كان يمكن أن يكون حديثي عن الفن الإسلامي في هذه المحاضرة "حديث الغربتين": غربة هذا الفن في وجوده المادي، وغربته في الخطاب الدارس له. فمواد هذا الفن جرى انتزاعها في الغالب من أمكنتها في بيئاتها، وجرى نقلها بل "إعادة إنتاجها" حيث هي اليوم في متاحف العالم ومجموعاته. كما أن وجود هذا الفن في الخطاب تعين في كتابات غرَّبته بدورها عما كان عليه في ثقافته المحددة له. لهذا سأتناول معالجة هاتين الغربتين بالوقوف خصوصاً عند مشاكل في الخطاب الفن الإسلامي، ولا سيما المشاكل المتأتية من المنظورين: الآثاري والتاريخي.

أنطلق، بداية، مما ميزه أندريه مالرو بين متحف "خيالي" ومتحف "قائم"، مثل اللوفر وغيره؛ وهو تمييز أستعيره لملاحظة مفارقة أشد وأدهى: بين الفن في ذاته، إذا جاز القول، وبينه في أمكنة حفظه وعرضه، وبينه وبين الخطاب عنه. وهو تمييز أخذه مالرو – على ما ارى – من تمييز والتر بنيامين بين وجود الفن في "هالته"، أي في قيمته الأولى، إذا جاز القول، وبين ما ينتهي إليه في عهد إعادة إنتاجه في العهد التكنولوجي.
وهي أكثر من مفارقة لو تناولتُ درس الفن الإسلامي. إذ لو طلبت معاينة هذا الفن لوجدته في وجود ثلاثي:
- وجوده حيث هو موجود أو كان له أن يكون موجوداً فيه؛
- وجوده في متاحف ومجموعات عرض، بين بلدانه الأصلية وبلدانه المالكة أو الغاصبة له؛
- وجوده في الخطاب، لكاتبيه المختلفين، بين أجانب ومحليين.
(ويمكن الحديث عن وجود رابع، هو كيفيات تمثل هذا الفن لدى الأفراد والجماعات).

وجود ثلاثي، إذاًُ، تبعاُ لسياسات دول ومؤسسات وأفراد، وفي عمليات تاريخية قديمة ومستمرة، ما قد يهدد أو يبدل أو يناسب وضعية هذا الفن. إلا أنني سأكتفي، في هذه المحاضرة، بتناول وجوده في الخطاب تحديداً، ما يشير ضمن هذا العرض كذلك إلى تعالقات هذا الخطاب مع الوجودين الآخرين. كما اخترت كذلك النظر إلى هذا الخطاب وفق منظورين أو منهجين اشتغلا على درس الفن الإسلامي، وهما: المنهج الآثاري والمنهج التاريخي. لماذا هذين المنهجين؟ هذا ما ستسعى المحاضرة إلى إبانته، إلى لزومه، إلى جدواه... فماذا عنهما؟


بين المنهجين
يُنتج المنهج الآثاري، في أبسط تعريف له، خطاباً عن الماضي، كما يوضح ذلك الجذر الإغريقي القديم لاسمه (archéologie). وهو ما لا يتعارض مع المنهج التاريخي، الذي يعنى، في جانب من دوره، بوضع خطاب عن الماضي؛ بل يمكن القول إنهما منهجان متقاربان ومتكاملان، بمعنى ما.
إلا أن عمل كلٍّ من هذين العلمين مختلف: ينطلق المسعى الآثاري من كشف متبقيات الماضي وفحصها ودرسها، فيما ينطلق المسعى التاريخي خصوصاً من النصوص. هذا لا يمنع الآثاري من استعمال النصوص بدوره، ولا أن يستعمل المؤرخ مكتشفات الآثاري. وإذا كان علم الآثار متأخراً عن علم التاريخ، فإن هذا لا يغيب كونه (أي الآثاري) قد شهد منذ نهايات القرن التاسع عشر، لجهة بناء خطابه وعدته المفهومية والإجرائية، تطوراً كبيراً انتهى بعالم الآثار الأميركي والتر تايلور (Walter Taylor) إلى القول: "علم الآثار ليس التاريخ، ولا الأناسة. وهو يتعين، كممارسة مستقلة، في منهج وفي مجموعة من الطرق التقنية المستخدَمة في تجميع أو في "إنتاج" معلومات ثقافية". وهو ما قاد أعداداً من الدارسين إلى التمييز بين علم آثاري "تقليدي"، وهو المعتني بدراسة متبقيات الثقافات ما قبل التاريخية، أي التي لم تعرف الكتابة، وبين علم آثاري "تاريخي"، وهو الذي يُعنى بدرس الثقافات الكتابية.
(هناك تمايزات واختلافات بين العلماء في تعيين علم الآثار، حيث أن العلماء الأميركيين، وغيرهم أيضاً، يجعلون من هذا العلم خاصاً بالمجتمعات الإنسانية، ويدرجونه في فروع علم الأناسة، فيما يحتفظ علماء آخرون، ولا سيما في أوروبا، بميدان الفحص الآثاري المحض لهذا العلم).
ولو طلبت تلخيص التمايز بين العلمين، ابتداء من ميشال فوكو، لقلت بأن علم الآثار ينطلق من الأشياء إلى الكلمات، فيما ينطلق علم التاريخ بالعكس: من الكلمات إلى الأشياء. كيف يمكن درس ما قام به هذان المنهجان في درس الفن الإسلامي؟
لم يتم جمع مواد الفن الإسلامي إثر أعمال تنقيب إلا في أحوال قليلة، ما يعني أنه لم يكن ميدان تنقيب وحفائر، وبالتالي ما الذي دعاني إلى الحديث عن منهج آثاري في التعامل مع الفن الإسلامي؟
يكفي زائر اللوفر أن يتفرج ملياً في عدد من معروضاته لكي يتحقق من أن بعضها "مقتطع" مما كان يؤلفه مادياً حيث كان: جزءاً من حائط، من إفريز وغيرها التي تشير إلى كيفية نزع العمل من أرضه، ومن سياقه أيضاً. وهو ما بلغ في إلمانيا حدود نقل واجهة بكاملها من "قصر المشتى"، على ما هو معروف...
هناك، إذاً، عملية انتقال غير طبيعية في بعضها من وجود إلى آخر، وهناك عملية انتقال أخرى تصيب العمل الفني الإسلامي في وجه آخر من وجوده، وهو أنه يخضع لمقتضيات عرض هي ليست من طبيعته، ما أجمعه في عدد من الأمثلة:
- الخاتم، أو الزي، أو الصحن وغيرها خرجت من وجودها، من نطاق استعمالها إلى غيره، إلى مقتضيات الحفظ والعرض؛
- المزوقة، أو غيرها من الصور الكتابية باتت منتزعة من متنها المادي، ومعروضة كما لو أنها أعمال مفردة، قائمة بنفسها، شبيهة باللوحات (لم تعُرض مقامات الحريري بتصوير الواسطي لأول مرة في العالم، في العام 1928، في باريس، كعمل واحد كتابي مصور، وإنما تمَّ عرض أجزاء من المخطوط وحسب)...
هذا ما قادني إلى الحديث عن "إعادة إنتاج" الفن الإسلامي. وهو ما يحدث في العرض نفسه حيث إنه يبدل ويحول النظرة إلى العمل؛ وهو ما قاله مالرو (عن الفن الأوروبي) عندما تحدث عن أن المصلوب بات "منحوتة".
هذه التغيرات التي تصيب العمل الفني الإسلامي ما كان لها أن تحدث، بين نقل وعرض، في نطاق الأعمال الفنية، إذ يتم شراؤها ونقل ملكيتها وفق عقود واتفاقات، كما أنها تبقى كما كانت عليه بين بلد وآخر، بين جامع وآخر، وهو ما يضمن وجودها في صورة ثابتة لا تغيير فيها في كل مراحل وجودها. أما في العمل الفني الإسلامي، في قسم منها، فالأحوال مختلفة، ما له صلة بالمنطق الآثاري الذي تحكم تاريخياً ومادياً وعرضياً بالتعامل مع مواد الفن الإسلامي.


الفن في الخطاب
غير أن هذا المنطق الآثاري لم يقتصر على عمليات التحويل الجارية على العمل الفني، وإنما تخطاها ليطاول درس العمل وفهمه، أي كيفية إدراج الفن الإسلامي في الخطاب، بين خطاب تاريخي وجمالي وغيرهما. فماذا عنه؟
أعطي مثالاً يعرفه الجميع في الغالب، وهو "مقامات" الحريري من تصوير الواسطي: وقعتُ على أكثر من دراسة ومقالة عن هذا المخطوط المصور، منذ "اكتشافه" في العام 1899 من قبل المستشرق الفرنسي شارل شفر، من دون أن أجد فيها ما يشير، إلا لماماً، إلى المقامات نفسها: قلما يتم الكلام عن هذا النوع الأدبي المخصوص وعن جانبه السردي الحركي، وإنما جرى عرضه وفحصه مثل عمل مصور، من دون صلة لازمة بين الصور... دُرس مخطوط الواسطي مثل عمل أثري قديم، لا نملك أي معلومات تشير إليه من قريب أو بعيد؛ درسوه مثلما ينصرف الآثاري إلى ذلك مع النقوش والحفائر والمتبقيات. وهو ما يمكن قوله في غالب مواد الفن الإسلامي، حيث جرى وصفها، وفحصها، بما يفيد توثيقها أو ضبط صلات نسب بينها وبين أعمال معروفة، أي كما لو كانت أعمالاً آثارية...
تقول العبارة المأثورة: "يُكتب التاريخ تبعاً لمصادره"، هل تصح هذه في الخطاب عن الفن الإسلامي؟ عاد هذا الخطاب أحياناً إلى بعض ما قاله ابن خلدون في "البناء"، أو بعض ما ذكره بعض الإخباريين، أو الجغرافيين أو الرحالة وغيرهم. كما تمت العودة خصوصاً إلى حديث نبوي عن "معاقبة" المصورين في الآخرة... أما ما عول عليه واضعو هذا الخطاب فهو مشابه لعمل الدارسين إذ انطلقوا من المادية الآثارية المجموعة واستنطقوها وصنفوها بما يناسب وضع تاريخ ما. وهو – لو اقترب منه الدارس – لتبين أنه تاريخ تقنيات ومواد وأساليب في الغالب، ويشير أحياناً إلى بعض الأخبار السياسية، ولكن من دون أن يتناول غيرها مما كان له أن يوفر للمقاربة التاريخية موادها وتفاسيرها المناسبة. وهو ما أجمعه في القول بإبعاد واضعي خطاب الفن الإسلامي لمصادر الثقافة العربية كمادة لازمة في وضع هذا التاريخ، وفي فهم هذا الفن. هذا ما أجمعه في عدد من الأمثلة: هل نجد في الخطاب عن الفن الإسلامي ما قالته الفلاسفة عن "المحاكاة"؟ أو ما قاله علم الكلام وغيره عن "صفات الله"؟ وماذا عما قاله الفارابي عن "التماثيل في الهند"؟ وهناك غيرها الكثير ما يجتمع في أنواع من المصادر القديمة: منها ما يتصل بالتاريخ الديني السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومنها ما يتصل بالصناعات وترتيبها، ومنها ما يتصل بالمصادر الفكرية والفلسفية. وأذكر بعض هذه الكتب المحققة، مثل: "المخترع في فنون من الصنع" للملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، و"ما يحتاج إليه الصناع من أعمال الهندسة" لأبي الوفاء البوزجاني المهندس، وكتاب "الموشى" للوشاء، وكتاب "التحف والهدايا"، وكتب الحسبة (يمكن العودة إلى ما جمعه ودرسه كوركيس عواد: "الحسبة في خزانة الكتب العربية"، 1943) وغيرها.
ما يتضح هو أن المنطق الآثاري تحكم في بناء النسق التاريخي لخطاب الفن الإسلامي: فقد تعامل الدارسون مع هذا الفن كما لو أنه فن "قديم"، ويعود إلى ثقافة "غير كتابية" (أي التي لم تخلف كتابات عن صناعاتها وثقافتها)، فيما كان الفن الإسلامي، عند مباشرة الأوروبيين الكتابة عنه، فناً حياً، من جهة، ويتمتع بمصادر كتابية وغيرها عنه، من جهة ثانية.
هذا ما يدعوني، إذاً، إلى الوقوف المقرب عند المصادر الثقافية العربية (الإسلامية)، سواء في كتب الحسبة والتاريخ وعلم الكلام والفلسفة والبلاغة وغيرها. وهو ما طلبته في ثلاثة أمثلة كتابية للتدليل على ذلك: عند الجاحظ في مسألة "محاسن الأمم" في الصناعات، وعند الجرجاني في مسألة "النَّظم الحسَن"، وعند إخوان الصفاء في "صناعة الزينة والجمال".


الجاحظ : "محاسن الأمم"
أتوقف، لهذا الغرض، عند ما قاله الجاحظ في "رسالة" وحسب من رسائله المعروفة، وهي ""مناقب الترك". يقول الجاحظ في "البخلاء" عملاً بالشعار المعروف في زمانه، في أوساط أهل المهن، وهو أن "الصناعة نسب"، وهو يتبعه في تصنيف الأمم والصناعات، واجداً في النسب القبلي أساساً لبناء القوم، وتالياً في نسبة الصناعة إلى القوم. هكذا توقف عند أحوال الصناعات، ولا سيما بين الأمم الداخلة في الإسلام أو المجاورة لها والمتفاعلة معها بالتالي. ينطلق، إذاً، من كون الأمم تختص بالصناعات، بعدد منها على حساب غيرها، ما يجعلها تتمايز وتتفاضل في ما بينها، وهو ما يجمعه في اللفظ «محاسن الأمم»: «إن كل أمة وقرن، وكل جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان منقسم الهوى، مشترك الرأي، ومتشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاً بأسره، ولم يبلغ فيه غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحِكَم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في المُلك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً بأكفهم».
هذا التعالق بين النسب والقبيلة والقوم والأمة والصناعة يحيله الجاحظ على سبب إلهي، واجداً أن توزع المناقب والحذاقة على الأمم يعود إلى عللٍ أوجدها الله فيهم، ودون غيرهم، بدليل أن هذا القوم برعوا في هذا الفن من دون غيره، مثل اليونانيين الذين برعوا في الفلسفة، لا في التجارة ولا في الصنع اليدوي. وهو ما يفسر في حسابه اشتهار أمة بصناعة دون أخرى، وهو ما يقدم لنا لوحة واسعة عما كانت عليه حسابات الصنع بين الأمم: الصينيون معروفون في الصناعات (اليدوية)، واليونانيون في الفلسفة والآداب، والفرس في المُلك، والأتراك في الحروب. كما توقف الجاحظ عند أحوال الصناعات بصورة أكثر تحديداً، مثل حديثه عن اليونانيين: «كانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فَعَلة؛ يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المُثُل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسونها، ويرغبون في العلم ويرغبون عن العمل». كما يتحدث عن صناعات الصين: «هم أصحاب السبك والصباغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصوير، والنسخ والخط، ورفق الكف في كل شيء يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه».
ما يعرضه الجاحظ عن الصينيين واليونانيين لافت للغاية إذ يقيم تعارضاً تاماً بين هاتين الأمتين، فيخص الصنع اليدوي، إذا جاز القول، مثل إنتاج الخطوط والصباغة والنحت وغيرها بالصينيين، والصنع التصوري، إذا جاز القول، مثل فكرة التمثال، لا صنعه، أو فكرة الأداة العاملة، لا إنتاجها باليونانيين. وما يعنينا من الأقوال هذه هو الوقوف، لا على اعتقادات الجاحظ وأهل زمانه التي ينقلها وحسب، وإنما أيضاً على ما راج في أسواق البصرة وبغداد وغيرها من صناعات متميزة، معروفة على أنها من صنيع هذا القوم أو ذاك. ولكن ماذا عن صناعات العرب أنفسهم؟
يعرض الجاحظ لأحوال العرب في معرض التفاضل بينهم وبين اليونانيين، وهو جمع غير مفاجىء أبداً، إذ أن الجاحظ ينظر إلى العرب على أنهم أقرب، واقعاً، من اليونانيين منهم إلى الصينيين. فهم أبعد من الصينيين، إذ لم يكونوا مثلهم «فعلة»، عدا أنهم لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً، ولا أطباء ولا حُساباً، ولا أصحاب فلاحة أو زرع، ولا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار. وهم أقرب، بالتالي، إلى اليونانيين، إذ اختصوا بالآداب، و«وجهوا قواهم لقول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق الكلام وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وجازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر».
أتحقق في هذا الكلام من أن الجاحظ لم يخصص العرب بصناعات يدوية لافتة، إلا في صناعة السيوف... كما ميز كذلك بين المسلمين وأهل الكتاب والروم، فجعل هؤلاء يمتازون بحذاقة قوية في الصناعات اليدوية المختلفة، وهو ما يرد خصوصاً في رسالة الجاحظ «الرد على النصارى». ففي هذه الرسالة يفيد الجاحظ أن النصارى والروم لا يعرفون الحكمة ولا البيان، بل «حكمة الكف» وحسب، بما فيها «من الخرط والنجر والتصوير، وحياكة البزيون (أي: السندس، أو رقيق الديباج)»، مميزاً بينهم وبين اليونانيين، داعياً إلى عدم الخلط بينهم، مثلما يفعل العوام. ويخبرنا كذلك في هذه الرسالة أن منهم من عمل في دواوين السلاطين (منذ العهد الأموي، في الشام كما في مصر، عند الأقباط، كما هو معروف)، أو فراشين للملوك، وأطباء للأشراف، وعطارين وصيارفة وغير ذلك. كما يفيد كذلك عن بعض المهن التي أجاد فيها اليهود، مثل مهنة الصباغ والحجام والقصاب وغيرها.
نتحقق في كتابات الجاحظ، إذاً، من ورود معلومات تفيد عن أحوال بعض الصناعات، وعن صلات بعض الأقوام بها، أو عن اعتقادات أهل زمانه بالصناعات والأقوام؛ وهي معلومات ما لبثنا أن تأكدنا منها في «توثيق» عدد من منتجات الفن الإسلامي التي كشفت لنا عن عمليات التداخل والتشارك التي أدت إليها التجربة الإسلامية، سواء في العراق أو في الشام أو في مصر وغيرها، والتي جمعت التراثات المحلية (الرافدينية، الفارسية، البيزنطية...) في توليفة جديدة أملتها اشتراطات العقيدة الناشئة، من جهة، وطلب التميز في العيش الناعم والرغيد، من جهة ثانية.
توليفات حسنة وجديدة، يتداخل فيها النفيس من المواد مع العجيب في الصنع، وهو ما يجمعه الجاحظ في قول واحد يظهر لنا فيه انبهار الدمشقيين بالتوصلات الفنية الجديدة المتحققة، إذ يحارون في نسبة هذا الصنيع المدهش، وإلى أي عوامل: «وقول الدمشقيين: «ما تأملنا قط تأليف مسجدنا، وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل، واستخرج لنا التفرس، غرائبَ حسن لم نعرفها، وعجائب صنعةٍ لم نقف عليها. وما ندري أجواهرُ مقطعاتِه أكرمُ في الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء؟».


عبد القاهر الجرجاني : الحُسن في الخطاب
لم يَعُد الخطاب الساري عن الفن الإسلامي، إذاً، إلى ما قاله الجاحظ، ولا إلى ما قالته المصادر العربية في متونها الفلسفية (نظرية "المحاكاة" ذات الأساس الإغريقي)، أو الكلامية ("صفات الله")، أو التاريخية (تقاليد البلاط)، أو الاقتصادية (كتب الحسبة وغيرها) أو الاجتماعية ("الظرفاء"، كتب الهدايا والتحف وغيرها) وغيرها.
هذا ما أتناوله بالعودة إلى ما قاله عبد القاهر الجرجاني في كتابَيه: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"؛ وما يثير الانتباه، بداية، هو أن الجرجاني يولي الصور والنقوش والنسج والصباغة وخلافها من الصناعات عناية متأنية ولو مقتضبة، ويستعين بها كحد وصفي ومعياري لمقاربة فنون الأدب. ففي غير مجال يحدثنا الجرجاني عن كونهم (أي دارسي الادب) «استعاروا النسج والوشي والنقش والصباغة لنفس ما استعاروا له النظم»، أي يجعل - بعد سابقيه، على ما يؤكد - الصناعات أساساً لتبين قانون «النظم» الذي تقوم عليه فكرته النقدية في الأدب وإعجاز القرآن.
وهي مقابلة بين الأدب والفن نجدها عند أكثر من ناقد أدبي قديم، مثل القاضي الجرجاني: «الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار» (في «الوساطة...»)؛ أو عند حازم القرطاجني: «(...) المسموعات التي تجري من السمع مجرى المتلونات من البصر»؛ أو عند ابن سنان الخفاجي: «إن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر» (في «سر الفصاحة»)، إلى غير ذلك من الأقوال التي تُظهر وجود تعالقات نسقية بين أنواع الأدب والفن، ما يتصل بعملها، وبنسبتها إلى حسابات عليا، جمالية ودينية وغيرها.
يقول الجاحظ عن الشعر إنه "جنس من التصوير"، ما يقربه من الفكر الإغريقي قي حديثه عن "المحاكاة" (mimésis)، أساس نظرهم الجمالي. وهو ما يفيض في الكلام عنه فيلسوف مثل الفارابي في حديثه عن "الأقاويل الشعرية" بوصفها من "المحاكيات"... وهي أقوال تقيم تقابلات بين أنواع من الإبداعات المختلفة، ما يتعدى المقارنات العملية أوالوصفية ليبلغ مسائل في فلسفة الفن في صورة مؤكدة.
هذا ما اجتمع في أعمال ابن البواب، على سبيل المثال، بين الخط والهندسة، أو بين الموسيقى والخط (عند "إخوان الصفاء..."، أو ما ظهر من علاقات بين الصورة والأدب في مخطوطات مختلفة، من "كليلة ودمة" حتى "المقامات". وما يستوقف عند الجرجاني هو إقامة التشبيه بين الوشي والنقش من جهة، والرياض من جهة ثانية: «كذلك إذا نظرت إلى الوشي منشوراً وتطلبت لحسنه ونقشه واختلاف الأصباغ فيه شبهاً حضرك ذكر الروض ممطوراً مفتراً عن أزهاره، مبتسماً عن أنواره». وهو ما يستعيده في «أسرار البلاغة» حين يتحدث عن «شبيه النقش والوشي في الحلل بأنواع الرياض». وهو تشبيه مدهش، اتبعه لاحقاً غير كاتب ودارس، حتى أن البعض لم يتأخر عن ذكر الروض، بل الفردوس، وتبينه على أنه المشهد الذي عاد ويعود إليه غير فنان إسلامي في نتاجات فنية زخرفية مختلفة على الجدران أو السجاد.
إلا أن الأميز في اشتغال الجرجاني البلاغي هو أنه عاد إلى صنوف الفن الإسلامي لكي يدرس بواسطتها فنون القول: «إنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وإنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف (نوع من التوشية، ويلاحظ فيه الرقة وتعدد الألوان مع وجود البياض بينها، وقصر البعض هذه الألوان على خطوط بيض وحمر) والنقش وكل ما يقصد به التصوير». ما استوقف الجرجاني هو أن الفن كتابة بدوره، إذ يتخذ شكلاً تتابعياً، شكلاً «نظمياً»، مثل الخط. ويفيد في ذلك أن الكلام اتخذ لاندراجه فوق حوامل مادية للكتابة ما يقوم عليه الصنع الفني فوق حوامله الخصوصية. فما يراعيه في النظم هو «سبيله في ضم بعضه إلى بعض»؛ وهو سبيل يجده متحققاً في كل نوع «يقصد به التصوير». أوصل الجرجاني بذلك إلى ما يتعين شكلياً أو جمالياً بين الضربين؟
يدرس الجرجاني «حال المنظوم بعضه مع بعض»، بحكم تجاور الكلام وتتابعه، متوقفاً عند تفرقها، أي انقسامها إلى أجزاء وعلامات وكلمات، مثل «لآلئ» منثورة، حسب تشبيهه، كما يتوقف عند تجمعها، حيث أن الناظم «لا يبغي أكثر من أن يمنعها (أي اللآلىء) التفرق»، بعد أن «خرطها في سلك». وهو جمع قلما نجده عند عيره، فضلاً عن أنه يتحدث عن «الأصباغ» و«التفويف» (وهي تعني، في ما تعنيه، طريقة في التلوين)، و«الهيئة» و«الصورة»، و«مقادير» الأصباغ و«مزجها» وغيرها الكثير مما يسمي مصنوعات الفن المادي والبصري.
هكذا جعل من علاقات الألفاظ بعضها ببعض شبهاً بعلاقات الأصباغ بعضها ببعض: «إنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تُعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يتعد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب. كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم». ومن يطلب التدقيق في أقوال الجرجاني يتحقق من أنه يعرف العمليات الفنية عن قرب، وما تقوم عليه من خيارات، ولا سيما في حديثه عن «ضرب من التخير والتدبر»، أي إلى الخافي من القرارات والعمليات التي يُقدم عليه الصانع الفنان. فهناك "تخير" بين جملة من المتيحات والممكنات، وهناك "تدبر" كذلك أي ما يجريه الصانعمن حلول أثناء قيام العملية نفسها... هكذا يتكلم عن «أنفس الأصباغ»، ثم عن «مواقع»ـها، و«مقاديرها»، و«كيفية مزجها»، و«ترتيبه إياها»... وهي عمليات متتابعة لما يجريه الفنان من خيارات وطرق عمل، أي ما يجعل هذا الفنان «يهتدي» إلى غير ما اهتدى أو ما حصل لصاحبه، بحيث «جاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب».
يعدد الجرجاني، إذاً، العمليات الفنية المتعاقبة، كما ينتهي أيضاً إلى تبين مؤداها، فيميز بين الجيد والأجود، بين ما يتحقق حسنه من «الوفرة» وما يتحقق من «القوة المركزة»: «واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تُكبر شأن صاحبه، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسعة الذرع وشدة المنة (أي القوة) حتى تستوفي القطعة (...). ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين غرابة».
تطرق الجرجاني، في ثنايا كتابيه المذكورين، إلى عمليات الفن على أنها عمليات «نظم» مثل الكلام. كما أشار إلى عدد من الأجناس الفنية المعروفة في زمنه (النسيج والوشي والنقش وخلافها)، وتوصل أيضاً إلى الحديث عن فن «تنزيهي»، أي ممتنع عن التشبيه والمحاكاة، إذ يقول: «(...) كمن نضد (أي جمع) أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلاّ أن تكون مجموعة في رأي العين»؛ وهو، على ما نتبين، تعريف بسيط ولكن شديد التعيين: الامتناع عن فن «تجيء له منه هيئة أو صورة».


"إخوان الصفاء..." : منظومة الفنون
طلبت، في وقفة ثالثة وأخيرة، الحديث عما نسميه اليوم بمنظومة الفنون، أي كيف تندرج الفنون مع بعضها البعض في تراتبية (أو في "تصنيف" كما قالت التآليف العربية القديمة) ذات أسس دينية أو فلسفية أو فنية أو غيرها. هذا ما درسه الغزالي وابن خلدون، وهو ما بلغ حداً عالياً في التعريف والتصنيف مع إخوان الصفاء في حديثهم عن الصناعات.
ينطلق «الإخوان» من خمسة معايير يجرون على أساسها ترتيب المصنوعات البشرية، وهي معايير اتخذوها عماداً لهم، ملاحظين ما تقوم عليه كل صناعة. فالصنائع «يتفاضل بعضها على بعض من عدة وجوه»: أحدها من جهة الهيولى التي هي الموضوع فيها (مثل صناعة الصاغة والعطارين)؛ ومنها من جهة مصنوعاتها (مثل صانعي آلات الرصد)؛ ومنها من جهة الحاجة الضرورية الداعية إلى اتخاذها (وهي ثلاثة في حسابهم: الحياكة والحراثة والبناء)؛ ومنها من جهة منفعة العموم (مثل صناعة الحمامين والكناسين)؛ ومنها من جهة الصناعة نفسها (مثل صناعة المشعبذين والمصورين والموسيقيين). وهي تصنيفات تحتاج إلى تبيان وإيضاح.
ينصرف "الإخوان" إلى تصنيف الصناعات وفق عدة معايير، منها، بل أولها: تصنيفها حسب "موضوعها": هناك صناعات تستند إلى الماء في مادتها (مثل صناعة الملاحين والسقائين والروائين)، ويستند غيرها إلى التراب (مثل صناعة حفار الآبار والأنهار والقني)، أو إلى النار (مثل النفاطين والوقادين والمشعلين)، أو إلى الهواء (مثل الزمارين والبواقين والنفاخين). ثم يعمد «الإخوان» إلى جمع عنصرين من العناصر الأربعة مدخلاً للتصنيف، مثل صناعات الماء والتراب (عند الفخارين والغضارين والقدوريين)؛ أو ينطلقون من مواد مختلفة، مثل اعتماد أحد الأجسام المعدنية في صناعات الحدادين والصفارين والرصاصين؛ أو أصول النبات من الأشجار والقضبان والأوراق في صناعات النجارين والخواصين والبوارين؛ أو على لحاء النبات في صناعات الكتانيين ومن يعمل القِنْب والكاغد؛ أو على ورق الأشجار وحب النبات في صناعات الدقاقين والرزازين والنوائين وغيرها الكثير.
إلا أن هذا الترتيب إحصائي لا يفيد الكثير عن أحوال الصناعات، طالما أنه يعتمد على المادة أساساً للتصنيف، بخلاف أسس التصنيف الأخرى. ومنها النظر على الصناعات بحسب الحاجة إليها، في مسعى تكويني (إناسي في لغة اليوم)، مثل الحديث عن الصناعات «في القصد الأول»، على ما يقولون، وتشير إلى احتياجات الإنسان الأولى، ويعينونها في ثلاثة: الحراثة والحياكة والبناء. وتعتبر في حسابهم أعلى الصناعات، وقائمة بنفسها، إذا جاز القول، ذلك أن «سائرها (من الصناعات) فتابعة وخادمة ومتممة».
أما معايير التصنيف الأخرى فإنها توفر لنا نظراً مختلفاً إلى الصناعات البشرية، وهو نظرٌ يرى إلى المصنوعات نفسها، في ما يقوم عليه جهد الصناع فيها، وفي احتياج الإنسان إليها. يتحدث «الإخوان» عن معيارين اثنين، يقعان في أساس عملية الصنع، ويجعلان منها أساساً لـ«التفاضل»؛ وهما معياران يتطلبان قدراً من الدرس والجلاء، ذلك أن «الرسائل» لا تشرح لنا كفايةًً المقصود من تمييز الصناعات «من جهة الصناعة»، و«من جهة المصنوعات».
يمكننا القول إن هناك صناعات تمتاز عن غيرها بأن أحوال الصنع فيها تبدل من حال المادة التي تعمل عليها، فيأتي المصنوع مختلفاً في صورته عما كان عليه في هيولاه، ويوفر صنعه كذلك قيمة تبادلية أكبر مما كان عليه في حالته الأولى. ويمكننا أن نتأكد من ذلك في مصنوعات الاسطرلابات: «فإن قطعة من الصفر قيمتها خمسة دراهم، إذا عُمِل منها اسطرلاب يساوي مئة درهم، فإن تلك القيمة ليست للهيولى ولكن لتلك الصورة التي جُعِلَت فيها».
ويمكن القول كذلك إن هناك صناعات تمتاز عن غيرها، لا في موادها، ولا في تحولها إلى مصنوعات ذات قيمة صنعية وتبادلية، ولا في الاحتياج إليها أو الانتفاع منها، وإنما في صناعتها نفسها. ذلك أنها صناعة «حاذقة» مثل صناعة المشعبذين والمصورين والموسيقيين. فما «الحذق» الذي يتحدثون عنه؟ وما يجمع بين الصناعات الثلاث التي ذكروها في «الرسائل»؟
علينا أن نوضح، بداية، أن «الإخوان» لا يخصون الصناعات الثلاث المذكورة وحدها بهذه المرتبة، لكنها الوحيدة التي يشيرون إليها بأمثلة وإيضاحات. فالشعبذة «ليست شيئاً سوى سرعة الحركة وإخفاء الأسباب التي يعملها الصانع فيها؛ حتى انه مع ضحك السفهاء منها، يتعجب العقلاء أيضاً من حذق صانعها». وهذا ما يقولونه عن صناعة المصورين كذلك: فهي صناعة لا تعدو كونها «محاكاة» ليس إلا، لصور المصنوعات الطبيعية أو البشرية أو النفسانية، إلا أنهم يتقنونها إتقاناً جيداً، و«يبلغ من حذقهم فيها أن تصرف أبصار الناظرين إليها عن النظر إلى الموجودات أنفسها، بالتعجب من حسنها ورونق منظرها». نتحقق، إذاً، من كون «الحذق» هو وجه التفاضل الذي تفوز بها هذه الصناعات عن غيرها، ويبلغ هذا الحذق مبالغ عالية، لنا أن نراها في قلة المواد التي تحتاجها أحياناً، أو في تعويلها على هيولى غير مادية مثل الموسيقى، أو في القدرة على الصنع والمحاكاة.
يستحسن، أخيراً، أن ننتبه إلى تفاضل آخر يقيمه «الإخوان» بين الصناعات، ويقوم على مراجعتها على أساس من ضرورتها أم لا: فهناك، من جهة، صناعات أتت بالقصد الأول، أي دعت الضرورة إليها، وأخرى جلبت منفعة عامة، أو تميزت بصنيعها اللافت؛ وهناك، من جهة ثانية، صناعات لا تدعو الحاجة إليها أبداً، بل هي «عديمة النفع» تماماً، وهي «صناعات الزينة والجمال»، والتي تحظى بمقادير عالية من الحذق والتوفق. فما هي؟
لا نجد في «الرسائل» تعريفاً وافياً عن «صناعة الزينة والجمال»، سوى القول إنها تخالف غيرها من الصناعات «النافعة» و«الضرورية»، والإشارة إلى بعض صناعاتها: «أما صناعة الزينة والجمال فهي كصناعة الديباج والحرير وصناعة العطر وما شاكلها». المعلومات مقتضبة، إذاً، على الرغم من توافر عناصر دالة فيها. هي، إذاً، مصنوعات نفيسة ومتصلة بتحسين الهيئة المظهرية والتأنق الشخصي، مما يقع في «الجمال المزيد»...
كما تحفل "الرسائل" بمعلومات ثمينة متفرقة عن جوانب كثيرة مما هو عليه الفن في إنجازاته المادية والبصرية، مكتفياً بذكر بعضها، مثل هذا الخبر: "يحكى أن رجلاً في بعض المواضع عمل صوراً وتماثيل مصورة بأصباغ صافية وألوان حسنة براقة، وكان الناظرون إليها يتعجبون من حسنها ورونقها، ولكن كان في الصنعة نقص حتى مرَّ بها صانع فاره حاذق، فتأملها فاستزرى بها وأخذ فحمة من الطريق ومثل بجانب تلك التصاوير صورة رجل زنجي كأنه يشير بيديه إلى الناظرين. فانصرفت أبصار الناظرين بعد ذلك عن النظر إلى تلك التصاوير والأصباغ، بالنظر إليه والتعجب من عجيب صنعته وحسن إشارته وهيئة حركته".
كما أجد في متن "الرسائل" ما يدل على عمل المصورين لجهة الأصباغ نفسها، مكتفياً بذكر التعريف التالي: "من أمثال ذلك أيضاً أصباغ المصورين، فإنها مختلفة الألوان، متضادة الشعاع، كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة، وما شاكلها من سائر الألوان; فمتى وضعت هذه الأصباغ بعضها من بعض على النسبة، كانت تلك التصاوير براقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة، كانت مظلمة كدرة غير حسنة".
كما يمكن التنبه في متن "الرسائل" إلى ما يشير إلى "الأطراف" الثلاثة في العملية الفنية، وهم: الصانع والبائع والمقتني: "واعلم يا أخي ان الناس كلهم صناع وتجار أغنياء وفقراء، فالصناع هم الذين يعملون بأبدانهم وأدواتهم في مصنوعاتهم الصورَ والنقوشَ والأصباغ والأشكال، وغرضهم طلبُ العوض عن مصنوعاتهم، لصلاح معيشة الحياة الدنيا. والتجار هم الذين يتبايعون بالأخذ والإعطاء، وغرضهم طلبُ الزيادة فيما يأخذونه على ما يعطون. والأغنياء هم الذين يملكون هذه الأجسام المصنوعة الطبيعية والصناعية، وغرضهم في جمعها وحفظها مخافة الفقر".


تاريخ الفن الإسلامي : مهمة مفتوحة
يعترف أولغ غرابار في أحد كتبه الأخيرة بأن كتابة "تاريخ" للفن الإسلامي لا تزال "مهمة مستحيلة"؛ ويفيد أيضاً أن إحدى دور النشر العالمية قررت، في حينه، كتابة مادة تعريفية بالفن الإسلامي من دون تاريخه. هذا ما يطرح السؤال: لماذا ما يصح في كثير من الفنون في العالم لا يصح في الفن الإسلامي؟ ويزيد من جدوى هذا السؤال أن من يطرحه يُعد من كبار دارسيه. إذاً، هناك مشكلة أكيدة، وتتعدى مجهودات باحث أو مؤرخ وآخر. لماذا؟
ذلك أن كتابة التاريخ لا تحتاج إلى المواد الأثرية وحدها، وإنما إلى النصوص، كما سبق أن قلت، وهو ما لم يحصل في سابق الدرس في الخطاب عن الفن الإسلامي. وهو ما حاولت الإبانة عليه في محاضرتي، حيث اخترت ثلاثة أمثلة (الجاحظ، الجرجاني و"إخوان الصفاء") لا نجد ذكراً لها في هذه المدونة، فضلاً عن أنها (أي الأمثلة الثلاثة) تفيد في درس هذا الفن، بين عملياته وتقويمه.
كانت للمنهج الآثاري نتائج ومنافع إيجابية في "قيد" الفن الإسلامي، ما تعين في عدة علوم، مثل: درس النقوش (épigraphie)، ودرس النصوص القديمة (paléographie)، ودرس كتابات القبور (épitaphe) وغيرها. وهو ما ناسب عملَ الجامعين ثم الحافظين (يمكن درس النموذج التأسيسي في ما أسماه سلفستر دو ساسي بـ"الوصف" (description)، وهو العمل الموصول بـ"أكاديمية النقوش..."). وهي ممارسات علمية أفادَ منها بناء المجموعات الفنية، ثم بناء المتاحف: البناء المادي والبناء التعريفي. ولهذا أقول بأن مهمة كتابة تاريخ الفن الإسلامي لا تزال مهمة مفتوحة، مطروحة على الدارسين، ولها أن تنبني على مصادر هذه الثقافة، الكتابية والاعتقادية والفلسفية، فضلاً عن المادية منها.

أخلص، ختاماً، إلى طرح السؤال التالي: كيف لنا أن نتعامل مع هذا الواقع "المحرَّف" (إذا جاز القول) للفن الإسلامي؟ وهو ما أصوغه في عدة أسئلة منها: أللجماعات والبيئات التي "تغرَّب" عنها فنها (بالمعنى المادي)، أن تستعيده إذا ما كان "مغتصباً"؟ ألها أن تطالب به، ببعضه على الأقل، ضمن الحملة العالمية، التي ترعاها اليونسكو، لإعادة الممتلكات الثقافية إلى مواطنها الأصلية؟ أم أن للدول المعنية أن تقبل بهذا الواقع المحول، خصوصاً وأن مواد هذا الفن محفوظة في متاحف العالم بصورة لائقة، وتندرج في فنون العالم؟ وماذا عن الدرس المناسب للفن الإسلامي؟ ألا يتوجب درسه وفق مصادره الكتابية، في أنواعها المختلفة؟ ألا تكون هذه المهمة مفتوحة للدارسين العرب والمسلمين، قبل الغربيين الذين يصرفون مجهودات بينة في هذا الدرس، وإن تنبني على أسس غير سليمة، أو لا تتوافر فيها شروط الفهم المناسب لمواد هذا الفن؟
("بيت الحكمة"، مدينة تونس، 13-2-2013)