ينطلق المقال ابتداء من واقعِ حالٍ بات مكشوفًا، بعد بريق السنوات الزاهية حول "نهاية التاريخ" و"انفتاح الحدود" و"انكشاف الآفاق". لم يعد
يختلف اثنان في أن ما يتيحه حراك العولمة الجاري، إذ يبيح تناميًا في التواصل الآني وغيره، ينتهي، في حاصله، إلى تحكم مزيد بالتواصل، بين أطرافه ومضامينه.
ففي الحراك تتسع دوائر التواصل، ومعها دوائر التنميط أيضًا، إذ إن "الجماهيرية" الواسعة التي تتحصل، تقود إلى ما يمكن تسميته بالتحكم، من
جهة القادرين على إدارة التواصل وفق وسائله الحديثة؛ وتقود إلى ما يمكن تسميته، من جهة المبدعين، بالتسويق الميَسَّر والسريع. وهو ما يجعل السوق
يتسع، وتتحول مواد الإبداع إلى "بضاعات جماهيرية" قابلة للتلقف الانفعالي السريع.
ينطلق مقالي من سؤال الفن الراهن عما يفعله، فيتحقق مما يقوله الفن عن نفسه في دعاوى الفنانين لأنفسهم، وبين ما يندرج فيه عمل الفنانين في المجتمعات، بين المتحف وصالة العرض والبلدية والوزارة وغيرها، ساعيًا من وراء ذلك إلى استجلاء لحظة الفن: ولكن وفق اي خطاب؟ وفق أي مفاهيم؟ هل يكفي خطاب الجمالية في ذلك؟
هذا القول يتعين، إذًا، في التحقق من تصدع الجمالية كفلسفة، كمذاهب "عقيدية"، فيتنبهً إلى التعددية الثقافية والقيمية (لا النسبية) التي باتت تسم درس الفن أينما كان: هل يمكن الاكتفاء – والحال هذه – بمسألة بناء "معايير" وحسب للفن؟ أي معايير؟ ما يحددُها بحيث تكون متعينة وجامعة في آن؟ أليس للجمالية أن "تأتي بعد" وحسب، وأن تكتفي "بما صار"، لا بما
له أن يكون؟ أللجمالية أن "تتبع" حركة السوق وتجديدات التقنية؟
ماذا يفعل الفن راهنًا؟
لفظ جديد دخل الخطاب عن الفن منذ تسعينيات القرن الماضي على الأقل هو: "المعاصر" (contemporain)، وبات يتعين وحده أو إلى جانب اللفظ القديم: "الحديث". وكان استعمال هذا اللفظ الجديد إيذانًا بسقوط أي أمل بتجدد الحداثة نفسها، ما دام أنه قطعَ مع السلالة الحديثة ("حديث"، "عابر للحداثة"، "ما بعد حداثة" وغيرها مِما عاش عليه الخطاب منذ قرنَين على الأقل).
يبدو اللفظ في مبناه أكثر رسوخًا من سابقِيه، بل أكيدًا مِما يتحدث عنه.
إلا أن تحريًّا أوسع يفيد أنه لفظ "فارغ" بمعنى ما، أو لا يقوى على تحمل حمولات اعتقادية شديدة، وثقيلة بمعنى ما. فهو يشير وحسب إلى "الزمني المحايث"، أي إلى ما يحدث هنا وهناك، على أن ما يحدث هو وليد العصر الذي
يصدر عنه ويصبُّ فيه. وهي حمولة خفيفة إذا قورنت بسابقاتها، التي حملتْها الألفاظ الاصطلاحية الأخرى، حيث إنها كانت تشير إلى حمولات فلسفية
وإيديولوجية تحيل على القطيعة والتجدد والتقدم الشديد صوب أفق موعود.
وجب، إذًا، إعادة التفكير في "المعاصر" بوصفه مفهومًا يفضي إلى ممارسة، ويطمح إلى تخطي السباق المجنون الذي شهدَه المشهد التشكيلي منذ العقود
الأولى في القرن العشرين، التي انبنى فيها الفن وفق علاقة باتت لازمة بينه والمعتقد الفلسفي والإيديولوجي. هذا "اللزوم" بين الفن وصياغة معنى جديد (لتأسيس المذاهب والتيارات والموجات) تحدث عنه بيار بورديو في كتابه "قواعد الفن"، بل عيَّنه تاريخيًّا ابتداءً من عمل المصور الفرنسي إدوار مانيه. وما تحدث عنه بورديو قابلٌ للمتابعة والفحص في مجمل المذاهب التي تتابعت بعد الانطباعية، وحتى اليوم.
موجة "المعاصر" تُوقف هذا السباق، إن جاز القول، وتبطل كذلك "الآجال المستحقة" التي وعدت بها الحداثةُ غيرَها، إذ كانت هذه موعودة، وما لبثت
أن أصبحت معلقة أو مؤجلة في انتظار موجة أو تيار أو مدرسة حداثوية جديدة.
"المعاصر" أراحنا بمعنى ما من الانتظار، مِن توقعِ حدوثه السعيد... هذا الوعد الذي لن يأتي، على ما خبرنا في عصر بلغت فيه البشرية، على الرغم من جناتها الموعودة في خطاب الحداثة الإيديولوجي والسياسي، أبشع المجازر وأعمقها في تاريخ الإنسانية المعروف.
أوقف الحديث في "المعاصر"، أو ابطل بمعنى ما "الصعود الظافر" لخطاب الحداثة ومتعلقاته، إلا أن "حيادية" أو "برودة" خطاب "المعاصر" لا تخفيان – وفق ما سنتبينه في هذا المقال – انتظامًا بين ما يقوله خطاب الفنانين عن فنهم (ومعهم نقاد ومنظرون ومؤسسات عرض وغيرها) وما يقوله درسٌ
تداوليٌّ لهذا الحراك ذي الأسباب المعقدة في دوافعها وتجلياتها.
إلا أن لـ"المعاصر" حسنةً أو فضيلة، وهي التنبه إلى تغيرات أصابت المشهد الثقافي والفني والأدبي عمومًا، وما كانت الألفاظ الاصطلاحية السابقة تلحظُها أو تنصرف إلى رصدها ودرسها. ويستعين الدرس التداولي، في هذا الخصوص، بخطاب فلسفي (موصول بعلوم إنسانية أخرى)، يتعين عند: تيودور أدورنو، ووالتر بنيامين، ومارشال ماكلوهان، وأندريه مالرو وغيرهم، وقد استرعاها، بفعل معايناتها وتحققاتها، حدوثُ تغيرات عديدة وعميقة الأثر في
الدورة الثقافية عمومًا، ابتداء من التجربة الأميركية خصوصًا. وهو ما أجمعُه في الحديث عن "بضاعات ثقافية"، بدل الحديث السابق عن لوحة أو معرض
وغيرها، بألفاظ فخيمة و"راقية". وهو ما يمكن التنبه إليه أيضًا في بروز المؤسسات الثقافية، ولا سيما المتحف، كفاعلٍ في دورة التداول الفني، إذ ما عاد دورُه يقتصر على الوساطة وحسب، وإنما على التأثير المتمادي على ما "ينتجه" واقعًا بينما يعرضه.
الحديث عن "المعاصر" يعني – ضمنيًّا على الأقل – الحديثَ عن العولمة؛ بل يقول البعض إن الحديث عن فن "معاصر" لا يعدو كونه الحديث عن "عولمة
موفقة". فالمعاصر ما عاد يعني وجهة لازمة للحضارة، للتمدن، للفن، لأي إبداع، بل بات يعني التساوي والتبادل واحترام الجميع، بل قدرة الجميع على
صنع الفن العالمي: أبَلَغْنا الحرية فعلًا في فن العالم؟
هذا ما قامتْ عليه فكرة معرض "سحرة الأرض" بباريس في العام 1989، والتي حملت في عنوانها الفرعي: "أول معرض عالمي للفن المعاصر". تلافى منظمو المعرض حينها وضع لفظ "الفن" فيه، متنبهين إلى اختلافات تعريفات الفن وصيغه الملموسة من بيئة إلى أخرى... وأرادوا من "السحر" الحديثَ عن الأثر المدهش الذي تحدثه أعمال الفن في تلقيها. يقول جان-هيبير مارتين، قوميسير المعرض، في "الدليل": "إن السؤال الأساسي المطروح هو أن نعرف لماذا يتمُّ تفسير أشياء وتقديرُها ومحضُها القيمة وفق معنى جديد غير معناها، والذي أوجدناه لها. إذا نجحنا في رفع سوء التفاهم هذا، فإن نتائجه باهرة، ذلك أن الشيء يستعيد نوعًا من الحياة الثانية بعد أن نسبنا إليه أحيانًا معنى
ما كان له".
هذه "الحياة الثانية" هي - واقعًا – الحياة الوحيدة الممكنة في العولمة المتفاقمة في السنوات الأخيرة. وهو ما أستدلُّ عليه من خلال مؤشرَين:
- سوق الفن
- دور المتاحف والبينالات في إنتاج الفن، وليس في عرضه فقط، وعلى نطاق عالمي.
لو يتوقف المتابع عند أرقام المبيعات في العام 2006 (وهو ما يتوافر في صورة وافية قابلة للدرس والفحص) لتنبهَ إلى أن عائدات الفن بلغتْ في العالم ما يوازي 11 مليار دولار في المزادات العالمية؛ وزادت المعدلات 20 بالمئة عما كان عليه "انفجار" الأسعار الفنية "الهائل" في العام 1989.
ولو اقتربَ المتابع من هذه الأرقام لتبين له أن الارتفاع بلغ ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وأن الزيادات هذه أصابت مواد "الفن" بالنسب عينها التي أصابت المواد الأولية.
هذا ما قامت به المجلة البريطانية (Art review)، التي رصدتْ وجمعتْ وحللتْ معدلات الارتفاع هذه. ويمكن للمتابع أن يفحص دلالات أخرى تقع في
الاقتصاد السياسي قبل اقتصاد الفن نفسه، وهو أن بلدانًا جديدة في قوتها الاقتصادية (مثل الهند والصين وغيرها) باتت تظهر في سوق الفن كذلك، ما ظهر في مبيعات الفن الهندي، على سبيل المثال، حيث إنها بلغت 70 مليون دولار، ما تجلى في المزادات العلنية أيضًا في دبي في العام 2006... وهو ما ظهر مع بروز مقتنين جدد مثل الروس والصينيين والعرب (وإن بنسبة أقل).
إلا أن وجهة العولمة قديمة، لكنها تتعين في سرعة ووتيرة مختلفتَين عما كانت عليه في ظروف وسياقات أخرى، قد يكون الدليل عليها تواقت المعلومات
الواحدة أينما كان بخلاف انتقال المعلومة الذي كان يحتاج إلى مدد زمنية بالضرورة، وإن تسارعت.
بات على الفنان أن يرى إلى هذه الوجهة، وأن يعمل وفق مقتضاها لكي يكون في السباق على الأقل، فكيف إن طلب مواقع متقدمة فيه. يكفي المتابع أن يتابع
معروضات البينالات الكبرى، وأن يستمع إلى شكاوى أو تكيفات أصحاب صالات العرض لكي يفهم شيئًا من تغيرات هذا المشهد.
كان الطالب اللبناني أو المصري يحتاج إلى أن يأتي إلى باريس أو روما لكي يدرس قسمًا من تحصيله الفني، أما اليوم فقد يحتاج إلى الإقامة المستدامة
فيها... وهو ما يمكن للمتابع أن يلحظه، في البلدان العربية، غداة الحرب العالمية الثانية، بين ما كانت عليه من وعود ومشروعات في بناء حياة فنية سوية (من أكاديميات ومتاحف وصالات عرض وتشكل مقتنين وسوق محلية وغيرها)، وما آلت إليه هذه الوعود والمشروعات في العقود الأخيرة.
يقول جان بودريار في: "نهاية الحداثة، أو عهد الشُّبْهة": "لم تعد الحداثة موجودة: كلُّ شيءٍ حاليٌّ (أو راهن)"، لكي يمهد بذلك إلى الحديث عن "عهد الشبهة" [1]. ويستعير بودريار صُوَر "الهيبرمارشيه" (المجمَّع التجاري
الكبير، في الولايات المتحدة الأميركية) لكي يتحدث عن هذا العهد الناشىء؛ وهو عهدٌ أطاح بالقرية كما بالمدينة: إذا كان السوق يقع في وسطة البلدة
أو المدينة، وينبني وفق مقتضياتها، فإن "الهيبرمارشيه" هو الذي بات ينشئ "الجماعة السكانية". هكذا جعل من المجمَّع التجاري (الذي قضى على الدكان
والمؤسسة الصغيرة، والعلاقات الأليفة) وسيلة لتعيين علاقات متغيرة قوامها الاتساع والغفلية وغيرها.
لو شئتُ اتباع الصورة عينها لقلت إن المتاحف والبينالات الكبرى قضت على صالات العرض والمقتني الصغير والناقد والجمالي وغيرهم. كيف للخطاب
الجمالي أن يتكفل بالفن، بالعمل الفني، إن كانت الظروف التي ينبني فيها الفن قد تبدلتْ هي نفسها؟
ألنا، أن نكون على الشرفة، ومارين في الشارع، في الوقت عينه، مثلما قال أوغست كونت؟ أهذا ممكن؟ هل يقوى الخطاب على حفظ "المسافة" التي تحدث عنها بنيامين؟
ألنا أن نتحدث عن خطاب جمالي من دون أصل؟ أي أن يعترف الخطاب سلفًا ويقبل بكل أشكال الفن، وباحتمالاته؟ أللخطاب الجمالي أن "يأتي بعد"؟
سبق لي في كتابي: "العين واللوحة: المحترفات العربية"، أن أطلقتُ على الخاتمة تسمية: "خاتمة إشكالية"، وطرحت فيها السؤال منذ العنوان: "هل
"انتهت" اللوحة المسندية؟" [2]. وأردتُ من ذلك التوقفَ عند المسألة التالية: عالجتُ، في كتابي هذا، "توطن" اللوحة القماشية في البيئات العربية المختلفة، وانتهيت إلى طرح السؤال ما إذا كانت هذه اللوحة، إذ تتأكد في حضورها العربي المختلف الأوجه، تختفي وتندثر لصالح تجريبية متعددة الوسائل والحوامل المادية؟ وهو سؤال عن خروج اللوحة من التشكيل
المألوف.
"سؤال الفن" لمؤلفه البريطاني نايغل ووربيرتون يفشل في تقديم جوابٍ شافٍ عن السؤال المطروح، بين ما يطمح عليه في بداية كتابه وما ينتهي إليه في
ختامه [3]. وما فشلَ فيه لا يعين ضعفه، بل صعوبة السؤال نفسه، ما أُدرجه في سؤال آخر، أكثر بدهية: هل يقوى الخطاب عن الفن على تعريف نفسه؟ وهو ما
أُتبعه بسؤال آخر: كيف للخطاب الجمالي أن يتعين بين "توحد" السوق و""تشظي" الفن؟
هذا السؤال يصيب تاريخ الفن في المجتمعات والثقافات، وبين الأفراد، ما دام أننا لسنا في صددِ تمرينٍ نظري أو كتابي، وإنما أمام باب إشكالي، فلسفي بامتياز، وهو غير أسئلة الفلسفة النظرية المجردة، بل يتناول ما يمكن للخطاب الفلسفي أن يكون عليه في معاينته وفحصه لِما يجري.
هذا سؤال يعيد الخطاب الجمالي إلى أسئلة بديهية طالما تجاهلَها منذ هيغل على الأقل، حين أسقط الفنَ – وإن توسلَه – لصالح مثال فلسفي مجرَّد على الرغم من كل تعييناته وحمولاته. ومِما تجاهله أيضًا، وله أن يعيد النظر فيه، هو تأثير المذاهب الجمالية على إنتاج الفن على ما ظهر في العديد منها، ولا سيما المتأثرة بالماركسية وروافدها.
خطاب الفن لم يسلم، إذًا، مِما أصاب خطاب الفلسفة نفسه، ولا سيما بعد أن تحول إلى خطاب "عقيدي" تناسى أولَ دروس الفلسفة في الجدل الإغريقي، وهو الجدل نفسه، حتى "البيزنطي" منه. أليس على الخطاب الجمالي أن "يأتي بعد"،
بدل التطلع أو التنطح لرسم الفن قبل حدوثه نفسه؟ كيف لنا، إذًا، أن نفهم مثل هذه التغيرات؟
نسق جديد للتداول
يحار الدارس في فهم ما يجري، مع أنه يتحقق من تدافع ظواهر وعلامات ومعطيات ومؤشرات كافية لكي يستدل بها على حصول التغير، الذي قد يكون
بالغًا أو محدودًا. انساق البعض، في تفسير ذلك، إلى تغير النظام الدولي (سقوط "نظام الجبارَين")، أو إلى "توحش" النظام النيو-ليبرالي، أو إلى نسق
"القرية الكونية" المتأكد في التواصل الجماهيري، الآني والمتواقت...
هذا ما حاولتُه بالوقوف عند أربعة مؤلفين تعود تآليفهم إلى النصف الأول من القرن العشرين، بعد أن وجدتُ في مؤلفاتهم التعبيرات النظرية الأولى
لفهم هذه التبدلات، وهم: والتر بنيامين، وتيودور أدورنو، وأندريه مالرو، وهربرت ماركوز.
سعى بنيامين، وإن في صفحات قليلة، إلى التحقق من دَور التقنيات الحديثة وتأثيراتها على العمل الفني، سواء في إعادة الإنتاج أو في التوزيع.
وتساءل فيه ما إذا كان استصدارُ نسخٍ متعددة عن العمل الفني، لتقديمها في الوقت عينه لأعداد من الجمهور، يؤثِّر أم لا على العمل الأصلي: "العمل الفني في عهد إعادة إنتاجه الآلية" [4]. وهو سؤال ما سبق لفلاسفة الفن أو جمالييه أن طرحوه، حيث إن بنيامين يتنبه ويفحص دخولَ عامل جديد، هو الصناعة والوسائل الجديدة، إلى عالم العمل الفني. ذلك أنه خرج من المتحف أو صالة العرض أو من مكان عرض المجموعة الفنية، كما خرج من المنسوخات والمصبوبات التي كانت تحفل بها المتاحف ومدارس الفن ومحترفاته سابقًا، كوسيلة للتعرف إلى أعمال الفن، أو لاستنساخه في تمارين الطلبة. خرجَ من هذه كلها إلى عالَم بات "خياليًّا"، كما وصف أندريه مالرو عالَمَ المتحف الجديد في كتابه: "المتحف الخيالي" [5]. هذه اللحظة تعينت في أن الفن لم
يعد مقيمًا في علياء، ولا في مؤسساته المعهودة، بل بات مقتنى جماهيريًّا بفعل الأدوات الصناعية الجديدة. هذا الوجود الجديد، "الخيالي"، كما قيل، هو الوجود اللامادي-المادي في آن، بات يعين جانبًا أكيدًا من عالم الفن.
وهي إزاحة، واقعًا، للعمل الفني، والفنان، والمتلقي، ودارس الفن، لم تُدرس تمامًا وبشكل وافٍ ابتداء من هذه اللحظة.
دخلنا، حسب بنيامين، في عهد "التواصل الجماهيري"، واقعًا، وذلك قبل عقود على ظهور التلفزيون والحاسوب والتلفون الجوال ومتعلقاتها (كتب كتابه
المقصود في العام 1936). وما يشغِّل، حسب بنيامين، هذا الحراكَ الهائل هو الدخول في عهد "آلي"، "تقني"، هو عهد الرأسمالية في وثبة جديدة لها، تريد منها تقوية وتسريع نطاق التداول وآلياته ووسائله: تداولٌ يَفقد فيه الفن "هالته"، لكنه يكتسب هالة مغايرة، هي هالة الفن بوصفه سلعة استهلاكية
قابلة للمفاوضة والمزايدة والمضاربة... وهو دخولٌ في عهد مالي سبقَ لي أن درستُه في كتابي: "الفن والشرق: الملكية والمعنى في التداول"، وعيَّنته،
وفقًا لمعلومات وتقديرات، في نهايات القرن التاسع عشر [6].
فقدان "هالة" الفن
يقول مارك جيمينز: "إن أفكار بنيامين عن انحطاط الهالة تعنينا، اليوم، لأنها تذهب أبعد من اللحظة التاريخية التي تولَّدت فيها. إنها تلتقي، واقعًا، مع الانشغالات المعاصرة حول الدور الغامض لوسائل الإعلام إزاء
الفن والثقافة" [7].
يلحظ بنجامين، في بحثه، وجود حاجة متزايدة لدى الجمهور إلى "تملُّك الغرض في الصورة وفي إعادة إنتاجه". ويمكن القول، منذ ذلك الوقت، إن التلفزيون
والتقنيات الجديدة يلبّيان تمامًا هذه الحاجة. ولكن ألا يمكننا ملاحظة غموض هذه الجيرة الإعلامية: هذه تُوهمنا، غالبًا، بأننا نعيش الأحداث في بث مباشر، في المكان عينه، وهي ظاهرة إيجابية طالما أنها تزيد من
معرفتنا. بالمقابل، إن هذه الجيرة نفسها مضلِّلة: تدفعنا إلى الاكتفاء
بهذه التجربة الإعلامية على حساب التجربة المعاشة.
هناك إزاحة جديدة، وهي تنقلنا من عيش التجربة إلى عيشها المختلف بعد وقت، مثلما يحدث لنا، اليوم، مع تقنيات الفيديو، حيث إننا نعيش بعد وقت ما كان
لنا أن نعيشه عند حدوثه. ولو أردنا الذهاب أبعد في استجلاء مبكر لهذه الإزاحة لانتبهنا إلى أن مؤديات دخول الفيديو وغيره قلبتْ عادات السلوك الفني، حيث إننا بتنا نستحسن التفرج على الفيلم من دون الذهاب إلى صالة
السينما، وإلى محتويات المتحف من دون الذهاب إلى المتحف...
إنه "هزال التجربة"، حسب بنيامين، ما دام أن التقنيات الحديثة - وإن وسَّعت من حجم الإعلام الذي يبلغنا بيسر وبحبوحة - لا تشدِّد ولا ترفع من
المتطلبات الجمالية، ولا "تربِّي" ذائقتنا الفنية، كما في السابق. أمام هذا "الزحف" الأكيد لا يقوى النقد على فعل شيء كبير؛ وهو ما يمكن قولُه في فلسفة الفن وفي الجمالية أيضًا، حيث إن العملية الفنية، بشروطها الجديدة، باتت تستدعي مهارات ولياقات وخبرات وسلوكات غير السابقة: إنه عهد المال-المَلك، عهد التداول، عهد السرعة والصدمة الذي يزن أكثر من المضمون. يستنتج بنيامين: "يا لهم من حمقى من يَشْكُون من انحطاط النقد!
ذلك أن ساعته أزفَّتْ منذ وقت بعيد للغاية". كما يسجِّل أيضًا: "إن الرؤية الأكثر أساسية، اليوم، التي تذهب إلى لبِّ الاشياء، الرؤية المركنتيلية، هي الدعاية. إنها تدمِّر هامش الحرية اللازم لأي درس، وتَرمينا، على وجوهنا، بالأشياء، بطريقة خطرة للغاية، كما لو أن سيارة تتَّجه صوبنا، وهي تهتزُّ فوق الشاشة، فيما تَكبر صورتُها أكثر فأكثر" [8].
الدعاية باتت متوافرة بقوة، بل أزاحت النقد بدوره، بعد أن أزاح المال – في مضارباته "المجنونة" – إمكان احتكام الفن في مرجعياته إلى أسس في
الفلسفة، في الماورائيات، في الجماليات، في بناء المعاني الجديدة. بات العمل الفني مطروحًا في السوق، وبات يتطلب كذلك سياسات في التعريف به، في الترويج له، في "تثمير" قيمته، غير بعيدة عما يصيب أي سلعة استهلاكية في
مجتمع التسوق الجماهيري، وفي مجمَّعاته الكبيرة. وهو ما يقود بنيامين إلى طرح سؤال مبكر في استشرافه، وهو التالي: أما عاد حلمُ الإنسان يتعين في عالم "ميكي" الساحر؟ أما عاد متعينًا في عالم وولت ديزني؟
الفن "بضاعة جماهيرية"
ظهرَ بحثُ والتر بنيامين "العمل الفني في عهد إعادة إنتاجه الآلية"، للمرة الأولى، في العام 1937، قبل ثلاث سنوات على انتقال هربرت ماركوز إلى الولايات المتحدة الأميركية للإقامة فيها. أطلق ماركوز على إقامته هذه تسمية "المنفى"، لكنه ما لبث أن سمى بلده الجديد: "مجتمع الاستهلاك".
وهو ما سينصرف إلى درسه جاعلاً من انتقالته المبكرة إلى "العالم الجديد" مجالاً للفحص؛ وهو ما سيصيب أعدادًا من الفنانين والدارسين بعده، إذ
ينتقلون بدورهم إلى الولايات المتحدة الأميريكة، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي أكثر من انتقالة للفنانين، إذ تبدو في بعض وجوهها انتقالة للفن نفسه، ما سيظهر في موجات الفن الأميركية المتتالية. يشير
ماركوز في كتابه الأشهر، "الإنسان ذو البعد الواحد. مقال عن إيديولوجية المجتمع الصناعي المتقدم"، إلى جنوح الرأسمالية الأميركية صوب مجتمع "مغلَق"، وهي "تعمل على الإمساك بجميع أبعاد الوجود، وعلى إدماجها بها،
سواء أكانت خاصة أم عمومية". ويشير "البعد الواحد" تحديدًا إلى إخضاع جميع الأنشطة الإنسانية للنسق التجاري، وإلى انصياعها للإنتاجية، وفق مبدإ النفع. ويلحظ ماركوز حلول العنصر الرغبوي (الجنسي تحديدًا) في
العملية الفنية، بل في أي عملية للتأثير على الغير، سواء أكان فرداً أم جماعة، إذ يقول: "إن التعبير الأجلى عن هذا الأمر يتمثَّلُ في إدخالٍ نسقيٍ لعناصر "جالبة للإثارة الجنسية" في الأعمال، والسياسة، والإعلان، والدعاية، إلخ. وبالقدر الذي تحصل فيه الجنسيةُ على قيمة تجارية محدَّدة (...)، تتحوَّل إلى أداة تماسكٍ اجتماعي" [9].
هكذا يستكمل ماركوز ما سبق لبنيامين أن اختطه... وهو ما يتابعه بدوره تيودور أدورنو، حيث إنه يباشر بدرس علم النفس الجماهيري، دارسًا أثر
وسائل الاتصال الجماهيري على الفن وعلى الثقافة التقليدية.
تعرَّف أدورنو بل عايش في الولايات المتحدة الأميركية التطوُّرَ الهائل لوسائل الإعلام الجماهيري، من سينما، وصحافة، وإسطوانات، وإعلانات
وغيرها. بل تنبه إلى الوجه المتناقض لمثل هذا الحراك الصناعي-التاريخي، وهو أنه يحقق "الدمقرطةُ الثقافية"، من جهة، حيث تنعم أعداد متزايدة من الجمهور بإنتاجات الفن والثقافة، فما عادت مقصورة على "خزانة" الملك، ومكتبات السادة، وأدراج كبار الدارسين والعلماء. إلا أن لهذه الدمقرطة الثقافية وجهاً آخر، من جهة ثانية، وهو وجه الدعاية والإدارة التي انتهت
إليها. نحت أدورنو لهذا الغرض (مع زميله ماكس يوركهايمر) مصطلحاً بات، اليوم، شائعًا، وهو "الصناعة الثقافية"، لتحديدِ ظهورِ ثقافة منمَّطة، مشروطة وموضوعة للتجارة وفق شروط نمط السلع الاستهلاكية. وهو ما يستعيد ويستكمل ما بدأ به بنجامين وماركوز تحديدًا.
تقليدية مقنعة
كان يمكن أن أبدأ مقالي هذا مما حدث قبل سنوات قليلة، في الأزمة المالية الحادة التي عصفت بالعالم أجمع، حيث إننا أدركنا بصورة مرعبة أننا نعيش -
معًا - في العالم؛ بل كنا أشبه بالداخلين إلى سراديب "المترو"، أو المتجمعين في ممراته الداخلية، ممن أصابِهم ذعرٌ مفاجئ، إثر سماع صوت
غريب أو إشاعة، فراحوا يتدافعون دفعًا، ويدهس بعضهم البعض الآخر، من دون أن يرتدعوا أو أن يتوقفوا عن هذا الإنهاك المتبادل، عن تبديد الثقة
بينهم.
عشنا في تلك اللحظة وضعًا يمكن وصفه بأنه خيالي ومادي في آن: فهناك من كبار أصحاب الرساميل من خسروا ربع أو نصف ثروتهم، على أن ما خسروه – مثلما كان عليه ما ربحوه – لا يلمسونه، ولا يمكن أن يعثروا عليه أو يحجزوه في "خزانة سرية". إنه تراكمٌ وهمي وحقيقي في آن. مثل عالم الفن نفسه. هل يمكن أن يصيب عالمَ الفن ما أصاب عالم المال؟
مثل هذا السؤال جدير بالطرح، لا للتلازم المتعاظم بين العالمَين وحسب، وإنما لأن عالم الفن انزاح فعلًا عما كان عليه، ما لا يقوى الدارس على التكهن فيه. ما أريد أن أشدد عليه - في استعادة لما بدأت به في مطلع المقال - هو أن الخروج من عالم اللوحة يتماشى مع تغيرات جارية، ويتأثر بها بالتالي. ويشير هذا التماشي - لو طلبتُ التوقف عند بعض الأمثلة – إلى تحول قوي بات يصيب العمل الفني بحيث أصبح في أساس بنائه يعتمد سلفًا على نمط ترويجه الجماهيري الميسر والفعال: يكفي أن نتحقق لهذا الغرض من
العديد من الأعمال "الصادمة"، ذات الأحجام الكبيرة، التي تتصدر - على سبيل المثال - مدخل "بينالي البندقية" في إحدى دوراته الأخيرة... يكفي أن
نرى إلى تخطيطات بيرن (Buren)، التي يمكن أن نراها عن بُعد، كما لو أنها مجسمات زخرفية... يكفي أن نرى قبل ذلك إلى وجه مارلين مونرو إذ يتلاعب به أندريه وارول بما يسلي الجمهور... ويكفي أن نرى إلى هذه الأعمال وغيرها
لكي نتأكد من أنها بُنيت - أي جرى تصورها قبل قيامها - بحيث تصلح لرؤية جماهيرية، إذ تقوم في تخطيطها، أو في اختيار موضوعها (جسم إنساني، ولا
سيما العاري، شيء معروف، أم كلثوم...)، على ما يسهل التعرف إليها، وعن بُعد: بات العمل الفني أقرب إلى عمل الملصقات والمجسمات الدعائية، أو
يستعير منها بعض تقنياتها واستهدافاتها.
هناك "تواطوء" يستحسن بنا التوقف عنده، والانتباه إلى مفاعيله، حيث إنه يتلازم مع وجه آخر من وجوه العودة إلى "تقليدية مقنَّعة"، على ما أرى
وأقترح في التفسير. ذلك أن هذه الأعمال تقوم في عدد منها على "ذريعة"، على إحداث صدمة ابتداء من شيء معروف ومعهود (لا مثل صدمات دادا والسوريالية وغيرها)، على أنها صدمات لا تربك المتفرج، ولا تستدعي منه
ثقافة مركبة أو نقدية يقوى بها على ولوج العالم الصعب واللَّهَوي لهذا العمل الفني.
إذا كانت أعمال السوريالية وغيرها عولت على متن فلسفي وجمالي أكيد، فإن هذه الأعمال الجديدة لا تبدو أبدًا مثل وارثة مباشرة وأمينة لذلك الإرث،
بل هي تستثمر بقاياه المتبقية في الذائقة العامة. فأشد ما يستوقف في هذه الأعمال الخارجة على المألوف التشكيلي كونها تستند فعليًّا إلى ثقافة
عامة، مبسطة، عند الجمهور العريض، من دون أن يعني هذا بالضرورة أنها "تُثقفه" و"تُربيه" بالمعنى الجمالي، مثلما حلم الكثيرون من فنانين وفلاسفة جمال، ممن ربطوا بين الديمقراطية ورفع الذائقة العامة.
هذا ما بدأ به الفنان مارسيل دوشان، الذي يُجمع الدارسون والمؤرخون على اعتباره "أول" التجريب الحديث وما بعد الطليعي، أشبه بـ"آدم"، ولكن الذي
خرج برضاه من الفردوس البورجوازي للوحة الصالونية، لصالح ما أسميه: "الفن الجاهز". وهو فنٌّ يحتاج إلى مقادير من التبين والفحص اللازمَين، على ما
أقترح. لنبداً بسؤال افتتاحي: ماذا لو لم تقبل إدارة العرض، حينها، عرضَ أعماله، مثل "المِبْولة" وغيرها؟ ماذا لو كان له أن يعرضها في الشارع أو في بيته؟ أكان سيكون لها مثل هذا التأثير اللاحق، أو هذا الإقرار المبكر بفنيتها؟ ذلك أننا تعاملنا مع هذه الأعمال الفنية على أنها "من الفن"، مباشرة، من دون عرض ومناقشة، وتداول أكيد، إلا في الخطاب. ذلك أن دوشان "نجح" في فرض أعماله، على العرض، وبلغ دورة "التكريس" مباشرة، فيما تحتاج اللوحة - المكروهة والمحتقرة في هذا التصور - إلى دورة تداول أكثر صعوبة وتعثرًا من هذه العملية، التي يُطلق عليها جيمينز تسمية "المعمودية".
ماذا لو نرى إلى أعماله هذه: أليست تتكل على "مادية" العمل الجاهزة، التي يتعرف إليها الجمهور سلفاً؟ أليست أعمالاً منتسبة إلى العالم الصناعي
والاستهلاكي، كما نتحدث عنها في هذا المقال؟ ألا تقوم هذه الأعمال على علاقة ميسرة سلفًا بين الغرض الفني وثقافة المتلقي، فلا يصدمه وإن
يباغته؟ ألا تصدم هذه الأعمال أساليب الفن، وخيارات الفنانين "الطليعية"، وإرث الجمالية والفنون المتقادم، بينما "تتحالف" بمعنى ما مع ذائقة تقليدية، معهودة؟
يَظهر من مجموع هذا الكلام أن الخروج على المألوف التشكيلي يعول، ولا ينفصل عن المألوف أبدًا. فهو خروج من صالة العرض إلى الصالة الجماهيرية، من "خزانة هواة الفن" إلى محطة القطار، من صالة السينما إلى جلسة الفيديو والحاسوب والهاتف الجوال. خروج، إذًا، إلى نوع من الشراكة المسبوقة، لا
إلى التي يقوم العمل الفني ببنائها، باقتراحها على غيره.
وهو خروج من المزاد العلني والشراء في صالات العرض إلى ميزانيات الحكومات والبلديات وكبرى المؤسسات الدولية، أي إلى سوق أوسع، إلى عالم التسوق
الجماهيري. وهو خروج يستعين، كما سبق القول، بتقنيات التسويق والترويج التي للسلع الاستهلاكية، من تكثيف واختصار للعمل الفني بحيث يتمُّ حفظه من قبل المتفرح مثل ارتباطِ دعايةِ سلعةٍ بموسيقى أو بوجهٍ مشهور وغيرها من أسباب التعالق والتكافل بينهما.
هذا التواكل، بقدر ما يعول على السوق وسياسات التسويق وغيرها فيه، يعول حكمًا، ضمن العملية نفسها، على السلطة - أي سلطة: إذا كانت شروط العقد
بينة وملزمة بين الفنان والبيروقراطي ذي العقيدة الشمولية المتشددة، فإن
شروطًا غيرها تتحقق بدورها، وإن بخفاء وحذاقة و"سرية" مطلوبة أحيانًا، بين الفنان والمسؤول الحكومي. وهو ما يدعو إلى السؤال: من يصنع الفن،
اليوم: صاحب القرار أم الفنان نفسه؟
---
سبق أن توقفت، في كتب ودراسات سابقة، عند مسألة الحرية [10]، فتجنبت درسَها من نواحيها السياسية أو الإيديولوجية أو الأخلاقية حتى، مفضلًا البحث في إشكاليات "الحدود": ففي الحدود يمكن قياس ما هو نظري، أو ثقافي، أو أخلاقي، أي يمكن قياس ما يمكن التوقف عنده (كما أمام شريط، أو قانون)، والامتناع عن تخطيه، أو العمل على تجاوزه...
وهو ما يمكن التحقق منه في الحراك الجاري، حيث تمت إزاحة الحدود، ليس في عقيدة، أو في بلد، أو في ثقافة، وإنما في حراك العالم نفسه: حراك العولمة، الذي قلب المعادلات وسبل التحاور، والتفاعل، والتأثير، والتمثل، وأفرز، في الوقت عينه، حدودًا جديدة للتداول. فما يخفيه الكلام عن "المعاصر" أكثر من مذهب فني أو إبداعي جديد، إذ يرسم معالم كونية مختلفة، أي نسقًا جديدًا للتداول.
عالم الفن القريب يتبدل: من كان يقوى على التخمين، قبل سنوات قليلة، بإمكان انتقال متحف عريق، مثل متحف "اللوفر" الفرنسي، إلى إحدى المدن غير باريس؟ من كان يقوى على التخمين، قبل عقود قليلة، بإمكان زيارة أحد المتاحف، وهو مستلقٍ أمام حاسوبه في غرفة نومه؟
عالم الفن يتعولم، بطبيعة الحال، بما يشمل أطرافه كلها. وبات واضحًا أنه يتماشى ويواكب التقنيات الحديثة، ويستثمر أساليب التأثير على الجماهير، مخففًا في صورة متزايدة من حمولات الفن "الثقيلة"، السابقة، لصالح حمولات "خفيفة"، قوية التأثير، وبلمحة بصر، وسريعة الزوال.
التغيرات أكيدة، تصيب نسق الفنون نفسه، حيث إن فنونًا جديدة (السينما والتصوير الفوتوغرافي في النصف الأول من القرن العشرين، والشرائط المصورة منذ عقود قليلة) "دخلت" وباتت مقرة، من دون أن تتابع فلسفة الفن، أو الجمالية، مثل هذه التغيرات بما يناسبها من طروحات وتفسيرات وتعيينات مناسبة.
التغيرات تصيب الفنون "القديمة" بدورها: الشعر بات "أخرس"، بمعنى ما، أو أن صوته بات غير مسموع، ولا يظهر من دون "معونة"، فضلاً عن تهديد الرواية المتعاظم له.
حتى المهن تتبدل: الصحفي أوسع تاثيرًا من الناقد، والباحث في نطاق الإنتاجات الثقافية المعاصرة بدل مؤرخ الفن أو الجمالي أو فيلسوف الفن...
ليس لنا أن ندير ظهرنا لما يجري، ولا أن نتبرم منه إن لم يعجبنا أو كان يصدمنا بطريقة غير محيية أو سعيدة. لنا - على ما أزعم - أن نبقى، مثلما قال رامبو، "حديثين قطعًا"، إلا أن علينا كذلك أن نكون حذرين من دعاة الأوهام "الرخيصة"، مثل التي تُحدثها الأفلام التي نتفرج عليها، مأخوذين بها تمامًا، فنخرج منها من دون أي أثر، غير الضحيح نفسه الذي يكون قد زال.
هذا لا يعني أن الحرية "مرجئة"، وإنما يعني أنها تندرج في "حدود" جديدة، إذ تبدلَ نسق التداول الحاكم للعلاقات بين البشر. وهذا يعني أن: "هذا الذهاب له وجهة، لا نهاية مبرمجة؛ له ألق التجربة وتعثرها واكتشافاتها البهيجة؛ له عجلة في الأقدام، وعراك في الأيدي ولهفة في العيون. هذا يسرِّع الخطى كما لو أننا نفتح بوابة المستقبل، فيما لا نقوى واقعاً إلا على التموقع ورفع الصوت ابتداء من فسحة الحالي. فالمستقبل – على ما أزعم – لا وجود له إلا افتراضياً، كما في صيغة الفعل الفرنسية التي تتحدث عن مستقبل مسبوق (futur antérieur)، وهو ما يتعين ابتداء من لحظة الحاضر
التي ينطلق منها الكلام: هنا والآن، ما يجعل المستقبل فعلاً، جملة، فوق شفاه الراهن" [11].
(مجلة "يتفكرون"، العدد 14، الرباط، 2020).


[1] Jean Baudrillard: La fin de la modernité ou l’ère de la simulation, Encyclopédie Universalis, vol 17, pp 26-35
[2] شربل داغر: "العين واللوحة: المحترفات العربية"، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2006، ص ص 227-238.
[3] Nigel Warburton: The Art Question, Routledge, London and New York, 2003.
[4] Walter Benjamin: L’œuvre d’art à l’époque de sa reproduction
mécanisée, traduit par Frédéric Joly, préface d'Antoine de Baecque,
Paris, Payot, coll. Petite Bibliothèque Payot, 2013.
[5] André Marlaux: Le musée imaginaire, Gallimard, Paris, 1965.
تحققتُ، في درس هذا الكتب، من أن مالرو استفاد بقوة كبيرة من الانعطافة الحاسمة التي أحدثها بنيامين في درس الفن.
[6] شربل داغر: "الفن والشرق: الملكية والمعنى في التداول" (مجلدان)، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2004، المجلد الثاني، ص ص
112-117.
[7] مارك جيمينيز: "ما الجمالية؟"، ترجمة: شربل داغر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص 369.
[8] Walter Benjamin: Sens unique, Traduit de l’allemand par Jean
Lacoste, Paris, Les lettres nouvelles, 1978, p 220.
[9] Herbert Marcuse : Eros et civilisation, Paris, édition de Miuuit,
1968, p 12.
[10] شربل داغر: "الفن والحرية"، في: "الحرية في ابعادها الحضارية" (كتاب جماعي)، تعاونية النور الارثوذوكسية للنشر والتوزيع، بيروت، 2005، ص ص 69-92..
[11] شربل داغر: "الفن بوصفه فعلًا مستقبليًّا مسبوقًا: بين الجمالية والمواطنة"، مجلة "حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في جامعة
البلمند، الكورة (لبنان)، 2004، العدد 15، ص 37.