ندد كثيرون بما قلته في أيار 2011، على "الجزيرة نت"، بعد شهور قليلة على انطلاق الحراك العربي، عن عدم بلوغ هذا الحراك العربي نصاب "الثورة"، إذ وجدتُ حينها أن تغيير الحاكم والحكومة، على الرغم من صعوبة الإزاحة، لا يعني تغيير النظام. بل قلت كذلك إن ما يحدث سينهي ملكية السياسة، والاستئثار بالحكم، من دون أن يشكل هذا عشية الثورة أبداً.
هذا ما لا أتفاخر به، ولا أتباهي بصحة توقعاتي، فقد كان يعنيني أن أخسر مقابل أن تربح مسألة الديمقراطية. هذا ما تنفيه الوقائع المتراكمة يوماً بعد يوم في بلدان الحراك وخارجها أيضاً، وهي حال طبيعية، إذا جاز القول، إذ أن ما كنا نعايشه يقع في الاستثناء وغير الطبيعي، طالما أن إدارة المجتمع كانت تقوم على الافتعال والتزوير العنفيين.
لهذا فإنني لا أتحسر على "محاسن" النظام السابق، التي تحدث عنها البعض، في نوع من الحنين الرجعي، واجداً في ما يجري أمام أعيننا، في الشارع كما في المحكمة، ما يمكن أن يشكل بناء صبوراً لحقوق المواطن. ذلك أن المواطن، بوصفه كائناً قائماً بنفسه، وله حقوق وواجبات، لا يزال مشروعاً مؤجلاً أو معطوباً.
كنت أقرأ قبل أيام مقاطع من كتاب عبد الرحمن الجبرتي عن حملة بونابرت قبل أكثر من مئتي سنة، وتحققت من أن أعداداً من المصريين خرجوا في تلك الأيام والشهور إلى الشارع، ربما في أول ظهور علني وسياسي للعامة، ولكن من دون أن يؤدي حراكهم إلى بناء سلطة جديدة، بل أفاد محمد علي وجنوده (الذين يقلون على أربعة آلاف جندي) من خنادق المقاومة لكي يبني حكمه، الذي سيدوم أكثر من مئة وخمسين سنة. هذا ما جرى في بيئات عربية أخرى، وعنى خروج العامة وغيرها من عباءة السلطان، ومن السياسات السلالية في الحكم منذ العهد الأموي حتى نهايات الحقبة العثمانية، ولكن من دون أن تبني لا الدولة، ولا المواطن...
هكذا نجرجر منذ ذلك الوقت هذا التاريخ الصعب، وهو ما أفادت منه قوى العسكر، منذ جنود محمد علي حتى جنود اليوم في الحراك العربي. وهو أمر طبيعي، بمعنى ما، إذ أن قوى الأمن هي المنظمة واقعاً، والقادرة أكثر من غيرها على التأثير. وإن عودة سريعة إلى وقائع الحراك العربي تُظهر بأن العسكر – ما خلا تونس – هم الذين قادوه ووجهوا مساراته...
نعايش، اليوم، أحوالاً طبيعية، ما يعني أن مهام بناء المواطن والديمقراطية مطروحة في الشارع وفوق صفحات الخطاب، وهي ليست موجودة لكي تكون مهددة، وهي ليست أكيدة لكي يتم الخوف من تبددها. وهي أحوال صراعية، تحتاج إلى حراك الشارع وجدل الأفكار، وهو ما يصعب العثور عليه منذ ما قبل الحراك العربي. فقد نجحت أنظمة الاستبداد في إعطاب أي فكر، أي خطاب، غير التملق للحاكم، ما أبقى الساحة مفتوحة لخطاب "إسلاموي" مبسط.
لا يضيرني عمل الإسلاميين في السياسة، وفق أشكال الديمقراطية (لا الخلافة)، فهذا من حقهم، ولهم أن يجدوا توليفة بين التجارب الإسلامية الماضية وحاجات الحكم الصالح وفق معطيات اليوم. وهو ما عاشته الديمقراطيات الأوروبية إذ جرَّبت استمداد الديمقراطية من التجارب المسيحية، ما ظهر في عدة أحزاب ديمقراطية مسيحية في أكثر من بلد أوروبي...
هذا ما لا تقترحه خطابات "الإسلاميين" بالضرورة، إذ تشدد على "الشريعة"، وهي ليست موضوعاً متفقاً عليه بين أهل الفقه، فيما تتجنب الحديث عن حاجات الحكم اليوم. فأن تُشدد على لباس المسلم والمسلمة لا يستجيب تماماً لحاجات السكان: فقد استوقفتني، في الأيام التي تلت سقوط الحاكم التونسي، أعداد التونسيين النازعين إلى المهاجرة، وفي ظروف انتقال خطرة...
فالعربي ليس كائناً فقهياً وحسب، وإنما هو كائن حي له نوازع ورغبات وقوى ومرتجيات... وهو ما يحتاج إلى بناء، إلى صياغة، من المفكرين كما من السياسيين. وما يجري في أيامنا هذه لا يتعدى، كما في السابق، الإمساك بمقاليد الحكم، طلباً لتجميعها كلها في قبضة حزب أو تيار.
لهذا قد يكون من الأجدى عدم انتظار شيء، بل العمل من أجل حقوق الإنسان، من أجل أن يصبح مواطناً في دولة مدنية تعددية. هذا ما لنا أن نتبينه في الأحوال الاجتماعية قبل أي شيء آخر، ذلك أن ما يعيق التقدم يتعين في مناعة المنابت التقليدية في البنى والذهنيات والسلوكات، فضلاً عن سياسات الحكم والحاكم.
لهذا فإن بناء الديمقراطية يبقى المطلوب، فيما يشدد المثقفون غالباً على شروط قيامهم بمهامهم، وهي شروط الحرية.
(جريدة "النصر"، الجزائر، 10 أيلول-سبتمير 2012).