شُوفْ
محمد المليحي

"وخُيِّلَ أنه ساكن، وهو يتحرك": أستعيد وأستعير هذه العبارة القديمة التي تعود إلى مؤلف نسيت اسمه، وإلى كتاب لا أذكره، للحديث عن فضاء محمد المليحي، بعد أن وجدتُ فيها ما يكفيني. تكفيني في ألفاظها، واحداً واحداً، وفي العلاقة القائمة بين أطرافها؛ تكفيني مثل مفتاح في بوابة، يذيع عطر الدار قبل الوصول إلى حديقته.
فأول ما يبادرك في لوحة المليحي هذا الشعور الملتبس، المتداخل، بين السكون والحركة: فأنت تخال، أحياناً، كما لو أنها لوحة متصلة، واحدة، موصول بعضها ببعض، حيث أن "الموجة" تتردد من شاطىء إلى آخر: الموجة عينها وهي غيرها في كل مرة. وهو ما قد يصح أيضاً في اللون، حيث أنه في لوحة المليحي يتعين في "عائلة"، في "مناخ"، من الألوان المشرقة، بل "الصارخة"، مما يوقظ العتمة على حين غفلة، مثل نور صاعق.
هذا ما يلتبس في خيال الناظر العجول، إذ أن لوحة المليحي تتعين في التحرك، في التبدل، في رواح ومجيء لا ينقطعان بين الأشكال، بما لا يسمح بتتبع سير خط واحد فيها. فالشكل فيها – وهو الخط – يتلوى وينساب بما لا يقبل حساباَ ولا توقعاً؛ إنه تسرِّي الخط (كما في غبش الليل) عن شكله، مثل تسرِّي الرغبة عن مباهجها الغامضة. وفي ذلك لا يحسن الناظر إلى اللوحة معرفة ما إذا كان الخط شكلاً أم رسماً أم لوناً، بل يمكن التساؤل: هل الشكل لون؟ هل اللون شكل؟ هل الشكل رسم؟ وهو سؤال يقع في صلب ما يُرسم، وفي صلب ما نرى؛ أي يتعين في كيان أبجدية التشكيل. وهي أبجدية يتداخل فيها ويتلابس خط الزخرفة الإسلامية، أو خط "الزليج" المغربي، مع خط الرسم قي التصوير الغربي. وهو التلابس عينه الذي يصيب الناظر إلى لوحة المليحي: إذ في ما يدخل إليها يخرج منها، على أن يدرك لاحقاً أن البوابة هي عينها: للخروج كما للدخول. وهو ما أسميه بـ"التنافذ"، حيث ان المليحي توصل منذ أربعين سنة ونيف إلى صناعة بوابة يدخلون فيها إلى روما، وواشنطن، وباريس، من دون أن يخرجوا من أصيلة، أو من فاس، أو من مراكش.
هذا الفن يثير أسئلة عميقة فيما يتعدى المدارس والأساليب، ولا سيما بين التجريدية والتشبيهية، إذ يتناول الفن في حقيقته الأبعد، وهو أنه مثول مرئي، قبل أن يتخذ هذه الهيئة أو تلك، أو يتقيد بها من دون غيرها. هو مثول مرئي، بما يتيحه من تردد بين الشكل واللاشكل، بين العلامة واللطخة، بين الهيئة والمسحة اللونية.
وهو ما يدهش في البساطة الظاهرية التي لهذه اللوحة، إذ تبدو هينة مثل رسم زخرفي لطفل يتعلم "تلوين" الفراغات المخططة والجاهزة، فيما هي شديدة التأليف، تحيل على مرجعيات مختلفة، ولكن بعد طول تأمل ونجاح في التوصل. ذلك أن مسيرة المليحي لا تتوانى عن التبدل (بدليل أعماله الأخيرة)، من دون أن تتغير في مبناها، ولا في ما تقوم عليه، وهو حصيلة توصلات المليحي، في معايشة الفنين، الإسلامي والغربي، بل في معايشة ما لم يتوصل إليه "رواد" التصوير العربي قبله. فمثال المليحي نادر بين أقرانه، المغاربة والعرب، إذ لم يتقيد بمنهج مدرسة واحدة، هي مدرسة الاستشراق التي تعلم فيها مع تقنيات اللوحة أساليبها المتبعة في هذا البلد تحديداً (مثل تأثير المدرسة الفرنسية على فناني لبنان وسوريا، على سبيل المثال، أو تأثر الفنانين العراقيين بالوحشية والتكعيبية)، بل نهل المليحي من مدارس عديدة، ودرس في أكثر من واحدة منها، بل خرج – وهذا هو الأهم في تمييز تجربته عن أقرانه – إلى محترفات الفنانين وإلى تعاليم الفن في الحياة، ولم يتقيد بدروس الأكاديميات وحدها.
هذا التنقل الذي كان له في دراسته وخبرته الفنية، بين درسه في مدريد، بعد تطوان، وفي روما (بعد العام 1957)، وفي باريس (1960-1961)، وفي نيويورك (1962-1964)، وفي محترفات عديدين، بما فيها اختلاطه في تجارب تجديدية هنا وهناك، كان مصدر غنى له، لا بلبلة، بل كان مصدر معاينة وتفكر وتأمل. هذا ما أتاح له "توصلات"، هي من معين الفكر الفني بقدر ما هي من معين الخبرات التقنية في التدبر والمعالجة.
غيره وصل إلى "لقيا" تشكيلية، مثلما يتوصل عالم الآثار في تنقيباته، فيعوض عن تعب البحث المضني وغير المجدي أحياناً بما اكتشفه، بما عثر عليه. أما المليحي فلم يعثر، بل وجد، أي عمل وتوصل وبنى: ففنه، أو معادلته التشكيلية، ينبىء عن هذه الأبجدية التي انتهى إلى تأليفها. وهي أبجدية تصلح لأكثر من لغة، ما يتيح للمغربي أو للعربي أو للفرنسي أو للأمريكي أو للياباني، أن يتعامل معها، من دون غربة أو التباس. وأشد ما يغري في هذه الأبجدية هو أنها تساءل عميقاً مباني التشكيل بوصفها مباني الصورة: ما اللون؟ ما الشكل؟ ما الخط؟ ما الحدود بينها؟ ما يفصل هذا عن ذاك؟ ألا يكون هو ما يقيم صلتها به؟ ألا يفيد النظر أبعد من الرذاذ في عميق الموج؟
ذلك أن تجربة المليحي في التشكيل ترسم على طريقتها ما سبق لي أن قلته في الحديث عن "الحدود": "حيث تُقام الحدود ليس المكان الذي يفصل بيننا، بل المكان الذي يتيح لنا أن نتلامس". فهذه اللوحة تشير إلى حدودها بوصفها ما يحددها، لا ما يغلقها، وهو ما يفتحها على غيرها، في آن معاً. تشير إلى "مغربيتها" بوصفها "إسلاميتها" بالمعنى الحضاري الفني (فيءما جنح غيره إلى "أفريقيتها" أو غيرها من ملامح التنوع الحضاري في المغرب)، فيما تتعامل بيسر مع لغة الشكل الغربي، سواء أكان يحيل على تجربة إيطالية أو أميركية.
بهذا المعنى عاش المليحي عصره، ويعيش فيه، وبفعل فيه. وهو ما يجعله أكثر من مصور، وأكثر من "رائد"، إذ هو "معلم"، وفق كلام القدماء، سواء الإسلاميين أو "النهضويين" (الأوروبيين)، أي ممن يقود عملاً ثقافياً يتعدى اللوحة ويشمل فنوناً مختلفة، يكون فيها الملهم والموجه والصانع الأول. ومن يستعيد ما فعله المليحي في المغرب تحديداً يتحقق من دوره الكبير، حيث يمكن اعتباره معلم "ثقافة الصورة" فيها. هذا يتعدى دوره الريادي، إلى جانب الشرقاوي وبلكاهية وشبعه وغيرهم، في تمكين فن التصوير من أسبابه في المغرب، ليشمل دوره في التثقيف الفني (مجلة "أنتكرال" وغيرها، و"منشورات شوف")، فضلاً عن عمله التأسيسي لتظاهرات ثقافية وفنية عديدة (من جمعية الفنانين المغاربة إلى "موسم أصيلة" وغيرها)، وصولاً إلى دوره المجدد في فن التصوير الفوتوغرافي (بما فيه فن الملصق الدعائي، أو الانتخابي وغيرها)، ما يجتمع في ما أطلقه في تجربة "موسم أصيلة" تحت شعار: "الثقافة في خدمة التنمية".
ذلك أن المليحي فهم أن التشكيل ليس ممارسة تقنية، أو حرفية، وإنما هو قبل كل شيء عملية ثقافية وجمالية بالضرورة، ما يصلها، لا بالمالك وحده، أو بصاحب صالة العرض، وإنما بالأهل والزنقة والجدار وغيرها.
(مقدمة معرضه الاستعادي في طنجة، صيف العام 2007).