شاعر وناقد وأكاديمي ومترجم لبناني، تخرج من جامعة السوربون، ويعمل أستاذاً للنقد والأدب العربي، وحصل على شهادتي دكتوراه في الأدب العربي الحديث وجماليات الفنون، وشغل منصب الأمين العام للمجلس التنفيذي للمنتدى الثقافي العربي- الأفريقي، ويكتب بالعربية والفرنسية، وتنوعت مؤلفاته بين الشعر والترجمة، وصدرت له عشرة دواوين شعرية منها: "فتات البياض"، "تخت شرقي"، "حاطب ليل"، "ترانزيت"، و"لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"... كما صدرت له مجموعة من الدراسات النقدية منها: "الحروفية العربية: فن وهوية"، و"مذاهب الحسن: قراءة معجمية تاريخية للفنون في العربية"، كما صدرت له رواية بعنوان "وصية هابيل". إنه الشاعر شربل داغر ضيفنا في هذا الحوار...
- صدرت لك مؤخراً مجموعتك الشعرية الجديدة بعنوان "وليمة قمر"... ما دلالة هذا الاسم اللافت؟
- العنوان تحمله إحدى قصائد المجموعة، وهذه القصيدة بالذات تتحدث عن دعوة أصدقاء الطفولة إلى الاجتماع من جديد، ولكن في فضاء القصيدة هذه المرة. وقد كنت في طفولتي أتحلق مع رفاقي ونمضي قسماً من سهراتنا على درج، وكان هذا الدرج أشبه بالساحة العمومية لنا، حيث نلتقي ونتأمل أحوالنا وأحوال غيرنا، ثم ننتقل من ذلك المكان إلى غيره من الدروب والبيوت والحدائق.
هذا الاجتماع أصبح، هنا، دعوة شعرية للالتقاء مجدداً في شراكة جديدة حول القمر بما يمثله من وعد بالحياة، وأفق للأمل. بهذا المعنى أطلقت على اللقاء إسم "الوليمة" التي تجمع المحبين في شراكة من الأواصر والعلاقات الإنسانية.
- أنت شاعر وناقد ومترجم وأكاديمي... كيف توفق بين هذه الاهتمامات المختلفة؟
- أنا كل هؤلاء معاً... ولا أقولها من باب التباهي. وقد يكون هذا التعدد في طبيعتي عائداً إلى ولعي الشديد بالحياة، وهذا الولع لا يسد جوعه التخصص الواحد. ومَنْ يطالع كتبي الشعرية الأخيرة سيجد أنني أدخلت إليها تقنيات وأنماطاً كتابية مستوحاة من المسرح والسينما والهاتف النقال وغيرها، وهذا سعي إلى خلط الأنواع بما يفيد القصيدة في النهاية.
- عشت في فرنسا 18 عاماً، فهل كانت فرنسا بديلاً عن الوطن الأم أم وطناً آخر أم منفى؟
- أدين لفرنسا بأبلغ الأثر في تكوين شخصيتي وتحقيق إنجازاتي. ففيها استكملت رسالة الدكتوراه، وعشت تجربة إنسانية غنية خصوصاً أنني أُكرهت على الخروج من لبنان في بداية الحرب الأهلية. عشت في فرنسا مشاعر المهاجر المجبر على التكيف وعلى التبديل وعلى التخفف من أشياء كثيرة كان يحملها بداخله.
ويبدو أن من ميزات تجربة الهجرة أن يندفع المهاجر إلى معرفة الآخر أفراداً وسلوكيات وقيماً، والانتباه بالتالي إلى أننا مختلفون بالقدر نفسه الذي نحن فيه متشابهون. في ذلك كانت فرنسا أكثر من مدرسة، وأكثر من بيت بالنسبة لي إذ تعلمت فيها العدالة والمساواة بالإضافة إلى أنني نهلت من كتبها علماً وثقافةً واسعة.
- برأيك هل ما زالت المرأة ملهمة للمبدع؟
- بالتأكيد. فالحب موقد الشعر وناره المتجددة، وهو ما يؤدي في أحوال كثيرة إلى ما أسميه "الغبطة بالكلام"، فالعاشق ليس هو الذي يحب فقط، وإنما هو الذي يحب أن يتكلم وأن يحاور وأن يبادل الحبيبة الصور والانفعالات والأحاسيس. وأنا لا أعرف الحب من دون كلام، كما لا أعرف الكلام من دون حب. والحب حالة تحيط بك وتحمسك وتنشطك، وقد تتعدى العلاقة الخاصة بالمرأة لتصبح نوعاً من الشراكة مع الحياة.
-ا لشجرة التي رسمتها عن ظهر قلب" هو عنوان القصيدة المختارة للنشر هنا: ألا يعد العنوان طويلاً وغريباً؟
- في القصائد الطويلة أعتمد على وضع عناوين داخلية لبعض المقاطع وأميز ذلك بحروف طباعية داخلية لبعض المقاطع، وغالباً ما يكون هذا العنوان الداخلي السطر الأول في مقطع شعري، وهذا ما حدث في هذه القصيدة. عموماً أنا أولي العنوان الرئيس، والعناوين الفرعية، عناية خاصة في شعري وسبق لي في كتابي "الشعرية العربية الحديثة" أن درست أنماط العناوين في الشعر العربي الحديث.
- ما ملابسات كتابة هذا النص؟
- هذا النص يأتي في سياق قصيدة طويلة عنوانها "وليمة قمر"، وأستعيد فيها بعض مشاهد الطفولة في قريتي لا سيما مكان ولادتي في إحدى قرى لبنان الجبلية (...). وهذا النص لا يقوم فقط على الإنشاد أو الوصف وإنما يدور في تلك المسافة المتوترة بين ما كان مأمولاً في الطفولة وما أصبح واقعاً وأنا في هذه المرحلة العمرية.
- هل يعني ذلك أن الطبيعة في لبنان فقدت براءتها؟
- فقدت براءتها بالنسبة لي، فأنا الذي اختلفت واختلفت نظرتي، أما الطبيعة فهي ثابتة على حالها. وبالمناسبة الإحساس بالجمال يختلف مع اختلاف علاقتنا بالمكان واحتياجنا إليه. ففي الطفولة نشعر، ونحن أمام الصخرة، بأنها وسادة حانية يمكن أن نضع رؤوسنا عليها. لكن حين نعود إلى المشهد عينه، ونحن كبار، وبعد مرور سنوات عديدة من الحرب والنفي والهجرة، لن نشعر بالإحساس ذاته تجاه الصخرة نفسها.
مقطع من قصيدة "وليمة قمر":
الشجرة التي رسمتُها عن ظهر قلب
استطالت فقط في أصابعي،
أبحث عنها فلا أجدها،
أتوجه إليها فلا أتقدم
لا يزال الدرج منصوباً بين نهر وبيوت،
ساحة وهمية
بين غبار وانتظار،
نادياً يومياً
لمَنْ يذاكرون نهاراً ما تعلموه ليلاً،
مَنْ أقاموا لوحاً بين البيوت العالية لألسنتهم الطويلة،
مَنْ جرَّدوا الإجاصات من شجرتها، قبل نضجها، بمجرد أن
لمعت تحتَ ضوء القمر،
مَنْ استظلوا السماء معطفاً رقيقاً لتجوالهم الليلي
وتلصصوا من دون أن يروا،
مَنْ سرقوا طلباً للسرقة
وأقاموا للدجاجة رتبة المصلوب،
من رسموا مصائر مخلوقات
بمجرد أن علوا فوق درجات ورتبوا للبيوت صوراً في دفتر عطلة،
بمجرد أن جعلوها محلاً لمعاينة
كبروا وتعلموا...
تكون الأشياء بمجرد أن أسقطوا نظرهم عليها،
وباتت لها أسماء أكيدة،
يكفيهم أن يروا لكي تكون،
وأن يسموا لكي تكون.
(جرى الحديث في القاهرة، ونشرته مجلة "المرأة اليوم"، الإمارات العربية المتحدة، 18 آذار-مارس 2010).