من دار الفارابي في بيروت أطل علينا الدكتور شربل داغر بطبعة جديدة لرواية "ويْ، إذن لستُ بإفرنجي"، محققةٍ ومصدَّرةٍ بمقدمة ومرفقةٍ بدراسة أكاديمية تليق بالذكرى المئة والخمسين لصدور الطبعة الأولى، وتليق أيضاً بمكانة خليل الخوري. ما الذي حرّك الدكتور شربل داغر لتحقيق هذه الرواية؟ سؤال تخيلت نفسي أطرحه على المحقق فأتاني الجواب من الشرح والتعليقات والنصوص التي ألحقها بنص الرواية. أما السؤال الذي لا أمل في الجواب عنه، فهو ذاك الذي تخيلت نفسي أطرحه على المؤلف: هل وعى خليل الخوري دوره التأسيسي في النهضة حين أسس الجريدة العربية الأهلية الأولى، وحين نشر الرواية العربية الأولى؟ هل قدّر جيداً دوره في تحديث موضوعات الشعر ولغته، ودوره في تطويع أساليب العربية للترجمة، ودوره في وضع المصطلحات الجديدة التي تعج بها أعداد جريدته "حديقة الأخبار"؟ أصدر خليل خوري الطبعة الأولى من رواية "ويْ، إذن لستُ بإفرنجي" عام 1859 بعدما نشرها مسلسلة في "حديقة الأخبار" عام 1858، أي قبل سبع سنوات من "غابة الحق" لفرنسيس المراش 1865، واثنتي عشرة سنة من "الهيام في جنان الشام" لسليم البستاني 1870، وأربع وعشرين سنة من "علم الدين" لعلي مبارك، وإحدى وأربعين سنة من أول رواية نسائية عربية أعني "حسن العواقب أو غادة الزاهرة" لزينب فواز، وخمس وخمسين سنة من "زينب" لحسنين هيكل. أذكر هذا لأن كلاً من هذه الروايات وَجدت من يدافع عن ريادتها ويحمل رايتها كأول رواية عربية قبل أن جاء من يرفع راية "ويْ، إذن لستُ بإفرنجي" فوق رايات الآخرين ويكتب على غلافها عبارة " أول رواية عربية".ريادة خليل الخوري للرواية العربية لا تظهر في أسبقيته بل في أمر لا يقل عنها أهمية هو اعترافه بفنّه. فحين نشر رواية "وي، إذن لستُ بإفرنجي" كانت النظرة إلى الرواية متأثرة بالانطباع السائد عن الحكايات الشعبية، بل متأثرة بالنظرة الدونية إلى كل الفنون والفنانين. لهذا كان اعتراف خليل الخوري بروايته ودفاعه عن هذا الفن، وهو الشاعر والصحفي المعروف، موقفاً ريادياً. وتتضح لنا قيمة هذا الاعتراف لو قارناه بموقف محمد حسين هيكل الذي أصدر روايته "زينب" بعد أكثر من نصف قرن من رواية الخوري، لكنه لم يتجرأ على توقيعها باسمه الحقيقي فنشرها باسم مستعار هو “فلاح مصري”. وريادة خليل الخوري الروائية تظهر، ثانياً، في استخدام النص لخدمة المجتمع. فهو لم يكتب الرواية للمتعة وحدها بل للفائدة أيضاً. وتظهر هذه الفائدة في النقد الاجتماعي الذي يتركز خصوصاً في الفصول الأولى من الرواية. وهذا المنحى النقدي سوف نجده في كتابات الكثير من قصاصينا في لبنان والمهجر.وريادة خليل الخوري تظهر، ثالثاً، في موضوع الحكاية وطريقة المعالجة وغاية المؤلف. فقد طرح الخوري في ذلك الزمن المبكر موضوعة معاصرة هي العولمة، وبنى الحكاية على إشكالية العلاقة بين العرب والغرب، وعالج هذه العلاقة بحس قومي ناضج بعيد عن الخطابية، وبعيد عن التفاخر بالأمجاد، وعن كراهية الآخر. ولا ادري إن كان خليل الخوري اختار قصداً شخصيات مسيحية لكي يزيل عن بعض العيون الغشاوة التي نماها الجهل بتاريخ العرب ومكونات مجتمعهم. غير أن حوادث الحكاية تجري بعيدة عن هذا الجو. فميخالي يظن نفسه إفرنجياً لسبب واحد هو أن جده الأعلى تزوج بامرأةٍ إشبينُ أخيها من بلاد الغرب. ولا شك في أن القارئ يدرك من خلال هذه السخرية الكاريكاتورية أن خليل الخوري لا يرى قيمة لأي رابط غير الرابط القومي. وريادة خليل الخوري الروائية تظهر، رابعاًً، في الأسلوب والألفاظ. فقد عاش خليل الخوري في عراك مع اللغة يريدها أن تستجيب لمتطلباته صحفياً ومترجماً وشاعراً عصرياً. فكان عليه أن يكتب لجريدته نثراً تفهمه طبقات القراء كلها، وأن يسابق الوقت في ترجمة مقالات الصحف الأجنبية. لهذا كان يعنيه كثيراً أن يحدد خصائص الأسلوب الذي يناسبه ومميزات اللغة التي سيكتب بها. ولقد استقر رأيه على البساطة والسهولة في الأسلوب وعلى ألفاظ تفي بمفاهيم العصر. وكان لا يتردد في استعارة هذه الألفاظ من معجم الكتابة الصحفية إذا ما ردته لغة الادب الشائعة خائباً. وهكذا رسم من حيث يدري خصائص أسلوبه ومن حيث لا يدري خصائص الأسلوب الروائي في لبنان. وريادة الخوري تظهر، خامساً، في تأثيره في مَن ألف الرواية بعده. فعندما تصدى لكتابة الرواية كان الأدب السردي العربي المزدهر حينذاك هو أدب الرحلة. وكانت الرحلات تجري في اتجاهين: الأول وجهته الخارج، أي البلاد الأجنبية، وغايته تشويق القارئ بأخبار غريبة وحوادث طريفة، وصور لعوالم غير مألوفة. والآخر وجهته الداخل، أي المدن العربية القريبة، وغايته تعريف القارئ ببلاده، بمدنها وطبيعتها وآثارها وعاداتها وتاريخها. وقد سلك خليل الخوري الاتجاه الثاني، ولكنه خط فيه طريقاً جديداً ركز على الحكاية وجعل الرحلة مجرد إطار لها. فليست الحكاية في رواية الخوري جزءاً من زمن الرحلة ولا من حوادثها، بل هي كيان مندرج في الرحلة ومستقل عنها في آن واحد. فلا صلة بين الرحلة إلى حلب وحكاية الإفرنجي سوى أن الرحلة سمحت للرحالة بأن يطّلع على الحكاية وينقلها إلى القارئ. وقد بقي الارتباط بين الرحلة والحكاية قائماً في السرديات اللبنانية زمناً طويلاً بعد خليل الخوري، ثم بدأت مساحة الرحلة تتراجع حتى لم يبق منها سوى مدخلٍ بسيط إلى الحكاية الرئيسية. ففي روايات سليم البستاني (الهيام في جنان الشام، وزنوبيا) احتلت الرحلة مساحة كبيرة، بينما ضمرت هذه المساحة في روايات بداية القرن العشرين مثل "كتاب خالد" لامين الريحاني و"كتاب مرداد" لميخائيل نعيمة حيث تحولت إلى ترجيع أو "موتيف" سردي يرمي الى تبرير وصول الراوي إلى مخطوط الحكاية، والى إحاطتها بجو من الغموض، بغية تشويق القارئ إلى مطالعتها. ولم يقتصر ترجيع الرحلة على الرواية بل استخدمته الأقصوصة أيضاً. فكثير من قصص النصف الأول من القرن العشرين تعتمد موضوعة المغترب العائد الذي يخبر الراوي حكايته في بلاد الغربة. ونجد أمثلة كثيرة منها في أقاصيص ميخائيل نعيمة وخليل تقي الدين وغيرهما. كثيرة هي ريادات خليل الخوري التي كشفتها لنا رواية «ويْ، إذن لستُ بإفرنجي». وكلها تحثنا على إعادة نشر هذه الرواية. ولقد حقّق "المجلس الأعلى للثقافة" بمصر هذا الأمر بإعادة نشر الرواية مصورة عن الأصل، فما الداعي الى نشرها مجدداً في بيروت ؟ إن قيمة هذه الرواية قائمة في تاريخيتها لا في طاقتها على الامتاع، على الأقل بالنسبة إلى قارئ اليوم. وإن نشرها عاريةً من كل تعليق، على أهمية الأمر، يخفي ريادتها وأهميتها. كما أن نصها يحمل من رواسب زمانها من حيث الاملاء والألفاظ والمسميات ما لا يصبر عليه سوى المهتمين. لهذا كان يجب أن يرافقها دليل يعرّف بها وصاحبَها، ويوضّح ألفاظَها وعباراتِها، ويضبط إشاراتِها واقتباساتِها، ويفتح طريقَها إلى زمن القارئ. وهذا ما فعله شربل داغر. تلبّس شربل داغر دور المحقق في البداية. فقدّم لنا المؤلف، وفكّ أغلال الإهمال عنه، وعرّفنا به دوراً وإبداعاً وتعدّد مواهب. ثم انتقل إلى نص الرواية، فقرنه إلى أصله المنشور على حلقات في جريدة "حديقة الأخبار". وأتاح لنا أن نقرأ النصّين معاً من خلال الهوامش التي تنبّه إلى الاختلاف. وتوقف عند أسماء الأماكن والأعلام، فعرّف المجهول منها. وتوقّف عند المسمّيات، كالغروش الأسدية والفرتيكة والفابور والدوتة، ففسّر المهمَل منها. وتوقّف عند بعض المفاهيم الجديدة، كالرومانس، فبسط معانيها. وتوقّف عند بعض الأمثلة العاميّة فأوضح دلالتها. وتوقّف عند بعض الكلمات، كالموسيقى ومئة، فأشار إلى الاضطراب في إملائها. وتوقّف عند التلميحات، فأوضح المقصود بها. وتوقف عند اقتباسات المؤلف من المتنبي والإربلي ولامارتين، فقارنها بالأصل وعلّق عليها. وبعدما انتهى نص الرواية نزع شربل داغر قبعة المحقّق، واعتمر قبعة الناقد. فدرس العناصر المكوِّنة للرواية، وهي الراوي والقارئ والمكان والزمان والأحداث والشخصيات والحوار والحبكة. ثم نظر في المسائل التي طرحتها خصوصية هذه الرواية وهي المرجعية والريادة والعلاقة بالجهود السردية في زمانها. كل هذا جعل من هذا العمل كتاباً على كتاب، يتخيله الناظر بعينيه شبيهاً بحواشي المصنفات القديمة. ويجده الناظر بعقله عملاً علمياً منهجياً، دقيقاً في تتبعه، غنياً في المعلومات التي استند إليها، وضرورياً لمن يريد تطويب الكتاب كأول رواية عربية (...).

 

(كلمة في الندوة التي انعقدت بتاريخ 14/12/2009 في "معرض الكتاب الدولي" في بيروت، وشارك فيها جورج دورليان وحسن داوود وشربل داغر).