لنا أن نتساءل عن خفوت الغناء في الأدب، والشعر خصوصاً، ولو أننا نتبين شيئاً من الترسل الحزين والخفيف في هذه القـصيدة أو تلك. وقد يكون علينا أن نتساءل عن خفوت الغناء الاحتفائي، الإيجـابي الذي كان يحلو له أن يستعذب، أن يستمرئ الوقوف أمام مشـهد، أو وجه، أو «قضية»، فيشيلها من ترابها الاعتيادي إلى سماء اللمعان والألق.
ولو عدنا إلى الكتابات العربية الحديثة لوجدنا أن السمة «السلبية» (من دون أن تعني حكماً معيارياً، إخلاقياً) طاغية، فيسميها البعض «الشك»، أو «النقد»، أو «تفكيك الذات المتكلمة» وغيرها من التعيينات التي نلقاها في الرواية أيضا («البطل السلبي»، نقد القيم ...). للخفوت هذا أسباب علينا أن نجدها، لا في «كسوف الإيديولوجيات» فحسب (وهو خسوف متأخر يرقى إلى الثمانينيات، ويعني الإيديولوجيات «المستقبلية»، لا كلها)، بل في حركة أبعد منها تطاول انصراف الكاتب إلى نفسه في شواغل التعبير: انصراف إلى وحشة الكائن بالتالي، إلى «خفته» (كما يقول الروائي ميلان كونديرا) على أنها ثقله النوعي.
قد يجد البعض أسباب هذا «الهناء» السابق في غلبة الأسلوب على الإنسان، أي خلوصه إلى كتابات ذات مواصفات إنشادية وترويجية بمعنى ما. وقد يجدها البعض الآخر في نشوء طبقة أو نخبة مثقفة متأدبة، أشبه بجماعة "الفصحاء المتأدبين" في العهود الإسلامية الماضية (كما نلقاها في حلقات العلماء والشعراء وفي المداولات والمساجلات الشعرية في البلاطات)، تستسيغ أو تجعل الأدب منصرفاً إلى «مبارزات» أو «أخوانيات»، كما نلقاها في عدد من العلاقات المتأدبة بين أدباء فترة ما بين الحربين في العربية وقبلها.
قد نجدها في هذه الأسباب وغيرها، إلا انها أسباب ما كان لها أن تنشط لولا «المناخ التفاؤلي» الذي عبَّرَ عنه «عصر النهضة» واستكمله في آن: مناخ البناء الذاتي الذي يحلو فيه استثمار المزاعم في الزمان. فقد تكشفت أمام شعراء مطالع القرن (العشرين)، على تعلقهم البين بمواضعات موروثة من العهود الإسلامية، ومتجددة في العهد العثماني (قصائد «المناسبات» و«المعارضات» ولطائف الشعر وموضوعاته المتواضع عليها)، آفاق جديدة يتخلص فيها الشاعر من لزوم البلاط كمجال وحيد لدورة المعاني والقيم وللقمة العيش، مثلما يتبين أيضاً إمكان تعويله على الكلام في صياغات الوجدان الجماعية: انفكاك مزدوج من الأمير ومن جماعة الفصحاء المتأدبين، وانصراف عن موضوعات الشعر ومواضعاته إلى تبين سبل جديدة له، كان للشاعر أن يتبينها في تخاطبية أكثر صراحة، على أنها حميمية في بعض الأحيان، بينه وبين «قضايا»، أو دورات قيم جديدة بات يجدها قمينة بالاستثمار والتعبير.
لنا أن نتساءل، ونحن نتصفح قصائد وكتابات لا يفصلنا عنها سوى نصف قرن، ذلك أننا نقع على«مَيل عام» إلى الحساسية الأدبية، علينا أن نجد فيه، لا في «كسر العمود الشعري» (الظاهرة العروضية الجديدة بالأحرى) مثلاً، أو غيره من الظواهر، السببَ الأعمق لحقيقة التغير. وهي حساسية تستكين لقوالب وأساليب قديمة ومجربة، أو تعمل على تجارب أخرى، جديدة بأثر من أفعال «المثاقفة». وهو ما نقع عليه إذا توقفنا أمام نتاج أمين نخلة (في ذكرى مرور عشرين عاماً على غيابه) أو غيره، حيث نقع على ما قاله في أحد كتبه نقلاً عن الشاعر أبو بكر الأوسي:
«وإن كان عندي للجديد لذاذة،
فلست بناسٍ حرمة لقديم».

«عتبة» النص
الباحث الفرنسي جيرار جينيت انتهى في دراساته اللسانية إلى بناء «مستوى» جديد من مستويات النص الأدبي، وهو «العتبة» (حسب عنوان أحد كتبه)، أي ما يشير إليه النص في إبلاغه المظهري - الطباعي (من عنوان الكتاب حتى التعريف النقدي به، الموضوع على صفحة الغلاف الأخيرة)، بعد أن درس هذا الأمر عدد من اللسانيين قبله، ولا سيما في «الشعرية»، ولكن من دون أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه من إعداد نظري وتطبيقي لهذا المستوى. ذلك أن الدارسين هؤلاء، من رولان بارت وصولا إلى أ. ج. غريماس، تنبهوا إلى حقيقة العمليات الداخلة في ترتيب النص وتهيئته للقارئ (والسوق)؛ وهي عمليات لا تنفصل - بعيداً عن تدخلات الناشرين العفوية أو المتعمدة في هيئة النص المطبوع - عن مقاصد الكاتب، عما يريد إبلاغه، عنه وعن عمله في آن، من دون أن يعني الإبلاغ هذا «حقيقةَ» النص الأكيدة، بل صورة الكاتب عنه، وطلبَه ترويج صورة ما عنه.
فالوقوف على العناوين والحواشي وخلافها مما يسميه بارت «المؤشرات الثانوية، ولكن الدالة» ليس بالأمر الشكلي، كما يتصور البعض، وإنما هو مساءلة النص عن مراميه وعن صنعه من حيث لا يؤتى عادة، ولكن من حيث يباغت في لعبة الإيهام التي يقيم عليها دعواه في الكتابة. وإذا كان لهذه «العتبات» شأن في الكتابة الحديثة تحديداً، ومع الطباعة خصوصاً، فإن العناية بها ليست معدومة في الكتابات القديمة بدليل ما كتبه الصولي في «أدب الكتاب»، وغيره أيضا حول «صناعة الإنشاء» في الدواوين، ما يعني أن للكتابة صناعة خاصة، لها حدود إجرائية وترميزية في شكلها التدويني أياً كان.
وقد يكون الكاتب اللبناني أمين نخلة من أدباء العربية اللافتين باهتمامه البين بظاهر الكتابة كمستوى قمين بالاستثمار في دعوى الكتابة. وأول ما يشد انتباهنا في كتبه هو التباين بين ظاهر الترتيب ولطافة المعاني، وبين البلورة المطلوبة في العناوين (الأساسية أو الفرعية) في صراحتها الإعلانية، وبين خفاء الكتابة ومسالكها الحاذقة في متن النصوص. فكتابته - لو توقفنا عند «المفكرة الريفية» مثلاً - تتسم بتعيين شديد للعناوين، عناوين الفصول («على درب الريف»، «في بيت فؤاد أفندي» ...) وعناوين الفقرات في كل واحد منها («دروب الريف»، «خيمة البركة»، «القمح»، «العلاقة الريفية»، «الزهرة الآدمية» ...)، كما تتسم أيضاً بترتيب طباعي للفقرات في جملها وكتلها المؤلفة لها، ما يشير إلى درجة عالية في التفكر والصنع، كما في العرض والصياغة.
وهذا يدعونا في صورة أولية إلى الاعتقاد بأن التحكم الشديد بتوزيع المعنى، وببلورة معانيه في توجهات تشير إليها العناوين صراحة، يؤدي إلى تحكم الكاتب الشديد بمراقبة نصه وإعداده، ما يفقده حيويته وتأويليته المتعددة. إلا أنه اعتقاد خاطئ... فقراءة الفقرات وتبين معانيها ودلالاتها يتطلب قراءة متأنية، تفصيلية، هي غير القراءة العجولة التي توحي بها هذه الهيئة الإعدادية للنص. فنخلة، بخلاف المنفلوطي في «إطنابه» و«افتنانه» للصور المتشابهة الدالة على المعنى عينه، يُعوِّل على التلميح والاقتضاب والتكثيف. فلا يبسط المعنى، بل يشير إليه، ولا يعرضه، بل نراه، كما يقول هو نفسه، يعمل على «تفتيش الكلام ومعاودة النظر».
فالمعنى مبتكر في تناوله، حيث إنه يحيد عن الجادات العريضة، طالباً المعاني الدقيقة واللطيفة: فإذا طلب التحدث عن الشجرة، وعن ثمارها، يشير إلى ذلك بالقول عنها: إنها ظليلة. وهو ما يقودنا إلى القول: إن العناوين التعريفية لا تفيد أبداً لطافة الدلالات فيها، أشبه بقوالب تقليدية لمعانٍ متجددة!
ذلك أننا أمام كتابته علينا أن نطيل النظر، أن نمعنه في ما يتقدم أمام أعيننا، فنلقى المباغِت الجميل من الصور والمعاني حيث لا نتوقع، أي في ركام من المتوارث المعروف (والعكس صحيح أحياناً). وما يحرك الكتابة عنده هو التنبه دائماً إلى ما كتبه، وهو أن «وردة الدهان على حائط رواقنا، فهي الفريدة في ملك الله، لا تشبهها وردة».

أمير الصناعتين
وهو ما نتبينه في خلوصه التام إلى الأسلوب، قبل الكتابة: فنحن نجده يكتب الشعر، والخاطرة، والقصة والمناقشة اللغوية وغيرها من صنوف الكتابة المختلفة التي جربها، إلا أنه هو هو، أينما كان، لا يستسيغ تطويعاً لقلمه وفق «مقتضى الحال» (كما يقولون). لهذا تصح نسبته إلى «النثر الفني»، حيث العناية بسبك الكلام، بالتركيب، أو بـ«النظم» كما قال الجرجاني. أليس هو القائل: «وإنما الألفاظ بمنازلها تجمل، أو تقبح».
وإنزال الألفاظ في منازلها الجميلة لا يصدر عن ولع وحسن تدبير في المعمار، وإنما أيضاً عن حسنِ تخفيفٍ وتلميح، حيث تقول الألفاظ أعلى المعاني بأقل مقدار منها، وهو ما سماه نخلة بـ«البدائع»، و«الفرائد». وهو ميل إلى الكتابة المتقشفة والموحية يقربه من كتابات الإمام علي، من جهة، ومن جبران خليل جبران، من جهة ثانية.
وإذا كانت العربية تفتحت من جديد مع الشدياق على هواء الحياة والزمن، ولا سيما في «الساق على الساق»، وإذا كانت عبارتها تفصحت وسلست في آن مع الشيخ ابراهيم اليازجي، فإنها - اي العربية - عرفت مع نخلة ترفاً ورهافة وحذاقة وإشراقاً قلما اجتمعت في لغة ناثر واحد، منذ ابن المقفع. فهو أبعد ما يكون عن الخطابة والارتجال، فتشعر أمام كتابته أنها ذات «توقيع كتابي»، إذا جاز القول، لا توقيع النفس، وهو القائل: «ألا أيها البدوي الذي يقول الشعر من غير أن يهيئه: لأنت الذي حبب إلى الارتجال مرة واحدة في عمري، هي هذه المرة...». فالكتابة فعلٌ يشترط عمليات لا تتم وفق عفو الخاطر وإرسالات الوجدان، بل وفق تطلبات الجمال: «الجمال في إجادات الكتابة ملازم لها، ملتصق بها، لا ينفك عنها بحال.
وإنك حين تشتم، مثلاً، رائحة زهرة من الورد، تحس أن الأرج يخرج إليك، ويربط ما بينك وبين الزهرة الجميلة. أما حين تكون بين يدي إجادة من إجادات الكتابة، فإنك تحس أن جمالها لا يخرجه إليك خروج النفحة من الوردة، وإنما هو ملتحم بالإجادة التحاماً شديداً، فليس لك منه إلا الالتذاذ من بعيد...
ولقد يخيل إليك، مما ترى للإجادات الكتابية في ذلك، أنها لن ينتقص لها عقدة، بل سوف تظل هكذا متمسكة بجمالها، ضابطة لها، إلى يوم يفنى جنس القراء عن وجه الأرض».
من أين لنخلة هذه «الهناءة» كلها، التي أتاحت له أن يتعامل مع اللغة هذه المعاملة الرقيقة، كما لو أنه يتشمم وردة في حديقته، على أن أريجها دائم؟ كيف قيض له في زمانه أن ينصرف ذلك الانصراف المتأني إلى أطايب اللغة، فينتخب أجملَها، كما لو أن دوي الحرب العالمية الثانية لم يبلغه وهو يصوغ فقرات «المفكرة الريفية»؟
ويزيد من قيمة الأسئلة هذه كون نخله ناثراً غير متكلف أبداً، لا يأتي الكتابة من خبرات الإجادة ومهارات التحسين، وإنما من معين آخر، علينا أن نتبينه، خلف أريج كتابته العابق والمضلل أحياناً، في صلته بالحياة نفسها. فهو لا يتغنى بالريف مادحاً، واصفاً، وإنما نلقاه يحدثنا عن عيشه فيه: عن دهان الحائط، وشجرة اللبلاب، أو عن «عنترة» القطة، و«لولو» الكلب ورفيقته «نينا»...
صورٌ من عيش، ولو منتقاة، ومصاغة بحذاقة. وما يعنينا من ذلك هو هذا الوقوف المتأني أمام الريف، أشبه بفنان انطباعي، أو بباحث عن أرومة الأصول، حيث المنشأ يحدد الهوية، أو كما يقول: «إن الديار، وبقاع المثوى، وتربة الصبا، هي التي تحضن الأذواق، والأنساب، والطبائع، فضلاً عن التأريخ المحلي الذي يُحفظ في مجرى ساقية، أكثر مما يصان في جوف كتاب». ينطلق من الأصل على أنه الأفضل، إذا خضع لمقارنة ما، حيث الريف «أفضل» من المدينة في كل ما يقوم عليه: ينظر إليه في شكله فيرى الدروب فيه «تمشي على هواها»، بخلاف الجادات العريضة المنسقة في المدينة. وينظر إليه في لونه فيرى الدروب في الريف «بيضاء تتلوى في خضرة»، فيما هي، في المدينة، «سوداء، فاحمة». هل يمكننا القول، والحال هذه، إن نخلة كاتب انطباعي؟
نسوق السؤال، وقد راعنا في هذه الكتابات حضور عين تشكيلية محدِّدَة لرسوم الكتابة وعلاماتها: عين ترى إلى الأشكال والهيئات والموجودات بوصفها أشكالاً قابلة للتصوير، والتلوين. هذا ما يدعو إليه نخلة إذ تحقق، مثل المصورين الانطباعيين في العقود الأولى من هذا القرن (العشرين)، من وجود «حياة» للطبيعة: «الأشياء تتكلم - ولم لا تتكلم الأشياء، وهي تحيا الحياة معنا، وتشهد ما يعرض في مجتمعنا الإنساني، وتقلبنا في الأيام، من أحوال وأفعال شتى (...).
ثم ما ترى يُمسكها هي عن الكلام، وقد تكلمت البهائم والطير في كتاب بيدبا، وكتاب إيزوب، وكتاب لافونتين، ما شاء الله لها أن تتكلم! أو لم تبلغ مسامعك فصاحة ابن المقفع في «كليلة ودمنة»، تلك العربية التي هي أندى على الأفئدة من زلال الماء». هكذا لا تكون الطبيعة وموجوداتها ألفاظاً بقدر ما هي ألوان وأشكال في المقام الأول، لها صلاتها المعلنة بالحواس ولذائذها: «ورقات خمس في حمرة ملية، ملطفة عند نهايات الأطراف بلون البياض، وليس ما هو. في وسطها شيء كالخمل، أحمر، خالص اللون، يخرج من الضم في الري والنور ندي اللمعان. فوق ساق دقيقة هي التي تحمل ذلك الحسن المرفوع».
ونحن نعلم من أحد كتبه، «في الهواء الطلق»، أنه تعلم الرسم اليدوي، وأكثر من ذلك، من استاذه التركي: «قال لي أستاذي في الرسم اليدوي، توفيق (بك) طارق، الرسام التركي الأشهر، وقد رآني ذات مرة أهم بنقل لوح ربيعي لمونيه، أعجبني فيه وقوع الأنوار على بهجات الخضرة في أطراف الشجر - وهي، هي في ذلك اللوح «ضربة الأستاذ» كما يقال في لغة أهل الرسم، و«بيت القصيد» كما يقال في لغة الشعراء:
- لا تفعل! فإنك، ولا ريب، تستطيع أن تنقل شعاعاً، وخضرة، ومباهج شجر، ولكن أين الروح؟ أين الميسم الخاص؟ أين كلود مونيه؟ ... إن نقلَ لوح من لوح أشبهُ شيءٍ بمعارضة قصيدة بقصيدة، أي متابعة ذوق بتكلف مثله، ومتابعة هوى نفس بإظهار ما ليس في نفس المعارض.
نصيحة تقطر من جوانبها فهماً للرسم، وللشعر أيضاً».
في هذا الميل الانطباعي لم يكن نخله وفياً لوصية جدته فحسب، على ما قال في شعره:
«إرثٌ أنا أخذتُه
عن جدتي الخيرة
فخذه، والدنيا لمن
ينظرها بلذة».
وإنما نجد هذا الميل أعمق وأبين في خيارات كثير من المبدعين اللبنانيين، بين كتاب ومصورين، في فترة ما بين الحربين، التي عنت لهم تأسيس «دولة لبنان الكبير»، وخلوصَ البعض منهم إلى تدبيج مرجعية جمالية وقيمية للوطن الناشئ، وجدوها في التصعيد الجمالي لـ«الجـبل»، ولعلامته، أو نواته: «القرية».
بإمكاننا أن نجد الكثير من المؤشرات الشخصية الدالة على صلة نخله بالريف، سواء في مطالعاته، ولا سيما «أنشودة الكرم» لفرجيل، أو في ذكريات طفولته عن منطقة «الباروك» حيث نشأ في جبل لبنان، أو في ميله الأسلوبي إلى الكتابة التأثرية، إذ «يرى وجوه الأمور بمرآة نفسه، وينفض هوى صدره في كل موضع من مقامات الكلام».
فنحن نقع في شعر (ونثر) غير كاتب لبناني في تلك الفترة انصرافاً إلى الفخار القروي، سواء عند صلاح لبكي:
«وتعالتْ هناك أغنية الراعي
يسوق القطعان حول السواقي
وأضاءت على السفوح قرى لبنان
يا للقرى الملاح العتاق».
أو في شعر الياس أبو شبكه، الذي خص القرية بكتاب من الأناشيد، هو كتاب «الألحان» في العام 1941، في طبعته الأولى. وهو، كما يدل عليه عنوانه، أغنيات، تبدو غريبة في نتاج أبي شبكة، عدا أن «وطنيتها» الظاهرة - ولو الاصطناعية، أي المدبجة - تثير غير سؤال، إذا عرفنا عنه قربه من الحزب الشيوعي اللبناني، مع أديب مظهر، في ذلك العهد. قصائد الديوان دالة منذ عناوينها: «الحصادون»، «ألحان الشتاء»، «ألحان الربيع»، «ألحان الصيف»، «ألحان القرية»، «ألحان الطيور»، «المعصرة»، «الفلاح»، «نهر الصليب»، «المساء في الجبال»، «عرس في القرية»، «عيد في القرية»، «صلاة المغيب»، و«يا بلادي».
من «ألحان القرية»:
«أرجعْ إلينا الصاج
والجرن والمهباج
وخصبَنا في الربى
ونورَنا في السراج
واسترجعْ الكهربا
وكاذباتِ الغنى
يا دهرُ أرجعْ لنا
ما كان في لبنان».
وإذا كانت القرية مجالاً لغناء تقليدي ورتيب في غالب الأحيان، فإنها بلغت مع سعيد عقل شأناً أكبر، أشبه بالنواة المكونة للنبوغ اللبناني في انتشاره، ولا سيما في مسرحيته الشعرية «قدموس» (1937):
«عن قرى من زمرد عالقاتٍ
في جوار الغمام، زرقِ الضياء
يتخطين مسرح الشمس، يَركزن
بلادي على حدود السماء».
(جريدة الحياة"، لندن، 25 أيلول-سبتمبر 1995).