كان له بيت ثان بعد أن اشترى مفلح بيت جرجس الخوري طوبيا (الثاني) يونس، "كاخية" مدير ناحية تنورين الأول: أنطون بشارة طربيه، ثم مديرها الثاني بين العام 1903 والعام 1906،
ثم بين العام 1908 والعام 1911. ينتسب مفلح إلى الجيل الأول من المتعلمين العصريين في تنورين، وانتهج درب المحاماة مع ضوميط الخوري مراد، وأنطون الخوري حرب، ومجيد طربيه وغيرهم.
ينتسب أسعد الى بيت نفوذ في تنورين، وإلى مسار احتفظ من الإرث العقاطعجي المديد بوراثة المهنة واللقب، وإن في سياق عصري جديد منفتح على آفاق
مختلفة. سيبدأ أسعد بدراسة المحاماة، وفق رغبة أبيه، فينتقل إلى طرابلس (بعد اختتام دروسه في مدرسة عينطورا للآباء اللعازاريين، إلى جانب رفيقه
رئيس الوزراء الراحل رياض الصلح) ليتعلم دروس الفقه والقضاء اللازمة للمحامي في العهد العثماني: قرب الشيخ محمد العسال، والشيخ عبد اللطيف الغلاييني، على ما
يروي في "مذكراته".
يشتري مفلح بيت جرجس الخوري طوبيا يونس، لكن ابنه، أسعد، لن يذهب لدراسة المحاماة في باريس، بينما اتجه أولاد جرجس المذكور (مسعود، وأسعد، ونعمة الله) للدراسة في أوروبا، وسيكون كبيرهم، مسعود، أول نائب عن بلاد البترون، في العام 1926، ولثلاث دورات متتالية.
أسعد لن ينتقل إلى باريس لدراسة الحقوق فيها، وفق رغبة والده كما البطريرك، بل إلى استانبول، من دون أن يكمل دراسته. سيعقد، في هذه العاصمة السلطانية الآيلة إلى أفول، صداقات وعلاقات مع عدد من رفاق السياسة والفكر من العرب المتعلمِين، قوامها الانفصال عن الأتراك والتشبه بهم، أي: العقيدة القومية: لهم العقيدة الطورانية، وله ولرفاقه: العقيدة العربية.
ينتسب أسعد الى جيل ثان في نخب تنورين، ممن توجهوا صوب المهن العصرية، مثل المحامي والطبيب...
ما قام به أسعد، هو ما قامت به الصحفية اللبنانية اللامعة لبيبة هاشم، إذ هربته فوق سفينة متجهة إلى الإسكندرية بدل ابنتها، أليس، التي سيتزوجها
أسعد بعد سنوات. خرج أسعد متخفيا من لبنان هربا من القوات الفرنسية التي كانت تطارده بسبب مشاركاته السياسية إلى جانب الأمير فيصل في حلم
"المملكة العربية". وفي مصر سيمضي البقية المتبقية من حياته، بين سياسة وأدب وصحافة وألق في المنتديات السياسة العربية.
ينتسب أسعد الى الجيل الثاني في تنورين، جيل التعليم العصري، والمتطلع إلى أداء دور سياسي، استقلالي وفق معان وصيغ حكومية مختلفة. كما ينتسب،
في الوقت عينه، إلى جيل قيد التشكل بين المتعلمين العرب: الجيل الذي حلم بإخراج الخلافة، في العام 1916، من الأتراك، لتعود إلى العرب المسلمين.
كانت السلطنة تتفكك، وكانت الدول الأوروبية تتوثب لوراثتها، وللتمكن من سياسات هذه البلاد. وكان هناك جيل عربي يُعدُّ العدة للنهوض، لتدبرِ حكمٍ ذي قواعد محلية وعربية، بعد طول ابتعاد للعرب عن السياسة والحكم.
كان لأسعد أن يرث والده، بكل معاني الكلمة، لكنه اختار وجهة أخرى، لا أبالغ – إن قلتُ – إنها تختلف عن تموقع والده التنوري واللبناني. كان أسعد يريد ويطمح للعبة أخرى، أوسع وأفعل، ما كان يشمل لبنان، ولكن من خارجه.
هو الطموح، والتطلع الأبعد. وهو المغامرة في التاريخ: أن يكون لاعبًا، وفاعلًا في السياسات وفي المصالح الكبرى. لهذا أسعد داغر تنوري المنبت، لكنه نظر إلى ما هو أوسع وأبعد من تتورين. ومن يعاين أحوال تنورين في العقود الأولى من القرن العشرين سينتبه إلى تشكلات مزيدة في عائلات
تنورين المختلفة، ولا سيما في بيوت النفوذ فيها. وهو ما يفسر الاحتشاد في كل مجموعة عائلية، أو في جبٍّ من أجبابها ضد غيره، بوصفه التشكل السياسي الممكن في بنية تقليدية لم تعرف التذرر الاجتماعي والعائلي، فكيف لها أن تعرف التشكل الحزبي!
أسعد داغر "نهضوي"، بهذا المعنى، واستقلالي، على أن محرك المشروع هو: "القضية العربية". وهو، لذلك، طلب من السياسة شيئًا آخر غير التكوكب حول "زعيم" أو "بيك" أو "شيخ صلح". تطلع إلى ما كان قد اطلع عليه في كتب الثقافة السياسية، وما عمل على بلورته ورسمِ صيغه الأولى مع رفاقه من
الاستقلاليين المتنورين.
تحدثت في كتابي الثاني عن تنورين عن "الأفق" الذي تكشف لكثير من الطامعين والحالمين، ولا سيما من الذميين، ممن وجدوا، بعد "التنظيمات" العثمانية، المترافقة مع استقلال اليونان، فرصة للخروج، للتطلع، سواء بالوظيفة أو بالسياسة. إلا أن أسعد تنبه، بنباهته، إلى أن هناك أفقا آخر، له كما لبلده، ما جعله يتخلى عن الجامعة، والمحاماة، لينصرف إلى صناعة الغد القريب: بناء الكيان العربي.
كان يشدُّه الحلم والأفق، فيما كانا يتراجعان في لبنان أو سورية أو
العراق، مع ساسة وأهل رأي حلموا بالقومية العربية الجامعة، لكنهم تمسكوا - واقعًا بانشداداتهم المحلية، الضيقة. تحتاج الرسائل المنشورة إلى فحص مزيد، خصوصًا وأن التاريخ لم يحفظ رسائل اسعد داغر إليهم: هي رسائل من طرف واحد، إلا أنها تكشف تملص هذا وذاك من حلمهم الجامع...
يستوقف، في الرسائل، تباعد المسارات في الجيل الواحد والواعد: ما كان يتابعه أسعد ويشغله، ومنها بناء العدة لتحرير فلسطين، كان عدد من أقرانه
يتدبر الوصول إلى السلطة، والتحكم بها. يبقى أن أسعد، مع أنطون سعادة، وبعد جرجي زيدان، كان الأكثر يقظة لمخاطر قيام "الكيان الصهيوني" فوق أرض فلسطين التاريخية...
أبقي أسعد مشدودًا إلى الحلم وإلى الافق المقتوح، فيما كان غيره ينشد إلى انشدادات تقليدية، "زعامية"، بل على خلاف حاد مع القومية العربية عند
بعضهم؟ بقاؤه في القاهرة، حتى نهاية حياته، تمسكٌ وعملٌ بما يناسب تطلعاته. وقد يكون في نجاح انقلاب "الضباط الأحرار" في صيف العام 1952
علامة مجزية لما أمل به في سنوات عمره المصرية.
لأسعد اسم محفوظ، مثل نجم بعيد، مثل من نشتاق إليه فيما لا يعود. أن يُقدم د. أنطوان داغر على استحضار زمن اسعد وأقرانه، فهذا ما يخفف من
عتمة الماضي القريب والمعتم.
(تنورين، المجلس البلدي، 7-9-2019).