يكتب في البحث الأدبيّ التاريخيّ، يشتغل على موضوعات النهضة والتنوير، ويقدّم إسهاماته المميّزة في فنون الجمال والتشكيل، يبدع الشعر والرواية، ويساهم في إثراء المكتبة العربيّة بالترجمات اللافتة. إنه الباحث والأديب اللبنانيّ شربل داغر.
داغر الحريص على التجديد في كتابته والأساليب التي يكتب بها أعماله الإبداعيّة، يرى أنّ القول الفرنسيّ “الإنسان هو الأسلوب” يصحّ إن جرى النظر إلى الإنسان بوصفه كائناً متعدّداً، لا واحداً تعبيرياً منسجماً. وحول ذلك يقول: "وهو ما يصحّ في حالي، على ما أظن، طالما أنني اشتغلت في أكثر من شأن كتابي، من الشعر إلى الرواية، مروراً بأنواع النقد المتعددة (بين أدبيّ وفنيّ)، وصولاً إلى الترجمات والتحقيق النقدي للأعمال الأدبية".

- يقال إنّ الأسلوب هو الإنسان، وأنت ككاتب تحرص على التجديد في الأساليب التي تكتب بها أعمالك الإبداعيّة؟
= هذا القول الفرنسي يصح إن جرى النظر إلى الإنسان بوصفه كائناً متعدداً، لا واحداً تعبيرياً منسجماً. وهو ما يصح في حالي، على ما أظن، طالما أنني اشتغلت في أكثر من شأن كتابي، من الشعر إلى الرواية، مروراً بأنواع النقد المتعددة (بين أدبي وفني)، وصولاً إلى الترجمات والتحقيق النقدي للأعمال الأدبية.
وهي حال تربكني أكثر مما هي مدعاة للتباهي، إذ أتحقق من كوني أقبل على أعمال كتابية لم تكن محسوبة أبداً. ويقوى العائد إلى قائمة مؤلفاتي في سنوات سابقة إلى التحقق من أن ميادين كتابتي اختلفت، أي زادت بين سنة وأخرى. وهو ما يمكن متابعته في موقعي الإلكتروني حيث إنني عملت على زيادة ميادين تأليفية لم تكن واردة عند إطلاق الموقع.
إلا أن سؤالك يرمي إلى أبعد من ذلك، وهو الحديث عن هاجس التجديد في كتاباتي، وهو شاغلها الأساس. إذ ما ربطني بالكتابة عموماً هو شاغل النقد، بمعانيه المختلفة. فأنا – كما كتبت أكثر من مرة – لم أعن بأن أكون في عداد "أعيان الأدب"، أو ممن امتهنوا الكتابة مثل مرتبة أو نصاب مهني أو اجتماعي، وإنما عناني في الكتابة كونها تحمل شيئاً إضافياً، مزيداً. وهو ما يصح في البحث أو في الإبداع، إذ لا أقوى على تصور كتاب أو دراسة من دون أن أقلب – لو جاز هذا التشبيه الفلاحي – الأرض التي أحرث فيها. وهو ما يبلغ في ما كتبت من شعر وسرد حدود الانهمام بالشكل نفسه، إذ أن حياتهما هي في نظري حياة الأشكال نفسها، أي تجديدها.
يخالف ما أذهب إليه وأعمل عليه طريقة سارية حالياً في الكتابة، شعراً وسرداً، تقوم على مماشاة الرائج والساري والمقبول والمطلوب من دون شاغل تجديدي، شكلاني في المقام الأول، الذي تقوم عليه حياة الأدب في نظري وفي معناها العميق.
- تركّز دوماً على حضور النصّ الموازي في كتاباتك ولقاءاتك؟
= حلا لي في قصيدة أن أشبهها بالجالسة أمام مرآتها: تعرض مفاتنها فيما تنظر إليها. وأريد من ذلك الحديث عن نص مزدوج المبنى، إذا جاز القول، لا تُخفي فيه الاندفاعة الكتابية وقوفَها ونظرها في خطواتها نفسها، في ما أقدمت عليه. وهو ما يشير إلى حوار داخلي، بين "أصوات" المتكلم في النص الواحد، أو يشير إلى حوار تشاركي أطلبه مع القارىء حيث له في القصيدة أن يشارك في احتمالات العبارة، بل أن يكون، في أحوال، أكثر من قارىء لها، بل شريكاً في بنائها.
- تبدو الترجمة لديك نوعاً من «التملّك»... كيف تشرح علاقتك بما تترجمه من جهة، وما يُترجَم لك من جهة أخرى؟
= علاقتي بما أترجم باتت متعددة لإقدامي على أنواع مختلفة منها، بين شعر وفكر ورواية وغيرها، وهو ما يقع في التملك وغيره. أما عن علاقتي بما يترجم لي، فقد اختلفت عما كانت عليه في السابق. وهو ما أشير إليه من خلال ما جرى لي في الصيف المنصرم حيث أقدم أحد الكاتبين اليابانيين على ترجمة إحدى قصائدي: "وجوه بالتناوب"، من دون إذني، ومن دون سؤالي عن بعض مشكلات الترجمة نفسها (كما حصل في ترجمات سابقة)... وهو ما أراحني كثيراً إذ أنني أعتبر القصيدة مالكة نفسها، ومالكة قرائها من دوني، بدليل أن "حلقة فلسفية" في برلين أقدمت مؤخراً على مناقشة هذه القصيدة نفسها (وهي مترجمة إلى الألمانية أساساً) من دون إذني أو علمي إلا بعد وقت (لطلب استفسار حول دلالات أحد الألفاظ فيها). فإذا كنت، في ترجمات سابقة، عملت بناء لطلب المترجمين إلى الإجابة عن بعض الأسئلة، فإنني ما لبثت أن ابتعدت عن ذلك، لعلمي بأن للقصيدة "حيوات" أخرى، وأن الترجمة سبيلها إلى ذلك.
- تشتغل في كثير من دراساتك وأبحاثك على النهضة والتنوير. هل تشعر بأنّ العالم العربيّ حقّق المنشود والمرجوّ في هذا الوارد؟
= يعنيني القول، بداية، أنني دارس في هذا الجانب من مؤلفاتي، ولست واعظاً أو مرشداً، مثلما لا يتوانى عن فعله دارسون "نهضويون" أو حاليون، فيظنون أنهم قادرون على تعويض ما للسياسة أن تفعله، فلا يكونون، في أحسن الأحوال، "إسلامويين" أو "علمانيين"، غير مبشرين ليس إلا.
أما يشغل دراساتي، في نطاق الفن أو الأدب، فيتعين في إنزال التعبيرات والأشكال والقيم التي أدرسها في "التاريخية"، بما ينقذها من أسر الأساطير ومنظور الثقافة التبجيلية لنفسها. فإذا كان هذا يفيد "النهضة" أو "التنوير" فلا ضير من هذا.
- كتابك البحثي الأخير: «الشعر العربيّ الحديث – القصيدة العصرية»، يكشف عن مرحلة مغيّبة في تاريخ الشعر العربي. ما الذي يرومه بحثك التاريخيّ الحضاريّ؟
= يعنى هذا البحث بالتاريخية، كما أشرت في جوابي السابق. فلقد تحققت في درسي للشعر العربي الحديث أننا انصرفنا إلى فهم عروضي وتقني له، لا تاريخي بأي حال، واكتفينا بعض "المواعيد الزمنية" وجعلنا منها معالم لبزوغ حداثة الشعر، فيما أسقطنا من النظر التاريخي والتحليلي حقبة ممتدة من الشعر، بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. هذه الحقبة أطلق عليها شعراؤها ونقادها في حينه تسمية: "الشعر العصري"، ولا يمكن فهم الحداثة وتجلياتها من دون نبش الركام عن هذا التاريخ المجهول والقريب في آن.
- ألا يصيبك التنويع الذي تتّسم به بنوع من التشتيت أحياناً؟
= التعدد الملازم لكتابتي يعبر عن شغفي، بل عن ولعي ودهشتي المعرفية أو الإنسانية، وأتمنى للقارىء أن يشاركني فيه، وأن يجد فيه بعضاً من المتعة التي أجدها فيه. وهو ما لا يناسب منطق الدعاية – بما فيها الدعاية الأدبية – التي تشترط في المنتج وحدة الإنتاج، فيما كتبت ذات يوم: "لذة الكتابة فيها".
(مجلة "الشروق"، الشارقة، كانون الثاني 2013).