فاطمة عبدالله

27 تموز 2019 | 04:15 النهار

كان شربل داغر طالباً جدّياً في باريس الآتي إليها مُحمَّلاً بخذلان الحرب. “لم يكن أمامك خيار آخر”، يبتسم محاوره الروائي أحمد علي الزين، مقدِّم “روافد”، الاستراحة الثقافية عبر “العربية”. يجتمع الرجلان، بينهما الذاكرة والشعر ومملكة الطفولة في جرود تنورين وجمالها الوعر. تخوّفت الجارة من صبي يُكلِّم نفسه، فوشت به إلى أمّه: “شربل أخوت”. كان كائن آخر موجوداً في داخله، يظهر ويطالبه بالحضور.

على أبواب السبعين، يحتفي البرنامج بالفائز في جائزة الشيخ زايد، ويستعيد معه إشكاليات الحداثة وتقلّبات العُمر وقصيدة النثر. يتمايل غصن الشجرة مع هبّات الهواء، ويعود السبعينيّ إلى حيث التراب والحجارة والسفوح الوعرة. في كتابه “القصيدة والزمن”، يتحدّث ابن الشمال اللبناني عن العلاقة مع الزمن والإبداع الأدبي. يمرّ الوقت، فيتعب الجسد وتُنهكه أحماله، ويا للمفارقة، يظلّ داغر يشعر بنشاط العقل والمَلَكات والقدرات. “أعيش التناقض. أُسقِط الحِمْل الثقيل على تجارب الحياة والنصّ”.

محاوره مبتسم، يريح اللقاء، فيتحدّث الضيف عن الكتابة كشغف. هو ابن “لسان العرب” وكتاب “العين”، يرى في المعجم تعويضاً عن الحياة، على رغم أنّها المعجم والزمن. وكم من مرّة “عبَّ” الكتابة، كما “يعبّ” الصغير مياه النبع بعد الركض واللعب. يختفي خلف المفردات لشعور دائم بالارتطام، ويترك ليده المنهكة الانسحاب من القصيدة. يعيده الزين إلى محطّات كوّنته: تنورين وهي تحرّضه على الشعر؛ بيروت الستينات والسبعينات وهي تؤدلجه وتُدخله في مسارات النضال؛ وباريس وهي تُهدّئ الانفعالات فتكرّسه باحثاً وأكاديمياً. تترك التجربة الفرنسية نوعاً من المراجعة الذاتية لمرحلة الايديولوجيا واليسار والعلاقة مع القضايا. وفي آن، تضعه أمام الالتزام الهائل بالشعر. كانت النجاة من الكتابة عن الحرب خارج الاحتمالات، وإن لم يجعلها شغله الشاغل. كتب “دموع جافة” محاكاةً لمطحنة الإنسان والوطن، وظلّ ذلك الصبي في القرية، القادر على تخيُّل كلّ شيء وفعل أيّ شيء. تهتزّ الأشياء، والثابت عشق الكتابة. الشعور بغدر الحرب لا يرحم.