الفن الإسلامي بين القرآن والترف
لا يسع دارس الفن والجمال، إن طلب التحقق النقدي والتاريخي مما يقدم عليه، أن يسلك السبل الدراسية المتبعة، سواء في العربية أو في غيرها، لعرض وشرح الفن والجمال في الثقافة العربية، في قديمها أو في جديدها. ذلك أنها سبل تحتاج منهجياً إلى ما يقيها من عثرات إعادة تأويل الماضي، بل من إعادة إنتاجه أحياناً، على ما تحققتُ.
هذا ما لا يصيب الدارسَ بالضرورة، إن سعى إلى تأريخ حضور اللوحة الزيتية، على سبيل المثال، في هذا البلد العربي أو في إلمانيا، إذ أنه يكون، في هذه الحالة، يتناول تاريخ ممارسة فنية بعينها، واحدة هنا أو هناك، وإن ذات اختلافات في الموضوع أو أسلوب المعالجة. هذا ما لا يمكن قوله في فن الماضي باليسر نفسه، حتى في نطاق الثقافة الواحدة، فكيف إذ كان درسُ الماضي يمر حكماً بدراسة ما فعلته سياسات الملكية وإنتاج المعنى الأوروبية في الثقافات المادية للغير.
وهو ما انتهيتُ إليه في غير كتاب ودراسة، إذ تأكدتُ من أنه لا يسع الدارس الوقوف على ْ"الفن الإسلامي " ، على سبيل المثال، مباشرة بل عبر ما يتوافر، اليوم، من كتابات، بل من خطاب له منشأ أوروبي يعاين هذا الفن ويدرسه ويصنفه منذ عدة قرون، وهو ما تعين في "متن "مكتمل الملامح التأليفية منذ مطالع القرن العشرين. ومعه يجوز السؤال: أما عاد ممكناً درس الفن القديم من دون درس الغير له، أي الأوروبيين تخصيصاً، ومنهم الألمان أنفسهم؟ وماذا عن دارسيه "المحليين " ؟ ما حقيقة "ثقافة البدل " من "ثقافة الأصل " ؟
فما نقع عليه من كتابات، وما تتولاه بالتعليم معاهدٌ وكليات، وما تعرضه وتقدمه متاحف وصالات عرض، وما تبنيه هذه السياسات المختلفة وتعرضه من متن عن هذا الفن القديم لا يعدو كونه الناتج عن عمليات تاريخية قديمة ومستمرة، موافقة لاحتياجات أوروبية في الملكية وفي بناء خطاب "عالمي " النزعة. هذا يصح في ما جرى جمعه من مواد هذا الفن في الدور والمتاحف الأوروبية، وهذا يصح في ما تم وضعه من معنى لهذا الفن؛ بل ترافقت عمليات الجمع المادي بعمليات وضع المعنى في نوع من التكافل المتلازم بينهما، في قصور ودُور الملوك والأغنياء والتجار قبل صالات المتاحف وصالات العرض، في باريس ولندن وميونيخ وغيرها، قبل القاهرة والكويت والمغرب وغيرها.
لا يسعني في حدود هذه المقالة أن أعرض لهذا التاريخ المطوي، فهو يحتاج لاستعراض ما يزيد على خمسة قرون متصلة من الطلب الأوروبي على امتلاك مواد من الثقافات المادية لعدد كبير من الشعوب والثقافات، ومنها العربية والإسلامية، وما رافق ذلك من مساع لتفسير هذا الفن، لتأريخه وتقويمه، ولـ "تشريع " الإقبال والتنافس عليه، بما فيها إدراج هذا الفن في فنون الحضارات الكبرى التي شهدتها الإنسانية في تاريخها المعروف.
والعائد، اليوم، إلى كتب تاريخية أو موسوعات فنية مختلفة، وفي غير لغة وثقافة، يتحقق من أن للفن القديم، ومنه الفن الإسلامي، مكانه الأكيد فيها، بل مكانته المعتبرة. وهو ما لن يجده على هذه الصورة لو عاد إلى الوراء، إلى كتابات سابقة؛ بل سينتبه في مدى هذه المراجعة إلى أن هذا الفن، في مواده وخطاب معناه، كان محل جدل واختلاف وتنافس، لها أسبابها في الخطاب الأوروبي نفسه حول الفن والجمال، قبل أن تتأتى من الثقافة المحلية التي تصدر عنها هذه الفنون القديمة. ولهذا أسوق عدداً من الأمثلة على ما أقول:
يتعين هذا الفن تحت تسمية الفن الإسلامي، وهو تعبير لا نعثر عليه في الكتابات العربية والإسلامية قديماً، ولا نعثر عليه بالمقابل في اللغات والثقافات الأوروبية قبل بدايات القرن العشرين، إذ نافسته في أوروبا تسميات أخرى، مثل: "الفن المحمدي " ، و "الفن العربي " وغيرها من التسميات، من دون أن يكون لهذه التسميات بدورها أصول عربية أو إسلامية.
هذا في التسمية، ولكن ماذا لو بحثنا في محتوى هذا الخطاب الموضوع عن »الفن الإسلامي«، أي ما يشتمل عليه من مواد وحسب؟ تتوزع مواد "الفن الإسلامي " في الكتب والموسوعات على إنتاجات بعينها (مثل العمارة والكتاب والخط وغيرها)، فيما لن نجد هذا الترتيب قائماً، وفق هذا التصنيف، في الكتب العربية والإسلامية القديمة. ماذا لو ننتقل إلى صالات العرض والمتاحف: يعرض المتحف خاتماً فاطمياً، فيما نعلم أن هذا الخاتم لم يكن معروضاً على هذه الصورة، بل كان ملكاً لسلطان أو وزير، أي في "خزانته"، في عداد ملكيته الفردية واستعمالاته. وهو ما يمكن التحقق منه في صورة أكبر لو اتجهنا إلى "متحف طوب قابي" في استانبول، حيث المعروضات الفنية هي متبقيات من مقتنيات السلاطين. وهو ما يمكن العودة إليه أيضاً في أي كتاب فني يتحدث عن الصور في المخطوطات القديمة، فنجد الصور المصاحبة لمقامات الحريري، ومن رسم الواسطي، معروضة فيه مثل صور مشابهة لصور اللوحات الزيتية، فيما هي جزء من كتاب، وتفيد في تقديم معناه...
يمكننا أن نعدد الأمثلة، والتي تفيد أننا أمام عملية تتعدى تقديم فن في صورة مجددة، إذ تطاول بنيته، في تركيبها كما في معناها. وهي أكثر من أمثلة، إذ تشير قبل ذلك إلى مسار من العلاقات بين أوروبا (وأميركا، منذ القرن العشرين) والبيئات العربية والإسلامية، قديم ومستمر، وانتهى في حاصله إلى اعتماد هذا المتن عن الفن الإسلامي في بيئاته نفسها، سواء في الكتابات أو في المعاهد وغيرها.
مسار متعدد الأوجه أعاد ترتيب فن الماضي، مثلما أعاد إنتاج مواده في بعض الأحوال، فضلاً عن أنه أعاد وضع معناه، بين تاريخ وتقويم ونظر جمالي إليه. وهو ما أنتهي منه إلى هذه الخلاصة: وجب التمييز بين "متحفية" الفن الإسلامي (أي ما هو محفوظ منه، ومعروض، بما فيها طريقة عرضه، أو بناء معناه) وبين وجوده التاريخي، بما فيها أشكال تقديمه في البيئات التي أنتجته واستعملته.
غير أن هذه المراجعة - وإن سريعة ومقتضبة - لا تلغي في حسابي، ولا تغيب أساساً، ما وفرته إعادة تأويل الماضي الفني، الأوروبية المنشأ، من فوائد جمة على الفن الإسلامي نفسه. ومنها، بل أولها أن هذا الفن لم يكن موجوداً على هذه الصورة، فيما مضى، وإنما في صور مختلفة: ما يجتمع، اليوم، في كتب الفن على أنه مجموع مواد وأنواع وأساليب الفن الإسلامي لم يكن مجتمعاً على هذه الصورة في الكتابات القديمة، ولا في التعامل مع هذه المواد، ولا في تثمينها، بالمعنى المادي أو التقويمي. ولا أبالغ في القول إن ذهبتُ إلى التأكيد بأن "الفن الإسلامي"، كما هو اليوم، صياغة أوروبية لفن قديم، سواء في مواده وأنواعها، أو في تقويم هذا الفن ودرسه. وهو ما يدعوني إلى الفصل بين ما كان عليه هذا الفن، وما هو عليه اليوم.
إلا أن هذا لا يقودني إلى إغضاء النظر عما وفره الدرس الأوروبي لهذا الفن، على الرغم من تشوهاته ونواقصه وإعادة ترتيبه للماضي، ذلك أنه درسٌ أتاح - وإن إثر عمليات تصنيف وفرز وإقصاء وجدولة من جديد - توفير تاريخية توثيقية لمواد مختلفة من إنتاج الحضارة الإسلامية لم تكن متاحة لها في ما مضى. وهي تاريخية لا تقتصر على بناء تاريخ مادي للمواد، وإنما أيضاً على تلمس التعاملات التي شملت هذه المواد في مجتمعاتها.
ان هذه الفائدة ثمينة لأي درس لهذا الفن (خاصة وأنها مصحوبة بحفظ مواد كثيرة من المواد الفنية في المتاحف الأوروبية وغيرها في العالم)، وباتت مكملة بمعنى ما، وضرورية بالتالي، لهذا الفن. وهي فائدة لا يستقيم نفعها، إن لم تصاحبها قراءة نقدية لهذا الإسهام الأوروبي (والأميركي) في حفظ هذا الفن ودرسه: قراءة تَحْفظ وتتخلى، تستبقي وتبعد، في مراجعتها النقدية. إلا أن القراءة هذه تحتاج للإجابة عن سؤال أساسي قبل عمليات التنحية والاستبقاء، وهو التالي: لا يناسب متن الفن الإسلامي، في صورته المقرة حالياً، واقعاً تاريخياً للفن في البيئات الإسلامية؛ وهو إن ناسبه جزئياً - وهو كذلك - فإن التعامل معه كان يندرج في سياقات استعمالية وتقويمية مختلفة عما هو عليه اليوم. فما العمل؟
هل نطلب قراءة الماضي الفني على ضوء ما انتهى إليه تصور الفن، بما فيه تصور فن الغير، وفق المنظور الأوروبي، المتأخر، للفنون، في ترتيبه وتقويماته؟ أم نطلب قراءة الماضي الفني الإسلامي وفق ما كان عليه منظور الفن في المجتمعات والثقافات التي كانت تنتجه وتتداوله، آخذين في عين الاعتبار إسهام الأوروبيين (والأميركيين) بدورهم و"إضافاتهم" في درس هذا الماضي الفني؟
أميل طبعاً إلى الخيار الثاني، متنبهاً إلى أن الدرس الأوروبي (والأميركي) لهذا الماضي الفني تجنب غالباً درس هذا الفن وفق الثقافة والاعتقادات والاحتياجات التي حددته في بيئاته، وانساق هذا الدرس إلى علاقة »آثارية« بهذا الفن: التحقق التاريخي والتوثيقي منه، من صنعه، من مواده، من تواريخ وأمكنة صنعه وغيرها، على أن يجد في المادية الآثارية هذه ما يدل على فنية هذه المواد. وهو درسٌ قد ينجح في تدبير تاريخ فني، آثاري الصيغة، إلا أنه لن ينجح بالضرورة في توفير تفسير جمالي مناسب له. فتقويمات وأحكام الجمال (أو "الحسن"، حسب العربية القديمة)، بين استحسان واستقباح، لا تقوم لها قائمة إلا بالقدر الذي يعود فيه الدرس إلى فحص الاعتقادات والتعاملات الاجتماعية والفردية حول مواد بعينها تم تمييزها عن غيرها، في النظر كما في الاقتناء، في الحفظ كما في التنافس عليها. فلقد غلب على الدرس الأوروبي (والأميركي) للجانب الجمالي إسقاطات وضرورات متأتية من صراعات الخطاب الأوروبي على تحديد »الفن« وتعريفه وتشريعه بالتالي، ومنها الجدل القديم والدائم - أكاد أقول - في الخطاب الأوروبي (والأميركي) حول تحريم التصوير في الإسلام. وهو جدل، بعيداً عن التحقق التاريخي من هذه المسألة، ينطلق أساساً من امتناع الأوروبي عن تصور صورة غير الصورة التمثيلية، بل ينطلق أيضاً من تقيد الأوروبي بمفهوم للفن يجعله في »الصورة«، وفي مبدأ »المحاكاة« حصراً. فكيف العمل؟
القرآن أساساً للفن
تفيد الأخبار أن الخليفة معاوية (-680 م.) كان يرسل من الشام، عاصمة خلافته، قافلة إلى البصرة، مدينة الفقهاء والعلماء، لكي يتيقن من حسن تفسير أحد الأحاديث النبوية، فيما تفيد أخبار القرن التاسع عشر أن أكثر من خليفة عثماني طلب، بل تباهى بتعلم أصول فن الخط. هذا ما لم يكن غريباً من حاكم حكم بقوة الشرعية المستندة إلى الديانة الإسلامية؛ وهو ما يمكن أن نتوقعه، إن لم نتثبت من أخباره، في أكثر من ممارسة وصنع وتفكر في تجارب المجتمعات الإسلامية. ويمكن لمتتبع أخبار الجماعة الإسلامية الأولى، في عهد الخلفاء الراشدين، أن يتحقق من أن القرآن الكريم أصابته، بعد الانتهاء من جمعه في "كتاب" في عهد الخليفة عثمان بن عفان، عناية فائقة في إخراجه إلى المسلمين، وتوزيعه على الأمصار. وهي عناية تكاد أن تكون العملية الفنية الإسلامية الأولى، إذا وضعنا جانباً العمليات المعمارية الأولى التي جرى بموجبها »تحويل« بعض الكنائس إلى مساجد، أو إلى بناء بعضها في صور مبسطة توافق شعائر الديانة الجديدة.
إلا أن هذه العناية تتعدى الالتفاتة إلى كتاب أو مسجد لتشمل ضروب الحياة المختلفة، بما فيها من إنتاجات وسلوكات وقيم، لها أن توافق وتستلهم منظور الديانة التوحيدية؛ وهو ما يمكن التحقق منه في "متبقيات" مختلفة من هذه العهود البعيدة. غير أن ما يسترعي انتباهي في لزوم العلاقة بين الدين والفن، بل بين القرآن تخصيصاً والفن، هو أن الدارسين لم يولوها الأهمية الحاسمة التي لها، بل أولى بعضُهم الشأنَ السياسي، أي تعاقب السلالات الحاكمة في الأمبرطورية العربية-الإسلامية، اهتماماً يزيد على البعد الديني نفسه. بل يبدو هذا الفن في عدد كبير من الدراسات أشبه بفن استقى أشكاله وصوره وهيئاته من سجلات شكلية وحسب.
يتحدث غير فيلسوف، مثل الفارابي وابن سينا وغيرهما، عن »المحاكاة« أساساً لغير صنيع فني، فيحتفظون بهذا المبدأ المستقى من التفلسف الإغريقي لتعيين أنواع فنية، إلا أنهم يبتعدون عنه كذلك في تعيين غيرها: يتحدث الفارابي، في "كتاب الموسيقي الكبير"، عن الألحان فيجد بعضها شبيهاً بالمحاكاة التي تصيب التماثيل والتزاويق "على ما كانت عليه التماثيل القديمة التي كانت العامة فيما خلا من الزمان يعظمونها على أنها مثالات للآلهة". ويجد الفارابي ألحاناً أخرى لا توافق مبدأ المحاكاة، إذ أن "سبيلها سبيل التزاويق التي لم تجعل محاكاة لشيء بل صيغت صياغة لها منظر لذيذ فقط". هناك، إذن، "منظر لذيذ"، لا بفعل المحاكاة، وإنما بفعل آخر. ألا تعود "صياغة" المنظر "اللذيذ" إلى ما قاله الناقد عبد القاهر الجرجاني عن جمال "النظم"، أي عن بناء الجُّمل في الكتابة، إذ شبه الجملة الجميلة بعمل من "نضد (أي: جمع) أشياء بعضها على بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي (أي: ما تراه) العين"؟ ألا يعين الجرجاني بذلك عمل كثيرين في الفن الإسلامي، مثل المزخرفين وغيرهم، ممن جمعوا أشكالاً فنية، لم يطلبوا منها "أن تجيء له منه هيئة أو صورة"، أي انتفاء مبدأ المحاكاة الطبيعية؟
ذلك أن الفارابي مثل الجرجاني قصرا، بعد فلاسفة إغريق عديدين، مبدأ المحاكاة على الطبيعة نفسها، أي تمثل هيئتها، فيما يمكن الحديث عن محاكاة أخرى، لا تتأتى من هيئة أو صورة، وإنما تجتمع وحسب في "رأي العين"، ويحدث منها "منظر لذيذ". وهي محاكاة لنا أن نتحقق من وجودها في صناعات وإنتاجات إسلامية عديدة، وتجد أساسها المادي والجمالي والبنائي - على ما أقترح - في القرآن. فكيف ذلك؟
لم تعرف ديانة أو اعتقاد صلةً بكتاب، وبلفظه خصوصاً قبل معناه، مثل صلة الإسلام بكتابه المقدس. وهي صلة تعدت النطاق الديني والشعائري نفسه، لتتناول بنية هذا الكتاب نفسه، أي طريقة مثوله للناظر إليه، أي للقارىء. هذا ما نعرفه عن المعالجات التي طاولت هيئة القرآن منذ عهود مبكرة، وما أصابه في هيئته المادية من معالجات شكلية تناولت ترتيب السور، وتوزيع الآيات في فقرات، وما دخل إلى ألفاظه من حركات لتمييز بعض حروفه، فضلاً عن نظام الصفحة القرآنية، بين تنظيم للسور وتزيين لأطر الصفحة نفسها. وهو ما يجتمع في المنظور الجمالي - على ما أقترح - تحت تسمية: "الفصاحة"، إذ أنها لا تعين العناية التي أصابت اللغة العربية عموماً، وأساليب كتابتها وخطبتها وغيرها، وإنما عينت أيضاً عناية جمالية تتعدى اللغة نفسها لتشمل "الفن" ومفاهيم الجمال عموماً في التجارب الإسلامية.
والحديث عن "الفصاحة" حديث عن بناء "تقاليد" ومرجعيات يتم الاحتكام إليها، ما تمثل في العهد الأموي: في عمليات جمع اللغة وتقعيدها، والشروع في تعليم العربية ولأقوام غير عربية بدل اكتسابها التلقائي، وتصنيف الشعر الجاهلي في كتب ومختارات، ومنها "المعلقات" نفسها. وهو ما اجتمع تداوله في المجالس، سواء في البلاط أو بين العلماء، أو في منتديات خاصة بالمتأدبين. غير أن الحديث عن "الفصاحة" لا يعدو كونه تسمية لغوية وأسلوبية لما هو أبعد من ذلك، وهو الاحتكام إلى المرجعية الدينية، التي يمثل القرآن نواتها وعمارتها. فهو في أساس القراءة والتعلم، والمناظرة والتفسير، والفقه والحكم، والعبادة والجهاد وغيرها من أنواع الممارسات والأعمال والإنتاجات. وهو ما أجمله في قول سريع: القرآن نظاماً للمحاكاة. هذا ما نجده في نظرية "إعجاز القرآن"، وهي أعلى ما توصل إليه الفكر النقدي القديم، منذ الجاحظ وبعده؛ وهو إعجاز واقع - وإن ينطلق من "الكلام المنزل" - في "النظم"، في ضم أسباب الكلام بعضه ببعض، أي في ما يفعله الكاتبون أساساً وإن لا يصلوه.
هذا ما يمكن التحقق منه في مراجعة الأعمال الفنية التي أخذت من القرآن، ومن الكتابة عموماً، مادة لها: فالخط يستعيد مجمل سوَر الكتاب الديني، أو آيات منه وحسب، وصرف خطاطون وخطاطون لهذه العمليات والمعالجات مجهودات عديدة وتوليدية للخطوط بعضها من بعض، مثلما صرف دارسون لهذه المجهودات عنايات تحليلية مناسبة، بين تأريخ لها وتقويم لحسنها وشرح لطرقها. وما يستوقف في هذا الأمر يتعدى نشأة فن غير معروف في التجارب السابقة على الإسلام، بل نشأة فن إسلامي صرف ومبتكر، ليشمل مكانة القرآن، أو محوريته، في مجهودات وفعالية النشاطات والعمليات المختلفة التي أَقدم عليها كتاب وصناع وذواقة وغيرهم.
فلقد جعل بعض النقاد من تحريم التصوير العبادي أساساً بنائياً لهذا الفن، وخالفوا في ذلك غير واقعة في فهم أسسه: توجد في الديانات تحريمات تنهي عن هذا الأمر أو ذاك، وهو ما وقع في الديانة الإسلامية في التبعيد عن الوثنية تحديداً، إلا أنه لم يمنع ممارسات فنية غيرها، ومنها التمثيل الوجودي كما في المزوقة وغيرها. وإذا كان للديانة الإسلامية هذا "المحال" (l'impossible ) التصويري، فإن هذا النهي لا يكفي لتفسير الوجهة التعيينية التي وسمت الفن الإسلامي بهذه الهيئات والأشكال أو تلك. فممارسة الفن تقوم على اختيارات (وإن بدأت بممنوعات في نطاق يعينه)، وللفنانين أن يجدوا فيها أسباباً محفزة ومنشطة للفن (ذلك أن قراءة بعض الدراسات الغربية عن الفن الإسلامي تظهر بأن الفنان المسلم كان في وضعية المراقَب المقموع أو المكبوت دوماً، الذي لا يقوى على ممارسة التصوير التشبيهي، فإذا به "يتحايل" على الممنوع ويطوع خبرته الفنية في الزخرفة أو في الخط وغيرها، غير قادرين في هذه الكتابة - واقعاً - عن تصور صناعات وأساليب فنية غير التي عرفوها وجعلوها أساس الفن الوحيد).
فما يستوقف في مواد فنية إسلامية عديدة هو أنها تنبني وفق منطق كتابي، تدويني. هذا يصح في العلامات نفسها التي تنبني بها المادة الفنية: حروف، جمل، نصوص، أشكال هندسية أو خطية وغيرها؛ وهي تكاد تختصر وحدها - لو وضعت بعض الصور المزوقة التي ترد فوق الكتب أو بعض الجدران والأعمدة الإسلامية القديمة - العلامات التي ينبني منها العمل الفني. وهذا يصح أيضاً في "نظم" العلامات، أي في أشكال ضم بعضها إلى بعضها الآخر. ولو اتبعت هيئة هذه المواد الفنية لتحققت من أن لها سبيلاً نظمياً يتخذ وجهة الكتابة بالعربية، أي من اليمين إلى الشمال، وهو ما يستمر فوق السطح المادي للعمل الفني أياً كان تكوينه المادي: فالفنان يخط فوق السيف المذهب، وفوق الآنية، وفوق الجدار، وفي صورة متمادية، حتى أنه يقيس دائرة الآنية أو الصحن الذي يخط عليه بحيث يأتي المكتوب موافقاً لمساحة العمل فلا تنقص عنه أو تزيد عليه.
يقول ابن الرومي عن الخط:
له شاهد ان تأملته ظهرتَ على سره الغائب
وهو قول في الفن عموماً، إذ أنه فن التأمل في الشاهد (الأثر اللغوي، العلامة أو الشكل الزخرفي...) للوقوف على جمال الله الغائب. أي ان جمالية العمل الفني لا تقوم فيه إلاّ بوصفه شاهداً، أثراً، ظاهراً لباطن أجمل، ولحقيقة أنصع. لهذا يمكن الكلام، من جهة، عن حيز فني ينحصر في حدود الصفحة، أو في حدود القطعة الزخرفية، وعن حيز جمالي هو مجمل العمل الفني في علاقته بحقيقته الغائبة. فضاء فني، ولكن بعد أن بسطته يد الخالق: مكانه هو، لا يشاركه فيه أحد. ألا يقول الحلاج: "الخط أصله نقطة، فهو مجموعة من النقاط لذلك قلت: ما رأيت خطاً إلاّ ورأيت الله فيه"؟ وهو ما يمكن ترجمته بالمعنى التالي: أخط في كل مكان لكي يكون الله حاضراً دائماً. انه مكانه - مكانه هو، طالما أنه موجود في كل مكان، في الحيز، في الفضاء، قبل إنجاز العمل الفني وبعده، فيه وعبره.
يمثل العمل الفني بمثابة تدوين أو نقش على حامل أبيض؛ ولا خلفية له سوى البياض، سوى الفراغ، سوى المكان الكلي، أي الكون الذي ينتشر ويتمدد تبعاً لأبعاده الهندسية ومواصفاته المادية: فترى العمل الفني ينبسط مع الجدار المسطح، ويدور بشكل دائري مع العامود، ويتزوى في العمائر كما في التحف، وعلى سائر الحوامل المادية من خزف ونسيج وخشب ومعدن وحصى وحجر وفسيفساء وغيرها.
بسط الفنان القديم الوجود مثل ورقة، أو مثل جدار، وتأكد من وجود الله فيه في كل جوهر فرد، في كل مساحة، في كل فضاء. فن يملأ الفراغ، من دون أن يخلق إيهاماً بالمكان، أو إيهاماً بالعالم. فن يستولد طبيعة أخرى للطبيعة، ويُحسِّن ظاهرها أو يعرضها في أجمل صورها وهيئاتها. نقش وحسب، آثار كتابية وزخرفية وحسب، تبلِّغ غيابه... الحاضر، أو حضوره... الغائب.
الغلبة والترف
يقول ابن خلدون في »مقدمة« تاريخه: "ذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل المُلك قبلها كَثُر رياشُها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطيب ولبس الأنيق وركوب الفاره ويناغي خلَفُهم في ذلك سلفَهم إلى آخر الدولة وعلى قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية التي للدولة إلى أن تبلغها بحسب قوتها وعوائد من قبلها سنةُ الله في خلقه". يعاين ابن خلدون أحوال الأمم، إلا أنه يستند واقعاً إلى ما عرفه وقرأه من أحوال الأمة الإسلامية نفسها، بين ما كانت عليه في "بداوتها" وخشونتها في الجاهلية، وما بلغته في عهودها السياسية المختلفة من أحوال رغد وثروة وتمدن وغيرها. وهو بهذا المعنى يفتتح إمكانَ درس الفن بدرس الترف نفسه: فالربط قائم في منظوره بين الغنى المادي والتحسن الذي يصيب أحوال العيش الإنساني، بين مأكل وملبس ومسكن وزينة وغيرها. فبفعل الغنى المرتبط بالغلبة تبلغ المصنوعات حالات عليا من الجودة والأناقة وغيرها. فمن خلال ملاحظة أوجه المعاش نفسها يعاين ابن خلدون ويتحقق من وجود تمايز في الصناعات نفسها، بين ما تكون عليه في تلبية الحاجة وبين ما يمكن أن تصل إليه إذ تلبي احتياجات الترف والتمدن، بما فيه تأثرها وأخذها عن غيرها من الشعوب والأمم التي غلبتها واستتبعتها.
فما يستوقف الدارس، في تتبع أحوال الفن القديم، هو تناسبها الشديد مع احتياجات النمو والتوسع التي اقتضاها »الفتح« الإسلامي، إذ عاشت شعوب وثقافات وأمم في نطاق جديد، واحد، وفق تنظيمات إدارية وسياسية، وعمرانية بالتالي، فضلاً عن أن الديانة الجديدة اقتضت في شعائرها وممارساتها وطقوس إدارتها السياسية والدينية إعادة تعيين وتحديد جديدين للمكان، لوظائفه، وللاحتياجات فيه، سواء في السكن أو التنقل أو التسوق أو التعلم أو غيرها. اجتماع جديد، إذن، ولا يكفي، والحالة هذه، الحديث عن أن هذا المسجد "استعار" عاموداً إغريقياً في بنائه، بل الحديث عما اندرج فيه هذا العامود وعما لباه من احتياجات في البناء، وعما ظهر عليه في هيئته الفنية الجديدة.
هذا ما نعرفه عن وظائف العمران الجديد (المواقع المخصوصة بالقصر والمسجد والسوق، ومواقع السكن بالنسبة إليها) في المدن المبنية حديثاً، في الكوفة تحديداً، ثم على نطاق أوسع وأشد تبلوراً مع بناء مدينة بغداد في العهد العباسي. وهو ما نعرفه في نطاق "الدواوين" الحكومية، وما طلبته من ممارسات بعينها، من خط ومسك دفاتر حسابية، وما اقتضته المراسلات نفسها، باسم الخليفة أو الوالي، من أنماط كتابية، فنية تليق باسم صاحبها وتبرز بأدوات الفن مكانته: فالخط العربي، بقدر ما احتاجه القرآن الكريم نفسه، اقتضته كذلك صورة السلطة لنفسها، ولعلاماتها الدالة عليها.
فكما تحدث ابن خلدون أعلاه، أخذت الدولة الإسلامية الناشئة من الشعوب والثقافات والفنون المادية التي غلبتها ما احتاجت إليه منها، وفق ضروراتها وتطلعاتها، وتعاملَ الفنانون والمهندسون والصناع وغيرهم مع ما غنمته شعوبهم مثل مواد للعمل، ناقلين أحياناً، ولا سيما في العهود الإسلامية الأولى (في بعض فنون العهد الأموي)، أشكالاً وهيئات فنية معروفة في هذا الفن أو ذاك (من بيزنطي وفارسي وإغريقي وغيرهم) إلى السياق الإسلامي.
هذا ما نقله ابن المقفع في كتاب عربي، »كليلة ودمنة«، عن الأدب الفارسي، نقلاً عن الأدب الهندي. وهذا ما نقله مهندسون ومزخرفون فوق جدران »الجامع الأموي الكبير« في الشام، أو ما فعله غيرهم في مسجد عقبة بن نافع في القيروان. هذا ما اعتمده كتاب أقباط في دواوين الحكم، قبل أن يتم »تعريب الدواين«، أي جعل الكتابة عربية فيها، ويتولاها عرب بأنفسهم.
بهذا المعنى يمكن الحديث عن الفن الإسلامي بوصفه أقوى وأوسع صيغ الفن »المعولمة« في زمانه، بعد أن أخذ واستوعب وحور وجدد أساليب قديمة ومجربة في البناء والزخرفة والخط والوشي وغيرها عند شعوب وثقافات وفنون عديدة: ففي بناء المسجد والقصر شيء من الكنيسة والقصر الروماني، وفي الآنية ورسومها شيء من صناعة الصين، وفي تزويق صفحات القرآن شيء من تزيين الأناجيل البيزنطية، وفي أنواع الزخرفة المختلفة، الكتابية أو الهندسية أو اللاحقة بأوان وأدوات وغيرها، أشياء من زخارف فارسية وقبطية ورومانية وغيرها. إلا أن الجديد في أمر هذه التعالقات هو أن الصيغ الفنية الجديدة، الإسلامية، حلت بدورها مكان صيغ الفن التي أخذت عنها، وفي بلدانها. وهو ما بلغ، ولا سيما في العهود العباسية، حداً عالياً من التبلور الناجز، بحيث يصعب على الدارس تفكيك العمل الفني، وإعادته إلى شيء من الأصول والصيغ التي أخذ منها، بل باتت صناعات الفن الإسلامي وليدة نفسها، بهذا المعنى.
لهذا وجب ربطُ درسِ الفن بدرس الترف الإسلامي نفسه، وباحتياجات الفئات النافذة والمتنعمة فيه من علامات ملكية وظهور علني لهيئتها، تبرزها وتميزها عن غيرها: ان قراءة كتاب "الأغاني" وحده تفيد في الوقوف على أوساط وأحوال اجتماعية، دالة على التمدن وصنوفه، وتنعقد حول الخليفة أو الوالي، مثلما تنعقد في "مجالس" الخاصة كذلك. هذا ما يمكن الانتباه إليه، منذ العهد الأموي، في ما كان ينعقد حول الخليفة من جلسات شعرية، أو بين الشعراء أنفسهم في ما بينهم، أو في بيت إحدى المغنيات أو أحد العازفين. هذه الجلسات كانت "مغلقة" ومحصورة العدد، إلا أن أخبارها كانت تتنقل عبر الشهود أو الرواة وغيرهم، ما جعلها حلقات متقطعة ومتصلة في آن، يتم فيها نقاش أشكال الاستحسان (أو الاستقباح) بين أعضائها، والتي لا تلبث أن تنتقل وتعمم إلى غيرها، إلى الغائبين عنها تحديداً، مما يجعل منها أحكاماً ذوقية معممة. بل بلغ الأمر نطاق الأفراد أنفسهم، ونطاق الجمال الطبيعي نفسه، بدليل أن مصعب بن الزبير (647-690 م.) أتى بأحد الشعراء إلى حيث تقيم زوجته الجميلة، عائشة بنت طلحة، وقال له: "أَفتدري لِمَ أدخلناك؟«، فأجابه الشاعر بالنفي، فقال له مصعب: "لتُحدث بما رأيت". ويحفل كتاب "الأغاني"، الذي استقيت منه هذا الخبر، بأخبار واسعة تفيد عن احتياج أفراد مختلفين إلى تبليغ ما يملكونه أو ما يتمتعون به من جمال أو ثروة، أو صوت جميل، أو شعر ساحر، إلى غيرهم، عبر الشعر تحديداً، بوصفه أداة الذيوع الاجتماعي الأكثر اعتباراً وقيمة.
فما نجده في جمال الأشياء المصنوعة من مواد نفيسة وصنع حاذق وأشكال مبتكرة، نجده في سلوكات الأفراد أنفسهم، في طلبهم الشديد على الظهور الاجتماعي المتميز، والذي يتمثل في الزي والعطر والأكل والسكن مما تحفل به الكتب والأخبار القديمة، ولا سيما في العهد العباسي. بل بلغ تدفق الترف حداً، كانت تختار فيه إحدى المتنعمات النوم على قبول إحدى الجواهر الفريدة: فقد نقل كتاب "الأغاني" عن مصعب، المذكور أعلاه، أنه دخل يوماً على عائشة بنت طلحة »وهي نائمة متصبحة ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقالت له: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ«. بل يحار العائد إلى قراءة هذه الكتب القديمة في معرفة أنواع الأقمشة والأثواب والعطور والسيوف والجواهر وغيرها التي تذكرها، والتي تنسبها إلى بلدان منشئها العديدة، ولا يحسن هذا القارىء نسبتها إلى ما هو معروف منها حالياً، بل يجد أنها أوسع منها بكثير.
لهذا وجب البحث، إذن، عما بين القرآن والتمدن من علاقات ضمن التجارب التاريخية، وفي أحوال المجتمعات المعنية. فلا يكفي الحديث وحسب عما أوجبه الدين الإسلامي من شعائر وعبادات وممارسات أو من أبعاد روحانية، وإنما عما أوجبه التمدن نفسه، وبدوره، من عادات وسلوكات وصراعات وعلامات. فلا يستقيم الحديث عن الدين من دون الترف الذي لازمه في السياق الاجتماعي والتاريخي، وبين الشعوب والجماعات والأفراد. كما لا يستقيم البحث في فنية هذا الإنتاج أو ذاك من دون ملاحظة التقاطعات بل التشابهات في المعالجات، التي تصيب في الوقت عينه ما هو خاص بإنتاجات الدين وما هو خاص بإنتاجات الدنيا أيضاً. بل يستطيع الباحث، إن شاء، أن يقيم نوعاً من المقارنة اللافتة بين إنتاجات متباعدة، مثل كأس ومخطوط وسيف وآنية وغيرها، فيجد أساليب المعالجة متقاربة، إن لم تكن واحدة في بعض الأحوال. فما يقوم به الخطاط فوق ورقة يقوم به المهندس فوق جدار في مسجد، بانياً بذلك جمالية الورقة ونسق السطر. وهو ما يستعيده بدوره صانع الأواني والسيوف وغيرها تبعاً لأشكالها وأحجامها. فما يجمع ويفرق بين هذه الفنون المختلفة؟ أهو فن واحد ولكن فوق حوامل مادية مختلفة؟ أهي فنون مختلفة، ولكن مشتركة في بعض المفردات والمعالجات؟ وما يعين "الفن" أساساً؟ وما الذي يميز بين "الفن" وغيره من الأعمال البشرية؟
نظام الفنون
يتحقق العائد إلى كتاب كَنط الشهير، "نقد ملكة التذوق"، من أن الفيلسوف وصل وقطع بين أنظمة مختلفة لترتيب الفنون عموماً، ولا سيما في النطاق الأوروبي، إذ استعرض فنوناً، مثل تنظيم الحدائق أو المحادثة الصالونية، أو اللوحة الزيتية والتمثال، في سياق كتابي واحد: غير أن هذا التوقف عند هذه الفنون لن نجده مجموعاً عند غيره بعد هذا التاريخ، وسنجد نظام »الفنون التشكيلية« يتقدم على نظام "الفنون الجميلة": وهو ما أطلقُ عليه تسمية "عهد الرسم" الذي بات القيمة العليا في نظام الفنون. وهي قطيعة أخرى بعد غيرها، تلي سقوط القسمة القديمة (التي راجت في "عصر النهضة" الأوروبي) والمميزة بين "فنون يدوية" (arts mécaniques ) و"فنون حرة" (arts libéraux ). ذلك أن الفلاسفة والفنانين، مثل الذواقة والمقتنين، تنازعوا حول ترتيب الفن، وحول تشريعه، فأسقطوا فنوناً ورفعوا من غيرها.
ولقد ناسب الدرسُ الأوروبي للفن الإسلامي، منذ أواسط القرن الثامن عشر، قيامَ الصورة نمطاً أعلى للفن في أوروبا، وهو ما يمكن الانتباه إليه منذ كتابات المؤرخ الألماني جون جواشيم وِنْكلمن (Johann Joachim Winckelmann )، (1768-1717)، الذي جعل من درس الرسم أساسَ درس الفن. وهو ما نتحقق منه في عدد من قواميس الفن، التي راجت منذ مطالع القرن التاسع عشر، والتي تذمر واضعوها من توجيهات الناشرين، ومن طلبِهم إدراج مواد الموسيقى وغيرها من "الفنون الجميلة" في مداخل القاموس، فيما كان واضعو القواميس يرغبون في تخصيص القواميس للرسم ومشتقاته الفنية، تحديداً وحصراً. وهو ما يفسر تحكم هذا العهد، »عهد الرسم«، بمنظور درسِ "الفن الإسلامي": هذا ما قصر دارسيه الأوروبيين على معاينة مواد من دون غيرها من الإنتاجات الإسلامية، وهذا ما جعل التقويم الجمالي محصوراً، هو الآخر، بهذه المواد الفنية من دون غيرها. ولكن ماذا تقول الكتابات الإسلامية القديمة في نظام الفنون، أو في »تصنيفها«؟
إن العودة إلى الكتب العربية القديمة، ولا سيما كتب "تصنيف العلوم"، تظهر عدم وجود علم أو عدة علوم مختصة بالفن، أو بـ"الحسن" (أو الجمال)، فيما خلا حديث "إخوان الصفاء" في "الرسائل" عن "صناعات الزينة والجمال"، التي تشمل الصناعات المترفة خصوصاً، من إنتاج الحرير والديباج والعطر وما شابهها. ولو بحثنا في هذه الكتب عن مواد وتحاليل تتناول »الفن« كما نعينه اليوم، أو في القرون السابقة، مثل تعيينات "الفنون الجميلة" و"الفنون التشكيلية"، لوجدنا أن ما يناسبها من فنون في الثقافة المادية القديمة متوزع في علوم وفنون مختلفة: ففي كتاب للكندي (وهو من أوائل المصنفين العرب)، "كتاب ماهية العلم وأقسامه"، يصنف الموسيقى والهندسة في باب الرياضيات، وهو التصنيف عينه الذي اعتمده الفارابي والخوارزمي وابن سينا والغزالي وغيرهم. كما يتحدث الفارابي وابن سينا عن "صناعة التزويق" أو عن "الوشي"، ولكن من دون أن يدرجا هذه أو تلك في علم أو فن بعينه.
يمكننا أن نعدد الأمثلة، عند هذا الفيلسوف القديم أو ذاك، إلا أنها كلها تفيد أنه كان للصناعات المختلفة، وللعلوم التي تدرسها، أنظمةُ ترتيب وحساباتُ اعتبار مختلفة في تلك العهود القديمة، عدا أن ثقافة تلك العهود، مثل معايير التقويم (بين استحسان واستقباح)، كانت تصرف جهودها وتفكيرها إلى صناعات وقيم، وإلى استهدافات مرجوة أو متوخاة منها، هي غير الاستهدافات التي تحرك هذه الثقافة أو تلك، في عهود أخرى، مثل عهودنا الحالية. وهو ما يحتاج إلى عرض وشرح مطولين يظهران، من جهة، المكانة المتواصلة لـ»الصورة« في التراث الإغريقي-الروماني، ثم المسيحي، بلوغاً إلى الصورة الزيتية، الصالونية الطابع، ابتداء من "عصر النهضة" في أوروبا، ويظهران، من جهة ثانية، وفي سياق المقارنة عينها، أن "الصورة" لم تحظ بمثل هذه العناية في التجربة الإسلامية، لحسابات عبادية (النهي عن عبادة الصور والتماثيل الوثنية)، وأخرى اعتقادية وفلسفية، إذ تقع الصورة في أدنى الهيئات والأشكال المحسوسة التي يمكن التعويل عليها في بناء المعرفة بالمقارنة مع العلويات والمجردات.
احتياجات واستهدافات مختلفة ومتغيرة، من دون أن يكون الفن غائباً، ولا تذوق الجمال معدوماً. ففي الوقت الذي يتم فيه القول بعدم وجود نظام لترتيب الفن في الثقافة العربية-الإسلامية القديمة، لا يمكننا إغفال أن هذا الفن بأنواع مختلفة وعديدة، كان موجوداً في تلك المجتمعات، في سلوكات الجماعات والأفراد، وإن لم يحظ بعناية كتابية قوية. فالقصور والدور الفاخرة والسيوف الساحرة والكتب المصورة والأواني الجميلة والأقمشة والأثواب الباهرة والمصاحف الشريفة الفتانة وغيرها مما يتم حفظه، اليوم، ومما يثير إعجاب الملايين من البشر، تم صنعه وامتلاكه والتنافس عليه في تلك العهود القديمة. ومع ذلك، لا نجد في الكتابات القديمة سوى نبذات قليلة عن المسجد الأموي الكبير في دمشق أو عن قبة الصخرة في القدس، فيما لا نعثر أي كلام عن "مزوقات" (منمنمات) الواسطي الذائعة الصيت... هذا فيما نجد آلاف الصفحات في شرح قصائد المتنبي، أو مئات الآلاف من الصفحات في الأحاديث النبوية...
فروق وحسابات متغيرة، إذن، عدا أن قلة العناية (فضلاً عن فقدان مخطوطات ومخطوطات قديمة)، بصناعات وسلوكات لا تعني بالضرورة عدم عناية الجماعات والأفراد بها، في الممارسات والعادات. ويزيد من حدة التباين هذا أن ما ندرجه، اليوم، في تسمية "الفن" (و"الفنون") كان يندرج في غالبه في تسمية "الحرف والصناعات"، وهو ما أدرجَ له غير فيلسوف قديم باب في تصنيفاته. إلا أنه باب يقع في أدنى مرتبات المعرفة في ثقافة كانت تسعى إلى بناء نظرية للمعرفة-الحق، تجمع فيها بين التوحيد والتجريد، أي الابتعاد عن التفرق والتبعثر في أصول المعرفة وعن الحسي المضلل والمشوه لكينونة الموجودات.
ولو كان لنا أن نطبق على الجمال الإسلامي ترتيباً للفنون يناسب المقترحات الأوروبية في درس فنونها لكنا وجدناه في قسمة الفنون بين يدوية وحرة، لا في ترتيب "الفنون الجميلة"، ولا في "الفنون التشكيلية" خصوصاً. ذلك أن العائد لدرس الماضي الإسلامي، في كتاباته المختلفة، يتحقق (على مل درست في أحد كتبي) من وجود نطاقين من الممارسات والإنتاجات، ومما يلحقها من أحكام وتقويمات، يمكن تلخيصها في التمييز بين الشاعر والصانع اليدوي. فالشعر لا يرقاه أي فن في عالم العرب كما في عالم الإسلام، ولا يدانيه أي اعتبار: هذا يصح في الإقبال عليه وتداوله بين البلاطات وبين الوراقين، وهذا يصح في تذوقه والحكم عليه، سواء في كتب التفسير والجمع لمواده وشعرائه، أو في الاحتكام إليه في تقويمات وأحكام تطلب الجودة والتميز بين الصناعات البشرية المختلفة. وهو ما يمكن قوله في الغناء، الذي بلغ منذ العهد الأموي شأناً عالياً في الإقبال عليه، بين تخصص أفراد به وتميزهم فيه وإنتاجهم لأساليب مخصوصة فيه، وبين انتظام حلقات الاستماع إليه، سواء في البلاطات والمجالس أو في أمكنة احترافية وفي عروض مخصوصة، يرافق الغناءَ فيها العزفُ والرقص أحياناً، على ما تحفل الأخبار عن ذلك في مجلدات »الأغاني«. واللافت في فنَي الشعر والغناء هو اجتماع الكلام عنهما في كونهما عملين شديدَي التميز لدرجة نعتهما بأوصاف وأفعال الجن تحديداً. فكيف نميز بين صناعة وصناعة؟ وما الذي يجعل من صناعة ما فناً؟ وما يجمع ويفرق بين الفنون؟
وجب التمييز، بداية، بين ممارسات مختلفة في الصناعات عموماً، بين ممارسات تطلب الحذاقة في إنتاجها، فضلاً عن غنى موادها نفسه في بعض الأحيان: التمييز بين سيف مبتكر الصنع ومزين بأحجار كريمة وبين سيف عادي، إن جاز الوصف. وهو تمييز يقع في مجمل الصناعات، إلا أنه يبلغ في بعضها درجات عليا من الصنع الحاذق، فضلاً عن إقبال المتنعمين والذواقة عليه، أي على أنواع محددة وأكثر من غيرها فيه: هذا ما يصح في إنتاجات زينة المرأة (حلى، عطور، زي...) وزينة الرجل (سيوف، خواتم، زي...): هذا ما اجتمع في أحد كتبي في لفظ "الشارة"، العربي القديم، ومعناه »اللباس والهيئة الحسنة«.
إن أنواع الصناعات هذه معروفة في غالبها منذ العهد الجاهلي في الجزيرة العربية، إلا أنها بلغت تنوعاً ودرجات تفنن عليا في التجارب الإسلامية، خاصة وقد دخلتها تأثرات ومعالجات متأتية من فنون شعوب أخرى. وهو ما يمكن قوله في المأكل والمشرب والمسكن كذلك، أي في كل ما يوافق عيش الإنسان، وظهوره، وتذوقه لأطايب الحياة. هكذا ازدان الإنسان، مثل محيطه وأدواته، بمسحة من ترف مزين؛ وهو ما أجمعُه في العهد الإسلامي في نطاق »فن المتاع«، أي الفنون والمعالجات اللاحقة بكل ما يمكن للإنسان أن يملكه ويقتنيه، لنفسه أو لبيته، لعيشه كما لظهوره.
كما وجب التمييز كذلك بين صناعات مادية، »عادية« أو حاذقة (مثلما ذكرت للتو)، وبين صناعاتٍ غيرها، "عقلية"، إذا جاز الوصف. أي وجب الحديث عن صناعات ذات طبيعة أخرى، وذات مواد مختلفة، تحتاج في إنتاجها إلى قدرات العقل والمخيلة والعاطفة، وإلى خبرات الثقافة بمعناها الاختصاصي الضيق: فما يدعو للتعجب والدهشة في زي جارية، أو في »طلة« أحد الفرسان، هو غير التعجب والدهشة في مجلس أو في بلاط عند سماع قصيدة أو لحن أو عند رؤية قرآن مزوق وغيرها. هنا الحواس تشترك في تذوق الكتاب أو القصيدة وغيرها، مثلما تشترك الحواس في تذوق جودة الصنع أو غرابة الشكل وغيرها في الصناعات المادية الحاذقة، إلا أن الحواس تستدعي في تذوقها للصناعات "العقلية" إلى معايير استحسان (واستقباح) ذات حمولات ثقافية اختصاصية، وقد تم التنافس حولها وتقعيدها في أوساط مهنية ضيقة تنعقد دوراتها، قبل الكتب ونقد النقاد والفلاسفة، في البلاطات والمجالس والمنتديات.
هذه الصناعات "العقلية" عُرفت في الجاهلية، إلا أنها بلغت في العهد الإسلامي مكانة متبلورة، رافقتها وعززتها صناعة الورق نفسه منذ مطالع العصر العباسي. فقد اجتمع للصانعين العقليين حامل مادي (الورق المأخوذة صناعته من الصينيين)، حافظٌ في صورة مستديمة لإنتاجاتهم؛ بل عزز توافرُ هذا الحامل المادي حفظَ الأخبار والنقاشات وبلورة المعايير بين أهل المهنة نفسها: هكذا نجد في عداد الوراقين خيرة الكاتبين، من الجاحظ إلى أبي حيان التوحيدي. وهكذا نشأت علاقات خصبة وجديدة، بين نقل الأخبار الشفوي وبين تدوينها، وبين التدوين نفسه وبين التفكير في الكتابة نفسها، وبين المجالس والاجتماعات وبين تأليف الكتب، وبين مصادر التأليف (من نقل ومعايشة) وبين فسحة الكتاب الداخلية بوصفها مكاناً للتحاور والتنافس.
وقد يكون فن الخط خير علامة دالة على التغيرات الجديدة التي أصابت الفنون والصناعات في العهد الحضاري الجديد، إذ أن الخط كان معروفاً في نطاق ضيق ومحدود في الجاهلية، ثم بلغ مع ديانةٍ لها "كتاب" وفي "لسان عربي مبين"، ضرورات جمالية، فضلاً عن ضروراتها العبادية والتعليمية والثقافية. ففي الخط تجتمع الممارسة اليدوية (بكل ما تطلبه من مهارات وخبرات وتقنيات) بالممارسة العقلية (بكل ما تطلبه من قراءة وثقافة وذائقة)، كما يجتمع المادي بالروحاني، والشاهد بالغائب. وبالخط اجتمع القرآن بممارسات المتأدبين، فضلاً عن متاع المتنعمين. ولقد بلغ فن الخط حدوداً عالية في التميز الأسلوبي تُشبه ما عرفه الشعر والغناء، قبله ومعه، ولا سيما في تفرعه إلى أنواع وأساليب ومعايير لإبداء الحكم والتقويم. بل يمكن التحقق من وجود نظام جمالي متشابه بين هذه الفنون المختلفة، إذ قامت على أنماط مسبقة (البحر ونوع القصيدة في الشعر، الصوت ونمط الغناء في الغناء، الكتابة ونوع الخط في الخط)، ينطلق منها الفنان في عمليات تأليف، وتجعل عمله يقوم على الاتباع والتجديد في آن، بما يتيح تقيده بمعايير أسلوبية وجمالية، من جهة، وإجادته فيها وتميزه فيها، من جهة ثانية. هكذا يقع الفنان - لو طلبتُ مقارنته بالموسيقي - بين واضع الموسيقى وبين مؤديها، بين زرياب وغيره من العازفين، أو بين بيتهوفن وهربرت فان كاريان.
هذه العلاقات بين النمط الجمالي والفني السابق وبين الأداء تَحكمُ أيضاً علاقة الباني بالبناء، إذ يقوم عمله، من جهة، على التقيد بوظيفة البناء وبأشكال متبعة فيه ومستحسنة، ويقوم، من جهة ثانية، على التحسين والتنويع ضمن القواعد المتبعة.
يمكن التحقق من وجود هذه العلاقات بين النمط، أو "التقليد"، وبين "الأداء"، في هذه الفنون، وفي غيرها أيضاً، مثل الصناعات اليدوية، إذ أخذ صانع السيف بما كان يفعله صانع الآنية، واستحسن بدوره أشكالاً ومعالجات موجودة في هذا المصنوع أو ذاك (ما يتمثل، على سبيل المثال، في الزخرفة وغيرها). وهذا ما يمكن قوله في "فن النثر" أيضاً، إذ بلغ في العهد الجديد مكانة عالية، وعرف تفنناً في أسلوب الصياغة شبيهاً ومتأثراً بما عرفته الغنون الأخرى، لا العقلية وحسب، وإنما المادية أيضاً، مثل الزخرفة تحديداً: طلب كاتبو النثر المجيدون نمطاً إيقاعياً للجملة وللجمل فيما بينها، علي سبيل المثال، مستقى من السجع، المعروف في الجاهلية، ولكن المتأثر أيضاً بإيقاعات الشعر والغناء وبفنون الزخرفة أيضاً، بما فيها من أنسقةِ توالٍ مبتكرة ومتشابهة في آن.
غير أن ما يميز فنون الشعر والنثر والخط والغناء والبناء عن غيرها، خصوصاً عن الفنون المادية واليدوية، هو أن الفنون المذكورة بلغت في أخبار فنانيها، وفي نقد إنتاجاتها، وفي تبلور معايير الحكم على جودتها، حدوداً عليا، ما اجتمع في تمييزها عن غيرها بالتالي. وهذا ما يمكن التحقق منه في كتب الماضي الفني، إذ أنها متفاوتة القيمة والحجم بين هذه الفنون وتلك، بين كثيرة عن الفنون العقلية وقليلة عن الفنون المادية واليدوية. وهو ما يظهر أيضاً في المواقع المتباينة التي حظيت بها هذه الفنون أو تلك في كتابات الفلاسفة والعلماء، إذ جعلوا "الحرف والصنائع" في أدنى الصناعات، وهي التي تناسب الفنون المادية واليدوية، كما أطلقتُ عليها.
الرفع من الجمال
غاب أعلاه أي كلام عن الصورة، وعن فنها، سواء في الرسم أو في النحت؛ بل يبدو الكلام أعلاه غريباً لمن اعتاد، بين عربي ومسلم وأجنبي، على النظر إلى الفن القديم ضمن نطاق "الفن الإسلامي" وحسب، ما يدعو إلى طرح السؤال: أنتحدث عن الفنون عينها؟ أنستبدل فنوناً بفنون؟ أنُسقط فنوناً ونُعلي من غيرها؟
قد يكون الحديث عن الصورة مدخلاً مناسباً، ومؤجلاً كذلك، للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، بعد أن تحولت الصورة إلى قضية نزاعية، قديمة ومتجددة، في النظر إلى هذا الفن القديم. وهي نزاعية في كتابات الأوروبيين، ثم الغربيين، قبل أن تكون في جدل المسلمين أنفسهم، على ما تحققت ودرست. ففي كتابات أوروبية عديدة، من كتابات الحجاج والرحالة الأوروبيين و"المذكرات" التي وضعها دارسون لبعض الملوك في أوروبا حول "خزائن" وعادات وسلوكات السلاطين العثمانيين، إلى نصوص التأريخ والنقد الأوروبية الأولى، استوقفت الصورةُ فضولً هؤلاء الكتاب. هذا ما يفسر نقلهم لأخبار عن "كراهية المسلم" للصورة، وهذا ما سعوا إلى تفسيره بالعودة إلى أحاديث نبوية، أو إلى تفسيرات فقهية وغيرها، قبل أن يتوقفوا، ولا سيما في كتابات القرن التاسع عشر، مدققين ومحققين في وجود الصورة فوق حوامل مادية في إنتاجات إسلامية قديمة: هكذا كانت الصورة الإسلامية مشبوهة أو مشكوكة الوجود، وإن جرى بعد وقت التحققُ من وجودها، وتم درسُها كذلك.
لهذه "الشبهة" أسباب عديدة، يتأتى بعضُها من الفن القديم نفسه، حيث حار الدارس الأوروبي بين معرفته عن نهي الإسلام عن التصوير العبادي وبين تأكدِ الدارس (والمقتني قبله) من وجود صور إسلامية في مخطوطات، وفوق جدران عباسية في سامراء، أو فوق أوان فاطمية وغيرها. ويتأتى بعض هذه الأسباب كذلك من تعامل الأوروبي مع هذا الفن، مواد وتفسيراً، إذ تحكمت به اعتيادات وأحكام حددت الفن، ولا سيما في سياسات الذواقة والمقتنين، بل ربطته بالصورة. وهو ما اشتد خصوصاً في "عهد الرسم"، كما سبق القول، الذي وافق في سياسات المقتنين الأوروبيين منذ أواسط القرن الثامن عشر، وقبل الفلاسفة والنقاد، الإقبال القوي على اقتناء اللوحة الزيتية (فضلاً عن التمثال والمحفورة وغيرها).
فلقد طلب الأوروبي، التاجر قبل الدارس، اللوحة الزيتية أو شبهَها في السياق الإسلامي، ولم يتأخر، بعد تحققه من قلتها، عن إنزال غيرها (من الفنون المادية واليدوية التي تحقق من توافرها الكثير في المجتمعات الإسلامية) في مراتب الفنون "الدنيا" أو "التطبيقية": كان في مقدور هذا الأوروبي - وقد عرف الصورة من الجدارية إلى اللوحة - إيجاد أسباب تربط فنه بالفن الإغريقي-الروماني، لا بالفن الإسلامي على أية حال! ولهذا أقبل الأوروبي على شراء مواد إسلامية عديدة، غير مبال بما كانت تندرج فيه من معان وقيم وترتيب للفنون نفسها، ولا سيما في عهود كان يلتحق فيها الدارس الأوروبي بالمقتني، بل يخدمه كتابياً، ويوثق مقتنياته ويروجها واقعاً، قبل أن يجعلها في عهود أخرى محل درس قائم بذاته. فماذا عن علاقة الصورة بالفن تعريفاً؟
يفيض المجال في هذه المقالة عن تتبع ودرس المسار الذي اتخذته الصورة في النظر الفلسفي الإغريقي، وعن تتبع ودرس المسار الذي بنت عليه دراسات أوروبية مفهومَها للفن وللصورة منذ "عصر النهضة". وهذان مساران مختلفان، إلا أن عملية "الإحياء" الأوروبية أوجدت أسباب صلة واستمداد بينهما، فيما همشت وأسقطت من حسابها الجمالية الإسلامية وغيرها، التي انبنت وفق معايير أخرى، لم تكن الصورة في أساسها، بل "مكروهة"، صنعاً وتفلسفاً. وهو اختلاف في اللحظة التاريخية، بما تطلبه من مواد وتفاسير لها أن تبني عليها أو أن تتجنبها وتحط من قدرها. ووجب البحث بالتالي في هذه اللحظة التاريخية على أنها مصدر سوء الفهم والتشكيك والتبخيس التي أصابت الفن القديم، ولا سيما في منظوره الجمالي: كان في مقدور الدبلوماسي والتاجر والذواقة الأوروبي شراء مواد إسلامية بعينها، من دون أن يطلب نسبتها الجمالية بالضرورة، ما جعل هذه المواد، في عدد من الأحوال، »متروكة« لظاهرها المادي والشكلي وحسب، من دون أية قيم مزيدة لاحقة بمعناها أو بجماليتها. وهذا ما لم ينجح الدارسون، بعد المقتنين، في إيجاد أسباب تفسيره المناسبة، بما فيها علاقة الصورة بالفن. فما يمكن القول فيها؟
أقبل الدارسون في الغالب على تفسير "كراهية" العقيدة الإسلامية للصورة بكراهيتها، بل بمنعها للتمثيل الوثني، في الصورة أو في التمثال وغيرها. وهو تفسير مقبول طبعاًَ، إلا أنه لا يكفي لتفسير كراهيةٍ امتدت مفاعيلُها إلى الخطاب نفسه بعد الصنع، وإلى خطاب المتكلمين والفلاسفة المسلمين فضلاً عن خطاب الفقهاء. فلقد اجتمعت، انطلاقاً من القرآن، أسباب موقف فلسفي وجمالي، لا عبادي وحسب، أدى إلى تبعيد الجمال عن الحسي والملموس، وإلى رفعه صوب المجردات والكليات، بل إلى جعل الله "الجمال بعينه": فوفق المنطوق القرآني الله ليس جميلاً، والجمال ليس »صفة« له، وإنما هو الجمال متعيناً. هذا ما اجتمع في جدل المتكلمين المسلمين حول "الصفاتية" و"التنزيه": هل يمكن وصف الله بصفات جسمانية وغيرها أم وجُب تنزيهه عن أي وصف؟
ان هذا الجدل، الذي انتهى إلي تأكيد المنزع التنزيهي في النظر، رقى الله ومنع الاقتراب منه بما فيها تصويره، ومنع أيضاً تقريبه إلى عداه بما فيها تشبهُه بغيره. وهي ترقية وجدت في الخطاب الفلسفي الإغريقي ما مدَّها بأسباب أخرى، غير عبادية، موصولة بتحديد نظرية المعرفة. فالمتابع لإسهامات علماء وفلاسفة مسلمين عديدين يتحقق من أن خطاباتهم جعلت من الحس (بما فيه الرؤية بالعين) أدنى مرتبة في نظام المعرفة، ومن الصورة علامة مضللة لمعرفة الوجود نفسه، فكيف بالماوراء! وهو تنزيه نجد أسبابه الأولى في الخطاب الإغريقي، إذ شهد هذا الخطاب، منذ أمبيدوكل على الأقل، تبعيداً لصورة الله عن أي صورة بشرية: البحث عن "فكرة" الله لا عن صورته. وهو ما تمثل في النظر الأفلاطوني في جعل "عالم المثل" مصدراً لما بلغه الوجود من نسخ "متدهورة" عنه.
ان انشغالات الفكر أو الفن متغيرة، إذن، وتتعين باحتياجات مختلفة، تاريخية، لنا أن نبحث فيها عن الجمال، وعن القيم والمعاني التي يختزنها ويدلل عليها. فالجمال أعلى من أن تبلغه عين، وأن تحدده صفة، وأن يتعين في هيئة بعينها، وأن يكون مصنوعاً بالتالي. وهو ما لم يبلغه الجمال في تعيينات دينية واعتقادية وفلسفية سابقة عليه؛ وهو بهذا المعنى ذهاب أبعد في "التبعيد" الإغريقي يبلغ حد القطيعة الناجزة معه، ويمثل في تاريخ النظريات الجمالية مكانة غير مسبوقة لـ"الجمال" و"الجمالية". لهذا يمكن القول بأن الظاهر الجميل الذي تبدو به إنتاجات الفن القديم، ولا سيما المادية واليدوية منها، لا يتأتى من حذاقة الصانع وحسب، ولا من نفاسة المواد فقط، وإنما يتأتى أيضاً من باطنٍ ماورائي، هو مصدر الجمال تحديداً.
جمال الباطن، جمال الظاهر، إلا أنه جمال تاريخي أيضاً، شمل شعوباً عديدة، وطوال قرون وقرون، تزيد على 13 قرناً، ما يعد في حد ذاته عهداً فنياً مديداً قلما عرفته الحضارات والفنون المعروفة. وهي فنون لم تنقطع مع سقوط السلطنة العثمانية، بل تجدد بعضها واتخذ حوامل مادية جديدة له، مثل اللوحة والرسم والمحفورة والمنحوتة وغيرها. فالعائد، اليوم، إلى فنون رائجة في بلدان إسلامية وعربية عديدة، يتحقق من أنها استعادت صلة حية ببعض مصادر هذا الفن القديم، وأمدته بالتالي بأسباب بقاء وتجدد.
(بناء لتكليف من "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم"، كتب داغر هذه الدراسة لتقديم الفنون في الثقافة العربية، خصيصاً للكتاب التعريفي الخاص بمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، حين حل العالم العربي في العام 2004، ضيفاً عليه؛ ولقد استعاد في هذه الدراسة قسماً من دراسة: "الأساس اللغوي للفن الإسلامي": نشرت في الكتاب "منارات الثقافة العربية" المخصص للمعرض الدولي).