لا أملك الكثير من مسوداتِ ما كتبتُ، لأن القسم الغالب من كتبي، بعد دخولي إلى عالم الحاسوب في العام 1987، انتقلَ إلى العالم الإلكتروني، ولم يعد نافعًا بالتالي، ولا دالًا الاحتفاظ بمسوداته. حتى كتبي الأولى لم يبقَ لي شيء من مسوداتها، لأنني كنت أقيم في باريس، حينها، وأرسلتُ مسودات الكتب إلى بيروت، من دون أن تعيدها دور النشر إلي. أما في العهد الإلكتروني فقد بات الاحتفاظ بمسوداته غير ممكن، لأنني لا أتوانى عن العمل فيها تنقيحًا وشطبًا وإضافة، فيما تَظهر الصفحة الإلكترونية... نظيفة، من دون تشطيباتها وتعديلاتها وعملياتها المادية. هذا ما حاولتُه في قصائد، فاحتفظت بعدة نسخ للقصيدة الواحدة، لكنني ما لبثت أن أتلفتها لعدم جدوى الاحتفاظ بها...

لهذا يمكن القول إن "علم المسودات الكتابية"، أو "علم تكوين النص" بات صعب الإمكان إلكترونيًا، فكيف إن تباهى أدباء عرب غير إلكترونيين بأنهم لا يحتفظون بمسوداتهم، كما لو أنهم أصحاب خَلقٍ كتابي لا تتوافر فيها سمات الصنع المتمادية !

مع ذلك أحتفظ بمسودات أخرى، بدفاتر عديدة رافقتْني - ولا تزال – في عدد من أسفاري، إذ أعمد إلى تدوين لحظات، وتعابير، وانفعالات، ومشاهد، وألوان، فضلًا عن عناوين بريدية أو إلكترونية، أو عناوين كتب، أو "رؤوس أفكار" وغيرها الكثير. إلا أن التجوال فيها صعب في غالبه، إذ إن بعضها موصول بسياقه، بحادثته، ما يعد جوابًا أو تواصلًا، ولكن من دون الجهة الأخرى، ما يعتبر حوارًا مقطوعًا في أحوال كثيرة.

هناك مسودات أخرى، أعود إليها، وهي ما تبقى في أرشيف العائلة، أو في أرشيفي الخاص، من صور فوتوغرافية، ولا سيما بالأبيض والأسود، لمن كنته في سنوات العمر الأولى، وأكتب ابتداءً منها.  

علم المسودات مهدَّد حكمًا، لكن له أن ينتقل وأن يعزز علمًا أخر، شريكًا في درس النص، وهم ما يمكن أن نسميه بـ"علم التطريسات"، ابتداء من تقليد كتابي قديم، يقوم على الكتابة فوق مخطوطات بعد محوها، ومن دون أن تُمحى تمامًا. ففي الورقة الكتابية – أيًا كان نوعها، منسوخة أم طباعية – تَظهر أطياف كتابات أخرى، لكاتبها ولغيره، ما يجعل كتاب الكتابة موصولًا، متماديًّا، تشترك الأصابع فيه في دورة واحدة. وهو فهمٌ للنص يناسبني، ويروق لي، إذ إن فكرة "المسودة" تحيل حكمًا على فكرة "الأصل"، وإن يشتمل على نسخ ومسودات. فكرة الأصل تُثبت وتُعلي من شأن الكاتب، على أنه فريد عصره، ومبدعٌ تتولد جذوره منه، كما لو أنه يبدأ دومًا من عدم، فيما يبدأ الكاتب من غيره، ويعود إليه.

(مساهمة في ملف : "المسودات بين الذكرى والقيمة" (إعداد :عائشة المراغي)، العدد الشهري من "أخبار الأدب"، القاهرة، أغسطس-آب 2018).