شهدت السنوات الأولى من الألفية الثالثة، حضورا مكثفا للشعراء في السرد الروائي، ولا يكاد يخلو تاريخ شاعر عربي معاصر من عمل روائي متكامل، أو آخر اقترب فيه من السرد الروائي، وهناك استثناءات بالطبع، لكنها قليلة إذا قيست بالمجموع.
مؤكدا انه بمقدورنا القول إن قضية كتابة الشعراء للرواية دون التوقف عن كتابة الشعر، شكلت في العالم العربي، ظاهرة ملموسة وقوية الحضور في فترات محددة، رغم أنها لم تكن كذلك في أوقات سابقة، حيث كانت تأتي أعمال هؤلاء متفرقة، أي بين فترة زمنية وأخرى.
ونستطيع الجزم بتجسد هذه الحيثية بمثابة ظاهرة حقيقية إذا ما نظرنا إلى ما يمكن رصده من أعمال روائية لشعراء من مختلف أقطار الوطن العربي، وهي كثيرة، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. إنها فعليا ظاهرة ممتدة ولها علاقة قوية بجدلية الإبداع وجماليات حضوره في الروح المعذبة بالبحث عن جوهر الوجود.
يتطرق الشاعر اللبناني شربل داغر، إلى سمات مضمون تجربته في هذا الشأن، في روايته «وصية هابيل»: «لا يسعني ربط ما كتبت في «وصية هابيل» بما يكتبه غيري، لا للتمايز عنهم، وإنما لأنني لا أتبين تماماً حقيقة خطواتي في الكتابة. ولكي يتبين القارئ ما أقول أحيله على ثبت مؤلفاتي، فإذا هي موزعة على أربعة محاور: الشعر، الأدبيات، الجماليات، الترجمة. ومن دون وجود السرد.
ولقد أقدمت على كتابة هذا العمل السردي ـ وهو الوحيد حتى اليوم في قائمة مؤلفاتي ـ لإحساس ذاتي وفني في آن. ومن يقرأ هذا العمل يتحقق من أنني لم أكتبه طلباً للسرد الذاتي، أو للبوح والاعتراف، وإنما لكي أتحدث عن صعوبة البوح والاعتراف. عدا عن أن ما عناني فنياً فيه يتمثل في تجريب فتح الحدود بين السرد وغيره من فنون انتظام الجملة وبناء النص. ومن يعود إلى كتبي الشعرية، منذ الأول منها «فتات البياض» حتى «ترانزيت»، يتحقق من أن السرد ملازم للشعر في حسابي. كما في إمكانه أن يتحقق من أن الحوار - وهو ما تقوم عليه «وصية هابيل» - يلازم شعري كذلك».
ويضيف داغر "إن هذا يشير من طرف صريح إلى أنني أطلب فتح الحدود بدل التقيد بها، واعتبر أن هذا ما يحركني عميقاً في بلاد وثقافة ركنت وتركن كثيراً إلى المعهود والمستقر في أجناسها وأنواعها وطرق كتابتها.
وهذا ما يستجيب لأحوال أطلبها واعياً وأندفع فيها كما في نهر، من دون أن أدري مَن يقود مَن، طالما أن الحركة غير مسبوقة، وإيقاع الرغبة هو الذي يميل بالكتابة «ميلاناً» خفياً في نهاية المطاف. هكذا أندفع وأكون كذلك المكتشف والمتلقي الأول لما فعلت. ولا شك في أن الإقبال على السرد، مني ومن غيري من الشعراء والروائيين خصوصاً، يشير إلى ما هو أوسع وأشمل، إذ يقيم للسرد ـ لأول مرة بهذا القدر في الآداب العربية ـ مقاماً فنياً أكيداً طالما افتقده. وهو ما يمكن قوله في «صعود» النثر الباهر في الكتابة العربية، بعد طول احتباس وحجز».
الشعر والسرد
وفي السياق نفسه، يؤكد الشاعر العراقي شاكر لعيبي أن التجربة الداخلية الوجودية، تأخذ شكلاً مناسباً لها من دون تعسّف أو إقحام من الخارج: لا يتابع الشعر الدُرْجَة (الموضة) الشكلانية، التي تجد لها بين زمن وآخر أنصاراً ومدّاحين وممارساتٍ مفرطةً تعتبر ما عداها هراءً أو شعراً مشكوكاً به، جميع المواصفات التي تنتصب بين وقت وآخر بصفتها قواعد وقوانين للشعر لا فائدة كبيرة منها على ما يبدو، ذلك لأنها تثبت بعد حين عدم كفايتها، ولأنها تتعلق خاصة (بالشكلانيّ) وليس (بالشعرية). والأخيرة غائبة في الغالب في المواصفات الجاهزة التي تحدّد القول الشعري عن ما سواه. ثمة دوماً قواعد نسبية صالحة مرة وغير صالحة مرة، وثمة حدود متحركة تفصل هذا القول عن سواه، وشرطها الأكبر أن تعلن عن حساسية مختلفة في تَلمُّس العالم عبر الكلام المسمّى شعراً، في لحظة معينة.
ويتابع لعيبي حديثه ان المشكلة الأهم في ذلك كله أن (الحداثة والحديث) يمكن أن يفسَّرا على أنهما وعي منشق عن القواعد النهائية، بل مع أي قواعد ثابتة، في كل عصر. إن فكرة «الخروج عن عمود الشعر» في تراث الشعر العربي كانت تعبّر عن نقدٍ للشعراء الذين لم يلتزموا بالقواعد المتوطّنة بصفتها الشعر الصافي. وهو كان نقداً شكلانياً أيضاً وليس شعرياً. أولئك الشعراء كانوا مدفوعين دفعاً للخروج عن العمود انطلاقاً من تجاربهم الداخلية التي لم تشأ سوى اللقاء عفوياً بشكلٍ مناسب لها.
لذا كانوا شعراء حديثين في وقتهم كما نعرف. وكانت الحداثة في ذلك العصر، كما في كل عصر، نزوعاً تجريبياً بالمعنى العميق الخلاق للكلمة وليس اللعب العابث. لو كان الأمر صحيحاً فإن تجريبية بهذا المعنى تصير استبعاداً مستمراً للقواعد الجاهزة والأصول النهائية.
لذا فإن المحاولات الراهنة في تثبيت شروط محددة لقصيدة النثر مثلاً، ناهيك عن طابعها المستجْلَب عَسَفاً، لا تقول شيئاً ذا بال عن الشعر والشعرية. والأخيرة في هذه المحاولات تبدو مهملة ولا قيمة لها، حتى بمعناها العريض الذي يمسّ فنون الكلام وفنون العين كليهما.
ومنها شرط السردية الذي يُقال لنا إنه مُقَوِّم جوهريّ في قصيدة النثر. هكذا فإنه لم يقم السرد في القصيدة بوظيفة شعرية، إذا لم يتقطر شعراً، وإذا لم يؤد إلى خلق مناخ شعري غامض فوّاح عنيف، فما الفارق بين طبيعته هنا وطابعه في «الحكي» القصصي الباهت.
وليس الأمر حادثة جديدة فالفارق واضح بين السردية في شعر عمر بن أبي ربيعة وأي مقطع قصصي مستلّ من إحدى المقامات اللاحقة المعروفة. ما زال الأمر قائما في يومنا الراهن كذلك، حيث يشع السرد في بعض الروايات الكبيرة المعاصرة، ليصل في بعض المقاطع أو الجمل إلى مصاف شعر تام الأوصاف من دون وزن وقافية.
وكيف يمكن إذنْ أن تقوْم تجربة شعرية على السرد بشكل أساسي دون التفريط بمسعاها الأساسي: القبض على الشعر وحده؟ إنه سؤال صعب ستجيب عليه نصوص الشعراء كلّ على طريقته الخاصة به ومذاقه ورهافته وتمعُّنه. إن السهولة الظاهرية المخادعة التي تنساب انسياباً في شعر قائم على السرد، يمكن أن تجعل القارئ ساهياً عن اكتشاف «الشعر» نفسه. وليس مهما بعد ذلك طبوغرافية النص على الصفحة المطبوعة: أبيات تقليدية منفصلة أم كتلة نثرية، بل ولا حتى بيتاً شعرياً عمودياً كما في حالة عمر بن أبي ربيعة، لكي لا نتحدث عن كفافي أو أليوت.
وحول ماهية السرد والسهولة وقيمة الشعرية، يستطرد لعيبي: إن تفكيك النص إلى أبيات منفصلة متوالية أو تجميعه في «كتلة» لن يستطيع إخفاء القوة أو الهشاشة فيه، في شعريته.
ومرة أخرى فإن هذه الشعرية ستكون موجودة أو غائبة، وهو ما يتوجب الاستمتاع به أو العثور عليه. وخلافاً للقصة القصيرة فإن الشعر القائم على السرد لا يمنح نفسه بالسهولة ذاتها بسبب الكثافة المفترضة في بنائه والدقة في اختبار أقلّ مفرداته شأناً والإحكام في ضرباته النهائية. لن تكون سارداً فقط لكنك ستكون في اللحظة عينها شاعراً. وهنا تقع العقبة القصوى. عين على الحكاية المتخيّلة وعين متزامِنة على نقاء الكلام الذي يتوجب إبقاؤه في الفضاء الشعري وحده. إن السرد في الشعر عنصر يشتغل على يد الشاعر وبرؤيته. عنصر واحد قد يكون طاغياً في تجربة محدّدة ومختفياً في تجربة وجودية أخرى، وليس شرطاً لازما وحيداً. عندما يستلهم الشاعر من اليوميّ، من يومياته، من السرديّ، ومن ما أودّ أن أطلق عليه «الأدنى»، ليتوصل إلى مغزى عميق ما، إلى أمر شامل، إلى هاجس كبير ومن ما أطلق عليه «الأقصى» فإن السرد يظل مناسَبَة، لكي لا نقول ذريعة، للشعر.
الإبداع سؤال فردي
وبدوره، يقول الكاتب الروائي المصري عزت القمحاوي: لا أظن أن سؤال التلقي يمثل شاغلاً للشاعر أو الروائي الجاد الذي يمارس الكتابة بوصفها فعلا ووجودا لا يمكن الاستغناء عنه. وقد حقق الشعر لمحمود درويش في المناخ نفسه ما لم تحققه الرواية لأحد. ولهذا أتصور أن من يتجهون إلى الرواية إما أنهم في بداية الطريق ويمارسون حقهم المشروع في البحث عن صيغة فنية يستقر فيها إبداعهم، أو أنهم شعراء مكرسون استجابوا لروح العصر من دون تخطيط؛ فالمبدع أيضًا بقدر ما، ينبغي أن يقود إلى الأمام، وبذا يكون نتيجة لعصره وتقع عليه تحولاته. وأنا أظن أن للشعر طابعه الملحمي، فحتى قصيدة النثر العربية لم تتخلص من هذه الطبيعة الملحمية التي تعبر عن جماعة متماسكة وربما منتصرة في أغلب الأحوال.
وبما أننا نعيش لحظة تشرذم قومي وانكسار سياسي، فهي لحظة الرواية في الروح وليس في السوق، لحظة البحث في التفاصيل وجمع الأشلاء، وليست لحظة نشيد الانتصار. هذا هو تصوري الخاص للموضوع، ولا أعرف إلى أي حد يمكن أن يكون صائبًا، لكنني رأيت أن مريد البرغوثي مثلاً لم يجعل من دخوله إلى رام الله قصيدة بل رواية سيرية. وأمجد ناصر مؤخرًا جعل حنينه إلى الديار رواية «حيث لا تسقط الأمطار». وأتذكر أيضا عودة عباس بيضون إلى حكاية الطفولة في «تحليل دم» ولنا أن نتأمل العنوان، ومن جيل آخر تركت سهير المصادفة الشعر، وأظن أن روايتها «مس إيجبت» لا تبتعد عن فكرة تمزيق جسد الوطن ومحاولة جمع الأشلاء ومعرفة الجناة، ولا ننسى «ريحانة» ميسون صقر، ومسعى توثيق الزمن فيها. ويتابع القمحاوي: أما سؤال الإجادة، فلا يمكن تقديم إجابة واحدة؛ فالإبداع سؤال فردي والإجادة تصح على القصيدة الواحدة والرواية الواحدة وليس على المبدع ككل، فما البال إذا كان السؤال حول عدد من المبدعين يتزايد يوما بعد يوم، بتزايد اتجاه الشعراء للرواية.
تنبؤ عن تحوّلات جذرية
ويجسد الكاتب الروائي والناقد السوري نذير جعفر، في هذا الخصوص، جملة محاور، حيث يقول: إن الشعر لم يمت، لكنه يميل الآن إلى العزلة! ربما بسبب فقده وظيفته التواصلية المباشرة مع جمهور المنابر.
والشاعر المعاصر يرى أن أمامه تراثا شعريا عربيا متواصلا عمره ألفا سنة، وأصبح من الصعب عليه تمثّله والإتيان بما يتجاوزه، أو بما يجدّد فيه. ومن هنا يبرز ميله إلى كتابة الرواية والانصراف عن الشعر. وهذا لأن كتابة الرواية تستوعب كل أشكال التعبير بما فيها الشعر، ولأنها تتيح مجالا للبوح والاحتجاج والتعبير عن المسكوت عنه. كما تتيح تواصلا مع دوائر واسعة ومختلفة من القراء الذين تجتذبهم بما تنطوي عليه من معرفة ومتعة وتشويق وأبعاد درامية وتاريخية ونفسية وسياسية.
إن إيقاع العصر الراهن ينحاز للرواية لا للشعر، لأنه عصر الاكتشافات الخطيرة، والتحولات المتسارعة، والهويات المتصارعة. كما أنه عصر التغريب والتشييء والموت المجّاني أيضا! وكل ذلك يسهم في طرح الأسئلة على المبدع الذي يجد ضالته في العمل الروائي.
يشرح الناقد العراقي عدنان حسين أحمد، وجهة نظره في هذا الشأن، فيقول: لابد من الإقرار بأن فضاء الرواية هو أوسع من فضاء الشعر بكثير، فالرواية، هذا العالم الفني الفسيح، قادرة على امتصاص معظم الأجناس الأدبية وتمثّلها، بغية توظيفها في النص الروائي.
أما الشعر فإن آفاقه لا تسمح بهذا النوع من الهضم والتذويب إلا لُماما. لذلك يضطر الشاعر لأن يكتب نصاً روائياً علّه يُسكت هذه الأصوات المتصاعدة على الدوام في نفسه اللائبة وروحه التوّاقة للتعبير الإبداعي بأشكال أدبية مختلفة.
ويمكننا، في هذا المضمار، أن نسوق بعض الأمثلة لشعراء راسخين كتبوا الرواية لاحقاً أمثال: سليم بركات، فاضل العزاوي، جبرا إبراهيم جبرا، صلاح نيازي، غازي القصيبي، أمجد ناصر، حسن نجمي، صموئيل شمعون، جواد الحطّاب، خالد مطلك، سنان أنطون. وعشرات الشعراء الآخرين الذين لا يسع المجال هنا لذكرهم.
ولا أعتقد أن الشعراء بالمجمل يحتاجون السرد ولذلك فهم يذهبون صوب الرواية، لأن بعض الشعراء أوجدوا مساحة سردية في نصوصهم المُهجَّنة كما هو الحال في كتاب أمجد ناصر الموسوم بـ (الحياة كسرد متقطِّع). ولا أعتقد بالمقابل، أن الإقبال على الشعر الذي يسجِّل تراجعاً ملحوظاً لدى القرّاء، هو السبب أيضاً، لأن هذا التراجع يمكن تلمّسه في فضاء القراءة الذي ينكمش في العالم العربي يوماً إثر يوم.
من هنا يمكن القول ان تقنيات الرواية، وفضاءاتها الواسعة التي تستطيع أن تحتوي كل الأجناس الإبداعية، إضافة إلى إمكانية تمثّل المعارف الأخرى في النص الروائي، هي التي تغري الشعراء العرب بكتابة النص الروائي. وأعتقد أن الإضافة الوحيدة التي قدّمها الشعراء العرب الذين كتبوا الرواية هي شعرنة النص الروائي، كما فعل جبرا وسليم بركات وشعراء آخرون يعرفهم القارئ العربي عن كثب.
المبدع الجديد؟!
يرى الروائي المصري السيد نجم، أن قيام بعض الشعراء بكتابة الرواية، خلال العقد الأخير، ظاهرة، وتستحق الرصد، ويقول بهذا الخصوص انها لم تعد حالات فردية، أو نزوات خاصة للبعض، ففي جيلي والأجيال السابقة، كنا ننظر إلى من يكتب الرواية أو القصة بينما نعرف عنه أنه شاعر، تعد سبة في حقه، قبل أن نقرأ العمل.
ولعل مجمل من مارس تلك اللعبة قبل الجيل الحالي، لم يكتب رواية ذات قيمة ما، إلا أن يذكر في سيرته الذاتية أنه الأستاذ شاعر، وله بيضة ديك (رواية). حتى رواية «عباس محمود العقاد» المسماة «سارة»، لا تذكر إلا في إطار الحديث عن شخصيته وعلاقاته النسائية. أما وقد صدرت أكثر من رواية، لأكثر من شاعر، فلا سبيل إلا أن نعترف بها، ونتوقف أمامها، بلا إصدار أحكام مسبقة، وأظن أن للظاهرة مبرراتها. ومنها أن جنس الرواية أصبح الآن هو الأنسب للتعبير عن واقع الحياة المتصارع، بينما القدر المتاح من حرية النشر يسمح بالبوح المباشر والنقدي، بلا تردد أو تخوف الكاتب على قلمه ومستقبله. نظرا لأن طبيعة الرواية تتيح الحوار المباشر، ورصد المواقف الدقيقة والتي قد توصف بالحرجة سياسيا وجنسيا، وهو واضح أيضا في الفترة الأخيرة المواقف الدينية أيضا. إذن التابو التقليدي تم اختراقه (بلا تفاصيل لأهمية وقيمة ذلك، أو إصدار إحكام نقدية أو أخلاقية).
("البيان"، الإمارات العربية المتحدة، 23 كانون الأول-يناير 2011).