خليل الخوري، صاحب الرواية العربية الأولى، قبل ظهور كاتب روائي آخر يُعلن عن سبقه الى تلك الريادة، كان مسرحياً وشاعراً، أحصى له دو طرازي 10874 بيتاً. كما كان صحافياً أسّس جريدته "حديقة الأخبار"، وهي الجريدة الأولى في لبنان، وهو في الثامنة عشرة من عمره، أو في الثانية والعشرين بحسب تأريخ جرجي زيدان له. وكان روائياً أوّل، بحسب محقّق روايته شربل داغر، ومترجماً عن الفرنسية والتركية ورائد حداثة، ومتصلاً برجالات لبنان ومصر وتركيا وفرنسا إلخ. حول ريادته كتب أعلام جايلوه، أو أتوا بعده بسنوات قليلة مثل دو طرازي المذكور أعلاه وبطرس البستاني وأديب أسحق وعيسى اسكندر المعلوف ولويس شيخو إلخ… هذا فضلاً عن إعجاب كتاب فرنسيين بأدبه كالمستشرق رينو (الفرنساوي) الذي نقل مثالاً من طريقته المعاصرة إلى الفرنسية، ونشرها في "المجلة الآسيوية" وLe Journal de Débats وغيرهما، كما ذكره لامارتين في مؤلفاته. وكان صديقاً لكثيرين من أدباء معاصريه من شعراء الترك والفرس والعرب، هكذا بما يقربه في حياته الاجتماعية والثقافية مما عاشه طه حسين المتنقل بين البلدان مدعوّا ومحتفى به. كما كان روائينا الأوّل (الخوري) "طويل القامة، حيوّي المزاج، قوي البنية، أبيض اللون، أشهل العينين، أسود الشعر، بشوشاً، إلخ".
أخاله بعد الترجمة المدققة التي قام بها شربل داغر في مقدم الكتاب، مزيجاً من نجم اجتماعي ورجل أعمال ناجح ومثقف بل رائد حداثة ومعاصرة. مع ذلك كله، يذكر داغر في ترجمته هذه كيف أن مؤرخي الأدب لم يعودوا إلى ذكره، أو ذكر أعماله بعد انقضاء زمنه. وربما كانت الفتنة الطائفية التي دارت رحاها آنذاك، ابتداء من 1864 سبباً، في جبّ ما كان قبلها وطي صفحته (روايته "وَيْ، اذن انت افرنجي" صدرت في كتاب سنة 1859، بعدما كانت قد نشرت حلقات في "حديقة الأخبار") لكن يبقى أن هناك كتّاباً مجايلين له لم تقطع فتنة 1860 بينهم وبين الزمن الذي تلا، ومن بين هؤلاء المذكورة أسماؤهم أعلاه. فلماذا نُسي خليل الخوري دون سواه، مع أنه، بحسب روايته المنشورة، أول كاتب روائي عربي؟
يميل قارىء سيرة كاتبنا المنسي إلى الاعتقاد بأن حداثته المحتفى بها آنذاك، لم تكن قابلة لأن تعمر طويلاً. أي أنها لن تستطيع أن تكون حداثةً مؤسّسة، بل اقتراحاً بتغيير النظرة إلى الأدب، تلك التي منها مقابلته بين المتنبي ولامارتين وانتهاؤه إلى الإعجاب بالأخير فيما كان على الأول أن يعرف كيف يدمج شتات شعره في كل متماسك.
أما مسرحيته، التي عرضت على أحدى الخشبات، فكان عليها أن تنتظر سنوات كثيرة حتى يُعاد "تركيب" منصّة جديدة لتعرض على خشبتها مسرحية جديدة (وكذا كان حال مارون النقاش الذي عرض مشهديته الأولى في العام 1840، حيث كان عليه أن ينتظر عودة موجة حداثة متأخرة حتى يطلق ذكره من جديد ويسمى رائد المسرح اللبناني والعربي).
خليل الخوري كان مندفعاً إلى حداثته، كاتباً بحسبها ومنظّراً لها. بل أن تنظيره الذي اتخذ طابع التحريض والدعوة كان أكثر أهمية وتماسكاً من تطبيقاته الأدبية. فروايته الوحيدة تلك أضعفها نشرها على حلقات في الصحيفة، حيث بدت متعثرة البداية متعدّدتها. فهي تباشر بدايتها الأولى بالكلام عن مدينة بيروت وكثرة الإفرنج فيها، ثم تنتقل إلى حلب واصفة أنحاءها على غرار ما كان يفعل مستشرقون قدموا إلى بلداننا، من مثل فولني وهنري غيز وروبنسون وسواهم، ثم يباشر ما يمكن أن يكون بداية ثانية للرواية في تحليله لنصين أدبيين (للمتنبي ولامارتين) ثم ينتقل إلى البداية الثالثة حيث يروي قصة عائلة مسيحية حلبية منقسمة بين الهوس بالأجانب، وهو الأب، والميل إلى التروي والتمهل في اتخاذ موقف منهم ومن إفرنجيتهم، وقوامها الأم والإبنة.
وعلى الرغم من أننا الآن، بعد ظهور الرواية من جديد، نرى أنها كتبت مستجيبة لآراء متابعيها في الصحيفة ما جعلها أكثر انكشافاً وعادية مما ينبغي لنص أدبي، إلا أنها كانت اقتراحاً معقولاً لكتّاب آخرين بان يحذو حذو كاتبها. لكن الكتابة في ذلك العهد لم تكن لتتيح أن يهبط الأدب إلى عادية الحياة، عيشاً ولغة. فما نعتبره الآن ريادة تمثلت بإجراء كاتبنا الحوار بركاكة التكلم العادي، لم يكن يُحسب من الأدب آنذاك. ربما كان مجايلو خليل الخوري، وهم الذين أطنبوا في مديح جدّته وحداثته، أكثر حصافة منه وتحسباً لمسألة التخطي المسرع لزمن ثقافي لم يغادر الناس فضاءه بعد، فلم يسلخوا أدبهم عن التراث العربي بشعره ونثره، ولم يقترحوا ما يودي بأركانه. ولم يختلف خليل الخوري عنهم في شعره. ففي تجديده لهذا الشعر ذكر مجايلوه أنه لم يكتب من أجل المكافأة المالية (مع أنه في بداية حياته كتب قصيدة لولي مصر أُزجي بسببها، بحسب ما ورد في المقدمة) وأنه أعطى للقصائد عناوين، وهذا ما لم يكن قائماً من قبل.
خليل الخوري كان سباقاً في فتح أبواب الأدب العربي لآداب الغرب البادئة بالانتشار آنذاك. بل أن هذا السبق أتى قبل أوانه، إذ كان على الثقافة العربية أن تنتظر اتساع التأثر الاجتماعي والثقافي بالغرب حتى تستقبل ذلك الأدب وتجعله تأسيسياً لما سيليه. تلك "الموجة" أتت مبكرة فجرى إهمالها أو نسيانها. بعض الريادات يسيء إليها استعجالها. ثم أنها تشكو هي ذاتها من جدّتها فتبدو كأنها تتعلّم تعلّماً ما تقوم بالدعوة إليه والتبشير به.
(جريدة "المستقبل"، بيروت، 20-12-2009).