لو طلبتُ البحث عن جذور : التسامح في العربية، لوجدتُ بيُسر ما يعرضه عليَّ "لسان العرب" : 

السماح، السماحة يعني : التساهل، والجود...

وسمح لي فلان : أعطاني...

والمسامحة : المُساهلة...

وتسامحوا : تساهلوا...

المسامحة : المساهلة في الطِّعان والضِّراب والعَدو...

ورُمحٌ مُسَمَّح : ثُقِّف حتى لانَ...

والمَسْمَح : المُتَّسَع...

ما أخلص إليه، من هذه المراجعة السريعة، هو أن التسامح لفظ له مرادفات "سلبية" : التساهل لا يعدو كونه السماح بقيام بأمر من قبيل الملاطفة أو المسايرة، أي من قبيل : ما فاض من القوة، بحيث يقوى المسامح على التنازل مما له. وهو ما يؤكد عليه المرادف الآخر : الجود، إذ يشير إلى ما زاد من القوة المادية خصوصًا، بحيث يتبرع المسامح بشيء منها. وهذا ما يتسع ليبلغ : الحرب نفسها، إذ يعني التسامح التساهل في أمور المنازلة. هكذا يكون التسامح مِمّا : يُعطى، أي يبقى مرهونًا بما يقرره فرد تجاه فرد آخر، ما يتصل بشخصه، بمشيئته، بقراراته وحده، من دون غيره. وهو، بالتالي، فعلٌ إرادي غير ملزم، يصدر عن كرم الكريم، وعزة القوي، وليونة طبع المرء... وهو بالتالي ما يتسع، أي يزيد أو يفيض أو يمتد عما هي عليه حدوده الطبيعية، التلقائية.

لو تفحصتُ في صورة مزيدة هذه المرادفات ودلالاتها، لوجدتُ أن الأقدم بينها (وفق حسابات وتقديرات يُتقنها دارسو النبذات النمعجمية، إذ تتدرج، في حسابهم التاريخي والدلالي، من المعنى المادي إلى المعنى التجريدي) يعود إلى "تثقيف" الرمح، أي تدبير ليونته، ليكون حاسمًا في الحرب. وهو معنى "خبيث" بمعنى ما، إذ يشير إلى تحصيل القوة بدل التسامح بها.

                                          

جمعُ المعاني هذه متناقض ومتنافر بمعنى ما؛ وهو ما تحملُه اللغة وتحفظُه، على أن البشر، مستعملي اللغة ومجدِّديها في آن، يُديرونها، يُضيفون إليها، ويُسقطون منها. فلا يفيد استفراد معنى عن آخر، أو التشديد على أن هذا المعنى من دون غيره هو "الصحيح" أو "السليم"، إذ يكون، في هذه الحالة أو تلك، مما نستدعيه من مخزون اللغة، ويوافق ما نريده في خطابنا. اللغة بتصرف مستعمِلها وكاتبها، على أنها تبيح أو لا تبيح من ضمن ممكناتها. هذا يعني أن اللغة ليست "مستقرة"، بل تنعم بحراك، أي أن لها "حياة" مثل حياة مستعمليها وكُتابها. غير أن حياة اللغة تفيض وتتسع عما يتولاه الفرد منا في حياته، حتى لو كان كاتبًا متسع القدرات والعطاءات.

لقد وجدتُ لزامًا عليَّ – إعدادًا لها المقال – أن أخرج من العربية إلى غيرها، لكي أتعرف إلى أحداث أصابت العربية لجهة : التسامح. فما يروج، اليوم، من معانٍ خاصة بالتسامح، في مجلات ومؤتمرات وكتب ومقالات في غير لغة في العالم، لا يعدو كونه اتساعًا أصاب هذه اللغات ابتداء من الفرنسية تحديدًا. فإذا عدتُ إلى الفعل الفرنسي، المقابِل للفظ التسامح في العربية وغيرها أيضّا، (Tolérer)، لوجدتُ أنه يتحدر من اللاتينية، ويفيد : ما يتمُّ حِمله وتحمُّله، مِمّا يكون حِملًا ماديًّا أو أخلاقيًّا. إنها معان "سلبية" بالتالي، وإن تذهب بالمعنى إلى غير ما أفادته العربية القديمة : يأتي التسامح، في العربية، من جهة من له القدرة على التصرف والتحكم والتساهل، فيما يأتي التسامح، في الفرنسية القديمة، من جهة من يخضع ويقبل الحِمل الملقى عليه.

إلا أن العنف، أو الثقل الإنساني، يبقى مشتركًا بين اللغتين، ما يشير من جهة بعيدة إلى ما سيصيب اللغة وتغيراتها الدلالية التالية. فقد انتقل هذا المعنى ودلالاته في الفرنسية، بعد استعمالات لغوية وكتابية في القرن السادس عشر، إلى معنى جديد، مستحدَث، ويشير، لا إلى فعل "سلبي"، وإنما إلى فعل أكثر فعالية وإيجابية : قبول الغير في ما هو عليه من اختلاف ديني : (l'édit de tolérance). وهو ما حصل إثر "الحروب الدينية" في ممالك أوروبا، وعنى – في واقع حياة هذه المجتمعات وقوانينها – قبول الكاثوليك للبروتستانت، وعدم التعرُّض لهم في ممارساتهم "العلنية" لشعائرهم، وفي قيام مؤسساتهم الدينية.

لهذه القرارات الرسمية – على أهميتها – سوابق في التاريخ الأوروبي، تعود إلى القرون الأولى من الألفية الأولى (في الأعوام : 311، 313، 361 وغيرها)، لما أجاز أكثر من أمبراطور روماني عدم التعرَّض للمؤمنين المسيحيين في عباداتهم وغيرها. هذا ينتسب إلى التأريخ ليس إلا، إذ إن التغير الأكيد في حياة هذا اللفظ استند خصوصًا إلى فكر "فلاسفة الأنوار"، ولا سيما عند فولتير الذي كتب "مبحث في التسامح" في العام ١٧٦٣.

                                       

انبنى كتاب فولتير على وقائع بعينها، إثر مقتلة أحدهم (جان كالاس)؛ ولقد أثبتَ أكثر من دارس خطأ بعض الوقائع التي قامت عليها "مرافعة" فولتير في الكتاب، استنادًا إلى محاكمة القتيل. كان فولتير محاميًا في كتابه، على الرغم من أنه لم يكن له أي أثر على القضية نفسها، ولا على غيرها أيضًا مما تنطح فولتير لتناوله بأسلوبه الحاد والجريء. إلا أن ما باشر به فولتير، وما افتتحَه واقعًا، هو التفكير المستجد في مسألة : الآخر، على أنه تفكير في "الذات"، وفي العلاقة بينهما.

ما حفظتْه اللغة (ما أوردنا بعضه أعلاه، في العربية كما في الفرنسية) لا يعدو كونه استعمالات لغوية دالة على ما كان يجري خارجها في المجتمع، في أفعاله، في أحكامه، في ظاهره المقبول خصوصًا. وأولُ ما ظهر، بل ما خفي واستخرجناه من الاستعمالات أعلاه، هو : العنف. وهو العنف الذي يدير العلاقات فيما بينهم، في جوانب من وجودهم وعلاقاتهم وحظوظهم من الحياة. وهو ما كانت تُنظِّمه أعراف في الغالب، من دون أن تكون عادلة بالضرورة. بل كانت مما تنجح هذه الجهة الغالبة أو تلك في فرضه، في جعله القانون الذي تُدير به حظوظ الآخرين، مما "تتساهل" به مع غيرها، و"تجود" به على غيرها.

هذا ما تحدثَ عنه ابن خلدون في الثلاثي المفهومي المؤسِّس للأزمنة القديمة : العصبية، الغلبة، والاستتباع. ففي اللفظ الأول أساسُ قيامِ التسيُّد، أي تمكن جماعة أو جزء من قبيلة بتصليب عصبها وانشداداتها، ما يجعلها قوية، قادرة، متحكمة، ومحدِّدة بالتالي للأعراف والمحاكمات، بين ما يجوز ولا يجوز. وهو فائض القوة، إذ يتعيَّن في سلوكات ومعاملات، وما تسجله اللغة وتحفظه. وهي عصبية تؤدي إلى الغلبة، أي غلبة الجماعة أو الجزء القبلي على غيره، ما يجعلها الجهة التي تُسمِّي وتقاضي وترسم وتنهي وتأمر. أما ما يبقى لغير الجهة الغالبة، فينتهي إلى الاستتباع، اي إلى إلحاق غيرها من جماعات وقبائل وأقوام وشعوب بها، فيكون على هذه أن "تتحمل"، وأن تتنظر "جود" غيرها عليها، أو "تساهلها" معها.

كلام فولتير، وما تبعَه هنا وهناك، بما فيه فكر بعض الإصلاحيين العرب والمسلمين، بات يطلب إنشاءَ معادلة جديدة، تُسقط العصبية، وتقيم فكرة المواطنة الجامعة والضامنة للتعدد والتنوع بفعل الدستور والقوانين. هكذا يتعرض الكواكبي لـ"الاستبداد"، ويتحدث جبران عن لزوم "العدل"، فيما وجد الطهطاوي قبلهما شمول "التربية" للجميع، من دون تمييز بين صبي وبنت، وبين قوم وآخر في المجتمع الواحد. وفي الحراك عينه، سقط مفهوم الغلبة لصالح "التنظيمات"، وفق اللفظ العثماني الذي أُخذ من العربية، وعنى منذ العام 1831 سلسلة "إصلاحات" في السلطنة العثمانية تقضي باختيار الجمهور لممثليه، وبسقوط عهد الذمية. كما تداعت أسس المفهوم الثالث، الاستتباع، إذ باتت المساواة أساسًا لانتظام الحياة في الجمتمع، بين أفراده، فباتت لهم حقوق وواجبات متساوية، ما يضمن التنوع والتعدد.

يقع قارئ العربية، في لغته المتجددة وفي دساتيره وقوانينه، على بعض المعاني المستجدة المأخوذة مما بات شريعةَ حقوق الإنسان والمواطن، إلا أنه يتحقق، في الوقت عينه، إذ يخرج من الكتابي إلى العياني، من أن المعاني الجديدة - معاني قبول الآخر في اختلافه - لا تزال متعثرة، أمام ظواهر وتجليات الاضطهاد الديني والسياسي والعرقي والقومي واللغوي والثقافي وغيرها.

(مجلة "تعايش" الفصلية، أغسطس-آب 2018، العدد الثاني، الإمارات العربية المتحدة).