تعرفت على شربل داغر أواخر السبعينات من القرن الماضي عندما جاء تونس، مبعوثا من مجلة "الوطن العربي" لكتابة تحقيقات ثقافية، وأذكر أنه أنجز ملفا هاماً عن الشعر التونسي، متمثلاً في «جماعة القيروان». بعد ذلك بفترة قصيرة التقيت به في باريس، وتوثقت صلتي به في السنوات اللاحقة، خصوصاً بعد ان أقمت في المانيا. ولعل ذلك يعود إلى أن اهتماماتنا كانت مشتركة، وما كان يجمعنا حقاً هو حبنا للكتب، وللشعراء والفلسفة، والفنون التشكيلية التي كان شربل داغر ولا يزال خبيراً فيها. وفي التسعينات من القرن الماضي، عاد شربل داغر ليعمل استاذاً في "جامعة البلمند" اللبنانية. وما يتميز به شربل داغر هو تعدد الاختصاصات. فهو شاعر، وناقد أدبي، وناقد فني، وباحث في مجالات متعددة، وأكاديمي مرموق، ومترجم، نقل إلى العربية العديد من النصوص الهامة (...).
في هذا الحوار الذي أجريناه معه، يتحدث شربل داغر عن مسيرته الأدبية والأكاديمية، وعن اهتماماته المتعددة، وعن الشعراء الذين يحبهم، وعن قضايا أخرى.
* شربل داغر، الصحفي، الاكاديمي، الشاعر، الروائي: بماذا نبدأ؟
- نبدأ من حيث تشاء. ففي الحقيقة سُئلت عديد المرات عن أفضل لقب أستحسنه أو أختاره لنفسي، وذلك لأنني متعدد الاهتمامات والكتابات، ففضلت لقب "الكاتب" لأن الكتابة عندي كل شيء، وأعني بعبارة "كل شيء" ذلك الطموحَ الذي لا زلت أسعى وراءه، خاصة وأن المفاهيم القديمة المتصلة بالكاتب أطمح مع غيري إلى تجاوزها، وإلى جعل الكتابة خصيصة إنسانية وليست وظيفة ديوانية فقط. عدا أن الكتابة تعني لي على المستوى النظري، إذ أنني أعتبرها أعلى وأشمل الأجناس الأدبية التي أكتبها ويكتبها غيري، بمعنى أنها تمثل النظام الأعلى المعرفي والفني الذي تنحدر منه جميع أنواع الكتابة بين شعر وسرد.
* هل هذا هو المعنى الكلاسيكي للكاتب الموسوعي الذي يجمع بين معارف متعددة ومختلفة؟
-هناك صلة وطيدة بين تعدد كتاباتي وخاصة مع كتاب عصر "النهضة" حيث إنني، سواء من حيث الدرس أو في بعض الهوى والميل، أفكر وأسعى مثلهم إلى لملمة وجمع وفحص القديم من ثقافتنا، وإلى التفكير في العديد من مسائل الحاضر. وهذا يمثل أوفق علاقة مركبة بين التأصيل، من جهة، ووضع الثقافة العربية في منظور تاريخي والانفتاح والتمرس بأنواع الخطاب في العلوم الإنسانية، من جهة أخرى، كما صنعته ومارسته تجارب البحث الأوروبية. بهذا المعنى أعتبر أن جزءاً مما أكتب على الأقل يندرج في خدمة العموم، كما كانوا يستحسنون القول في عصر "النهضة"، أي إحداث فصل وقطيعة بين ما كان عليه الأدب القديم المعروف بأدب "الخاصة"، وما يتضمنه كتاب عصر "النهضة" من اهتمام وإلمام بالعلوم، وهو عبارة عن مدخل تاريخي واضح لانتاج ما نسميه اليوم بـ"القارىء".
* كنت قد تحدثت عن استحضار القديم الذي تجلى في مختلف كتاباتك؟
- لقد تعلمت من أستاذي الراحل محمد أركون الدرس الأهم، المتمثل في ضرورة خروج العرب والمسلمين من تاريخهم الخاص والتبجيلي لتراثهم صوب الفهم التاريخي له. وهو ما أسعى إلى العمل وفق منظوره، سواء في مجال الفنون الإسلامية، أو في إعادة الدرس الذي أجريته من خلال عدد كبير من كتبي المتعلقة بعصر "النهضة". فكما تعلم إنني السباق في الكشف عن أول رواية عربية للكاتب اللبناني خليل الخوري حيث تعود إلى سنة 1859. كما سيصدر لي قريبا كتاب بعنوان "القصيدة والزمن: الشعر العصري"، الذي أعيد فيه الكشف عن حقبة مطمورة من تاريخ التجديد الشعري، والتي أعتبرها العتبة التكوينية لما سيكون عليه الشعر العربي في عقوده التالية، وصولاً إلى تجاربه الحداثية الأخيرة. وهو المسعى عينه الذي أجريته في كتابَين أرخت فيهما البدايات ظهور "ثقافة الصورة" في العالم العربي، ما تعين خصوصا في بروز اللوحة الزيتية، واعتماد الفنانين والذواقة لها منذ القرن التاسع عشر. بالاضافة إلى أن لي مشاريع اخرى تتناول التراث، من جهة، والقرنين الأخيرين، من جهة ثانية. ويمكن أن أكشف عن جانب واحد من مشاريعي المتمثل في شعر أبي نواس وابن الرومي لدراسة ما أسميه عندهما بـ"أدب العين".
* بدأت مسيرتك الأكاديمية بأطروحة عن الشعر العربي، فماذا عنها وأهم ما جاء فيها؟
- هذه الاطروحة أعددتها تحت اشراف الأستاذ محمد أركون في «جامعة السربون الجديدة - باريس الثالثة»، وكانت تحمل عنواناً اآخر غير الذي صدر عليه الكتاب. فالصديق الشاعر «محمد بنيس» هو الذي اقترح علي اصدار هذا الكتاب، بعد سماعه ما تردد من آراء إيجابية حوله من قبل أعضاء لجنة التحكيم، فاقترح علي اعادة كتابتها بالعربية ونشرها في كتاب. وهو ما حصل بالضبط في كتاب: "الشعرية العربية الحديثة: تحليل نصي". وقد عرفت حينها انها اعتُمدت في عدد من الجامعات العربية، فأصبحت تدرس لطلبة الجامعات في الدراسات العليا حتى أن طبعتها الأولى نفذت منذ السنة الأولى من صدورها. وما اخبرني به بعض الزملاء في الجامعات هو ان الطلبة وجدوا فيها منهجا وطرقاً اجرائية مفيدة لهم في درس القصيدة الحديثة من الناحية العروضية والايقاعية والنحوية والدلالية... كما استوقف الدارسين لهذا الكتاب الفصل الأول منه خصوصاً، الذي حمل عنوان «الشكل الخطي للقصيدة العربية الحديثة» "La forme graphique"، اذ كان هذا المبحث جديداً في تناول القصيدة، حيث أنني تعاملت معها بشكل بصري، فنظرت الى الشاعر أيضا بوصفه فناناً يوزع الألفاظ والجمل والمقاطع فوق الصفحات الطباعية التي باتت أشبه بالحامل المادي للتشكيل عنده.
* لو تخرج من الاطار الأكاديمي لتحدثنا عن شربل داغر كشاعر والشعراء الذين أحببتهم؟
- استوقفني منذ أيام الغلاف الأخير لمجموعتي الشعرية الأولى «فتات البياض» اذ كتبت فيها مقطعاً تعريفياً للمجموعة أوردت فيها كلاماً عن رغبتي في الخروج من «أسلوبيّة قصيدة النثر»، وهو واقع عملت عليه أحيانا من دون وعي وتصميم. فمنذ تجاربي الأولى أحسست بلزوم التخطي. كما أنتسب الى جيل تبع مباشرة جيل الرواد في هذه القصيدة. بهذا المعنى اعتبرت، خاصة في اندفاعة الشباب والمراهقة، أن تخطيهم شيء من مهمتي بمعنى ما. وهذا في الحقيقة لم يكن خيار غيري، ولكنه خياري، ولا يزال. ويجب القول صراحة أنني حينها كنت أعتمد تسمية «قصيدة النثر»، فيما لم أعد اليوم أستعملها بل أقــول «القصيدة بالنثر». وهي في تقديري العــبارة الصحيحــة "Le poème en prose". فمجموعتي الأولى هي عبارة عن فتح فضاء الكتابة، وهو ما أسميه في ذلك المقطع التعريفي المبكر «الكتابة المتعددة». ومن يعود الى القصيدة الأساسية في تلك المجموعة الأولى سيلاحظ أنني أكتب السرد فيها من جهة، والحوار من جهة أخرى، فضلا عن عنايتي البصرية سواء في التشكيل الخطي للقصيدة أو في تخيل فضاء القصيدة نفسه. ومن يعود الى مجموعاتي الشعرية اللاحقة سيتحقق، على الرغم من التغيرات والتحولات، من أنني لا زلت أسعى الى التعدد، واستثمار القصيدة لنماذج مختلفة في التركيب والتخيّل. ومجموعتي الشعرية ما قبل الأخيرة بعنوان "ترانزيت" تشكّل تجربة متطرفة في بناء فضاء القصيدة على أدوات متأتية من المسرح والسرد والسينما وغيرها...
ويحركني، في هذا، ولعي الطفولي الذي أحافظ عليه في القصيدة، فيما أسعى الى تعطيله في البحث. كما تحركني أيضا قابليات هذه القصيدة، بمعنى أنها فضاء حرية بالنسبة لي، وأسعى الى استثماره بأقصى ما فيّ من قدرة ورغبة. ويزيد من اصراري هذا كون هذه القصيدة قد تحولت في السنوات الأخيرة الى قصيدة مكرورة، رتيبة، يقلد الشعراء فيها بعضهم البعض، ظانين أنهم يتمايزون ويتفردون فيما تشيخ بين أصابعهم.
* مَن مِن الشعراء الذين تحبهم قديماً وحديثاً؟
- مِن القدماء لا يمكنني أن أسمي شاعرا منهم، أو واحداً من بينهم، شاعري المفضل. كما يروق لي في الشعر القديم الانتقاء، بمعنى أنني لو طلبت التركيب أو البناء لوجدت في المتنبي، وأكثر من أبي تمام، شاعر التركيب الأول. ولو طلبت رقة القصيدة ومبناها البصري لاخترت ابن الرومي. ولو طلبت الموقف المجدِّد في الوجود كما في القصيدة لاخترت شاعرين نقيضين، وهما أبو نواس والمعري. ولو طلبت شاعراً في بناء الجملة والاستعارة لاخترت أبا تمام. أمّا بالنسبة للشعراء الحديثيين العرب فلا يزال الشاعر بدر شاكر السياب، كمجمل انتاج الشاعر، الأول بدون جدل. ولو عدت الى الشعر قبله لاخترت من دون تردد خليل مطران.
* حدثنا عن تجربة الرواية في مسيرتك الأدبية؟
- تمثل هذه التجربة مفاجأة لي، قبل أن تكون للقارئ. فمن يعود الى قائمة مؤلفاتي قبل صدورها سيجد أنني وزعتها على أربعة محاور، من دون أن يكون للسرد مكان بينها. ومن يعود اليوم إلى موقعي الالكتروني لن يجد فقرات خاصة بالسرد. هذا لا يعني أن روايتي لقيطة، بل هي وليد شرعي لم أتبناه. كتبتها وفق أسلوب كتابي غير بعيد عمّا كنت أتحدث عنه في القصيدة. فهذه الرواية تقوم على مبنى حواري من ألفها الى يائها، وهو ما استوقف نقاداً ونقاداً في درسها. وطبعا لا أخفي أن لهذه الرواية صلة بسيرتي الذاتية. فهي تروي واقع صعوبة الاعتراف في السيرة الذاتية، إذ أنك في أحيان كثيرة تجد بعضهم يتخذها وسيلة للبوح والحديث عن الذات، فيما هو قيد التشكل والمعاناة في مجتمعاتنا الصعبة. لكنني ما أردته منها يتعدى ذلك، اذ أن من يقرؤها ينتبه إلى أن موضوع الرواية يطاول شربل داغر الكاتب بحيث يصبح هو موضوع السرد، فيتساءل القارئ عن المتكلم... وهو ما يحدث شرخا ما في هوية السارد وفي هوية المتكلم. وهذا أمر طلبته قبل ذلك في القصيدة، حيث أنني منذ مجموعتي «فتات البياض» التي أتحدث فيها عن شربل نفسه وهو ما يرد في قصائد عديدة بمعنى أن المتكلم يقيم فصلا بينه كمتكلم وبين شربل داغر، وفي ذلك إشارة نقدية الى النزعة النرجسية، التي أجدها متضخمة في الكتابة العربية الحديثة. فالكاتب الحديث في بلادنا يبدو أقرب الى السلطان والزعيم أو الأمين العام للحزب، بينما تعلمت ودرست أن الحداثة هي هشاشة الإنسان. فهي ضعفه وليست عظمته، وهي هشاشته، وليست خطبته إلى الجمهور (...).
(جريدة "الصحافة"، مدينة تونس، 14-12-2010)