يظل الشاعر والباحث اللبناني الدكتور شربل داغر أكثر الكتاب العرب الذين أحقق معهم نوعا من التواصل الخلاق عن طريق "المحاورة"، سواء داخل كتاباته الشعرية ذات المنطلقات الجمالية والروافد المعرفية المتعددة، أم تأملاته الحفرية في درس الفن الإسلامي وتمثلاته داخل جماليات الفن العربي.
فشربل داغر ينتمي إلى فئة الكتاب العرب الذين يضربون بعمق في صلب الحداثة العربية شعرا ورواية ونقدا وفكرا، إذ إن نزوعه المبكر إلى هذه السياحة المعرفية لا تمليه فقط شروط وضرورات أكاديمية، بقدر ما يعود إلى الزخم التعددي الذي يطبع ذاته تجاه المعرفة وعوالمها.
ولأن الباحث حريص على الترحال بين الكتابة الأدبية والفنية (في شقها التاريخي) فهو يظل محافظا على منهجه الحفري في رصد المنطلقات والتمثلات والترسبات التي تختمر في عمق النصوص العربية قديما وحديثا.
لكنه هذه المرة يطالعنا بقعبة السارد الباحث في طفولته ومراهقته عن أسئلة حارقة أو صورة تلاشى ظلها، بين الإقامة في الجبل والنزوع إلى العيش في المدينة الذي اجتاحت عوالمه جسد شربل داغر وهو في مرحلة الشباب، قبل أن تمخر السفينة عباب البحر للسفر إلى فرنسا.
إنها يوميات لا تهتم بتفاصيل حاضر منكوب، وإن كان ذريعة لها، فهي تغوص في فتنة الماضي، لا لتنساه أيضا وإنما لتعيد بناءه غلالة شفافة آسرة.
لكن هذا السفر في ماضي الجسد لا يمكن أن يسلم من بعض المطبات الأليمة عن حقيقة الإنسان وجوهره وشرطه الإنساني أمام تحولات طالت الجسد والمدينة معا.
حاز داغر على شهادتي الدكتوراه في الآداب العربية وفي جماليات الفنون، وله عدة مجاميع شعرية، منها "القصيدة لمن يشتهيها"، و"حاطب ليل"، و"فتات البياض"، كما صدرت له رواية بعنوان "وصية هابيل"، وله عدة إصدارات بحثية، منها "العربية والتمدن.. في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة"، وبمناسبة الحفاوة بيومياته "الخروج من العائلة" الصادرة حديثا كان للجزيرة نت هذا الحوار الخاص معه..
الدكتور شربل داغر، بداية من الشعر إلى الرواية، ومن النقد الشعري إلى النقد الفني وكتابة أدب الرحلات، كيف تعيش هذا التعدد في جسدك شعوريا وكتابيا؟
أعيشه من دون إزعاجات كثيرة، اعتدت على أحوالي هذه، وهي أحوال أنساق إليها أو أتدبر لها مشروعات كتابية، ففي نطاق البحث أتبع مسالك وطرقا في النظر، سواء في درس الأدب أو في درس الفن، مما يقيم ترابطات أكيدة بينهما.
هكذا أستكمل ما كنت قد شرعت فيه، ويستتبع الكتاب البحثي كتابا سابقا أو يمهد لكتاب لاحق، هذا ما ظهر خصوصا في "تحقيب" الشعر العربي الحديث أو في التعرف المزيد إلى بواكير السرد العربي الحديث.
كما يظهر أيضا في مشروعات نظرية أو بحثية تدعوني -كما في كتابي الأخير "خارج القصيدة"- إلى توسعة النظر والتحليل في نطاقات درس لم تكن مشمولة بمساعي النظر السابقة، أو لم تكن كافية في حسابي.
أما في الشعر فالأمر مختلف، إذ إن له مسالك خافية تتعداني، وإن تشملني في نهاية القصيدة أو الكتاب الشعري، فالقصيدة قد تنطلق من لحظة، من لفظ أحيانا، فأجدني أتبعها فيما أتخير "ميلانا" ما، سواء للجملة أو لتدافع القصيدة، فأنا في كتابة القصيدة أشبه بالماشي في نومه، أي "المروبص" كما نقول في عاميتنا، أي من يمشي من دون أن يدرك أنه يمشي فيما يكون متنبها في واقع الأمر لحاله فقد يسير على حافة دقيقة من دون أن يقع، وهي حال القصيدة بين احتشاد عالي القوى والمدركات من جهة، وبين التسري في أحوال باطنية من جهة أخرى.
أما في كتابة الروايات فإنها مختلفة هي الأخرى، إذ تستدعي مقادير من التهيئة والتدبير ورسم المسارات، أي من حضور ملكات الروائي في كتابته، من دون أن يحتفظ مسار الرواية -وهو ما خبرته في أكثر من رواية كتبتها- بما وضعته له، ففي الرواية يكون الروائي أحيانا كمن يلعب لعبة التخفي مع نفسه، وإن يكتب رواية تاريخية على سبيل المثال.
هذا ما كان ليقوم عندي لولا اشتغال متماد في الأسانيد النظرية لكل نوع كتابي، فتدريسي الجامعي يمكنني من استبيان ما يقوم به غيري، وما ينبني عليه كل نوع في عوامله البنائية، مما يجعل خياراتي متاحة وصعبة في الوقت عينه.
أما دواعي هذا التعدد في شخصي فهذا ما عاد يشغلني كما قبل 20 سنة، إذ أصبحت أقرب إلى ورقة طافية فوق موج الكتابة، وهي ماضية في جريانها.
في صنف أدب اليوميات حاز كتابك في السيرة الذاتية "الخروج من العائلة" (2021) الذي سيصدر عن دار المتوسط على حفاوة من النقاد والجمهور، ما الذي يمكن أن تقوله للقارئ العربي عن هذا الكتاب وموضوعاته؟ وماذا كان يعني لك الخروج من بيت العائلة ؟
هذا العمل توخى الحديث عن سيرتي الذاتية بوصفها موضوعا للسرد، وكوني الشخصية التي يتمحور عليها هذا السرد، ولا سيما بين طفولتي ونهاية الدراسة الثانوية، فأنا أعود إليها، بين التذكر والتفكر، وهي ترسم مسارات وهيئات واحتمالات في تكوين النسب والهيئة، في ما يكون عليه التتابع العائلي أو التقطع فيه.
ما يمكن لقارئ الكتاب أن يتحقق منه هو هذا الميل المتعاظم في سيرتي إلى عيش مزدوج بين قريتي الجبلية والتقليدية وبين عيشي المديني في بيروت، حيث بدوت لنفسي ولغيري في عائلتي أكثر ميلا للابتعاد عما كان مرسوما لخطواتي في شارع الطفولة، أو لما كان يطلبه أو لا يطلبه أخي أو قريبي قبلي أو معي، ففي الكتاب سرد يتعدى علامات السيرة (الاسم، النسب، "الأحداث" الأساسية وغيرها)، ليشمل ما يمكن أن أسميه "هواء الأيام"، وفي هذا كله بدا لي أنني كنت أخرج من العائلة وإن عشت معها.
كما بدا لي أنني كنت أعيش في شارع التكوين، لكنني كنت أجنح أكثر فأكثر إلى شوارع وبيوت أخرى كانت تجتمع في انتقالاتي من دون رسم بيّن بالضرورة.
ينتمي الكتاب إلى صنف السيرة الذاتية، ومن المعلوم أن هذا الجنس الأدبي طاله الكثير من التهميش في فترات سابقة مقارنة بالاهتمام الملحوظ الذي بدا واضحا داخل بعض الكتابات الأدبية العربية في السنوات الأخيرة، أي صورة ترسمها لهذا الأدب بالنظر إلى تجربة كتابك الأخيرة؟
هذا صحيح، هذا يصح في كتابة السيرة وضعفها البادي في الكتابة العربية وقلة الاهتمام الدراسي بها، وهذا ملحوظ للغاية إذا عاد الدارس إلى آلاف الدراسات النقدية في السرد وإلى محدودية درس السيرة الذاتية فيها.
ولعل أسباب ذلك تتأتى من المحددات الاجتماعية التي يمتنع الروائي بموجبها -بوعي أو بتخطيط- عن مقاربة هذا النوع، بل يمكن ملاحظة كون بعض الكتاب يكتبون هذه السيرة أحيانا -معلنين أو مضمرين- كونها "سيرة ثقافية" فقط، بل يُقبل عليها البعض الآخر وفق ميل "تسويقي" لاسم الكاتب، لمكانته، إذ يبدو السرد الذاتي أشبه بمساع في التذكر تقوم على بناء "مكانة الكاتب" ليس إلا.
ما حدود التقاطع والتلاقي بين كتابة هذا النوع من الكتابة لدى كل من الأديب والمؤرخ؟
سؤال جميل ومناسب، إذ إن بين هذين النوعين صلات أكيدة، وهذا ما تنبه إليه ابن خلدون قبل غيره في "كتاب التعريف" الذي صرفه في سنوات عمره المتقدمة -على الأرجح- إلى كتابة ما كان يسمى "الترجمة"، أي سرد الذات، ولكن بوصفها ضبطا أو تثبيتا لانتقالات الكاتب بين الوقائع والبلدان والكتب.
أما ابن خلدون فقد تحدث في هذا الكتاب عن بعض أحداث حياته، ونقل إلينا خصوصا نصا مدهشا عن اللقاء الذي جمعه بتيمورلنك عشية استسلام دمشق للغازي.
فكتابة السيرة -كما أرى، كما أكتب- تلامس الكتابة التاريخية، في كونها تتبع خطى الفتى في مسالك الأهل والمدرسة والكتاب والحبيبة الأولى، مما يعني كونها خطى بدورها في الزمن الاجتماعي والتاريخي.
على مستوى المنهج، هل تعتقد أن السيرة الذاتية يمكن أن تخضع في شروطها وموضوعاتها النقدية لنفس مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية؟
السؤال دقيق، والإجابة تتصل بهوية الكاتب ومقاصده من السيرة، فعالم الاجتماع إذ يكتب أو يتحاور في سيرته -مثل كلودليفي شتراوس عالم الاجتماع على سبيل المثال- يختلف عما يطلبه كاتب مثل هنري ميلر أو جان جينيه أو جبرا إبراهيم جبرا في "البئر الأولى" وغيرها، ويريده من السرد.
وهذا يختلف معي، لجهة كوني أطلب السرد المشفوع بنظرات اجتماعية وتاريخية شفافة، ولكنني أسعى خصوصا إلى رسم مشاهد انفعالية، إحساسية، مثلما أذوق طعم الأيام في حلقي الكتابي.
ثمة الكثير من التجارب الشعرية العربية التي فتحت آفاقها الجمالية على مستوى الكتابة من خلال السيرة الذاتية ومواجعها فأعادت بذلك كتابة السيرة شعرا، ونفس الأمر حاضر بقوة في بعض أعمالك الشعرية الأولى، كيف ترى وتقيّم طبيعة اشتغال السيرة بين الشعر والسرد؟
سؤالك دقيق، وفيه متابعة أمينة وعارفة بما أكتب، وهو ما يصح في بعض كتبي الشعرية أو في بعض قصائدي، إلا أن هناك تعالقات أوسع، وتتعين في علاقة شعري بالسرد، وهو ما يمكن التحقق منه في غير كتاب شعري، وهو ما رصد له الدارس العراقي الدكتور محمد صابر عبيد كتابا يتناول تعالقات السردي بالشعري، وهو كتاب قيد الطبع.
هذا ينطلق -في ما يخصني- من خيارات نظرية أردتها لقصيدتي منذ كتابي الشعري الأول "فتات البياض"، وهي تقوم على انفتاح القصيدة على أنواع وأساليب كتابية متعددة مثل السرد، والحوار، والوصف، بل التمسرح أيضا، فتأخذ منها وتتفاعل معها، ولا تقتصر القصيدة بالتالي على الغنائية والغناء، ولا سيما الغناء ذي التوقيعات المستقاة إما من الغزل الوجداني التقليدي أو من "الشعار" السياسي الجماهيري.
في نفس الطرح، أي دور في نظرك يمكن أن تلعبه هذه اليوميات في إضاءة معالم تجربة شربل داغر الحياتية والفكرية؟
من المؤكد وجود تقاطعات أو نظرات متلاقية ومتعاكسة في هذا المسار بين الحياة والكتاب، إلا أن هذا متروك لغيري، ومنهم الدارس المغربي الدكتور إدريس الخضراوي الذي توقف غير مرة عند تعالقات مختلفة في كتابتي، بين سرد وتخييل ذاتي وسيرة وغيرها.
ألا ترى أن نقد كتب السيرة الذاتية بقي محصورا داخل الفضاء الأدبي، لكنه لم يقتحم جانب الرحلات الفنية الاستشراقية التي عرفها المشرق منذ أواخر القرن الـ19 وتستحق الكثير من الدرس الفكري والتحليل الجمالي؟
هذا صحيح للغاية، هذا ما قام به بعض الدارسين المغاربة في نقد أدب الرحلة عند بعض السفراء المغاربة في القرون الماضية في البلدان الأوروبية.
إلا أن هذا الدرس له أن يميز بين "الوثيقة" وبين الرحلة وبين السرد، فلا يخلط بينها مثلما فعل إدوارد سعيد حين ساوى بين وثيقة استخباراتية وبين واقعة في "رحلة" وبين تخييل في رواية، فهذه وقائع نصية مختلفة، لها مستويات مختلفة ومتباينة، سواء في التلقي أو في رسم سياسات أو في تنشئة المخيال الاجتماعي.
(الجزيرة نت، 22 كانون الثاني، 2021)